13 février 2008
3
13
/02
/février
/2008
21:07
مسالة الموضوعية في العلوم الإنسانية
أحمد أغبال
I. مسألة الموضوعية من وجهة نظر ماكس فيبر
أشرنا فيما سبق إلى أن ماكس فيبر يؤمن بوجود واقع موضوعي قائم بذاته، ويعترف في نفس الوقت بأن الوقائع الاجتماعية هي وقائع ذاتية من حيث أن لها دلالات خاصة عند الفاعلين الاجتماعيين؛ ومن هنا تطرح مسالة الموضوعية على اعتبار أن الباحث نفسه متورط في الواقع الذي يجعل منه موضوعا لبحوثه، وله مواقفه وقيمه الخاصة وتوجهاته الأيديولوجية والسياسية. فكيف يمكن والحالة هذه أن يتعامل مع الموضوعات التي يعالجها بطريقة موضوعية؟ هل باستطاعته أن يقوم بدراستها بنوع من التجرد والحياد؟ وهل يمكنه أن يتخلى عن التزاماته الأخلاقية والقيمية عندما يتناول بالدراسة والتحليل الوقائع الاجتماعية؟ وبعبارة أخرى، إذا كانت الموضوعية شرطا ضروريا من شروط البحث العلمي، وكان الباحث جزءا من الواقع الذي يقوم بدراسته، فكيف يتسنى له تحقيق هذا الشرط؟ ماذا تعني الموضوعية بالنسبة لماكس فيبر؟
ينطلق ماكس فيبر في بلورة موقفه من مسألة الموضوعية في العلوم الإنسانية من التمييز بين أحكام الواقع والأحكام المعيارية، بين القضايا التي تصف الواقع والقضايا المعيارية التي تعبر عن التوجهات القيمية للفرد. ويرى ماكس فيبر أنه يجب على الباحث أن يكون على وعي بهذه القضايا وألا يخلط بعضها ببعض حتى لا تؤثر أحكامه القيمية في تصوره للوقائع. ولكن الباحث كائن اجتماعي ينتمي بالضرورة إلى مجتمع معين وطبقة اجتماعية وفئة مهنية معينة لها ثقافتها وقيمها ومعاييرها الخاصة؛ وإذا كان الأمر كذلك، فهل يمكن تحليل الوقائع بعيدا عن تأثيرات القيم والمعايير الشخصية أو الطبقية أو المهنية؟ وهل يدل التمييز بين أحكام الواقع والأحكام المعيارية على أن الوقائع شيء وأن القيم شيء آخر؟ وكيف تتحدد العلاقة بين القيم والموضوعية؟ أم أن مبدأ الموضوعية لا ينطبق إلا على الوقائع؟
وقبل أن نقدم جواب ماكس فيبر عن هذه الأسئلة يجدر بنا أن نتوقف قليلا عند مفهوم الوقائع الاجتماعية أو القضايا التي تنطوي على حكم الواقع لبيان مدلولها حسب التعريفات الشائعة في العلوم الإنسانية. ولعل أكثر التعريفات تداولا للقضية التي تنطوي على حكم الواقع هو أنها القضية التي تحدد واقعة أو مجموعة من الوقائع الاجتماعية وتنسب إليها خاصية أو مجموعة من الخصائص والعلاقات. وتعتبر القضية صحيحة إذا كانت الواقعة التي تشير إليها تتوفر بالفعل على الخصائص المعبر عنها وتحكمها العلاقات التي تشير إليها. يمكن صياغة هذه القضايا على النحو التالي: [تكون لـ"أ" الخاصية "خ" في الزمن "ز"]، كقولنا: بلغ عدد السواح الذين زاروا المغرب سبعة ملايين ونصف المليون سائح عام 2007، أو كقولنا: توجد فروق جوهرية في مواقف الرجال ومواقف النساء من مسألة الحرية في المغرب. وتكون هذه القضايا صحيحة إذا توفرت البيانات التي تدعمها والتي جمعت بطريقة موضوعية.
ولكن المسالة ليست بهذه البساطة، لأن جمع البيانات يتطلب توفر الباحث على خطة لجمع البيانات وجهاز مفاهيمي قابل للأجرأة. لنفترض أننا نريد دراسة وتتبع تطور مستوى العيش لدى الطبقة العاملة في بلد ما بين فترتين زمنيتين محددتين. تتمثل الصعوبة هنا في أن مفهوم مستوى العيش فضفاض، ويحتاج في تحديده وقياسه إلى معايير ومؤشرات قد يختلف الباحثون حولها، يحتاج الأمر ببساطة إلى اتخاذ قرارات ترتكز بالضرورة على تأويلات مختلفة لمفهوم مستوى العيش وعناصره الأساسية في ضوء التوجهات القيمية للأفراد؛ ولذلك كان لابد أن تختلف تقديراتهم لمستوى العيش عندما ينظر إليه كل واحد من زاوية نظره الخاصة.
ومن هنا تطرح مسألة العلاقة بين الموضوعية والوقائع والقيم؛ استرعت هذه الإشكالية اهتمام ماكس فيبر واستقطبت انتباه العديد من الباحثين من بعده وعلى رأسهم Edward Bryan Portis(*). يرى هذا الباحث بأن ما يميز موقف ماكس فيبر من المسألة المطروحة هو إيمانه بثنائية القيم والواقع، على الرغم من أنه كان يفضل إضمار موقفه هذا. وأما دليل بريان بورتيز على أنه كان يتبنى فكرة ثنائية القيم والواقع فهو تصريحه وإيمانه بأنه لا سبيل للعلم لدحض الأحكام المعيارية ولا مساعدة الناس على الاختيار بين التوجهات أو المنظومات القيمية أو المعيارية؛ ومعنى ذلك أنه ليس هناك معيار علمي للتمييز بين القيم أو ترتيبها حسب الأفضلية وبطريقة موضوعية. إن البحث العلمي لا يمكنه أن يقيم الدليل الموضوعي على تفوق قيم على أخرى أو نظام ديني أو سياسي أو اجتماعي على نظام آخر، ولا يمكن إصدار حكم متحرر من القيم بهذا الخصوص؛ ومعنى ذلك أن كل حكم من هذا القبيل لا بد وأن يستند فيه المرء على قيمه الخاصة، سواء أكان ذلك عن وعي أو عن غير وعي.
ولما كان من غير الممكن التحرر من القيم والمعايير، فإنه يتعين على الباحث أن يكون على وعي بقيمه وتوجهاته المعيارية، وأن يصرح بها قبل أن يشرع في تحليل الوقائع أو المقارنة بين مختلف النظم الاجتماعية. هذا هو الشرط الأساسي لتحقيق الموضوعية في العلوم الإنسانية في نظر ماكس فيبر؛ ولذلك دأب على التصريح في بداية بحوثه بقيمه ومعاييره ومثله العليا داعيا القارئ إلى الانتباه إلى دوافعه ومفاهيمه المعيارية وأهدافه ومقاصده، حيث نجده يمجد الحرية الفردية، والديمقراطية، والروح القومية، ونوعية الحياة في النظم الاجتماعية، وهي كلها من العناصر التي تندرج ضمن منظومة القيم البرجوازية. ويرى ماكس فيبر أن ثقافة المجتمع تؤثر في نظرة الباحث إلى موضوعه، وهو ما يدل عليه قوله في شرحه لقواعد منهج التحليل في الاقتصاد السياسي:
"يرتبط [هذا المنهج] بدافع من الدوافع الخاصة للنوع البشري المتضمنة في الطبيعة الإنسانية. إن الاقتصاد السياسي للدولة الجرمانية وكذا المعيار القيمي المعتمد من طرف المنظرين الاقتصاديين الألمان لا يمكن أن يكونا شيئا آخر غير السياسة الألمانية والمعيار الألماني"(**).
ويرى ماكس فيبر أن القيم التي يتبناها الباحث، سواء أكانت قيما ثقافية أو قومية أو إنسانية ليست متضمنة في موضوع الدراسة، كما أنها لا تمثل خاصية ينفرد بها سياقه، ولذلك أمكن التمييز، في نظره، بين القيم والوقائع؛ وهذا يعني أن التوجهات القيمية للباحث ليست مستمدة من موضوع البحث ولا من نتائج الدراسات السابقة؛ "الحقيقة، يقول ماكس فيبر، هي أن المثل التي ندرجها في موضوع العلم إن لم تكن غريبة عنه فهي ليست نتيجة من نتائجه" إنها توجد خارجه، متعالية عليه. ولا عيب في أن ينظر الباحث إلى موضوع بحثه من زاوية نظر معينة، في ضوء القيم والمعايير والمثل التي يتبناها، بل العيب في أن يضمرها ولا يصرح بها. تقتضي الموضوعية في نظر ماكس فيبر أن يكون الباحث على وعي بهذه العناصر الذاتية وأن يصرح بها، ويعمل بالتالي جاهدا للحد من تأثيرها على تحليلاته.
لا ينكر ماكس فيبر، إذن، على الباحث أن يتحيز إلى منظومة قيمية معيارية دون غيرها، بل يطالب الباحثين بالتصريح بها منذ البداية والتحكم فيها بعد ذلك حتى لا تؤثر في نتائج التحليل التي ينبغي أن تكون موضوعية إلى حد كبير. وتقتضي الحكمة في نظره أن يتم التمييز بين الذاتية والتوجه القيمي، ذلك أن التوجه القيمي الواعي لا يعني الذاتية بالضرورة ما دام الباحث قادرا على التحكم فيه. وما يأخذه ماكس فيبر على الباحثين من ذوي التوجه الماركسي هو أنهم وإن كانوا يصرحون بتوجههم الأيديولوجي فإنهم لا يقيمون بينه وبين تحليلاتهم وتقييماتهم المسافة الضرورية بدعوى أن أيديولوجيتهم علمية أو أنها نتاج البحث العلمي. والحال أن أية منظومة فيمية أو معيارية، سواء كانت ليبرالية ديمقراطية، أو شيوعية اشتراكية أو دينية، لا يمكن إثبات صحتها بالوسائل العلمية، ولذلك لزم التحرر منها خلال عملية التحليل لاعتبارات منهجية علمية.
وإذا كان ماكس فيبر لا يمانع في أن يتبنى الباحث المذهب الأيديولوجي الذي يختاره بحرية وأن يدافع عنه، فلماذا يطالبه بعد ذلك بالتحرر منه خلال عمليات البحث والتقصي والتحليل؟ أليس في الأمر مفارقة؟ لو كان السؤال طرح على ماكس فيبر لأجاب بأن الانتماء المذهبي المعياري لا يعني الذاتية بالضرورة ولا يلغي الموضوعية إذا توفرت الشروط السابقة الذكر،. وعلى الرغم من اعتقاده بعدم وجود معيار علمي يمكن من اختيار القيم "الصحيحة"، فإن ذلك لا يمنع الباحث من الدفاع عن القيم التي اختارها بسبب أن "التوتر القائم بين منظومات القيم المتنافسة ضروري للحيلولة دون حدوث ركود ثقافي"(*). ومع ذلك، فإنه يجب الاعتراف بأنه من الصعب جدا العثور على أدلة موضوعية للدفاع عن قيم ذاتية طالما أنه لا يوجد أي معيار علمي موضوعي لترتيب القيم حسب درجة الأفضلية، وهو ما يعترف به ماكس فيبر نفسه. وإنما يأخذ الناس بهذه المنظومة القيمية أو تلك لاعتبارات ذات صلة بالإيمان وبالأمور الميتافيزيقية أو شيء من هذا القبيل. ولذلك لا يمكن إيجاد حل للتوتر القائم بين منظومات القيم على أساس عقلاني، لأنها تتجاوز العقل.
فهل يعني ذلك أنه من المستحيل تأسيس علم موضوعي لدراسة الظواهر الثقافية والاجتماعية؟ إن رأي ماكس فيبر بهذا الخصوص هو أنه لا يوجد علم موضوعي مستقل استقلالا تاما عن أي منظور قيمي مهما كان نوعه. ومع ذلك ظل يؤمن على خلاف نتشه بأن الموضوعية ممكنة في العلوم الإنسانية، لكنها لا تتحقق إلا بعد أن يعلن الباحث صراحة عن المنظور الذي ينطلق منه. فعندما يصرح الباحث بقيمه ودوافعه ومقاصده يمكنه بعد ذلك أن يعمل على تحقيقها بالوسائل العلمية الموضوعية، وهذا ما يمكنه من إيجاد حلول ناجعة للمشكلات الاجتماعية؛ ومعنى ذلك أنه يمكن تحقيق الغايات التي لا يسندها دليل عقلي منطقي ولا دليل علمي موضوعي بالوسائل العقلانية والعلمية. يبدو في الأمر تناقض، ولكن الإبستمولوجيا المعاصرة تقر بأن العلم ينطوي بالضرورة على عناصر غير عقلانية أو عشوائية لم يقم الدليل يوما على صحتها. فالعلم، حسب طوماس كوهن، بما في ذلك العلم الطبيعي، لا يعدو أن يكون مجرد نظرة إلى العالم، تتغير بتغير المصادرات والمنظور الإرشادي الذي تؤسسه.
وبسبب الغموض وعدم اليقين اللذان يكتنفان أسس العلوم، سواء تعلق الأمر بالعلوم الطبيعية أو العلوم الاجتماعية، كان من الضروري أن يلتزم الباحثون الصدق والأمانة والدقة في جمع البيانات وفي قول الحقيقة، وهو التزام أخلاقي لا مناص منه.
(*) Edward Bryan Portis(1986), Max Weber and political commitment: Science, politics and personality. Philadelphia: Temple University Press.
(**) Weber, Max. 1895/1994. “The Nations State and Economic Policy (Freiburg Address)” in Weber: Political
Writings. ed./trans. P. Lassman and R. Speirs. Cambridge: Cambridge University Press.
(*) Weber: Political Writings (op. cit), Introduction by Lassman and Speirs