Overblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
10 octobre 2006 2 10 /10 /octobre /2006 01:17
محاولة لفهم كلمة البابا التي أثيرت حولها الضجة
أحمد أغبال
(الجزء الثاني)
 
ومنذ ذلك العهد ظل الإيمان ينمو في كنف العقل، والعقل في كنف الإيمان، يعزز الواحد منهما الآخر ويدعمه في نموه وانتشاره إلى أن حل القرن الثالث عشر حاملا معه أسبابالانفصام بين العقل والإيمان في العالم المسيحي. بدأت الأمور تسير في هذا الاتجاه مع مجيء دونس سكوتوس Duns Scot (1265-1308) الذي انحرف، حسب رأي البابا، عن المنحى العقلاني الذي سار فيه كبار آباء الكنيسة الرومانية والكاثوليكية من أمثال القديس أوغسطينSaint Augustin (354-430) وطوماس الأكويني Thomas d’Aquin (1225-1274).
عاش كل من طوماس ألأكويني ودونس سكوتوس في القرن الثالث عشر، ولم تكن تفصل بينهما سوى مسافة جيل واحد. ويعتبر هذا القرن لحظة انعطاف متميزة في تاريخ الفكر الغربي، إذ فيه انتقل التراث الفلسفي اليوناني عبر الجسور العربية-الإسلامية إلى أوروبا، وتباينت ردود الفعل في أوساط المفكرين ورجال الدين تجاه الفلسفات الوافدة وتراوحت بين مؤيد ومعارض، مما أدى إلى نشوء تيارات ومذاهب فكرية متصارعة: فهناك من تبنى الفلسفة الأرسطية كما فسرها وأولها ابن رشد، وهؤلاء هم أنصار الحركة الرشدية averroisme؛ وهناك من عارض هذه الحركة الفكرية وذهب إلى حد المطالبة بمنع تداول كتب أرسطو وابن رشد؛ وهناك فئة أخرى سعت إلى إدماج فلسفة أرسطو في دائرة اللاهوت المسيحي، يتزعمها القديس طوماس الإكويني؛ بينما عرج البعض، ومنهم دونس سكوتوس، على فلسفة ابن سينا يستلهمون منها بعض المبادئ. كانت اللحظة لحظة تثاقف بكل ما تحمل الكلمة من معاني التلاقح والتناطح والإعجاب والخوف وما إلى ذلك من المشاعر المتناقضة التي كان لابد أن تتسبب في زوابع فكرية ودينية داخل الساحة الثقافية الأوروبية نفسها وفي مناطق التماس مع الحضارات الأخرى على المدى القريب والبعيد. وليس من قبيل الصدفة أن يقف البابا عند اثنين من كبار ممثلي الفكر اللاهوتي-الفلسفي في تلك الحقبة التاريخية ليعلن انحيازه الكامل لأحد الطرفين على حساب الآخر. ليس بوسع المحلل إلا أن يتساءل عن دواعي ومبررات هذا الموقف، وأن يقوم بمقارنة مذهب طوماس الأكويني بمذهب دونس سكوتوس في ضوء تصور البابا لعلاقة الإيمان بالعقل:
مذهب طوماس الأكويني
يحكى عن طوماس الأكويني أنه اختار بمحض إرادته أن يصير راهبا منذ أن كان شابا يافعا، وهو ما لم يرق لأسرته؛ ولكن معارضتها لم تثنيه عن الانضمام إلى الطائفة الدومينيكانية التي احتضنته ورعته وأرسلته إلى مراكز العلم الأوروبية التي كانت قد بدأت تنفتح على التراث الإغريقي والعربي-الإسلامي. وكان أن حط الرحال في باريس، ومنها انتقل مع أستاذه الدومينيكاني ألبيرت العظيم Albert le Grand، وهو من أكبر شراح أرسطو في زمانه، إلى مدينة كولوني الألمانية. وخلال أيام دراسته لقب طوماس بالثور لأنه كان يمشي بتثاقل وبطء. ومما زعموا أن أستاذه قال عنه: إن هذا الثور سيملأ العالم ذات يوم بخواره.
درس طوماس الأكويني الفلسفة إلى جانب اللاهوت، وبذلك جمع بين العلوم الدينية والعلوم الدنيوية. ولما تمكن من الإحاطة بهذه العلوم كلها وضع نصب عينيه هدفا أساسيا وهو التأليف بين اللاهوت والميتافيزيقا الأرسطية في تركيبة واحدة. لا يُقْدِمُ رجل من رجال الدين على هكذا مشروع إلا إذا كان واثقا من نبل مقاصد الفلسفة الأرسطية بجوانبها الأنطلوجية والإبستملوجية والأكسيولوجية. إنها مهمة صعبة، وتزداد صعوبة وتعقيدها بسبب الحضور القوي والدائم لسلطة القديس أوغسطين ذي النزعة الأفلاطونية في تقاليد اللاهوت المسيحي. ولما كانت مصادرات الميتافيزيقا الأرسطية لا تتناسب مع مصادرات الميتافيزيقا الأفلاطونية، وكان من غير الممكن، بالتالي، الجمع بين تلك المصادرات في إطار تركيبة واحدة متجانسة، لزم أن يختار طوماس الأكويني بين هذه وتلك لكي تستقيم عملية التأليف بين اللاهوت والميتافيزيقا؛ واختار أن يجعل من مبادئ الفلسفة الأرسطية، التي كان رجال الدين قد رفضوها من قبل، الأساس الصلب الذي بنى عليه مذهبه. ولكنه لم يغض الطرف عن القديس أوغسطين، فقد احتفظ بنظرياته عن الخلق، والشر الأصلي، كما احتفظ بتقسيمه للجنس البشري إلى فئتين: فئة الشعب المختار، وفئة الشعب غير المختار. ولعل ما كان يسعى إليه طوماس من وراء الأخذ بهذه الأفكار هو تلطيف مذهب القديس أوغسطين وتهذيبه وتوسيعه لكي يشمل أخلاق غير المتدينين من الناس ويعترف بفضائلهم. ولتحقيق هذا الهدف كان عليه أن يتجاوز التصور الأوغسطيني-الأفلاطوني للطبيعة والمادة باعتبارها تجسيدا للشر، وأن يأخذ بنظرية الوجود الأرسطية.
وإذا كان طوماس الأكويني قد أخذ بالميتافيزيقا الأرسطية، فإنه حاول فهمها من خلال العودة إلى الأصول الإغريقية بعيدا عن تفسيرات وتأويلات المشائين المسلمين من أمثال ابن سينا وابن رشد؛ لعله كان يروم تنقيتها وتجريدها من اللواحق الدلالية التي علقت بها خلال عبورها لفضاء الثقافة العربية-الإسلامية، وتأويلها في ضوء العقيدة المسيحية، لاعتقاده أن النسخة الرشدية غير قابلة للإدماج في اللاهوت المسيحي. واتَّهَمَ ابن رشد بتحريف فلسفة أرسطو، واستنكر الأطروحات التي كانت تنسب للفيلسوف القرطبي في ذلك الوقت، ومنها القول بقدم العالم، ونفي إمكانية الخلق من عدم، والفصل بين العقل والروح، وأطروحة» الحقيقة المزدوجة«. ومن المحتمل أن تكون الأطروحة الأخيرة هي التي أثارت سخط القس إتيان تومبلييEtienne Templier حتى إنه كتب رسالته المشهورة إلى السلطات العليا في روما حاثا إياها على إصدار قرار يمنع تدريس الأطروحات الرشدية-الأرسطية في جامعة باريس. جاء في رسالته ما نصه :
»يقولون: هذا صحيح حسب الفلسفة ولكنه غير صحيح حسب العقيدة الكاثوليكية، وكأن هناك حقيقتين متعارضتين، وكأن ما يقول الكفار الملاعين حقيقة تتعارض مع حقيقة الكتابالمقدس« (*)
ومن سخرية القدر أن القرار الكنسي الذي استصدره القس إتيان تومبليي لمنع تدريس أطروحات الحركة الرشدية-الأرسطية، والذي أصبح ساري المفعول عام1277، شمل بعض أطروحات القديس طوماس الأكويني الذي كان من أوائل من تعرضوا بالنقد للحركة الرشدية؛ ولعل ما أثار عليه نقمة بعض رجال الدين قوله: إن فكرة عالم مخلوق وخالد لا تنطوي على تناقض، وهي من ألأطروحات التي برهن عليها فيلسوف قرطبة. والحقيقة أن تأويله لفلسفة أرسطو جعله أقرب إلى ابن رشد منه إلى ابن سينا. وليس من المستبعد أن يكون قرار منع تداول كتب طوماس الدومينيكاني، في أتون الحملة المناهضة للفلسفة الرشدية، قد اتخذ بإيعاز من خصومه الفرنسيسكانيين من ذوي النزعة السينوية.
لقد جاء قرار منع تداول كتب طوماس الأكويني بعد مرور حوالي ثلاث سنوات على وفاته. وفي عام 1323 تخلت الكنيسة رسميا عن تحفظها إزاء طروحاته ذات الطابع الأرسطي، وأقامت له قداسا بأمر من البابا يوحنى الثاني والعشرين جعله في مصاف القديسين. ومنذ ذلك الوقت اعتبرت مؤلفاته مرجعية أساسية من مرجعيات الكنيسة الكاثوليكية وأصبحت تمثل المذهب الرسمي للطائفة الدومينيكانية.
لقد كان القديس طوماس الإكويني هو أول من دعا للعودة إلى العقلانية الإغريقية بشكل مباشر دون المرور بالوسائط العربية-الإسلامية، وأول من رسم الخطوط العريضة لمشروع بناء الهوية الأوروبية المكتفية بذاتها، وهو نفس المشروع الذي أعاد هوسرل صياغته في محاضرة 1935 والذي أراد البابا بنديكت السادس عشر استكماله. ولعل هذا هو ما حذا بالبعض إلى افتراض أن يكون القديس طوماس الأكويني قد أعلن تحفظه إزاء فلسفة ابن رشد ليس لكونه أرسطيا، بل لكونه» أرسطيا عربيا« ((*.يمكن أن نتساءل في ضوء هذه الفرضية عما إذا كان طوماس الأكويني قد نظر بعين الريبة إلى كل ما له علاقة بالثقافة العربية-الإسلامية؛ هل كان يعاني من أعراض الخوف من الإسلام، أم أنه إنما أراد العودة إلى الوقائع الأصلية ليفحصها بنفسه ويعيد بناءها وفقا لعقيدته بعيدا عن كل ما من شأنه أن يشوه نظرته الشخصية إليها؟ يجد مثل هذا التساؤل ما يبرره في المناخ الثقافي-الأيديولوجي الذي طبع القرن الثالث عشر والذي تميز بالصراع بين رجال الدين وأنصار الحركة الرشدية الذين كان ينظر إليهم على أنهم»  مسلمو الداخل«(*). وللإجابة على هذه الأسئلة نرى من الضروري أن نستعرض الخطوط العريضة لمذهبه الفكري وفلسفته الأخلاقية وأن نستحضر اجتهاداته في نوازل عصره.
لقد آمن طوماس الأكويني، على غرار أرسطو، بأن العقل البشري لا يستطيع الوصول عن طريق الحدس المباشر إلى المبادئ العامة والحقائق الروحية المجردة، فهو يحتاج إلى الحواس في سعيه إلى اكتساب المعرفة بحقائق الموجودات، لأن عملية التجريد والتعميم تنطلق بالضرورة من المعطى العياني. وهكذا، فإن الأخذ بنظرية المعرفة الأرسطية ذات النزعة الواقعية يعني في مؤداه الأخير الجزم بعدم جدوى المعرفة القبلية المبنية على ما يسمى بالحدس العقلي والتي تتأسس على المصادرة التي تقول بوجود جواهر مفارقة. إن نظرية أرسطو تنفي وجود مثل هذه الجواهر، وتعترف في المقابل بوحدة المادة والصورة، وبأن الكائنات الطبيعية هي الموضوع الحقيقي الأول لنشاط العقل البشري الذي يميز فيها بين الجوهر والأعراض، وبأن مقولات النوع والجنس هي من المقولات المنطقية التي تفرزها قوانين الفكر والمعرفة البشرية، وليست جواهر قائمة بذاتها كما يدعي أفلاطون. كل شيء يتكون من مادة وصورة: المادة باعتبارها تمثل الوجود بالإمكان والصورة كوجود فعلي؛ ومؤدى ذلك أن معرفة حقيقة الشيء هو بيان صورته التي هي تحقيق جوهره.
تلك إذن هي المبادئ العامة التي تقوم عليها فلسفة أرسطو؛ منها انطلق طوماس الأكويني لتشييد مذهبه، ولكنه لم يقف عند حدودها؛ كان مقتنعا بأن نسق أرسطو يحتاج رغم كل شيء إلى إضافات تجعله أكثر انسجاما مع تقاليد اللاهوت المسيحي: وما فعله هو أنه تخطى حدود القول بالجوهر أو الماهية ليكشف عما هو أكثر أصالة منهما، وهو الوجود. وهكذا أقام نوعا من التمييز بين الماهية والوجود، وذهب إلى أن كل موجود يتركب من ماهية ووجود فيما عدا الخالق الذي تتوحد فيه الماهية مع الوجود، بمعنى أن جوهره هو عين وجوده، وهو مدلول قول الله لموسى عند الدغل المشتعل:» أنا الموجود الذي يوجد««je suis celui qui suis، فالله وحده هو الموجود الذي تكمن حقيقته في وجوده، فهو الذي يمثل الوجود في ذاته أو الوجود المطلق. إن ما يُقَوِّمُ الذات الإلهية إذن هو عين وجودها، فلا فرق هنا بين الذات والوجود. وأما الموجودات الأخرى فإن وجودها ليس هو عين ماهيتها، إنه شيء عارض لها.
قلنا بأن طوماس الأكويني كان في حاجة ماسة إلى العثور على القطعة المفقودة من البوزل ليستقيم البناء وتكتمل الصورة، ولعله وجد ضالته عند ابن سينا رغم كل شيء، فقد كان الشيخ الرئيس هو أول من أقام التمييز بين الماهية والوجود. كان طوماس الأكويني في حاجة إلى هذه التفرقة التي يتعذر بدونها إدراك العلاقة بين الموجودات المتناهية والموجود المطلق، وكذا الانتقال من معرفة العالم إلى معرفة الله عن طريق العقل: فإذا كانت الكائنات الطبيعية تولد وتفنى فإن معنى ذلك أن وجودها ليس ضروريا؛ وإذا كان ليس فيها ما يجعل وجودها ضروريا، فإنه لابد وأن هناك موجودا ضروريا بذاته هو الذي منحها الوجود، وذلك بأن نقلها من الوجود بالإمكان إلى الوجود بالفعل. ولكن كيف تسنى لطوماس الأكويني ردم الهوة الأنطلوجية الفاصلة بين الوجود الممكن والوجود الضروري؟ يتعلق الأمر هنا بفعل الخلق وعلاقة الله بالعالم. وهنا وجد طوماس الأكويني نفسه مرة أخرى مضطرا للبحث عن مفهوم آخر أو حلقة أخرى لتركيب البوزل، ووجد ضالته في مفهوم المشاركة: إن المعقولات المرتبطة بالعالم الدنيوي هي أفكار كانت موجودة في الذات الإلهية منذ الأزل؛ فالمخلوقات تشارك الخالق في الوجود، فَللّه علم بالمخلوقات منذ الأزل، يعرفها بمجرد أن يتأمل ذاته؛ وفي المقابل يحصل العلم للمخلوقات بخالقها عندما تتأمل كمال الخلق؛ ولكن علمهم لا ينفذ إلى ذاته ولا يحيط بها، وإن كانوا يدركون أنه علة الموجودات جميعا. وإذا كان الأمر كذلك فإنه لا يجوز أن يكون للكلمات التي تستعمل للتعبير عن الصفات الإلهية نفس الدلالة التي تكون لها حين تستعمل لوصف الصفات البشرية.؛ إن الكلمة الواحدة لا تفيد نفس المعنى حين توظف في الحديث عن الله وعن المخلوقات: ليس هناك وحدة المعنى univocité بل تماثل analogie في نظر طوماس الأكويني؛ وبحكم  
Partager cet article
Repost0

commentaires

Recherche

Archives

&Amp;#1593;&Amp;#1606;&Amp;#1575;&Amp;#1608;&Amp;#1610;&Amp;#1606; &Amp;#1575;&Amp;#1604;&Amp;#1605;&Amp;#1602;&Amp;#1575;&Amp;#1604;&Amp;#1575;&Amp;#1578;

دروس في الفلسفة

Liens