Overblog
Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
9 septembre 2007 7 09 /09 /septembre /2007 20:29

رسم بياني يوضح نظرية المعرفة عند ابن سينا

Syst--me-cognitif.jpg 

أحمد أغبال

 

 

Partager cet article
Repost0
7 septembre 2007 5 07 /09 /septembre /2007 23:06
مفهوم الحقيقة
من النقد الكانطي إلى نظرية تارسكي
(الجزء الأول)
أحمد أغبال
يعتبر سؤال الحقيقة واحدا من الأسئلة التي تحتل مكان الصدارة في ميدان التفكير الفلسفي، يمكن صياغته على النحو التالي: ما الذي يبرر صدق كلمة أو رمز أو فكرة أو رأي لدى فرد ما أو مجتمع ما؟ هناك ما لا يقل عن ثلاث أو أربع نظريات كبرى تقدم لنا أجوبة مختلفة عن هذا السؤال؛ وسنكتفي هاهنا بالحديث عن نظرية التطابق والنظرية السيمونطيقية، على أن نعود إلى الحديث عن النظريات الأخرى في مناسبة لاحقة.
1. النقد الكانطي لنظرية التطابق
يدل مفهوم الحقيقة عموما على نوع من التطابق بين الفكر والواقع. وإذا كان هذا التعريف قد سيطر على العقول لفترة طويلة من الزمن، فإنه لم يعد يحظى اليوم بنفس الإجماع الذي كان يتمتع به في السابق. ولعل الفيلسوف الألماني عيمانويل كانط (1724-1804) هو أول من قوض بنقده أركان ذلك الإجماع، واقترح تعريفا جديدا للحقيقة؛ وسرعان ما تعددت تعريفاتها في العصر الحديث، وتنوعت وجهات النظر إليها، فظهرت نظريات عديدة حول مفهوم الحقيقة؛ وما زال هذا المفهومإلى اليوم محط نقاش وجدال بين المختصين بسبب اختلاف تصوراتهم لطبيعة الحقيقة ومعاييرها واختلاف آرائهم حول ما إذا كانت ذاتية أو موضوعية، نسبية أو مطلقة.
وتعتبر نظرية التطابق من أقدم النظريات المعروفة في تاريخ الفلسفة، وتصنف اليوم ضمن ما يسمى بالنظرية الماهوية التي تضم ما لا يقل عن أربع نظريات فرعية وهي: نظرية التطابق، ونظرية الانسجام والتماسك، والنظرية البنائية، ونظرية الإجماع. وما يجمع بين هذه النظريات كونها تنطلق من مصادرة واحدة، وهي أن الوقائع والظواهر والتجارب الإنسانية يمكن التعبير عنها بعبارات ذات دلالة؛ وأما ما يمز بعضها عن بعض فهو أن كل واحدة منها تنظر إلى الصيغ التعبيرية المستعملة في عمليات التفاعل بين الناس من منظور خاص، وتقدم تفسيرا متميزا لمسألة صدق القضايا المتعلقة بالتجارب الإنسانية.
تفيد نظرية التطابق أن صدق القضايا، أوالصيغ التعبيرية، يتحدد بمدى تطابقها مع الوقائع التي تخبرنا عنها. تعتبر العبارة صحيحة إذا وجد في الواقع ما يقابل مضمون تلك العبارة. يتوقف الصدق أو الخطأ إذن على ارتباط العبارة بالواقع الخارجي، وهو ما عبر عنه أرسطو بقوله:
"إن القول عما يوجد بأنه غير موجود، أو عما هو غير موجود بأنه موجود، هو قول خاطئ؛ وأما القول عما يوجد بأنه موجود، أو عما هو غير موجود بأنه لا يوجد، فهو قول صادق"
 
وإذا أردنا أن نعبر عن هذا التعريف بلغة العصر قلنا إن القضية أو العبارة الصادقة هي العبارة المطابقة للواقع. فإذا كانت العبارة تعكس الواقع كما هو بالفعل بطريقة موضوعية اعتبرت صادقة، وإذا كانت تعكس ذاتية الفرد أكثر مما تعكس الواقع الخارجي اعتبرت غير سليمة أو خاطئة. تقوم نظرية التطابق، إذن، على أساس التسليم بالمصادرة التي تقول بوجود واقع موضوعي قائم بذاته في استقلال عن أهوائنا ورغباتنا. ولكن كيف يتحدد مفهوم التطابق في هذه النظرية ؟ ما المقصود من القول إن الحقيقة تكمن في التطابق بين الصيغ التعبيرية والوقائع الموضوعية؟ ما دلالة مفهوم التطابق هنا ؟ أي شيء يجب أخذه في الحسبان عند الحديث عن التطابق ؟ وهل يتعلق الأمر بتطابق العبارة مع الواقع أم بتطابق دلالات العبارة مع ذلك الواقع ؟
ترجع جذور نظرية التطابق إلى الفلسفة اليونانية القديمة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، ورغم أنها تعرضت للنقد منذ ظهورها إلا أن ذلك النقد لم يقلل من أهميتها ولم يؤثر في مكانتها باعتبارها النظرية التي ظلت تحظى بإجماع الأغلبية على مدى قرون عديدة، إلى أن جاء كانط الذي فسح بنقده المجال لظهور نظريات جديدة. ومن مآخذه عليها أن تعريفها لعلاقة التطابق هو تعريف اسمي وأن أسلوبها في البرهنة لإثبات صحتها هو أسلوب عقيم يدور في حلقة مفرغة ولا يؤدي إلا إلى تحصيل الحاصل. وهذا نص مقتبس من كتاب كانط «introduction to logic» "مقدمة في المنطق" يلخص موقفه من نظرية التطابق:
"يقال إن مفهوم الحقيقة يدل على مدى التوافق بين المعرفة وموضوعها. وعليه، فإن معرفتي، بالنظر إلى هذا التعريف الذي لا يعدو أن يكون مجرد تعريف لفظي أو لغوي، لن تكون معرفة صحيحة إلا إذا كانت مطابقة لموضوعها. ولا يسعني والحالة هذه سوى أن أقارن الموضوع بمعرفتي وفقا لهذا المعيار، وهو ما يتطلب حصول المعرفة بالموضوع [قبل إجراء أية مقارنة بين الموضوع ومعرفتي عنه]. ومعنى ذلك أنه يتعين علي أن أتحقق من معرفتي ما دامت لا تنطوي في ذاتها على الشرط الكافي لقيام الحقيقة. وطالما أن الموضوع يوجد في العالم الخارجي [الموضوعي] وأن المعرفة توجد في العالم الداخلي [الذاتي] فإنه لن يكون باستطاعتي سوى أن أقرر ما إذا كانت معرفتي بالموضوع تتفق مع معرتي بالموضوع. هذا ما كان يسمى لدى القدماء بالاستدلال الدائري. ولذلك تعرض المناطقة لتهمة الوقوع في هذه المغالطة، وهي التهمة التي وجهها إليهم أصحاب النزعة الشكية: يرى هؤلاء أن من يتصور الحقيقة على النحو المشار إليه شأنه في ذلك شأن من مََثُلَ أمام محكمة وأدلى بتصريح؛ ولكي يثبت دعواه أحضر شاهدا لا يعرفه أحد من الحضور، ولما وجد الشاهد نفسه مضطرا إلى إثبات مصداقيته اكتفى بالقول إن الرجل الذي أخضره كشاهد هو رجل شريف"(*)
يرى كانط أن تعريف الحقيقة بأنها تطابق الفكر مع الواقع هو تعريف اسمي لا يخبرنا بواقع الحال، ويذكرنا بأنه كان محط جدل ونقاش حاد بين الفلاسفة القدماء: فقد كان أهل المنطق وعلى رأسهم أرسطو هم أول من قال بفكرة التطابق كمعيار للحقيقة؛ ولم تسلم هذه الفكرة من النقد في زمانهم، وكان أول من اعترض عليها هم أصحاب النزعة الشكية الذين يعتقدون بأن مقياس الحقيقة هو الإنسان. وما أثار كانط عند الشكاك ليس تصورهم للحقيقة ومعيارها، بل نقدهم لتصور أهل المنطق لمعيار الحقيقة، وهو نقد جذري استهدف الأساس أو البنية المنطقية التحتية التي تقوم عليها نظريتهم: لقد أرادوا تفكيك وتقويض أسلوبهم في البرهنة عليها: وقالوا إنه أسلوب دائري عقيم يدور في حلقة مفرغة diallelos/diallèle. يرى أصحاب النزعة الشكية أنه لا يمكن تفادي هذا النوع من الاستدلال الدائري؛ فعندما نريد البرهنة،مثلا، على أن "أ" صحيحة من خلال افتراض أن "ب" صحيحة، فإنه سيكون بإمكاننا أن نبرهن أيضا على أن "ب" صحيحة من خلال البرهنة على أن "أ" صحيحة. وهكذا نجد أنفسنا في حلقة مفرغة كلما استخدمنا قضية معينة للبرهنة على قضية أخرى دون أن يكون هناك ما يثبت صحة أية واحدة منهما على نحو قبلي. ومن أمثلة ذلك أن إثبات قيمة العقل، يتطلب الاستناد على دليل عقلي، ولتوفير هذا الدليل يُعْمَدُ إلى استخدام العقل الذي يراد إثبات قيمته التي وضعت موضع تساؤل.
لقد فتح كانط بنقده لنظرية التطابق أفقا جديدا أمام نظريات الحقيقة، من حيث أنه بين حدودها وكشف عن تناقضاتها. ومن هنا كان لابد من إعادة النظر في نظرية التطابق. تتلخص هذه النظرية فيما يلي: تعتبر القضية "أ" صحيحة إذا كانت "أ" مطابقة فقط للواقع وهذا مثال على ذلك: إن القول بأن بعض الفطريات سامة يكون صادقا إذا كانت القضية "بعض الفطريات سامة" مطابقة لواقع كون بعض الفطريات سامة. وإليك مثال آخر: إن القول بأن الله موجود يكون صادقا إذا، وفقط إذا كان وجود الله واقعا بالفعل. وهذا تطرح مشكلة تحديد علاقة التطابق؟ كيف يمكن الجزم بأن القضية مطابقة للواقع؟
يرى فتغنشطاين Ludwig Wittgenstein أن "التطابق" بين القضية والواقع لا يتحقق إلا إذا كانت بنيتاهما متماثلتان من الناحية الشكلية أو المنطقية isomorphic: فلكي تكون القضية صادقة من وجهة النظر هذه، فإنه يجب أن يكون لها في الواقع ما يقابلها، شيء له بنية مماثلة للبنية المنطقية للقضية التي يراد فحصها: فالقضية "أ" يجب أن تكون مطابقة للواقعة التي لها خصائص "أ" في حال كانت "أ" صادقة. وعلى هذا الأساس يمكن القول إن القضية "أ" تكون صحيحة في حال فقط كانت هناك واقعة لها خصائص "أ"؛ وفي هذه الحالة تكون القضية "بعض الفطريات سامة" صادقة في حال فقط وجدت في الواقع بعض الفطريات السامة. يتحدد التطابق هنا بالمعنى التالي: إذا كانت الواقعة التي لها خصائص "أ" موجودة فإن القضية "أ" تكون صادقة، بمعنى أن القضية الصادقة هي القضية الواقعية. وهكذا فإن القضية: "الله موجود" تكون صادقة إذا كانت هناك واقعة تتمثل في وجود الله. وهنا تطرح مشكلة أخرى تتعلق بتحديد مفهوم الواقع: فما هو الواقع ؟ ماذا يفيد القول بأن الواقع موجود ؟
1. نظرية تارسكي: النظرية السميونطيقية
تكمن المشكلة في إمكانية أن تكون تصوراتنا للواقع مختلفة وفي اختلاف طرق التعبير عنه، بل إن هناك علاقة بين تصورنا للواقع واللغة التي نستعملها للتعبير عنه: ومما يدل على ذلك صعوبة ترجمة العديد من المفاهيم المستعملة في لغة ما إلى لغة أخرى: إن بعض المفاهيم المستعملة في لغة معينة قد لا يكون لها ما يقابلها في لغة أخرى، ولا يمكن بالتالي ترجمتها. وإذا كان الأمر كذلك، فإنه من الصعب القول بأن الحقيقة تكمن في التطابق بين العبارة وما تشير إليه في الواقع، مادامت تصورات الناس للواقع وطرقهم في التعبير عنه مختلفة؟
وهذا ما حدا بعالم المنطق البولوني ألفريد تارسكي (1901-1983) إلى إعادة تحديد مفهوم التطابق من خلال التمييز بين اللغة-الموضوع object language واللغة الماورائية أو الورا- لغة metalanguage من أجل تفادي الوقوع في المفارقات المنطقية كمفارقة من يقول "أنا أكذب"، فلا نعرف ما إذا كان صادقا أو كاذبا في قوله. تشمل اللغة باعتبارها موضوعا كل القضايا التي نتحدث عنها ونريد إصدار حكم بشأنها، وأما اللغة الماورائية فهي اللغة التي نستعملها في حديثنا عن تلك القضايا. ولبيان تصوره لعلاقة التطابق يدعونا تارسكي إلى اعتبار الجملة: "الثلج أبيض"، متسائلا: ضمن أية شروط تعتبر هذه الجملة صادقة أو خاطئة؟ فإذا نظرنا إلى هذه القضية في ضوء نظرية أرسطو قلنا: تكون العبارة صادقة إذا كان الثلج أبيضا. ولكي يتوافق هذا التعريف مع تصوره للحقيقة، اقترح تارسكي التعبير عن علاقة التطابق وفقا للصيغة التالية:
تكون الجملة: "الثلج أبيض" صادقة إذا، وفقط إذا كان الثلج أبيضا
  هناك تكافؤ بين طرفي هذه الصيغة التعبيرية: ففي شطرها الأول ورد اسم الجملة المراد التأكد من صدقها بين مزدوجتين، ووردت الجملة ذاتها في الشطر الثاني بدون المزدوجتين. وإذا أردنا أن نعبر عن هذه المسألة بلغة فلاسفة القرون الوسطى قلنا إن الجملة: "الثلج أبيض" وردت في صورة مادية في الشطر الأول suppositio materialis، ووردت في صورة شكلية suppositio formalis في الشطرالثاني. ولكن، ماذا يقصد تارسكي بقوله: إن الشطر الأول يتضمن اسم الجملة (=وصف الجملة) وليس الجملة ذاتها؟ يقول بهذا الصدد:
"إنه من الضروري جدا بيان لماذا يجب أن يقع اسم الجملة، وليس الجملة ذاتها، في الشطر الأول من المعادلة. لأنه بداية، وفي المقام الأول، إذا نظرنا إلى الأمور من وجهة نظر نحوية فإن عبارة من نوع "X صادقة" لن تكون جملة مفيدة إذا استبدلنا فيها " X" بجملة أو بأي شيء آخر غير الاسم؛ لأن الفاعل في الجملة لا يمكن أن يكون شيئا آخر غير الاسم أو عبارة تقوم مقام الاسم. وفي المقام الثاني، تقتضي المواضعات الأساسية المتعارف عليها في إطار كل لغة أن يُستعمل الاسم في تركيب كل جملة للتعبير عن أي موضوع، ولا تجيز استعمال الموضوع ذاته. وبالتالي، إذا وددنا أن نقول عن الجملة شيئا، كأن نقول، مثلا، إنها صادقة، وجب أن نستعمل اسم الجملة، وليس الجملة ذاتها"(*)
 يميز تارسكي بين اسم الجملة والجملة ذاتها، ولذلك دأب على وضع الجملة-الاسم بين مزدوجتين لتمييزها عن الجملة؛ ثم عمم هذا الإجراء على جميع الجمل: لنعتبر أية جملة أخذت بشكل اعتباطي، ولنعبر عتها بالحرف "p"، ثم نقوم بعد ذلك بتشكيل اسم هذه الجملة، ونعبر عته بالحرف"X"، ثم نتساءل بعد ذلك: ما هي العلاقة المنطقية الموجودة بين القول بأن "X صادقة" و"p". يرى تارسكي أن هاتين الجملتين متكافئتين equivalent بحيث يمكن القول:''  X صادقة إذا، وفقط إذا، كانت p"
تعتبر
Partager cet article
Repost0
6 septembre 2007 4 06 /09 /septembre /2007 23:31
مفهوم الحقيقة
من النقد الكانطي إلى نظرية تارسكي
(الجزء الثاني)
أحمد أغبال
يميز تارسكي بين اسم الجملة والجملة ذاتها، ولذلك دأب على وضع الجملة-الاسم بين مزدوجتين لتمييزها عن الجملة؛ ثم عمم هذا الإجراء على جميع الجمل: لنعتبر أية جملة أخذت بشكل اعتباطي، ولنعبر عتها بالحرف "p"، ثم نقوم بعد ذلك بتشكيل اسم هذه الجملة، ونعبر عته بالحرف"X"، ثم نتساءل بعد ذلك: ما هي العلاقة المنطقية الموجودة بين القول بأن "X صادقة" و"p". يرى تارسكي أن هاتين الجملتين متكافئتين equivalent بحيث يمكن القول:''  X صادقة إذا، وفقط إذا، كانت p"
تعتبر "X" و"p" في إطار هذه الصيغة التعبيرية متكافئتان. لنسمي كل تكافؤ بين "p" و"X" (في كل حالة تستبدل فيها "p" بأية جملة يمكن وصفها باستعمال كلمة "الصدق"، وتستبدل فيها "X" باسم تلك الجملة)التكافؤ ذو الشكل(T). وبذلك يكون تارسكي قد حدد شروط تعريف واستعمال مفهوم "الصدق": يستعمل هذا المفهوم في نظره للدلالة على ثبوت كل حالات التكافؤ ذات الشكل(T)، ويعتبر تعريف الحقيقة تعريفا ملائما إذا كانت جميع حالات التكافؤ تلك تلزم عنه بالضرورة منطقيا.
ويرى تارسكي أن كل صيغة تعبيرية من نوع(T) ليست في ذاتها جملة، بل تمثل شكل الجملة أو هيكلها التخطيطيschema ، ولا تقوم مقام تعريف الحقيقة. ومع ذلك اعتبر أن كل تكافئ يأخذ شكل الصيغة (T)، التي يُتوصل إليها من خلال استبدال "p" بجملة معينة و"X" باسم تلك الجملة، بمثابة تعريف جزئي للحقيقة. وهو تعريف يشير إلى محل ثبوت صدق هذه الجملة بالذات. وأما تعريفها الشامل فيدل على الرابطة المنطقية التي تربط الجمل أو الحقائق الجزئية بعضها ببعض وتوحدها. وهذا هو ما يسمى بالتعريف السيمونطيقي للحقيقة حسب نظرية تارسكي.
يعرف تارسكي السمونطيقا بأنها العلم الذي يهتم بدراسة العلاقات بين التعابير اللغوية والموضوعات التي تحيل عليها تلك التعابير. ومن المفاهيم التي يستعملها هذا العلم للتعبير عن تلك العلاقات هناك على سبيل المثال لا الحصر مفاهيم "الدلالة" و"التحديد أو التعريف" و"الاستيفاء"، فيقال مثلا:
- أب العقلانية الحديثة، للدلالة على ديكارت
- يستوفي "الثلج" شروط الوظيفة التعبيرية للجملة " x أبيض"
- المعادلة « 2*x =1 » لا تحدد غير العدد ½
وإذا كانت تلك الكلمات تعبر عن العلاقات بين التعابير اللغوية والموضوعات التي تشير إليها، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، فإن كلمة "صدق" من طبيعة منطقية مختلفة: فهي تدل على خصائص بعض العبارات أو الجمل. ويظهر من خلال الصيغ التي أوردناها في الفقرة السابقة لتحديد مدلول كلمة "الصدق" أن هذه الكلمة لا تكتفي بالإحالة إلى العبارات ذاتها بل تستحضر أيضا الموضوعات التي تشير إليها تلك العبارات. ولذلك فإن تحديد مفهوم الحقيقة تحديدا دقيقا بتطلب استعمال المفاهيم السيمنطيقية كمفهوم "الاستيفاء"و"الإحالة" و"الصدق" . يندرج مفهوم "الحقيقة"، من وجهة النظر هذه، ضمن الجهاز المفاهيمي السيمنطيقي، ولا يمكن فهمه، بالتالي، إلا من خلال ربطه بمبادئ وأسس النظرية السيمنطيقية.
ولا يتأتى تعريف الحقيقة تعريفا دقيقا إلا من خلال تحديد البنية الشكلية للغة، وصياغة عباراتها صياغة شكلية مثلما هو الحال في لغة المنطق. هذا بالإضافة إلى ضرورة تجاوز اللغة المنغلقة، والوعي بوجود لغتين مختلفتين للتعبير عن الوقائع والقضايا من أجل تفادي الوقوع في مفارقة الكاذب the antinomy of the lier، وهما:
1.     اللغة-الموضوع أو لغة المستوى الأول، وهي اللغة التي نتحدث عنها أو التي تشكل موضوع حديثنا. ولا ينطبق تعريف الحقيقة إلا على الجمل التي تتشكل في إطار هذه اللغة.
2.     اللغة الماورائية meta-language أو لغة المستوى الثاني، وهي اللغة المستعملة للحديث عن اللغة الأولى. تستعمل عبارات اللغة الماورائية لتحديد مفهوم "الحقيقة" الذي يطبق على الجمل التي تصاغ في إطار اللغة-الموضوع.
ويمكن القول بصفة عامة، إن كل لغة نتحدث عنها فهي لغة-موضوع، وكل لغة نستعملها للحديث عن لغة أخرى فهي لغة ماورائية. وبَيّنٌ من هذا القول أن لغة المستوى الثاني قد تصبح بدورها موضوعا للغة ماورائية أخرى تقع في مستوى أعلى، وأن كل مستوى من مستويات اللغة يحدد معايير الحقيقة للمستوى الذي يقع دونه، وهكذا دواليك. ومعنى ذلك أن مفهومي اللغة-الموضوع واللغة الماورائية هما مفهومان نسبيان.
لنعد الآن إلى تصور تارسكي لشروط الحقيقة في ضوء مبدأ التكافؤ بين شطري الصيغة (T): فعندما نقول مثلا إن "X صادقة إذا، وفقط إذا كانت p"؛ فإن القضية ''p'' هي من جملة القضايا التي تنتمي إلى اللغة-الموضوع، بينما تنتمي القضية 'X'، باعتبارها خطابا حول ''p''، إلى اللغة الماورائية. لنفحص القضية التالية: "الثلج أبيض" [قضية صادقة] إذا، وفقط إذا كان الثلج أبيضا"، يتعلق الشطر الأول من هذه العبارة بالجملة "الثلج أبيض" التي تندرج ضمن اللغة-الموضوع، ويتعلق الشطر الثاني الذي يندرج ضمن اللغة الماورائية بالثلج وخصائصه. ولو أننا نطقنا بالجملة الأولى والثانية بلغتين مختلفتين لبدا لنا الفرق واضحا بين اللغة-الموضوع واللغة الماورائية:
"أَدْفَلْ دَمْلاّلْ [باللغة الأمازيغية]، إذا كان الثلج أبيضا"
"The snow is white, si la neige est blanche"
يرى تارسكي أن صدق القضايا لا يتحدد في إطار اللغة المستعملة للتعبيرعنها، بل يتحدد في إطار لغة أخرى. فإذا صيغت القضية في لغة "ل" التي هي اللغة-الموضوع، فإن تحديد دلالتها لا يتحقق إلا بواسطة لغة أخرى "م" وهي اللغة الماورائية؛ ولذلك وجب أن تشتمل اللغة "م" على نسخة من اللغة "ل"، بحيث تكون اللغة (م) قادرة على التعبير عن كل ما تعبر عنه اللغة (ل). وتكمن وظيفة اللغة الماورائية "م" في صياغة قضايا اللغة الموضوع "ل" صياغة شكلية من خلال إظهار مبادئها وعلاقاتها الشكلية (بغض النظر عن مضمونها الدلالي). ولذلك لزم أن تكون اللغة الماورائية أكثر غنى من اللغة-الموضوع وأكثر قدرة على التجريد والتعميم من خلال استعمال أدوات التعبير المنطقي، ويشترط أيضا أن تكون عباراتها ومفاهيمها مضبوطة ومحددة بدقة متناهية، لتكون قادرة على التعبير عن البنية الشكلية لجمل وتعابير اللغة-الموضوع. ولكن غنى اللغة الماورائية، بالمقارنة مع اللغة-الموضوع، يتوقف، في المقام الأول، على امتلاكها لأدوات منطق أرقى من المنطق الذي يتخلل اللغة-الموضوع. وهذا هو الشرط الضروري لتحديد مفهوم الحقيقة.
وعلى هذا الأساس حاول أن يعرف الحقيقة بالاعتماد على بعض المفاهيم التي تنتمي إلى منطق اللغة الماورائية، وفي مقدمتها:مفهوم "الاستيفاء" satisfaction: ويدل على العلاقة التي تربط أي موضوعا أخذ بشكل اعتباطي ببعض "الوظائف التعبيرية" sentential functions وهي جمل من نوع: "Xأبيض"، أو "Xأكبر من Y". ومع أن البنية الشكلية لهذه الصيغ التعبيرية لا تختلف عن بنية الجمل العادية فإن ما يميزها هو احتواءها على ما يسميه تارسكي بالمتغيرات الحرة free variables (X وY) القابلة للاستبدال بغيرها.
يتبين مما سبق أن تعريف الحقيقة في ضوء النظرية السيمنطيقة يجب أن يراعي مبدأ التلاؤم بين القضية والموضوع الخارجي، من جهة، ومبدأ الانسجام الشكلي من جهة أخرى، أي أن يكون سليما من الناحية الشكلية وملائما من الناحية المادية أو الموضوعية. ويشمل مفهوم الحقيقة،بالإضافة إلى ذلك، كل ما يترتب عن الهيكل التخطيطي (T) المتمثل في الصيغة العامة: "X صادقة إذا، وفقط إذا كانت p"، بحيث يمكن استبدال p بأية جملة يراد فحصها والتأكد من صدقها، واستبدال  Xبجملة من اللغة الماورائية تكون متكافئةequivalentمع الجملة السابقة. وهذا مثال يوضح المراد:
لنعتبر القضية التالية: "سقراط حكيم"، "سقراط" في هذه الجملة اسم (N) لشخص موجود في الواقع، وتشتمل الجملة على صفة (حكيم= P) أُلحقت بذلك الاسم؛ ولنعبر عن هذه القضية بلغة L على النحو التالي: NP. ولنعتبر الآن قضية أخرى مختلفة وهي np، ولنعبر عنها بلغة أخرى وهي I. نحن الآن أمام لغتين مختلفتين، ولكل عنصر من عناصر القضيتين  NP و np دلالة خاصة في كل لغة، بحيث أن:
§        N في L تحيل إلى سقراط ؛ و N في I تحيل إلى باريس
§        n في L تحيل إلى كتط ؛ و n في I تحيل إلى روما
§        P في L تحيل إلى كل ما هو حكيم ؛ و P في I تحيل إلى كل ما هو فرنسي
§        p في L تحيل إلى كل ما هو أبيض ؛ و P في I تحيل إلى كل ما هو بارد.
يمكن القول في ضوء نظرية تارسكي:
§        تكون NP صادقة في L إذا، وفقط إذا كان سقراط حكيما
§        تكون NP صادقة في I إذا، وفقط إذا كانت باريس فرنسية
§        تكون np صادقة في L إذا، وفقط إذا كان كانظ أبيضا
§        تكون np صادقة في  Iإذا، وفقط إذا كانت روما باردة.   
إن هذه الجمل الأربع الأخيرة هي من نوع الجمل (T)، هي تعريفات جزئية للحقيقة لا تتجاوز منطق اللغة-الموضوع وأما التعريف التام للحقيقة فيتطلب الجمع بين هذه الحقائق الجزئية في إطار تعريف متكامل من خلال تركيبة تتوحد فيهاالقضايا بواسطة مفاهيم "الإحالة" و"الاستيفاء" و "الصدق"، من حيث أن الصدق يتحدد في إطار لغة معينة باستيفاء شرط الانفتاح على الموضوع الخارجي عبر الإحالة إليه في إطار تلك لغة. وعليه يمكن تعريف الحقيقة وفقا لمنطق اللغة الماورائية على النحو التالي:
تكون S صادقة في L إذا، وفقط إذا كانت S هي NP وكان سقراط حكيما؛ وإذا كانت S هي pN وكان سقراط أبيضا؛ وإذا كانت S هي Pn وكان كانط حكيما؛ وإذاكانت S هي pn وكان كانط أبيضا.
تتمثل الحقيقة إذن في مجموع الحقائق الجزئية التي أعيد بناءها وفقا لمنطق اللغة
Partager cet article
Repost0
5 septembre 2007 3 05 /09 /septembre /2007 23:35
مفهوم الحقيقة
من النقد الكانطي إلى نظرية تارسكي
(الجزء الثالث)
أحمد أغبال
إن هذه الجمل الأربع الأخيرة هي من نوع الجمل (T)، هي تعريفات جزئية للحقيقة لا تتجاوز منطق اللغة-الموضوع وأما التعريف التام للحقيقة فيتطلب الجمع بين هذه الحقائق الجزئية في إطار تعريف متكامل من خلال تركيبة تتوحد فيهاالقضايا بواسطة مفاهيم "الإحالة" و"الاستيفاء" و "الصدق"، من حيث أن الصدق يتحدد في إطار لغة معينة باستيفاء شرط الانفتاح على الموضوع الخارجي عبر الإحالة إليه في إطار تلك لغة. وعليه يمكن تعريف الحقيقة وفقا لمنطق اللغة الماورائية على النحو التالي:
تكون S صادقة في L إذا، وفقط إذا كانت S هي NP وكان سقراط حكيما؛ وإذا كانت S هي pN وكان سقراط أبيضا؛ وإذا كانت S هي Pn وكان كانط حكيما؛ وإذاكانت S هي pn وكان كانط أبيضا.
تتمثل الحقيقة إذن في مجموع الحقائق الجزئية التي أعيد بناءها وفقا لمنطق اللغة الماورائية بواسطة مفاهيم الاستيفاء والإحالة والصدق.
وخلاصة القول أن الحقيقة لا تتحدد على مستوى اللغة التي نتحدث عنها أو اللغة الموضوع، بل على مستوى لغة أخرى أرقى منها؛ فلو كانت كل لغة تنطوي في ذاتها على ما يحدد صدق القضايا التي تعبر عنها لكان من غير الممكن تفادي الوقوع في المفارقات المنطقية التي تمثل مفارقة الكاذب نموذجها الأمثل. ولعل ذلك هو ما أشار إليه كانط حين قال: "يتعين علي أن أتحقق من معرفتي ما دامت لا تنطوي في ذاتها على الشرط الكافي لقيام الحقيقة". ويرى تارسكي أن مثل هذه المفارقات لا تنحل إلا داخل اللغة الماورائية.
وتجدر الإشارة أخيرا إلى أن تارسكي نفسه قد رسم لنظريته حدودا: فهي لا تنطبق إلا على اللغات الشكلية كلغة المنطق مثلا، ولا تنطبق على اللغات الطبيعية كاللغة العربية والفرنسية والإنجليزية وما إلى ذلك.

 

Partager cet article
Repost0
8 novembre 2006 3 08 /11 /novembre /2006 00:52
الحب والحياة
مختارات من الشعر الأمازيغي


لشاعرمجهول
ترجمة أحمد أغبال

هل يوجد حب مجاني؟
هل يهب المرء قلبه عشوائيا
وهو معصوب العينين
اخرجي من مخبئك
كي أعرفك
***
أحبك
ولا شيء يجبرني على الرحيل
قبل أن أنال منك قبلة
وأشفي غليلي
الخيل لا تركض إن لم تنل
من القوت نصيبها
***
وددت أن تكوني في بيتي
يا حبيبتي
ما قيمة قطعان الغنم ؟
حصاني الرمادي وأنت
هذا يكفيني
***
يطو.. يا يطو
لو كان للعالم الخلود
لكان حبك أيضا أبديا
ولكن الثروة خدعة
وإن كانت ترضينا أحيانا
***
سعيد هو من يزرع الشاي
على ظهر حصانه
وفي الوسط النعناع
ويسكن الحبيبة في الحقيبة
Partager cet article
Repost0
17 octobre 2006 2 17 /10 /octobre /2006 00:09

أقدم للقارئ العربي الفصل السادس من كتاب لم ينشر بعد تحت عنوان

أضواء على تجربة الكتابة الإبداعية

لدى محمد شكري ومحمد برادة

من خلال تحليل رسائل الورد والرماد

أحمد أغبال

عندما قرأت رسائل »ورد ورماد« في صيف 2002 أغرتني بإنجاز هذه الدراسة، ولم يخطر ببالي حينئذ أن أتطرق لما كتبه المحللون والنقاد عن محمد شكري ومحمد برادة. ولما أنهيتها، في صيف 2003، طرحتها جانبا حيث ظلت ضائعة بين الملفات المهجورة، لأنني أنجزتها إرضاء لفضول شخصي أشعلت ناره الرسائل. وفي صيف 2005 اطلعت بمحض الصدفة على رسالة جامعية تقدمت بها الباحثة الأمريكية ملبورن ساندرا جون Milburn Sandra Jean لنيل دكتوراه الدولة بجامعة برنستون تناولت فيها بالدراسة والتحليل أعمال محمد شكري[1] .ونظرا لأهمية هذه الدراسة ولما بينها وبين الدراسة الحالية من نقط تقاطع واختلاف قررت أن أضيف فصلا آخر إلى هذه الدراسة أبسط فيه وجهة نظر أخرى في ضوء النتائج التي توصلت إليها. وتجدر الإشارة إلى أن رسائل »ورد ورماد« نشرت في الوقت الذي كانت الباحثة قد أشرفت فيه على إنهاء دراستها، ولذلك لم تتمكن من إدراجها ضمن النصوص التي شملها التحليل.
وإذا كان الحنين قد عاودني إلى هذه الدراسة تحت تأثير ساندرا ملبورن، فإنني ارتأيت هذه المرة إقامة جسر بيني وبين القارئ العربي من جهة، ومد جسر آخر بينه وبين الباحثة الأمريكية من جهة أخرى، ليتمكن من تشكيل تصوره الخاص عن الأديب المغربي الراحل من خلال الاطلاع على مختلف الآراء ومناقشتها.
هدفت الدراسة إلى تغيير الصورة السلبية التي تشكلت عن محمد شكري في كل من العالم العربي والعالم الغربي على حد سواء. لقد أرادت الباحثة الأمريكية أن تقدم لنا رؤية جديدة إلى أعمال الأديب المغربي من خلال تحليل سيرته الذاتية وقصصه القصيرة وأسلوبه الأدبي من أجل إبراز نظرته المتميزة إلى العالم وقلب الصورة النمطية الأحادية الجانب التي علقت به. تشكلت هذه الصورة في اعتقادها من خلال التركيز على الجوانب المثيرة في أعماله وتضخيمها وعزلها عن السياق العام الذي تستمد منه دلالتها الحقيقية إما لاعتبارات دينية، كما هم الحال في العالم العربي، وإما لعدم استيعاب نظرته المتميزة إلى العالم، كما هو الحال في العالم الغربي.
ففي العالم العربي تشكلت عنه صورة سلبية تحت تأثير الحملة الدعائية التي شنتها عليه التيارات الدينية المحافظة التي اتهمته بالفساد الروحي والأخلاقي لمجرد أنه تحدث عن الجنس بشكل مكشوف. وكذلك ساهم النقاد العرب في انتشار الصورة التي تظهره بمظهر الصعلوك المتطفل على الأدب لعجزهم عن استيعاب نظرته الجديدة إلى العالم وسوء فهمهم لأعماله.
وإذا كان بعض الكتاب العرب قد حاولوا إبراز طريقته غير المعهودة في الكتابة فإنهم لم ينظروا إليها في علاقتها بالطريقة غير العادية التي خضع لها في تنشئته الاجتماعية. وبدل أن يهتموا بإبراز الخصائص الحداثية في أسلوبه ركزوا على الجوانب الشكلية في أعماله، وأخذوا عليه خروجه على قواعد اللغة العربية وقوالب الأسلوب المتعارف عليه. ولم ينتبهوا إلى أن محمد شكري من طينة غير الطينة التي جبلوا منها. فإلى حدود الستينات من القرن الماضي كان جميع الكتاب من ذوي الشهرة في العالم العربي ينحدرون من شرائح المجتمع العليا والوسطى بما في ذلك اليساريون منهم من أمثال إدريس الشرايبي. وما كان بوسع هؤلاء الكتاب حين يلتفت بعضهم إلى شرائح المجتمع الدنيا إلا أن يصفوها بلغتهم المتخشبة كما تبدو لهم من الخارج وهم معلقون في أبراحهم العاجية. ومن دهاليز المجتمع السري وحثالته طلع عليهم الأديب الناشئ ناطقا باسم الفقراء والمهمشين من أبناء طبقته بصوته الفج المتقطع، ونبرته الثقيلة على الأذن، المخلة بالذوق الرفيع. وكان لابد أن تثير لغته الاستثنائية ردود فعل النقاد الذين ظلوا ينظرون إلى الشكل بمعزل عن المضمون وعن تجربته الرهيبة في الحياة. وبذلك ساهموا بدورهم في ترسيخ الصورة السلبية من خلال استهجان لغته دفاعا عن الأسلوب العربي الأنيق الذي يمنح لهم نوعا من الامتياز.
وكان من نتائج ذلك كله أن ضرب الحصار على الأديب المغربي الناشئ، ومنعت الحكومات العربية كتبه من التداول، ونددت به المؤسسات الثقافية وامتنعت العديد من دور النشر عن طبع أعماله تحت ضغط العناصر الإسلامية المحافظة، حتى إن الخميني سجل اسمه في قائمته السوداء وأصدر فتوى تقضي بهدر دمه. ولم يعد يقف إلى جانب شكري غير عدد قليل من المثقفين يعدون على رؤوس الأصابع في عالم تضافرت فيه مختلف القوى لإخماد صوته بطريقة رسمية أو غير رسمية.
وعلى الجانب الآخر نسج له بعض الكتاب الغربيين ممن ترجموا أعماله صورة لا تقل سلبية عن الصورة التي ألصقت به في العالم العربي. ويأتي الكاتب الأمريكي بول بوولز في مقدمة من أساء إلى سمعته في الغرب. ترى ساندرا ملبورن أن بول بوولز أساء ترجمة أعمال شكري وشوهها، مما أدى إلى تشكيل صورة فظيعة عن الأديب المغربي تظهره بمظهر الطفل المرعب والرجل العنيد المشاكس، والمغامر المتهور الذي تحركه الغرائز البدائية.
ومن الأخطاء التي ارتكبها بول بوولز، والتي أفرزت تلك الصورة السلبية، أنه تعامل مع شكري بنفس الطريقة التي تعامل بها مع الحكواتيين الأميين من أمثال محمد المرابط في إطار المشروع الجديد الذي أعده لجمع الحكايات الشعبية والذي شرع في تنفيذه منذ العام 1950. وكان قبل ذلك منشغلا بتدوين التراث الموسيقي المغربي. اكتشف بوولز الحكايات الشعبية فوقع تحت سحر الرواة الذين يرتجلون أغرب القصص في الساحات العمومية، وراح يجمعها ويدونها مثلما فعل مع التراث الموسيقي. وما لبث أن ركز اهتمامه على الحكواتيين الذين تربطه بهم علاقة شخصية، وتعامل مع أعمالهم بشكل جدي، وترجمها إلى اللغة الإنجليزية، وعرف بها في جميع أرجاء المعمور. آمن بوولز بأن مصدر القوة في أعمالهم يرجع إلى جهلهم بالقراءة والكتابة. ومع أن محمد شكري لم يكن أميا إلا أن بوولز أقحمه في مشروعه على نحو مصطنع، وبذلك ارتكب، في نظر ساندرا، خطأ فظيعا.
والحقيقة أن بوول بوولز لم يشتغل على النص الأصلي في عزلة الكاتب، ولكن الترجمة كانت شبه فورية، تمت بحضور شكري الذي كان يروي قصة حياته إما باللهجة الدارجة أو باللغة الأسبانية انطلاقا مما كتبه في عجالة عقب الصفقة التي عقدها مع الناشر والمترجم، إذ لم يكن قد كتب من »الخبز الحافي « حرفا واحدا قبل لقائه ببول بوولز. والملاحظ أن ساندرا ملبورن لم تشر إلى هذه المسألة في معرض حديثها عن الصعوبات التي واجهت المترجم، واكتفت بالقول إن الطريقة المعتمدة في الترجمة أفقرت النص الأصلي، وشوهت دلالاته، وحالت دون إبراز دقائق الأمور وخاصة ما تعلق منها بمقاصد الكاتب، ونظرته إلى العالم، وأسلوبه المتميز، وما ينطوي عليه هذا الأسلوب من تقنيات فنية كالتلميح والحذف الإيحائي وشروخ الصمت، الخ. وهكذا حولت الترجمة النص الأصلي إلى مجرد خطاب مستفز، وقزمت صاحبه، ونزعت عنه صفة الكاتب المقتدر.
وإذا كانت الترجمة قد شوهت صورة شكري في الغرب، كما تقول ساندرا ملبورن، فإنه يمكن أن نتساءل عما إذا كان شكري قد ذهب ضحية مؤامرة حيكت ضده، أم أن الضحية شاركت بدورها في ارتكاب تلك الخطيئة. نعتقد من جهتنا أن شكري ذهب ضحية الإستراتيجية الماكرة التي وضعها لتحقيق مجده الأدبي في أسرع وقت ممكن. وقع في فخه لما أخطأ في حساباته. تقول ساندرا ملبورن إن بوولز أخطأ عندما أدرج شكري في مشروعه، ولكن هذا الأخير هو الذي تربص به الفرص ليحشر نفسه فيه. تورط لما كذب على إدوار روديتي وزميله بوولز. يقول بهذا الصدد: »ادعيت أن سيرتي الذاتية كانت مكتوبة ولم أكن قد كتبت منها الجملة الأولى«. بهذه الكذبة فرض على نفسه دور الحكواتي. ألم يكن بوسعه أن ينهي الرواية قبل أن يعرضها على المترجم ويتركه وحيدا أمام مسؤوليته الأدبية ؟
لم يتح شكري لبوولز الفرصة للاطلاع على النص الكامل قبل الشروع في ترجمته. وإنه لمن الغريب حقا أن يتفادى بوولز مطالبة شكري بالنص الكامل للرواية. لا شك أنه تنبه إلى أن شكري لم يكن صادقا في قوله، فتركه على حاله، وفضل أن يتعامل مع أجزاء الرواية كلما خرج شيء منها إلى الوجود على عجل. وربما اختار التعامل مع شكري بهذه الطريقة رغبة منه في الحفاظ على تلقائية السرد وحيويته وفقا للمعايير التي أسس عليها مشروعه، من جهة، وعدم إتاحة الفرصة له للمراجعة والتشذيب والتنقيح، من جهة أخرى. لم يكن بوولز في حاجة إلى تشكيل فكرة عامة عن النص ولا إلى الإحاطة بمقاصده وتقنياته. إن ما كان يشغل باله في المقام الأول هو المضمون والتلقائية في سرد الوقائع والأحداث. ومما يدل على ذلك أن شهرة »الخبز الحافي «ظلت مرتبطة في ذهنه بمضمونها لا بجوانبها التقنية. صرح في حوار أجراه معه فليب رامي Philpp Ramy حين سأله عما إذا كانت »الخبز الحافي «لازالت تحتفظ بشهرتها:
»لقد استطاعت تلك الرواية أن تنفذ إلى ذلك النوع من التفاصيل التي لم يكن باستطاعة أي كاتب في هذا البلد [المغرب] أن ينفذ إليها. فالمؤلفات التي كانت موجودة في ذلك الوقت كانت أكثر أكاديمية، يعلب عليها الطابع الرومانسي. بالمقرنة مع شكري تجد أن سيرة أحمد الصفريوي مثلا هي سيرة معطرة. لم بتحدث فيها إلا عن الأشياء السارة [...]. وأما شكري فإنه عاش تجربة رهيبة في الحياة، وكتب عنها في "الخبز الحافي". أحببت واقعيته[2] «  
 إن ما يقصد بوولز بقوله إن السير الذاتية التي اشتهرت خلال فترة الستينيات والسبعينيات كان يغلب عليها الطابع الأكاديمي والرومانسي هو أنها كانت مصطنعة خالية من التلقائية والمباشرية. وأما سيرة شكري فإنها تستمد قيمتها من مضمونها الجديد وتلقائيتها ومباشريتها لا من العطر والزخرف. لا يختلف موقف بوولز من »الخبز الحافي «عن موقفه من »الغذاء العاري« لوليام بروز. يقول عن رواية بروز:
»أما فيما يخص "الغذاء العاري" (1951) فهذه رواية أعجبتني كثيرا، لكن لم تتركني في حالة حيرة. الكتاب أعجبني كثيرا بمضمونه. تقنيته ليست فريدة، فبإمكان أي أحد أن يكتب بالطريقة ذاتها « [3]
 
   يبدو أن بوولز كان مهووسا بمضمون الأعمال الفنية ولو كان ذلك على حساب الجوانب الشكلية والتقنية حتى ولو تعلق الأمر بالفنون التشكيلية. »إن القضية في نظره ليست قضية تقنية، بل هي قضية التوفر على وجهة نظر جديدة في الرسم. التقنية بالضبط ليس لها دور كبير تلعبه في عمل الفنان « (بوولز، حوار أجراه عبد العزيز جدير). وما يزيد من قيمة السير الذاتية في نظره هي التلقائية في سرد الوقائع. والظاهر أن ما دفعه إلى الإسراع بترجمة »الخبز الحافي «هي رغبته في تتبع مخاضها ونشأتها الفورية. لقد كتبت الحكاية على عجل وترجمت على الفور، ولم يتح المترجم لشكري أية فرصة للاسترجاع التأملي. ولعل ما ساعد على خروجها من الأحشاء على الهيأة التي نعرفها كثرة تناول الكاتب للفودكا »العسلية «التي وفر له منها المترجم ما يكفي لكسر الموانع والحواجز النفسية على امتداد فترة الكتابة كلها. يقول بوولز:
»أتذكر أن شكري خلال تلك الفترة وما بعدها كان يشرب هنا (مشيرا نحو بهو بيته) الفودكا، كان يجلبها لي روسي يدعى فيكتور[...]. كل قنينات الفودكا التي حملها إلي هنا شربها شكري. فقد وجد الفودكا رائعة وربما عسلية. مرات عديدة كان ينبطح، هنا، على الأرض، عاجزا عن الوقوف أو الذهاب. وكان ينام. كل زواري كانوا يقولون عن شكري: آه، عاد السكير« [4]
   وخلاصة القول إن رواية »الخبز الحافي «كتبت بطريقة مرتجلة وبكثير من التلقائية. إن هذه الخاصية هي التي شجعت بوولز على الاهتمام بها وترجمتها على الفور. يدل على ذلك قوله:
»إنني أميل إلى الاعتقاد بأن الأمية شرط أساسي [من شرو
Partager cet article
Repost0
10 octobre 2006 2 10 /10 /octobre /2006 01:30
محاولة لفهم كلمة البابا التي أثيرت حولها الضجة
أحمد أغبال
(الجزءالرابع)
ينطوي كلام البابا على تهمة الانحراف عن تقاليد اللاهوت المسيحي موجهة لدونس سكوتوس. ومن مظاهر الانحراف قوله أن إرادة الله مطلقة لا يقيدها شيء وأن سلطته مطلقة، وأن الله حر في أفعاله لا يتقيد فيها بضوابط العقل؛ ولما كانت الإرادة الإلهية تتمتع بحرية مطلقة فلا شيء يمكن أن يجبرها بالتالي على أن تسلك بطريقة عقلانية. ويعتقد دونس سكوتوس أيضا، على خلاف أسلافه، أن نظام الكون لا يصدر عن العقل الإلهي بل يخضع كل شيء فيه لإرادة الله المطلقة، وأن العقل البشري هو مجرد وسيلة مسخرة لخدمة الإيمان. وكما أن حرية الله مطلقة كذلك اقتضت إرادته أن يكون الإنسان حرا، وأن يختار بين فعل الخير أو فعل الشر؛ وهذه أمور منافية للعقل. وإذا كان كل شيء يتأسس على الإرادة فإنه يتعذر أن تكون القوانين والتشريعات عقلانية؛ فإذا كان الله قد شرع القوانين للإنسان وأمره باتباعها، فقد تقتضي مشيئته أن يخالفها أيضا ما دامت إرادته حرة غير مقيدة بالعقل. إن التشريعات الإلهية للبشر هي تشريعات اعتباطية لا يحكمها مبدأ الضرورة. وهكذا، فإن القواعد الأخلاقية، إذا نُظِر إليها من منظور دونس سكوتوس، لا تنطوي في ذاتها على ما يلزم الإنسان على مجاراتها والعمل بها في كل الظروف، ولذلك يحتاج المرء دائما إلى وجود سلطة خارجية تلزمه بالانصياع لها.
وبعد أن رسم البابا الخطوط العريضة لمذهب دونس سكوتوس راح يقارن بينه وبين مذهب ابن حزم، وبدا له أن تصوره للألوهية ينسجم تمام الانسجام مع تصور ابن حزم، من حيث أن كل واحد منهما ينظر إلى الفعل الإلهي باعتباره فعلا ناشئا عن الإرادة المطلقة المتحررة من ضوابط العقل.
كان دونس سكوتوس ميالا إلى الرياضيات، ربما تحت تأثير روجي باكون. ولذلك اتجه بحكم عقليته الرياضية إلى نقد كبار المفكرين من الفرنسيسكانيينfranciscains والدومينيكانيين dominicainsعلى حد سواء، بما في ذلك طوماس الإكوينينفسه.ومن مآخذه عليهم أنهم عجزوا عن استخلاص أية نتيجة منطقية من الأدلة والبراهين التي قدموها لتسويغ موقفهم من القضايا اللاهوتية والميتافيزيقية التي واجهتهم.
وأما ما يميز نظرية سكوت فهو ارتكازها على مبدأ التمييز الشكلي formal distinction. والمقصود بالتمييز الشكلي هنا ذلك التمييز الذي ينطبق على الكائنات التي تندرج ضمن الفئة التي تقع بين الموجودات المادية المحسوسة والمعاني المنطقية المجردة. لا يتعلق الأمر،إذن، بالتمييز بين شيء وشيء آخر من الكائنات المادية، ولا بالتمييز المنطقي بين المعاني المتعلقة بالخصائص الشكلية لتلك الكائنات، بل بذلك النوع من التمييز الذي يمكن إقامته بالفعل بين الماهية والوجود، وبين الجانب البهيمي في الإنسان وجانبه العقلي، بين مبدأ التفرد الموجود فيه من جهة، وبين ما ينطوي عليه من مادة وصورة من جهة أخرى. ومما يمكن أن يترتب عن الأخذ بمبدأ التمييز الشكلي أمران: فلا يخلو، إما أن يقع الدارس المحلل في نزعة واقعية متطرفة؛ وإما أن يقع في نزعة مثالية متطرفة تغالي في التجريد ولا تقيم للمعطى التجريبي أي وزن يذكر. وكذلك فإن القول بالوحدة الشكلية بين تلك الجهات التي يُعتقد أن لها وجود قائم بذاته وليست مجرد إضافة من إضافات العقل، ستفضي إلى النزعة الأحادية monisme التي تؤمن بوجود جوهر واحد تشترك فيه جميع الموجودات على حد سواء، وسواء تعلق الأمر بالخالق أو المخلوق، ويتمتع هذا الجوهر بوجود موضوعي. ولكي يتفادى أتباع سكوتس تهمة الانزلاق إلى مذهب وحدة الوجود قالوا، دفاعا عن أنفسهم، إن الوحدة الشكلية لا ترقى إلى مستوى الوجود الفعلي الواقعي، فهي أقل واقعية من الواقع.
ولابد من الإشارة إلى أن اللاهوت قد طغى على الفلسفة في مذهب سكوتس. ومن النتائج المترتبة عن هذه الهيمنة أن أصبح العقل عاجزا عن معالجة بعض القضايا التي تعتبر في نظر طوماس الأكويني من جملة القضايا التي تندرج أصلا ضمن دائرة اهتمامه كمسألة القدرة الإلهية ومسألة خلود النفس. ومما يؤخذ على دونس سكوتوس ومن سار على نهجه ميلهم، تحت تأثير فلسفة ابن رشد، إلى الأخذ بنظرية الحقيقة المزدوجة: فما يمكن اعتباره صحيحا في إطار اللاهوت قد ينظر إليه من منظور فلسفي على أنه خاطئ. وهذا هو أحد أسباب الخلاف بين دونس سكوتوس وطوماس الأكويني. ومن مظاهر الخلاف بينهما قول دونس سكوتوس إن للوجود معنى واحد، سواء تعلق الأمر بالخالق أو المخلوق، وقوله بتعدد أشكال الجواهر(النفس والبدن عند الإنسان)، وعدم تفريقه بين النفس وملكاتها، وكونه جعل الإرادة فوق العقل، ورفض فكرة الثبات المطلق للقوانين الطبيعية بدعوى خضوعها لإرادة الله؛ وهو ما رفضه طوماس الأكويني جملة وتفصيلا.
ويمكن اختزال الفروق بين المذهبين وحصرها في فرق جوهري واحد هو أن مذهب سكوتس يرتكز على الإرادة باعتبارها المبدأ الأول المحدد للفعل، بينما يقوم مذهب طوماس الأكويني على العقل كمبدأ أول للفعل. يمكن القول بعبارة أخرى: إن الله في المذهب الأول هو قبل كل شيء إرادة، وفي المذهب الثاني هو قبل كل شيء عقل. ولذلك جعل دونس سكوتوس الوحي فوق العقل، بينما مال طوماس الأكويني على غرار القديس أوغسطين إلى التأليف بينهما بنجاح قل نظيره في تاريخ اللاهوت المسيحي. وما يمكن ملاحظته، بالإضافة إلى ذلك، هو أن فلسفة دونس سكوتوس تحمل بصمات الحكمة المشرقية، ويظهر فيها تأثير ابن سينا بشكل واضح؛ ولعله صاغ مبدأ التمييز الشكلي انطلاقا من فلسفة ابن سينا بالذات، ذلك لأن الشيخ الرئيس كان أول فيلسوف ميز بوضوح تام بين الماهية والجوهر وبين الماهية والوجود، وهذا التمييز عينه هو الذي تنبني عليه فلسفة دونس سكوتوس. وكذلك أخذ طوماس الأكويني بفكرة التفريق بين الماهية والوجود، ولكنه وظفها لأغراض أخرى.
يمكن آن نفهم الآن لماذا ناصر البابا بنديكت السادس عشر مذهب طوماس الأكويني على حساب مذهب دونس سكوتوس ودلالة إشارته في نفس السياق إلى أفكار ابن حزم حول الألوهية، ولماذا لجأ إليه ليجعل منه وسيلة لمحاربة بعض التيارات الفلسفية الحديثة. والحقيقة أن البابا بنديكت السادس عشر لم يكن أول من لجأ من الباباوات إلى الطوموية للحد من الآثار السلبية للفلسفات الحديثة على حياة الإنسان بأبعادها الدنيوية والروحية. ففي القرن التاسع عشر أحيى البابا ليون الثالث عشر المذهب اللاهوتي العقلاني الذي أسسه القديس طوماس الأكويني بنية الحد من تأثير المذاهب الفلسفية الحديثة بما في ذلك مذهب ديكارت الذي استطاع من خلال استدلاله العقلي على وجود الله أن يشق طريقة إلى الأوساط اللاهوتية الكاثوليكية خلال القرن التاسع عشر. ولكن البابا رأى في المنهج الديكارتي خطرا على العقيدة، ووجد الحل في بعث وتجديد مذهب القديس طوماس، وهذا هو نفس الموقف الذي عبر عنه البابا بنيدكت السادس عشر في مواجهة المذاهب الفلسفية الوضعية والحكمة المشرقية التي بدأت تغزو الغرب. ومن نافل القول أن تصور البابا لمسألة العلاقة بين الإيمان والعقل ليس إلا صدى لتصور البابا ليون الثالث عشر الذي أراد تكييف مذهب القديس طوماس مع ظروف العصر الحديث الذي تميز بثوراته العلمية والتكنولوجية التي قلبت تصورات الناس للعالم رأسا على عقب. ولا أعتقد أن المفكرين المسلمين المتنورين سيختلفون مع البابا حول هذه المسألة.
وخلاصة القول، إن تاريخ الأديان بما هو تاريخ الوقائع الروحية هو تاريخ منفتح على تاريخ المجتمعات والحضارات؛ ولذلك لا يكف علم اللاهوت عن تجديد طرق بحثه، ومناهجه في التفسير والتأويل، وطرائقه البيداغوجية في التبشير والتعليم، وتقنيات تهذيب النفس البشرية، الخ وفقا لما يسمح به مستوى تطور العلوم الدنيوية في عصره. ولكن درجة انفتاح الدين على علوم العصر تختلف من حقبة إلى أخرى؛ وربما تعرض المجددون للاضطهاد كما حصل لطوماس الأكويني نفسه وللمعتزلة في العالم الإسلامي. ولذلك يجب أن ننظر إلى الأمور بنظرة نسبية، وأن نتجنب الأحكام المطلقة، كأن نقول مثلا إن الدين الفلاني عقلاني والدين الفلاني غير عقلاني، وليس في كلام البابا، على ما بدا لي، ما يدل على وجود حكم من هذا القبيل. فقد كانت نظرته إلى الأمور نظرة تاريخية، وإذن نسبية. ويفهم من كلامه أن اللاهوت المسيحي نفسه كان أقل عقلانية في بعض الظروف وأكثر عقلانية في ظروف أخرى. وكذلك الحال بالنسبة للفكر الإسلامي، فقد يطغى عليه التزمت في فترة تاريخية معينة، وقد يكون أكثر انفتاحا في فترة أخرى. ألم يجعل بعض الخلفاء العباسيين من المذهب المعتزلي مذهبهم الرسمي؟ ألم يتم بعد ذلك إحراق كتب المعتزلة عن آخرها رغم أنهم مسلمون يؤمنون بالله ؟  
Partager cet article
Repost0
10 octobre 2006 2 10 /10 /octobre /2006 01:26
محاولة لفهم كلمة البابا التي أثيرت حولها الضجة
أحمد أغبال
(الجزء الثالث)
قلنا بأن طوماس الأكويني كان في حاجة ماسة إلى العثور على القطعة المفقودة من البوزل ليستقيم البناء وتكتمل الصورة، ولعله وجد ضالته عند ابن سينا رغم كل شيء، فقد كان الشيخ الرئيس هو أول من أقام التمييز بين الماهية والوجود. كان طوماس الأكويني في حاجة إلى هذه التفرقة التي يتعذر بدونها إدراك العلاقة بين الموجودات المتناهية والموجود المطلق، وكذا الانتقال من معرفة العالم إلى معرفة الله عن طريق العقل: فإذا كانت الكائنات الطبيعية تولد وتفنى فإن معنى ذلك أن وجودها ليس ضروريا؛ وإذا كان ليس فيها ما يجعل وجودها ضروريا، فإنه لابد وأن هناك موجودا ضروريا بذاته هو الذي منحها الوجود، وذلك بأن نقلها من الوجود بالإمكان إلى الوجود بالفعل. ولكن كيف تسنى لطوماس الأكويني ردم الهوة الأنطلوجية الفاصلة بين الوجود الممكن والوجود الضروري؟ يتعلق الأمر هنا بفعل الخلق وعلاقة الله بالعالم. وهنا وجد طوماس الأكويني نفسه مرة أخرى مضطرا للبحث عن مفهوم آخر أو حلقة أخرى لتركيب البوزل، ووجد ضالته في مفهوم المشاركة: إن المعقولات المرتبطة بالعالم الدنيوي هي أفكار كانت موجودة في الذات الإلهية منذ الأزل؛ فالمخلوقات تشارك الخالق في الوجود، فَللّه علم بالمخلوقات منذ الأزل، يعرفها بمجرد أن يتأمل ذاته؛ وفي المقابل يحصل العلم للمخلوقات بخالقها عندما تتأمل كمال الخلق؛ ولكن علمهم لا ينفذ إلى ذاته ولا يحيط بها، وإن كانوا يدركون أنه علة الموجودات جميعا. وإذا كان الأمر كذلك فإنه لا يجوز أن يكون للكلمات التي تستعمل للتعبير عن الصفات الإلهية نفس الدلالة التي تكون لها حين تستعمل لوصف الصفات البشرية.؛ إن الكلمة الواحدة لا تفيد نفس المعنى حين توظف في الحديث عن الله وعن المخلوقات: ليس هناك وحدة المعنى univocité بل تماثل analogie في نظر طوماس الأكويني؛ وبحكم هذا التماثل أمكن للإنسان أن يشكل فكرة عن الله دون أن يدعي الإحاطة بذاته. وهكذا، فإن علاقة الله بالعالم هي في نفس الوقت علاقة خلق ومشاركة وتماثل. وأما غاية الإنسان، في إطار هذا النسق الميتافيزيقي اللاهوتي، فهي السعادة التي لا تتحقق بالفعل إلا من خلال رؤية الله. وهنا تبدأ نظرية الأخلاق عند طوماس الأكويني.
يُجمع الدارسون على أن نسق أخلاق طوماس الأكويني كان نسقا فكريا كبيرا، ولكنه كان يعاني في نفس الوقت من عيب بحجم ضخامته: فقد كان نسقا منغلقا، من حيث أن تعاليمه كانت موجهة إلى جماعة الكاثوليك دون سواهم؛ فلا خلاص،إذن، إلا للمؤمنين(*).. يمكن للوثني أو العلماني أن يكون صاحب عقل وحكمة، ولكن امتلاك هذه الفضائل لن يشفع له حتى يعتنق عقيدة الخلاص. وهذا هو ما جعل البعض يعتقدون أن مفاتيح الأسرار الإلهية والخلاص لا توجد إلا بأيدي الكنيسة، وأن الذين وضعوا أنفسهم خارج الإيمان المسيحي هم في ضلال مبين، وذهبوا إلى حد المطالبة بإجبارهم على اعتناق الإيمان الصحيح؛ هذه، إذن، هي الخلاصة العملية المرعبة التي يمكن لأحدهم أن يستخلصها من مجرد التمييز بين الإيمان والعقل.
لم يبتعد طوماس الأكويني كثيرا عن أخلاق القديس أوغسطين، ولكنه حاول تهذيبها بأخلاق نيكوماخوس. ولتحقيق هذه المهمة أخذ بنظرية مراتب الوجود الأرسطية ونظر من خلالها إلى الكائنات فبدت له مرتبة من أقلها إلى أكثرها كمالا وهو الإنسان؛ ولكي يظل وفيا للقديس أوغسطين قسم نظام الكون وفقا لمعيار ديني إلى قسمين، وميز فيه بين مملكة الضرورة ومملكة الرحمة، وكان سلفه قد دأب على وضع كل ما يصدر عن الطبيعة في خانة الشر، وكل ما يرتبط بمملكة الرحمة في خانة الخير. ومع ذلك، نأى بنفسه عن هذا التمييز القاطع، وبدا له أن كل مخلوق ينطوي على شيء من الخير وشيء من الشر، ولذلك لزم التمييز بين المخلوقات حسب درجة الخير الموجودة فيها. ويرى طوماس الأكويني أن إرادة الله الشمولية اقتضت أن يكون الخلاص للإنسان، ولكن إرادته الخاصة اقتضت أن يعاقب على أفعاله الشريرة. وهنا يظهر التناقض بين مبدأ حرية الإرادة الإنسانية ومبدأ العناية الإلهية؛ يمكن الإفصاح أكثر عن هذا التناقض من خلال الصيغة التالية: إذا كان الله على علم مسبق بأفعالنا فلن نكون حينئذ أحرارا، وأما إذا كنا أحرارا فإننا سنتصرف على خلاف علمه المسبق وتوقعاته(*). وحاول حل هذه المعضلة بنوع من اللغو.  
تُظْهِرُ هذه المفارقةُ الطبيعةَ الانتقائية لفكر طوماس الأكويني، ومن حسناته أنه حاول الجمع بين الفضائل الدنيوية والفضائل الدينية، بين قيم الحكمة الإنسانية وقيم الحكمة الإلهية، ولكنه جعل الفضائل الدينية في مرتبة أسمى من الفضائل الإنسانية: فإذا كانت الفضائل الإنسانية تحقق للإنسان نوعا من السعادة في الحياة الدنيا فإنها غير كافية لنيل رضا الله والتمتع برؤيته. تبدو هذه الأطروحة على أنها سيف دو حدين، فيها وعد ووعيد: فقد يرى فيها البعض ما يبرر نمط العيش العلماني، وقد يرى فيها آخرون ما يبر سلطة الكنيسة المطلقة؛ ومهما يكن من أمر هذا وذاك فإنها لا تخلو من أسباب الانزلاق نحو العنف.
والحقيقة أن طوماس الأكويني نَفْسَهُ ظل وفيا للعقل مثلما ظل وفيا للإيمان، لم يخامره شك في أن التأمل العقلي فضيلة من الفضائل السامية حتى إنه ساوى بين العدالة والإحسان، ولم يفقد ثقته في الطبيعة الخيرة للإنسان؛ يتجلى ذلك بوضوح في موقفه من بعض النوازل التي ابتُلِيَ بها عصره والتي كان شاهدا عليها، ولسوف نكتفي باستعراض واحدة منها لما لها من صلة بمضمون كلمة البابا بنديكت السادس عشر، وهي المسألة المتعلقة بما إذا كان من الجائز تنصير أبناء اليهود من الأطفال ضدا على إرادة آبائهم. واختلف فقهاء الكنيسة حول هذه المسألة بين مؤيد يرى أنه من الواجب إنقاذ الأبناء من ضلال الآباء السادرين في غيهم، ومعارض يرى أن التنصير القسري مخالف لمبدأ العدالة الطبيعية. ويعتبر دونس سكوتوس من أقوى المؤيدين للرأي الأول، بينما برز طوماس الأكويني باعتباره أقوى المدافعين عن الرأي الثاني.
 لقد كان من السهل، بالقياس إلى معايير ذلك العصر، أن يدافع المفكر عن قرار التنصير القسري لأنه كان قرارا رسميا، وأما معارضته في ذلك الوقت فكانت تنطوي بلا شك على مجازفة ومخاطرة كبيرة. ولتشكيل فكرة واضحة بهذا الخصوص، يجدر بنا أن نلقي نظرة سريعة على ظروف العصر: ولعل أهم ما ميز التاريخ الاجتماعي-السياسي-الديني لأوروبا القرن الثالث عشر هو تنامي ظاهرة العداء لليهود وتهميشهم؛ ويتجلى ذلك من خلال إجبارهم على ارتداء ملابس تحمل إشارة صفراء تميزهم عن المسيحيين والسكن في أماكن خاصة بهم؛ ففي هذا القرن ظهر "الغيطو" ghetto أو الملاح؛ وفي عام 1269 دخل القرار الكنسي الصادر عام 1215 الذي يلزم اليهود بحمل الشارة المميزة حيز التنفيذ في فرنسا بأمر من الملك لويس التاسع. وتوجت الحملة المعادية لليهود في إنجلترا بطردهم خارج البلاد تنفيذا للقرار الذي اتخذه الملك إدوارد الثاني عام 1290.
في ظل هذا المناخ المثقل بتلك القرارات السياسية-الدينية، خرج طوماس الأكيني بموقفه الصريح المناوئ للتنصير القسري لأبناء اليهود؛ وليس من قبيل ألصدفة أن يتزامن إعلانه عن موقفه من هذه المسألة مع صدور قرار لويس التاسع القاضي بوضع القرار الكنسي لعام 1215 موضع التنفيذ. وأما حجته في ذلك فتستند قبل كل شيء على مبدأ العدالة الطبيعية. لقد أسس حُكْمَهُ على أساس القانون الطبيعي كما يتصوره أرسطو: فبما أن الطفل تربطه علاقة طبيعية بوالديه، وبما أنه يمثل امتدادا لهما بشكل من الأشكال، فإنه من الطبيعي أن يعيش في كنف أسرته، وينعم برعاية أهله كما لو كان في حضن روحاني إلى أن يبلغ سن الرشد. وأما قرار فصله عن أبويه من أجل تنصيره فهو قرار جائر ومخالف لمبدأ العدالة التي يضمنها القانون الطبيعي لجميع أفراد النوع البشري.وأما حجة دونس سكوتوس فهي حجة ذات طابع سياسي واضح لصلتها الوثيقة بتصوره لمراتب القدرة والسلطان؛ فهو يرفض الاستناد على مبدأ العدالة في إصدار الحكم في هذه النازلة بدعوى أن العدالة إذا كانت تمنع الإنسان العادي من فصل الابن عن أبويه ضدا على إرادتهما، فإنها لا تمنع الحاكم من ممارسة سلطته على رعاياه؛ ذلك لأن سلطته أعلى من سلطة الأبوين الكافرين باعتبارهما جزءا من رعيته(*).ترتكز حجة دونس سكوتوس، إذن، على مبدأ تراتب السلط الذي يعطي للأمير حق التصرف في الرعية. فلما كان من واجب الأمير أن يخضع لسلطة الله، ولما كان مكلفا بتنفيذ إرادة الله في الأرض، فإن من واجبه أن يفصل الأطفال عن آبائهم ليعلمهم الدين الصحيح، ومن واجب الآباء أن يمتثلوا لمشيئته، بسبب أن منزلته أسمى من منزلتهم. وأما طوماس الأكويني فإنه كان يعتقد جازما أن مبدأ تراتب القوى والسلطان لا يلغي مبدأ العدالة الطبيعية.
من الواضح أن تشبع طوماس الأكويني بالفلسفة الأرسطية هو ما جعله يعطي الأولوية لمبدأ العدالة الطبيعية في معالجته للنازلة في ظروف أقل ما يمكن أن يقال عنها هو أنها غير مشجعة على اتخاذ مثل ذلك الموقف الإنساني العقلاني. وأما بخصوص دونس سكوتوس الذي جعل مبدأ السلطة فوق مبدأ العدالة، فإنه ليس بوسع المحلل إلا أن يتساءل عما إذا كان في مذهبه الفكري ما يستدعي استعمال القوة لإجبار الآباء على التنازل عن أبنائهم من أجل تلقينهم عقيدة أخرى. من المعلوم أن دونس سكوتوس كان مفكرا ذا نزعة سينوية واضحة؛ فهل تراه تشرب روح الاستبداد الشرقي التي تسربت إلى العالم الغربي مع أفكار ابن سينا ؟
هناك إذن ما يدعو إلى التنويه بطوماس الأكويني والتنبيه على ما ينطوي عليه فكر دونس سكوتوس من مخاطر الانزلاق نحو العنف والطغيان. وإذا كان القديس طوماس شخصية فذة ذات همة عالية وعبقرية ناذرة، إذا كان هو شخصيا يُعْلِي من قيمة الفرد ويضع كرامته فوق كل اعتبار، ويدعو إلى تحكيم العقل والاعتدال في كل شيء، فهل كان البناء النظري الذي شيده خاليا من كل ما من شأنه أن يدفع الآخرين إلى الانزلاق نحو العنف ؟ يتعلق الأمر هنا بالكيفية التي تم بها توظيف مذهب القديس طوماس الأكويني لمعالجة مختلف القضايا فيما بعد. يقول وودبريدج ريلي فيما يمكن اعتباره جوابا على هذا السؤال:
»لقد أخذ أتباع طوماس الأكويني بالجوانب القاتمة من فكره؛ فربطوا نظريته حول الطبيعة الإنسانية [الخيرة] بنظرية الوعد والوعيد: فإذا كان الإنسان يميل بطبعه إلى فعل الخير، فإنما يفعل ذلك مخافة الوقوع في فعل الشر في الحياة الدنيا؛ لذلك وجب ترهيبه باستمرار بأهوال يوم القيامة. وهكذا فَقَدَ الأتباع ثقتهم بالطبيعة الإنسانية ووضعوها في الترهيب؛ وبسبب ذلك وجدوا أنفسهم في وضعية يسهل عليهم فيها أن يكونوا قساة من أن يكونوا معتدلين، وأن يكونوا شرطة الأخلاق الماسكين بالهراوات من أن يكونوا فلاسفة يدعون للاحتكام للوعي والضمير« (*)
وكان أن استخدم الأتباع نظرية القديس للتمييز بين مختلف أنواع الشر، وجعلوا من البدع والإساءة إلى الدين أعظم الشرور وأكثرها أذى؛ وعلى أساس هذا الحكم قامت محاكم التفتيش التي استمدت شرعيتها، ويا لهول السخرية التاريخية، من مذهب القديس طوماس الأكويني.
بقي أن نكشف عن الصلة المحتملة بين نظرية دونس سكوتوس وموقفه من مسألة التنصير القسري لأبناء اليهود، لكي يتسنى لنا فهم موقف البابا بنديكت السادس عشر منه ومعرفة لماذا فضل الانحياز إلى طوماس الأكويني. يقول بهذا الصدد:
»تقتضي النزاهة أن نشير هنا إلى أنه خلال العصور الوسطى المتأخرة تنامت اتجاهات داخل اللاهوت قطعت أواصر الترابط بين الروح الإغريقية والروح المسيحية. وعلى خلافما سمى بالنزعة العقلانية الأوغسطينية والطوموية [نسبة إلى طوماس الأكويني]، نشأت مع دونس سكوتوس نزعةإرادوية تؤدي في نهاية المطاف إلى الاعتقاد بأننا قد لا نعرف من الله سوى إرادته غير المقيدة. voluntas ordinata. ووراء هذه الإرادة قد توجد حرية الله، التي بفضلها ربما قد يستطيع أن يخلق وأن يفعل عكس كل ما قام به بالفعل«
 ينطوي كلام البابا على تهمة الانحراف عن تقاليد اللاهوت المسيحي موجهة لدونس سكوتوس. ومن مظاهر الانحراف قوله أن إرادة الله مطلقة لا يقيدها شيء وأن سلطته مطلقة، وأن الله حر في أفعاله لا يتقيد فيها بضوابط العقل؛ ولما كانت الإرادة الإلهية تتمتع بحرية مطلقة فلا شيء يمكن أن يجبرها بالتالي على أن تسلك بطريقة عقلانية. ويعتقد دونس سكوتوس أيضا، على خلاف أسلافه، أن نظام الكون لا يصدر عن العقل الإلهي بل يخضع كل شيء فيه لإرادة الله المطلقة، وأن العقل البشري هو مجرد وسيلة مسخرة لخدمة الإيمان. وكما أن حرية الله مطلقة
Partager cet article
Repost0
10 octobre 2006 2 10 /10 /octobre /2006 01:17
محاولة لفهم كلمة البابا التي أثيرت حولها الضجة
أحمد أغبال
(الجزء الثاني)
 
ومنذ ذلك العهد ظل الإيمان ينمو في كنف العقل، والعقل في كنف الإيمان، يعزز الواحد منهما الآخر ويدعمه في نموه وانتشاره إلى أن حل القرن الثالث عشر حاملا معه أسبابالانفصام بين العقل والإيمان في العالم المسيحي. بدأت الأمور تسير في هذا الاتجاه مع مجيء دونس سكوتوس Duns Scot (1265-1308) الذي انحرف، حسب رأي البابا، عن المنحى العقلاني الذي سار فيه كبار آباء الكنيسة الرومانية والكاثوليكية من أمثال القديس أوغسطينSaint Augustin (354-430) وطوماس الأكويني Thomas d’Aquin (1225-1274).
عاش كل من طوماس ألأكويني ودونس سكوتوس في القرن الثالث عشر، ولم تكن تفصل بينهما سوى مسافة جيل واحد. ويعتبر هذا القرن لحظة انعطاف متميزة في تاريخ الفكر الغربي، إذ فيه انتقل التراث الفلسفي اليوناني عبر الجسور العربية-الإسلامية إلى أوروبا، وتباينت ردود الفعل في أوساط المفكرين ورجال الدين تجاه الفلسفات الوافدة وتراوحت بين مؤيد ومعارض، مما أدى إلى نشوء تيارات ومذاهب فكرية متصارعة: فهناك من تبنى الفلسفة الأرسطية كما فسرها وأولها ابن رشد، وهؤلاء هم أنصار الحركة الرشدية averroisme؛ وهناك من عارض هذه الحركة الفكرية وذهب إلى حد المطالبة بمنع تداول كتب أرسطو وابن رشد؛ وهناك فئة أخرى سعت إلى إدماج فلسفة أرسطو في دائرة اللاهوت المسيحي، يتزعمها القديس طوماس الإكويني؛ بينما عرج البعض، ومنهم دونس سكوتوس، على فلسفة ابن سينا يستلهمون منها بعض المبادئ. كانت اللحظة لحظة تثاقف بكل ما تحمل الكلمة من معاني التلاقح والتناطح والإعجاب والخوف وما إلى ذلك من المشاعر المتناقضة التي كان لابد أن تتسبب في زوابع فكرية ودينية داخل الساحة الثقافية الأوروبية نفسها وفي مناطق التماس مع الحضارات الأخرى على المدى القريب والبعيد. وليس من قبيل الصدفة أن يقف البابا عند اثنين من كبار ممثلي الفكر اللاهوتي-الفلسفي في تلك الحقبة التاريخية ليعلن انحيازه الكامل لأحد الطرفين على حساب الآخر. ليس بوسع المحلل إلا أن يتساءل عن دواعي ومبررات هذا الموقف، وأن يقوم بمقارنة مذهب طوماس الأكويني بمذهب دونس سكوتوس في ضوء تصور البابا لعلاقة الإيمان بالعقل:
مذهب طوماس الأكويني
يحكى عن طوماس الأكويني أنه اختار بمحض إرادته أن يصير راهبا منذ أن كان شابا يافعا، وهو ما لم يرق لأسرته؛ ولكن معارضتها لم تثنيه عن الانضمام إلى الطائفة الدومينيكانية التي احتضنته ورعته وأرسلته إلى مراكز العلم الأوروبية التي كانت قد بدأت تنفتح على التراث الإغريقي والعربي-الإسلامي. وكان أن حط الرحال في باريس، ومنها انتقل مع أستاذه الدومينيكاني ألبيرت العظيم Albert le Grand، وهو من أكبر شراح أرسطو في زمانه، إلى مدينة كولوني الألمانية. وخلال أيام دراسته لقب طوماس بالثور لأنه كان يمشي بتثاقل وبطء. ومما زعموا أن أستاذه قال عنه: إن هذا الثور سيملأ العالم ذات يوم بخواره.
درس طوماس الأكويني الفلسفة إلى جانب اللاهوت، وبذلك جمع بين العلوم الدينية والعلوم الدنيوية. ولما تمكن من الإحاطة بهذه العلوم كلها وضع نصب عينيه هدفا أساسيا وهو التأليف بين اللاهوت والميتافيزيقا الأرسطية في تركيبة واحدة. لا يُقْدِمُ رجل من رجال الدين على هكذا مشروع إلا إذا كان واثقا من نبل مقاصد الفلسفة الأرسطية بجوانبها الأنطلوجية والإبستملوجية والأكسيولوجية. إنها مهمة صعبة، وتزداد صعوبة وتعقيدها بسبب الحضور القوي والدائم لسلطة القديس أوغسطين ذي النزعة الأفلاطونية في تقاليد اللاهوت المسيحي. ولما كانت مصادرات الميتافيزيقا الأرسطية لا تتناسب مع مصادرات الميتافيزيقا الأفلاطونية، وكان من غير الممكن، بالتالي، الجمع بين تلك المصادرات في إطار تركيبة واحدة متجانسة، لزم أن يختار طوماس الأكويني بين هذه وتلك لكي تستقيم عملية التأليف بين اللاهوت والميتافيزيقا؛ واختار أن يجعل من مبادئ الفلسفة الأرسطية، التي كان رجال الدين قد رفضوها من قبل، الأساس الصلب الذي بنى عليه مذهبه. ولكنه لم يغض الطرف عن القديس أوغسطين، فقد احتفظ بنظرياته عن الخلق، والشر الأصلي، كما احتفظ بتقسيمه للجنس البشري إلى فئتين: فئة الشعب المختار، وفئة الشعب غير المختار. ولعل ما كان يسعى إليه طوماس من وراء الأخذ بهذه الأفكار هو تلطيف مذهب القديس أوغسطين وتهذيبه وتوسيعه لكي يشمل أخلاق غير المتدينين من الناس ويعترف بفضائلهم. ولتحقيق هذا الهدف كان عليه أن يتجاوز التصور الأوغسطيني-الأفلاطوني للطبيعة والمادة باعتبارها تجسيدا للشر، وأن يأخذ بنظرية الوجود الأرسطية.
وإذا كان طوماس الأكويني قد أخذ بالميتافيزيقا الأرسطية، فإنه حاول فهمها من خلال العودة إلى الأصول الإغريقية بعيدا عن تفسيرات وتأويلات المشائين المسلمين من أمثال ابن سينا وابن رشد؛ لعله كان يروم تنقيتها وتجريدها من اللواحق الدلالية التي علقت بها خلال عبورها لفضاء الثقافة العربية-الإسلامية، وتأويلها في ضوء العقيدة المسيحية، لاعتقاده أن النسخة الرشدية غير قابلة للإدماج في اللاهوت المسيحي. واتَّهَمَ ابن رشد بتحريف فلسفة أرسطو، واستنكر الأطروحات التي كانت تنسب للفيلسوف القرطبي في ذلك الوقت، ومنها القول بقدم العالم، ونفي إمكانية الخلق من عدم، والفصل بين العقل والروح، وأطروحة» الحقيقة المزدوجة«. ومن المحتمل أن تكون الأطروحة الأخيرة هي التي أثارت سخط القس إتيان تومبلييEtienne Templier حتى إنه كتب رسالته المشهورة إلى السلطات العليا في روما حاثا إياها على إصدار قرار يمنع تدريس الأطروحات الرشدية-الأرسطية في جامعة باريس. جاء في رسالته ما نصه :
»يقولون: هذا صحيح حسب الفلسفة ولكنه غير صحيح حسب العقيدة الكاثوليكية، وكأن هناك حقيقتين متعارضتين، وكأن ما يقول الكفار الملاعين حقيقة تتعارض مع حقيقة الكتابالمقدس« (*)
ومن سخرية القدر أن القرار الكنسي الذي استصدره القس إتيان تومبليي لمنع تدريس أطروحات الحركة الرشدية-الأرسطية، والذي أصبح ساري المفعول عام1277، شمل بعض أطروحات القديس طوماس الأكويني الذي كان من أوائل من تعرضوا بالنقد للحركة الرشدية؛ ولعل ما أثار عليه نقمة بعض رجال الدين قوله: إن فكرة عالم مخلوق وخالد لا تنطوي على تناقض، وهي من ألأطروحات التي برهن عليها فيلسوف قرطبة. والحقيقة أن تأويله لفلسفة أرسطو جعله أقرب إلى ابن رشد منه إلى ابن سينا. وليس من المستبعد أن يكون قرار منع تداول كتب طوماس الدومينيكاني، في أتون الحملة المناهضة للفلسفة الرشدية، قد اتخذ بإيعاز من خصومه الفرنسيسكانيين من ذوي النزعة السينوية.
لقد جاء قرار منع تداول كتب طوماس الأكويني بعد مرور حوالي ثلاث سنوات على وفاته. وفي عام 1323 تخلت الكنيسة رسميا عن تحفظها إزاء طروحاته ذات الطابع الأرسطي، وأقامت له قداسا بأمر من البابا يوحنى الثاني والعشرين جعله في مصاف القديسين. ومنذ ذلك الوقت اعتبرت مؤلفاته مرجعية أساسية من مرجعيات الكنيسة الكاثوليكية وأصبحت تمثل المذهب الرسمي للطائفة الدومينيكانية.
لقد كان القديس طوماس الإكويني هو أول من دعا للعودة إلى العقلانية الإغريقية بشكل مباشر دون المرور بالوسائط العربية-الإسلامية، وأول من رسم الخطوط العريضة لمشروع بناء الهوية الأوروبية المكتفية بذاتها، وهو نفس المشروع الذي أعاد هوسرل صياغته في محاضرة 1935 والذي أراد البابا بنديكت السادس عشر استكماله. ولعل هذا هو ما حذا بالبعض إلى افتراض أن يكون القديس طوماس الأكويني قد أعلن تحفظه إزاء فلسفة ابن رشد ليس لكونه أرسطيا، بل لكونه» أرسطيا عربيا« ((*.يمكن أن نتساءل في ضوء هذه الفرضية عما إذا كان طوماس الأكويني قد نظر بعين الريبة إلى كل ما له علاقة بالثقافة العربية-الإسلامية؛ هل كان يعاني من أعراض الخوف من الإسلام، أم أنه إنما أراد العودة إلى الوقائع الأصلية ليفحصها بنفسه ويعيد بناءها وفقا لعقيدته بعيدا عن كل ما من شأنه أن يشوه نظرته الشخصية إليها؟ يجد مثل هذا التساؤل ما يبرره في المناخ الثقافي-الأيديولوجي الذي طبع القرن الثالث عشر والذي تميز بالصراع بين رجال الدين وأنصار الحركة الرشدية الذين كان ينظر إليهم على أنهم»  مسلمو الداخل«(*). وللإجابة على هذه الأسئلة نرى من الضروري أن نستعرض الخطوط العريضة لمذهبه الفكري وفلسفته الأخلاقية وأن نستحضر اجتهاداته في نوازل عصره.
لقد آمن طوماس الأكويني، على غرار أرسطو، بأن العقل البشري لا يستطيع الوصول عن طريق الحدس المباشر إلى المبادئ العامة والحقائق الروحية المجردة، فهو يحتاج إلى الحواس في سعيه إلى اكتساب المعرفة بحقائق الموجودات، لأن عملية التجريد والتعميم تنطلق بالضرورة من المعطى العياني. وهكذا، فإن الأخذ بنظرية المعرفة الأرسطية ذات النزعة الواقعية يعني في مؤداه الأخير الجزم بعدم جدوى المعرفة القبلية المبنية على ما يسمى بالحدس العقلي والتي تتأسس على المصادرة التي تقول بوجود جواهر مفارقة. إن نظرية أرسطو تنفي وجود مثل هذه الجواهر، وتعترف في المقابل بوحدة المادة والصورة، وبأن الكائنات الطبيعية هي الموضوع الحقيقي الأول لنشاط العقل البشري الذي يميز فيها بين الجوهر والأعراض، وبأن مقولات النوع والجنس هي من المقولات المنطقية التي تفرزها قوانين الفكر والمعرفة البشرية، وليست جواهر قائمة بذاتها كما يدعي أفلاطون. كل شيء يتكون من مادة وصورة: المادة باعتبارها تمثل الوجود بالإمكان والصورة كوجود فعلي؛ ومؤدى ذلك أن معرفة حقيقة الشيء هو بيان صورته التي هي تحقيق جوهره.
تلك إذن هي المبادئ العامة التي تقوم عليها فلسفة أرسطو؛ منها انطلق طوماس الأكويني لتشييد مذهبه، ولكنه لم يقف عند حدودها؛ كان مقتنعا بأن نسق أرسطو يحتاج رغم كل شيء إلى إضافات تجعله أكثر انسجاما مع تقاليد اللاهوت المسيحي: وما فعله هو أنه تخطى حدود القول بالجوهر أو الماهية ليكشف عما هو أكثر أصالة منهما، وهو الوجود. وهكذا أقام نوعا من التمييز بين الماهية والوجود، وذهب إلى أن كل موجود يتركب من ماهية ووجود فيما عدا الخالق الذي تتوحد فيه الماهية مع الوجود، بمعنى أن جوهره هو عين وجوده، وهو مدلول قول الله لموسى عند الدغل المشتعل:» أنا الموجود الذي يوجد««je suis celui qui suis، فالله وحده هو الموجود الذي تكمن حقيقته في وجوده، فهو الذي يمثل الوجود في ذاته أو الوجود المطلق. إن ما يُقَوِّمُ الذات الإلهية إذن هو عين وجودها، فلا فرق هنا بين الذات والوجود. وأما الموجودات الأخرى فإن وجودها ليس هو عين ماهيتها، إنه شيء عارض لها.
قلنا بأن طوماس الأكويني كان في حاجة ماسة إلى العثور على القطعة المفقودة من البوزل ليستقيم البناء وتكتمل الصورة، ولعله وجد ضالته عند ابن سينا رغم كل شيء، فقد كان الشيخ الرئيس هو أول من أقام التمييز بين الماهية والوجود. كان طوماس الأكويني في حاجة إلى هذه التفرقة التي يتعذر بدونها إدراك العلاقة بين الموجودات المتناهية والموجود المطلق، وكذا الانتقال من معرفة العالم إلى معرفة الله عن طريق العقل: فإذا كانت الكائنات الطبيعية تولد وتفنى فإن معنى ذلك أن وجودها ليس ضروريا؛ وإذا كان ليس فيها ما يجعل وجودها ضروريا، فإنه لابد وأن هناك موجودا ضروريا بذاته هو الذي منحها الوجود، وذلك بأن نقلها من الوجود بالإمكان إلى الوجود بالفعل. ولكن كيف تسنى لطوماس الأكويني ردم الهوة الأنطلوجية الفاصلة بين الوجود الممكن والوجود الضروري؟ يتعلق الأمر هنا بفعل الخلق وعلاقة الله بالعالم. وهنا وجد طوماس الأكويني نفسه مرة أخرى مضطرا للبحث عن مفهوم آخر أو حلقة أخرى لتركيب البوزل، ووجد ضالته في مفهوم المشاركة: إن المعقولات المرتبطة بالعالم الدنيوي هي أفكار كانت موجودة في الذات الإلهية منذ الأزل؛ فالمخلوقات تشارك الخالق في الوجود، فَللّه علم بالمخلوقات منذ الأزل، يعرفها بمجرد أن يتأمل ذاته؛ وفي المقابل يحصل العلم للمخلوقات بخالقها عندما تتأمل كمال الخلق؛ ولكن علمهم لا ينفذ إلى ذاته ولا يحيط بها، وإن كانوا يدركون أنه علة الموجودات جميعا. وإذا كان الأمر كذلك فإنه لا يجوز أن يكون للكلمات التي تستعمل للتعبير عن الصفات الإلهية نفس الدلالة التي تكون لها حين تستعمل لوصف الصفات البشرية.؛ إن الكلمة الواحدة لا تفيد نفس المعنى حين توظف في الحديث عن الله وعن المخلوقات: ليس هناك وحدة المعنى univocité بل تماثل analogie في نظر طوماس الأكويني؛ وبحكم  
Partager cet article
Repost0
27 septembre 2006 3 27 /09 /septembre /2006 23:54
محاولة لفهم كلمة البابا التي أثيرت حولها الضجة
أحمد أغبال
استهل البابا بندكت السادس عشر كلمته، التي أثارت ردود فعل عنيفة في العالم الإسلامي، بالحديث عن تجربته كأستاذ في جامعة بون منذ العام 1959، وهي نفس الجامعة التي ألقى من أعلى منبرها كلمته التي يمكن وصفها بأنها تاريخية. تذكّر مناخ الجامعة الذي كان يتميز بعلاقات القرب الحميمة بين الأساتذة والطلاب وبين الأساتذة أنفسهم. كان مناخ الجامعة يشجع على الحوار بين الأساتذة من ذوي الاختصاصات والمشارب المختلفة، وأهم ما ميز الحوار الذي كان يجري في الحرم الجامعي هو روح العقلانية والتفاهم التي تجمع بينهم جميعا رغم اختلاف تخصصاتهم وتوجهاتهم المعتقدية، يقول بهذا الصدد
 » وعلى الرغم من أن اختصاصاتنا التي تجعل من الصعب علينا التواصلأحيانا، مع بعضنا البعض، تجعلنا كلا موحدا، نعمل كل شيء على قاعدة عقلانية واحدةبوجوهها المختلفة ونتشارك المسؤولية في اللجوء الصحيح إلى العقل «
ولعل أهم ما ورد في كلمته عن ذكرياته الجامعية تأكيده على أن روح اللاهوت كانت منصهرة وفي تناغم تام مع الروح العلمية للجامعة، مما يدل على أن اللاهوت المسيحي هو لاهوت عقلاني وأنه جزء من الروح الجامعية العلمية، وذلك على الرغم من أن بعض الأساتذة الجامعيين كانوا لا يؤمنون بالله. ولتقريب وجهات النظر بين المؤمنين وغير المؤمنين سعى رجالات اللاهوت إلى ربط الإيمان بالعقل. وهنا تظهر معالم الرسالة التي أراد البابا تبليغها إلى العالم من منبر جامعة بون التي كرس جزءا مهما من حياته للتدريس فيها. تتلخص هذه الرسالة في أنه يجب» إبراز مسألة الله عبر استخدام العقل« في وجه التيارات »التشكيكية الجذرية «بدل اللجوء إلى العنف. واعتبر هذا الحل امتدادا لتقاليد الإيمان المسيحي.
ومن هذا المنطلق راح الحبر الأعظم يستعرض نتائج تأملاته في مسألة العلاقة بين الإيمان والعقل والتي عالج بعض جوانبها وفقا لمنهج تاريخي مقارن. ولعل ما استدرجه إلى التاريخ ومطباته هو ما قرأه عن الإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني وما دار بينه من حوار مع احد علماء المسلمين حول مسألة الإيمان والعقل. ويذكر المؤرخون أن هذا الإمبراطور كان قد وقع أسيرا لدى المسلمين أيام طفولته، وأن العثمانيين استولوا على القسطنطينية بعد مرور حوالي ثمانية وعشرين عاما على وفاته. تذكر الحبر الأعظم هذه الوقائع وهو يستعد لإلقاء كلمته في جامعة بون في سياق التحضير لزيارة تركيا التي جرت تلك الوقائع على أرضها. كل شيء في هذا السياق له دلالة خاصة: الحوار الفاشل والاستيلاء على القسطنطينية.
يقول البابا إن ما أعجبه في الحوار السابع الذي نشره الأستاذ خوري واستأثر باهتمامه حتى جعل منه نقطة انطلاق لتأملاته هي تلك الحجة التي ظلت هامشية في بنية الحوار رغم أهميتها، وهي أن العنف أمر لاعقلاني ولا يتوافق بالتالي مع طبيعة الله. وإذا كان الأمر كذلك فإن نشر الدين بقوة السلاح هو سلوك يتنافى مع الطبيعة الإلهية وطبيعة الروح.
وقبل أن يقتبس البابا الفقرة التي أغضبت المسلمين حرص على أن يقيم بينه وبين صاحبها مسافة تمليها الضرورة الأخلاقية، تتجلى من خلال التعبير عن اندهاشه من الأسلوب الفظ الذي نهجه في حواره مع غريمه المسلم. يمكن القول بناء على وجود هذه المسافة الظاهرة أن ما أغضب القائمين على حماية الملة والدين في بلاد المسلمين ليس هو ذلك الاقتباس بما يتضمنه من آراء ومواقف الإمبراطور البيزنطي، بل الحجة التي بدت للبابا هامشية في بنية الحوار والتي أسس عليها تأملاته في مسألة العلاقة بين الإيمان والعقل ودعوته إلى حوار الحضارات في ضوئها. ولعله فتح باب النقاش حين تعرض لإحدى القضايا الكلامية التي كانت محط جدل قوي بين المفكرين المسلمين أنفسهم منذ أن نشأ علم الكلام وذلك على غرار ما فعل الإمبراطور البيزنطي ولكن بطريقة لبقة هذه المرة، يتعلق الأمر هنا بمسألة التنزيه المطلق للذات الإلهية. يمكن صياغة الإشكالية المطروحة على النحو التالي: إذا كان الله متعالي ومنزها تنزيها مطلقا وغني عن العالمين فهل يمكن للعقل البشري عندئذ أن يرقى إليه ويحيط به إدراكا ومعرفة  وفهما ؟
يبدو وكأنما أراد البابا أن يقول إن نقطة الفصل الحاسمة بين اللاهوت الإسلامي واللاهوت المسيحي تقع عند موطن الإجابة على هذه الإشكالية التي دفع بها إلى نهاياتها المنطقية ليبرز المعضلة المنطقية الأساسية التي تنطوي عليها، يقول بالحرف الواحد: »هنا، أمام محاولتنا فهم الله، وإذن، أمام الممارسة الملموسة للدين، تواجهنا معضلة تجعلنا، وبشكل مباشر، أمام نوع من التحدي.» هل القول بأن الفعل المنافي للعقل قد يكون متناقضا مع طبيعة الله هو محض فكرة إغريقية أم أنه فكرة صحيحة في ذاتها؟«؛ ثم انبرى يستعرض موقفه من المسألة المطروحة بطريقة تنم عن رغبته في أن يُعمِل الآخر بدوره عقله فيها وأن يفصح عن موقفه منها.
ولبيان موقفه انطلق البابا من مصادرة أساسية مفادها أن العقيدة المسيحية لا تتعارض مع العقل كما فهمه الإغريق، يقول: »هنا يتجلى، في ظني، الانسجام العميق بين ما هو إغريقي بالمعنى النبيل للكلمة والإيمان بالله المبني على أساس ما ورد في التوراة والإنجيل «.تذكرنا محاولته لتأصيل الإيمان في اللوغوس والربط بين اللاهوت المسيحي والتراث الفلسفي الإغريقي بتصور الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل للهوية الأوروبية الذي أفصح عنه في المحاضرة التي ألقاها في جامعة فيينا عام 1935 تحت عنوان »أزمة الإنسية الأوروبية والفلسفة«. الفكرة الأساسية التي تدور حولها هذه المحاضرة هي أن العلم الحديث حاد عن الطريق القويم المتجه نحو الهدف الذي رسمته الفلسفة اليونانية القديمة والذي يتمثل في توسيع دائرة العقل ليشمل جميع مجالات النشاط الإنساني في أفق حصول الوعي للإنسان بغاياته النبيلة التي لا يمكنه بلوغها إلا بهدي من نور العقلانية والروحانية. وأما ما جعل العلم الحديث يحيد عن هذه الأهداف النبيلة فهو وقوعه، في نظر هوسرل، في براثن النزعة الطبيعية والنزعة الوضعية. لم يعد العلم الحديث ينظر إلى الإنسان باعتباره كائنا روحيا من حيث الجوهر بل أصبح ينظر إليه باعتباره شيئا من الأشياء الطبيعية. وهذا بالضبط هو ما قاد العلم الحديث إلى الوقوع في أزمة خطيرة، تجلت في عجزه على أن يوفر للإنسان المعاصر ذلك النموذج العقلاني المثالي الذي ينسجم مع الطبيعة الإنسانية كما حددتها الفلسفة اليونانية. تتمثل أزمة العلم الحديث في الاستعمال الأداتي للعقل وتوجيهه نحو الخارج بدل أن ينصب على ذاته ثم يمتد باعتباره اللوغوس الذي يحتضن كل شيء ويتجلى في كل شيء بدل أن يختزل نفسه في كونه مجرد تقنية رياضية ratio. إن انحطاط العقل وانتقاله من الوظيفة الروحانية للوغوس إلى الوظيفة التقنية الطبيعية للراسيو ratio هو ضرب من ضروب الاستلاب.
يبدو وكأن البابا بندكت السادس عشر يتحرك في إطار مشروع هوسرل الذي يهدف إلى تأصيل الهوية الأوروبية بجميع عناصرها الثقافية في اللوغوس الإغريقي. وأما الواقعة الأصلية في التاريخ الروحاني لأوروبا والتي ساهمت في تشكيل هويتها فهي رؤيا القديس بولس. فبعد أن ضاق ذرعا من انسداد المعابر إلى آسيا رأى في المنام مقدونيا يدعوه أن »اعبر إلى مقدونيا وأعنا« (أعمال الرسل 16، 6-10). وكأنه يريد أن يقول: لم تكن الظروف قد تهيأت في آسيا لانتشار العقيدة التوراتية، وأما في بلاد الإغريق فإن نشوء الفلسفة وتطورها عبر عدة قرون قبل ميلاد المسيح قد هيأ العقول لفهما واحتضانها. ذلك لأن مفتاح فهم الإنجيل هو الكلمة، والكلمة هي اللوغوس، المبدأ الأول الذي إليه يرجع كل شيء؛ »في البدء كانت الكلمة«، هذه هي الجملة التي حرص يوحنا أن تكون بادئة سفر التكوين. فالكلمة هي الله، والله هو العقل أو الحكمة. ليس من قبيل الصدفة إذن يحصل ذلك التقارب بين العقيدة المسيحية والعقل اليوناني، وان يقوم آباء الكنيسة الكبار من أمثال القديس أوغسطين بتأسيس مذاهبهم اللاهوتية في ضوء فكرة الفلسفة القديمة.
وذهب البابا إلى أبعد من ذلك حين صرح بأن اللقاء بين عقيدة التوراة والعقل اليوناني ترجع جذوره إلى العهد القديم، حين أعلن الله نفسه لموسى عند الدغل المشتعل بقوله: »أنا موجود«، »أنا الموجود الذي يوجد«« je suis celui qui suis ». لم يكن بوسع موسى أن يفهم عنه؛ ولكي يفهم عنه أضاف على سبيل التفسير والتفصيل كلمة » إله« قائلا: »أنا إله أبيك، إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب«، وإنما كشف الله لموسى عن نفسه باعتباره حقيقة الوجود أو جوهر الوجود، الواحد الأحد، وفي ذلك نفي لتعدد الآلهة، على اعتبار أن التعدد شيء عارض، إنه وهم أو أسطورة، وهذا الوهم هو الذي كرس سقراط وغيره من الحكماء والأنبياء حياتهم لتبديده، وضحوا بها من أجل الحقيقة. لم يعلن الله عن نفسه في بادي الأمر باعتباره إلها، بل باعتباره جوهر الوجود: »أنا الموجود الذي يوجد«، أو لنقل بعبارة أخرى إنه الوجود الموجود أو الوجود بما هو موجود، وهو موضوع الفلسفة الأولى لدى فلاسفة الإغريق، فلا فرق إذن بين الفلسفة الميتافيزيقية واللاهوت. قصة الدغل المشتعل ورد ذكرها أيضا في القرآن الكريم: » وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى«، وجاءهم بقبس من الحكمة حسب تأويل البابا للتوراة، وكان اللقاء الخصب الخلاق بين الإيمان والعقل. ومن ثمة فإن معرفة حقيقة الوجود تقتضي الجمع بين الإيمان والعقل، بين الفلسفة واللاهوت. ولعل أبرز حدث يؤرخ وبشكل رسمي لهذا اللقاء هو ترجمة "العهد القديم" إلى لغة الإغريق.
ومنذ ذلك العهد ظل الإيمان ينمو في كنف العقل، والعقل في كنف الإيمان، يعزز الواحد منهما الآخر ويدعمه في نموه وانتشاره. تدل حجج مانويل الثاني، في نظر البابا، على توحد قوى العقل والإيمان في وجدانه. ومع ذلك، كانت الأمور فد بدأت تسير في اتجاه الانفصام بين العقل والإيمان في العالم المسيحي منذ القرن الثالث عشر عندما بدأ دانس سكوت Duns Scott (1265-1308) ينحرف عن المنحى العقلاني الذي سار فيه كبار آباء الكنيسة الرومانية والكاثوليكية من أمثال القديس أوغسطينSaint Augustin (354-430) وطوماس الأكويني Thomas d’Aquin (1225-1274). ومن مظاهر الانحراف قوله أن إرادة الله وسلطته مطلقتين، وأنه حر في أفعاله لا يتقيد فيها بضوابط العقل، ولما كانت الإرادة الإلهية تتمتع بحرية مطلقة فلا شيء يمكن أن يجبرها بالتالي على أن تسلك بطريقة عقلانية. ويعتقد أيضا، على خلاف أسلافه، أن نظام الكون لا يصدر عن العقل الإلهي بل يخضع كل شيء فيه لإرادة الله المطلقة، وأن العقل البشري هو مجرد وسيلة مسخرة لخدمة الإيمان. وكما أن حرية الله مطلقة كذلك اقتضت إرادته أن يكون الإنسان حرا وأن يختار بين فعل الخير أو فعل الشر، وهو أمر مناقض للعقل. وإذا كان كل شيء يتأسس على الإرادة فإنه يتعذر أن تكون القوانين والتشريعات عقلانية. فإذا كان الله قد شرع القوانين للإنسان وأمره باتباعها، فقد تقتضي مشيئته أن يخالفها أيضا ما دامت إرادته حرة غير مقيدة بالعقل. إن التشريعات الإلهية للبشر هي تشريعات اعتباطية لا يحكمها مبدأ الضرورة.  وهكذا، فإن القواعد الأخلاقية، إذا نُظِر إليها من منظور دان سكوت، لا تنطوي في ذاتها على ما يلزم الإنسان على مجاراتها والعمل بها في كل الظروف، ولذلك يحتاج المرء دائما إلى وجود سلطة خارجية تلزمه بالانصياع لها.
وبعد أن رسم البابا الخطوط العريضة لمذهب دان سكوت راح يقارن بيته وبين مذهب ابن حزم، وبدا له أن تصوره للألوهة ينسجم تمام الانسجام مع تصور ابن حزم، من حيث أن كل واحد منهما ينظر إلى الفعل الإلهي باعتباره فعلا ناشئا عن الإرادة المطلقة المتحررة من ضوابط العقل.
Partager cet article
Repost0

Recherche

Archives

&Amp;#1593;&Amp;#1606;&Amp;#1575;&Amp;#1608;&Amp;#1610;&Amp;#1606; &Amp;#1575;&Amp;#1604;&Amp;#1605;&Amp;#1602;&Amp;#1575;&Amp;#1604;&Amp;#1575;&Amp;#1578;

دروس في الفلسفة

Liens