Overblog
Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
13 février 2008 3 13 /02 /février /2008 21:07

 

مسالة الموضوعية في العلوم الإنسانية
أحمد أغبال
                           I.      مسألة الموضوعية من وجهة نظر ماكس فيبر
أشرنا فيما سبق إلى أن ماكس فيبر يؤمن بوجود واقع موضوعي قائم بذاته، ويعترف في نفس الوقت بأن الوقائع الاجتماعية هي وقائع ذاتية من حيث أن لها دلالات خاصة عند الفاعلين الاجتماعيين؛ ومن هنا تطرح مسالة الموضوعية على اعتبار أن الباحث نفسه متورط في الواقع الذي يجعل منه موضوعا لبحوثه، وله مواقفه وقيمه الخاصة وتوجهاته الأيديولوجية والسياسية. فكيف يمكن والحالة هذه أن يتعامل مع الموضوعات التي يعالجها بطريقة موضوعية؟ هل باستطاعته أن يقوم بدراستها بنوع من التجرد والحياد؟ وهل يمكنه أن يتخلى عن التزاماته الأخلاقية والقيمية عندما يتناول بالدراسة والتحليل الوقائع الاجتماعية؟ وبعبارة أخرى، إذا كانت الموضوعية شرطا ضروريا من شروط البحث العلمي، وكان الباحث جزءا من الواقع الذي يقوم بدراسته، فكيف يتسنى له تحقيق هذا الشرط؟ ماذا تعني الموضوعية بالنسبة لماكس فيبر؟
ينطلق ماكس فيبر في بلورة موقفه من مسألة الموضوعية في العلوم الإنسانية من التمييز بين أحكام الواقع والأحكام المعيارية، بين القضايا التي تصف الواقع والقضايا المعيارية التي تعبر عن التوجهات القيمية للفرد. ويرى ماكس فيبر أنه يجب على الباحث أن يكون على وعي بهذه القضايا وألا يخلط بعضها ببعض حتى لا تؤثر أحكامه القيمية في تصوره للوقائع. ولكن الباحث كائن اجتماعي ينتمي بالضرورة إلى مجتمع معين وطبقة اجتماعية وفئة مهنية معينة لها ثقافتها وقيمها ومعاييرها الخاصة؛ وإذا كان الأمر كذلك، فهل يمكن تحليل الوقائع بعيدا عن تأثيرات القيم والمعايير الشخصية أو الطبقية أو المهنية؟ وهل يدل التمييز بين أحكام الواقع والأحكام المعيارية على أن الوقائع شيء وأن القيم شيء آخر؟ وكيف تتحدد العلاقة بين القيم والموضوعية؟ أم أن مبدأ الموضوعية لا ينطبق إلا على الوقائع؟
وقبل أن نقدم جواب ماكس فيبر عن هذه الأسئلة يجدر بنا أن نتوقف قليلا عند مفهوم الوقائع الاجتماعية أو القضايا التي تنطوي على حكم الواقع لبيان مدلولها حسب التعريفات الشائعة في العلوم الإنسانية. ولعل أكثر التعريفات تداولا للقضية التي تنطوي على حكم الواقع هو أنها القضية التي تحدد واقعة أو مجموعة من الوقائع الاجتماعية وتنسب إليها خاصية أو مجموعة من الخصائص والعلاقات. وتعتبر القضية صحيحة إذا كانت الواقعة التي تشير إليها تتوفر بالفعل على الخصائص المعبر عنها وتحكمها العلاقات التي تشير إليها. يمكن صياغة هذه القضايا على النحو التالي: [تكون لـ"أ" الخاصية "خ" في الزمن "ز"]، كقولنا: بلغ عدد السواح الذين زاروا المغرب سبعة ملايين ونصف المليون سائح عام 2007، أو كقولنا: توجد فروق جوهرية في مواقف الرجال ومواقف النساء من مسألة الحرية في المغرب. وتكون هذه القضايا صحيحة إذا توفرت البيانات التي تدعمها والتي جمعت بطريقة موضوعية.
ولكن المسالة ليست بهذه البساطة، لأن جمع البيانات يتطلب توفر الباحث على خطة لجمع البيانات وجهاز مفاهيمي قابل للأجرأة. لنفترض أننا نريد دراسة وتتبع تطور مستوى العيش لدى الطبقة العاملة في بلد ما بين فترتين زمنيتين محددتين. تتمثل الصعوبة هنا في أن مفهوم مستوى العيش فضفاض، ويحتاج في تحديده وقياسه إلى معايير ومؤشرات قد يختلف الباحثون حولها، يحتاج الأمر ببساطة إلى اتخاذ قرارات ترتكز بالضرورة على تأويلات مختلفة لمفهوم مستوى العيش وعناصره الأساسية في ضوء التوجهات القيمية للأفراد؛ ولذلك كان لابد أن تختلف تقديراتهم لمستوى العيش عندما ينظر إليه كل واحد من زاوية نظره الخاصة.    
ومن هنا تطرح مسألة العلاقة بين الموضوعية والوقائع والقيم؛ استرعت هذه الإشكالية اهتمام ماكس فيبر واستقطبت انتباه العديد من الباحثين من بعده وعلى رأسهم Edward Bryan Portis(*). يرى هذا الباحث بأن ما يميز موقف ماكس فيبر من المسألة المطروحة هو إيمانه بثنائية القيم والواقع، على الرغم من أنه كان يفضل إضمار موقفه هذا. وأما دليل بريان بورتيز على أنه كان يتبنى فكرة ثنائية القيم والواقع فهو تصريحه وإيمانه بأنه لا سبيل للعلم لدحض الأحكام المعيارية ولا مساعدة الناس على الاختيار بين التوجهات أو المنظومات القيمية أو المعيارية؛ ومعنى ذلك أنه ليس هناك معيار علمي للتمييز بين القيم أو ترتيبها حسب الأفضلية وبطريقة موضوعية. إن البحث العلمي لا يمكنه أن يقيم الدليل الموضوعي على تفوق قيم على أخرى أو نظام ديني أو سياسي أو اجتماعي على نظام آخر، ولا يمكن إصدار حكم متحرر من القيم بهذا الخصوص؛ ومعنى ذلك أن كل حكم من هذا القبيل لا بد وأن يستند فيه المرء على قيمه الخاصة، سواء أكان ذلك عن وعي أو عن غير وعي.
ولما كان من غير الممكن التحرر من القيم والمعايير، فإنه يتعين على الباحث أن يكون على وعي بقيمه وتوجهاته المعيارية، وأن يصرح بها قبل أن يشرع في تحليل الوقائع أو المقارنة بين مختلف النظم الاجتماعية. هذا هو الشرط الأساسي لتحقيق الموضوعية في العلوم الإنسانية في نظر ماكس فيبر؛ ولذلك دأب على التصريح في بداية بحوثه بقيمه ومعاييره ومثله العليا داعيا القارئ إلى الانتباه إلى دوافعه ومفاهيمه المعيارية وأهدافه ومقاصده، حيث نجده يمجد الحرية الفردية، والديمقراطية، والروح القومية، ونوعية الحياة في النظم الاجتماعية، وهي كلها من العناصر التي تندرج ضمن منظومة القيم البرجوازية. ويرى ماكس فيبر أن ثقافة المجتمع تؤثر في نظرة الباحث إلى موضوعه، وهو ما يدل عليه قوله في شرحه لقواعد منهج التحليل في الاقتصاد السياسي:
"يرتبط [هذا المنهج] بدافع من الدوافع الخاصة للنوع البشري المتضمنة في الطبيعة الإنسانية. إن الاقتصاد السياسي للدولة الجرمانية وكذا المعيار القيمي المعتمد من طرف المنظرين الاقتصاديين الألمان لا يمكن أن يكونا شيئا آخر غير السياسة الألمانية والمعيار الألماني"(**).
ويرى ماكس فيبر أن القيم التي يتبناها الباحث، سواء أكانت قيما ثقافية أو قومية أو إنسانية ليست متضمنة في موضوع الدراسة، كما أنها لا تمثل خاصية ينفرد بها سياقه، ولذلك أمكن التمييز، في نظره، بين القيم والوقائع؛ وهذا يعني أن التوجهات القيمية للباحث ليست مستمدة من موضوع البحث ولا من نتائج الدراسات السابقة؛ "الحقيقة، يقول ماكس فيبر، هي أن المثل التي ندرجها في موضوع العلم إن لم تكن غريبة عنه فهي ليست نتيجة من نتائجه" إنها توجد خارجه، متعالية عليه. ولا عيب في أن ينظر الباحث إلى موضوع بحثه من زاوية نظر معينة، في ضوء القيم والمعايير والمثل التي يتبناها، بل العيب في أن يضمرها ولا يصرح بها. تقتضي الموضوعية في نظر ماكس فيبر أن يكون الباحث على وعي بهذه العناصر الذاتية وأن يصرح بها، ويعمل بالتالي جاهدا للحد من تأثيرها على تحليلاته.
لا ينكر ماكس فيبر، إذن، على الباحث أن يتحيز إلى منظومة قيمية معيارية دون غيرها، بل يطالب الباحثين بالتصريح بها منذ البداية والتحكم فيها بعد ذلك حتى لا تؤثر في نتائج التحليل التي ينبغي أن تكون موضوعية إلى حد كبير. وتقتضي الحكمة في نظره أن يتم التمييز بين الذاتية والتوجه القيمي، ذلك أن التوجه القيمي الواعي لا يعني الذاتية بالضرورة ما دام الباحث قادرا على التحكم فيه. وما يأخذه ماكس فيبر على الباحثين من ذوي التوجه الماركسي هو أنهم وإن كانوا يصرحون بتوجههم الأيديولوجي فإنهم لا يقيمون بينه وبين تحليلاتهم وتقييماتهم المسافة الضرورية بدعوى أن أيديولوجيتهم علمية أو أنها نتاج البحث العلمي. والحال أن أية منظومة فيمية أو معيارية، سواء كانت ليبرالية ديمقراطية، أو شيوعية اشتراكية أو دينية، لا يمكن إثبات صحتها بالوسائل العلمية، ولذلك لزم التحرر منها خلال عملية التحليل لاعتبارات منهجية علمية.
وإذا كان ماكس فيبر لا يمانع في أن يتبنى الباحث المذهب الأيديولوجي الذي يختاره بحرية وأن يدافع عنه، فلماذا يطالبه بعد ذلك بالتحرر منه خلال عمليات البحث والتقصي والتحليل؟ أليس في الأمر مفارقة؟ لو كان السؤال طرح على ماكس فيبر لأجاب بأن الانتماء المذهبي المعياري لا يعني الذاتية بالضرورة ولا يلغي الموضوعية إذا توفرت الشروط السابقة الذكر،. وعلى الرغم من اعتقاده بعدم وجود معيار علمي يمكن من اختيار القيم "الصحيحة"، فإن ذلك لا يمنع الباحث من الدفاع عن القيم التي اختارها بسبب أن "التوتر القائم بين منظومات القيم المتنافسة ضروري للحيلولة دون حدوث ركود ثقافي"(*). ومع ذلك، فإنه يجب الاعتراف بأنه من الصعب جدا العثور على أدلة موضوعية للدفاع عن قيم ذاتية طالما أنه لا يوجد أي معيار علمي موضوعي لترتيب القيم حسب درجة الأفضلية، وهو ما يعترف به ماكس فيبر نفسه. وإنما يأخذ الناس بهذه المنظومة القيمية أو تلك لاعتبارات ذات صلة بالإيمان وبالأمور الميتافيزيقية أو شيء من هذا القبيل. ولذلك لا يمكن إيجاد حل للتوتر القائم بين منظومات القيم على أساس عقلاني، لأنها تتجاوز العقل.
فهل يعني ذلك أنه من المستحيل تأسيس علم موضوعي لدراسة الظواهر الثقافية والاجتماعية؟ إن رأي ماكس فيبر بهذا الخصوص هو أنه لا يوجد علم موضوعي مستقل استقلالا تاما عن أي منظور قيمي مهما كان نوعه. ومع ذلك ظل يؤمن على خلاف نتشه بأن الموضوعية ممكنة في العلوم الإنسانية، لكنها لا تتحقق إلا بعد أن يعلن الباحث صراحة عن المنظور الذي ينطلق منه. فعندما يصرح الباحث بقيمه ودوافعه ومقاصده يمكنه بعد ذلك أن يعمل على تحقيقها بالوسائل العلمية الموضوعية، وهذا ما يمكنه من إيجاد حلول ناجعة للمشكلات الاجتماعية؛ ومعنى ذلك أنه يمكن تحقيق الغايات التي لا يسندها دليل عقلي منطقي ولا دليل علمي موضوعي بالوسائل العقلانية والعلمية. يبدو في الأمر تناقض، ولكن الإبستمولوجيا المعاصرة تقر بأن العلم ينطوي بالضرورة على عناصر غير عقلانية أو عشوائية لم يقم الدليل يوما على صحتها. فالعلم، حسب طوماس كوهن، بما في ذلك العلم الطبيعي، لا يعدو أن يكون مجرد نظرة إلى العالم، تتغير بتغير المصادرات والمنظور الإرشادي الذي تؤسسه.
وبسبب الغموض وعدم اليقين اللذان يكتنفان أسس العلوم، سواء تعلق الأمر بالعلوم الطبيعية أو العلوم الاجتماعية، كان من الضروري أن يلتزم الباحثون الصدق والأمانة والدقة في جمع البيانات وفي قول الحقيقة، وهو التزام أخلاقي لا مناص منه.    
 
 
 
 
     
 


(*) Edward Bryan Portis(1986), Max Weber and political commitment: Science, politics and personality. Philadelphia: Temple University Press.
(**) Weber, Max. 1895/1994. “The Nations State and Economic Policy (Freiburg Address)” in Weber: Political
      Writings. ed./trans. P. Lassman and R. Speirs. Cambridge: Cambridge University Press.
(*) Weber: Political Writings (op. cit), Introduction by Lassman and Speirs
Partager cet article
Repost0
7 février 2008 4 07 /02 /février /2008 18:40
النظرية العلمية
أحمد أغبال
1. تعريف النظرية
يدل مفهوم النظرية في الاستعمال الشائع على الآراء والتخمينات والتأملات التي لا تستند في بنائها على الوقائع؛ ولذلك فإنها غالبا ما تكون بعيدة كل البعد عن الوصف الدقيق لما يجري في الواقع. ومما يترتب عن هذا الفهم الخاطئ أن بدأ الناس ينظرون إلى النظرية في كثير من الأحيان بنظرة ازدراء واحتقار، فنسمعهم يقولون مثلا: "هذه مجرد نظرية، وليست واقعا".
وإذا كانت النظرية في الاستعمال اليومي تدل على التأملات الغير واقعية أو البعيدة عن الواقع، فإنها تدل في مجال العلم على نموذج أو نسق من الأفكار الذي يحكمه منطق صارم، ويستعمل لوصف مجموعة من الظواهر الطبيعية أو الاجتماعية وتفسيرها وتوقع تطوراتها. وتتشكل النظرية العلمية بواسطة منهج علمي رصين، وتفرض نفسها باعتبارها بناء فكريا مفاهيميا يدعمه المعطى التجريبي. إن النظرية بهذا المعنى هي الصياغة الشكلية المنطقية لنتائج الملاحظات التي تم تسجيلها في السابق والتي يمكن التحقق منها عن طريق التجريب، ومن ثمة استعمالها لتفسير الظواهر واستباق تطوراتها المستقبلية. وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن النظرية العلمية، على خلاف ما يعتقد عامة الناس، لا تتعارض مع الواقع؛ وعلى سبيل المثال فإن سقوط التفاحة من شجرتها على الأرض، واقعة تؤيد نظرية التجاذب الكوني التي بلورها إسحاق نيوتن.
ومع ذلك تظل النظرية العلمية في جميع الأحوال مجرد نموذج افتراضي يخضع باستمرار للتقويم والتصحيح. وكذلك يمكن دمج هذا النموذج في إطار نظرية أكثر شمولا. فقد جرت العادة أن يتم الربط منطقيا بين عدد كبير من الفرضيات أو النماذج الخاصة في إطار نظرية واحدة أو نظريتين. ولهذا السبب تكون النظرية الكبرى أكثر قدرة على التعامل مع الكليات بالمقارنة مع الفرضيات أو النماذج الخاصة وتكون قدرتها على التفسير أكبر لأنها تنظر إلى الظواهر في سياق أوسع وأشمل، بينما تتعامل النماذج والفرضيات مع مجموعة من الظواهر الخاصة.
ولعل ما يجعل عامة الناس ينظرون إلى النظرية بنوع من الازدراء هو أنهم لا يجدون فيها ما يحقق لهم المنفعة التي يرغبون فيها بشكل مباشر؛ ذلك لأن بناء النظرية لا يستهدف في الأصل تحقيق أية مصلحة خاصة، ولذلك تكون الحقيقة التي تعبر عنها مجردة ونسبية، ولا تعتبر صحيحة إلا في إطار نسق نظري معين، ومعنى ذلك أنه لا توجد حقائق متعالية على النظريات أو خارج النظريات. ولكن نسبية الحقيقة وتعاليها عن المصلحة الخاصة لا يعني أنها غير قابلة للتطبيق في مجال من مجالات الحياة الاجتماعية، بل كثيرا ما تستعمل لأغراض أيديولوجية. وتتحدد قيمة كل النظرية بمدى اقترابها من الحقيقةن ومن هنا تطرح المسألة المتعلقة بمعايير صلاحية النظرية وكيفية بنائها.
2. معايير صلاحية النظرية
يرى بعض الباحثين في مجال الإبستملوجيا أن النظرية الجيدة هي تلك التي تستوفي شرطين أساسيين وهما:
§        أن تكون قادرة على وصف مجموعة من الوقائع في ضوء نموذج يرتكز على عدد قليل من المصادرات (الأكسيومات) أو العناصر العشوائية، وهي القضايا التي يتم التسليم بها من غير إقامة الدليل على صحتها؛ وإنما يتم قبولها لاستحالة الحكم عليها لا بأنها صحيحة ولا بأنها خاطئة. إن المصادرة بهذا المعنى هي القضبة التي لا سبيل إلى البرهنة عليها، وأما القضية التي قام عليها الدليل فإنها لا تعتبر مصادرة على الإطلاق. وتتحدد قيمة المصادرة بمدى أهمية النتائج المستنبطة منها من حيث مطابقتها أو انسجامها مع الوقائع. وبسبب طبيعتها العشوائية تعتبر المصادرات الحلقة الضعيفة في بنية النظرية، ولذلك يميل العلماء إلى الانطلاق من أقل عدد ممكن للتقليل من احتمال الخطأ؛ ومن أمثلة ذلك نظرية النسبية الخاصة التي شيدها ألبرت إنشطاين انطلاقا من مصادرتين: أولهما مصادرة غاليليو التي تقول بتزايد سرعة الأجسام عند انطلاقها، والثانية ثبات سرعة الضوء التي تمثل السرعة المطلقة. وافترض أن هاتين الملاحظتين معا صحيحتان رغم تعارضهما الظاهر. وما فعل بعد ذلك هو أنه قام بتعديل مصادرة غاليليو لتتلاءم مع فكرة عدم تزايد السرعة بالنظر إلى سرعة الضوء، وصاع نظريته الجديدة على هذا الأساس. وهكذا، فعندما تخضع المصادرات لأي تعديل يؤدي ذلك إلى حدوث تغير جوهري في البناء النظري كله. 
§        وأن تكون قادرة على التكهن بنتائج الملاحظات المستقبلية؛ ويذهب فلاسفة العلم إلى حد القول: إن النظرية الفيزيائية لابد أن تكون تنبؤية رغم كونها افتراضية يتعذر الجزم بثبوتها ثبوتا تاما. وهكذا، فإنه مهما كانت النتائج التجريبية تؤكد توقعات النظرية فإنه لا يمكن استبعاد إمكانية الحصول في المستقبل على نتائج تجريبية تتعارض مع ما تقول النظرية؛ ومعنى ذلك أيضا أنه يمكن تكذيب النظرية من خلال العثور ولو على ملاحظة واحدة من الملاحظات التجريبية التي لا تؤيد التوقعات النظرية. وقد يؤدي هذا الاكتشاف إلى إحداث تغيير جذري في النظرية أو استبدالها بنظرية أخرى أو منظور إرشادي آخر paradigme حسب تعبير طوماس كوهن Thomas kuhn.
ولما كانت النظرية العلمية تقوم على مصادرات غير قابلة للبرهنة أصبح من الممكن تعديلها وتطويرها وتجاوزها باستمرار. ولعل ذلك هو ما حدا بكارل بوبر Karl Popper إلى أن يجعل من مبدإ التفنيد أو القابلية للتكذيب معيار علمية النظرية، في مقابل "مبدإ التحقق" الذي جعل منه أصحاب الوضعية المنطقية مبدأهم المفضل. يقضي هذا المبدأ بأن قيمة النظرية العلمية لا تتحدد في المقام الأول بقوة الدليل التجريبي على صحتها ويقينها، ولا تؤخذ النظرية مأخذ الجد في نظر بوبر ما لم تكن مرنة منفتحة على كل الاحتمالات وقابلة للتعديل، ولا يشترط فيها بالتالي أن تكون تامة محكمة البنيان ودقيقة إلى أبعد الحدود في تنبؤاتها. والدليل على ذلك هو أن نظرية الفيزياء الميكانيكية التي وضعها نيوتن لم تكن دقيقة في تنبؤاتها، ولكنها كانت على قدر كاف من الواقعية والمعقولية لمقاربة العديد من الظواهر وتفسيرها بطريقة أبسط وأسهل بالمقارنة مع النظريات التي تبدو أكثر دقة ولكن تطبيقها يكون أصعب لما يتطلبه من إجراءات رياضية بالغة التعقيد. وأما فيما يتعلق بمبدإ التحقق فإنه من السهل في نظر بوبر أن تجد أية نظرية من الدلائل الأمبريقية ما يدعمها، ولكن هذا الدعم ليس هو المعيار الأساسي لعلميتها؛ ذلك أنه لو انشغل الباحثون بالبحث عما يفندها لعثروا عليه عاجلا أو آجلا؛ ومن هنا حصر خصائص النظرية العلمية فيما يلي:
§        إن التحقق لا تكون له قيمة علمية ‘لا إذا جاء نتيجة للمغامرة في البحث عن النتائج غير المتوقعة أو الوقائع التي لا تنسجم مع توقعات النظرية والتي تفندها؛
§        إن النظرية العلمية الجديرة بهذا الاسم هي في المقام الأول تلك النظرية التي تقول بعدم إمكانية حدوث بعض الوقائع، لا النظرية التي تنبؤ بحدوث بعض الوقائع؛
§        إن النظرية التي لا تكذبها أية واقعة من الوقائع ليست نظرية علمية، ومعنى ذلك أن اليقين المطلق ليس فضيلة علمية؛
§        إن الاختبار الحقيقي للنظرية هو ذلك الذي يسعى إلى تفنيدها. إن التحقق العلمي هنا لا يعني شيئا آخر غير التفنيد أو التكذيب؛
§        إن تكذيب النظرية العلمية لا يمنع استمرارها بشكل نهائي شريطة أن تخضع لبعض التعديلات، ولكنه يقلل من قيمتها العلمية.
وخلاصة القول إن معيار صدق النظرية، من وجهة نظر كارل بوبر، هو قابليتها للتفنيد أو الاختبار الذي يهدف إلى تكذيبها. وهذا مثال يوضح هذه الفكرة: لنفترض أن احدهم وضع نظرية تقول: "إن كل الحيوانات تحرك فكها الأسفل عندما تأكل"، ثم إنه أراد أن يثبت نظريته من خلال ملاحظة سلوك الأكل لدى الحيوانات. لاشك في أنه سيجد عددا لا يحصى من الحالات التي تدعم نظريته، وتجعله يطمئن إليها. ولو أنه طبق منهجية بوبر وراح يبحث عن الوقائع التي من شأنها أن تكذب نظريته، أي عن الحيوانات التي تحرك الفك الأعلى لكان ذلك أفيد للبحث العلمي، ولسوف بحرره من الوهم الذي كان عليه عندما يجد أن التمساح يحرك فكه الأعلى. وإنما يدل مبدأ بوبر على الروح العلمية المنفتحة وعلى نسبية الحقيقة العلمية وقابليتها للتجاوز والتطور.
  ومع ذلك تعرضت نظرية بوبر للنقد، ومن أكبر خصومها فليب كريشر Philip Kircherالذيواجهها بقوله إنه لو كانت نظريته صحيحة لكان اكتشاف الكوكب أوانوس عام 1781 قد أدى إلى تقويض نظرية الميكانيكا الكونية لنيوتن، على اعتبار أن مدار هذا الكوكب لا ينسجم مع توقعات النظرية. وثبت فيما بعد أن كوكبا آخر يؤثر فيه. يتفق كريشر مع بوبر في أن العلم لا يتقدم إلا من خلال تعثراته وكبواته، ولكنه يميل مع ذلك إلى الرأي القائل بأن النظريات العلمية لا تخلو من القضايا أو المصادرات العشوائية التي لا يمكن تفنيدها، وهذا لا يقلل من قيمتها العلمية، بل يجعلها خصبة وخلاقة. ومن هذا المنطلق حاول أن يحدد مواصفات النظرية العلمية الجيدة، وتتلخص في الوحدة والخصوبة والتوفر على بعض الفرضيات الملحقة. وترتكز وحدة النظرية عنده على وجود إستراتيجية واحدة لحل المشكلات، أو عدد قليل من الإستراتيجيات التي يمكن تطبيقها في عدد كبير من الوضعيات. وأما خصوبة النظرية فتعني قدرتها على طرح أسئلة جديدة، وفتح واقتحام مجالات بحث جديدة لم يكن أحد قد طرقها من قبل، وفسح المجال لظهور رؤية جديدة للعالم. واما الفرضيات الملحقة فهي تلك الفرضيات التي يمكن التحقق منها في استقلال عن المشكلة التي وضعت في الأصل من أجل حلها وعن النظرية التي جاءت [الفرضية] لدعمها.
 
 

 

Partager cet article
Repost0
28 janvier 2008 1 28 /01 /janvier /2008 11:42

 

الاتجاهات الجديدة في علم النفس المعرفي
في مرحلة ما بعد بياجي
د. أحمد أغبال
 
مقدمة
تهدف هذه الدراسة إلى التعريف بالاتجاهات الجديدة في علم النفس المعرفي التي تشكلت على خلفية القراءات النقدية لأعمال جان بياجي Jean Piaget، وتكمن أهميتها في توفير بعض الأدوات النظرية التي تساعد على فهم آليات التعلم المدرسي وتحسين نوعية التعليم.
يميز الدارسون الذين قاموا بمراجعة أفكار بياجي بين أعماله المبكرة والمتأخرة، ولاحظوا أن موقفه من مسألة النمو المعرفي قد تغير مع مرور الزمن. كان يميل في بداية الأمر إلى الاعتقاد بأن النمو المعرفي يتأثر بالتجربة الاجتماعية للفرد تأثرا قويا، ولكنه تراجع عن هذه الفكرة فيما بعد، ولم تعد لها في أعماله المتأخرة سوى وظيفة شكلية في أحسن الأحوال(Glashan and Light, 1982; Daman, 1981; Ginsberg, 1981) يمثل التراجع عن أفكار مرحلة الشباب إحدى نقط الضعف الأساسية في أعمال بياجي. ويرجع السبب في ذلك، حسب بعض النقاد، إلى أن بياجي نظر إلى النمو المعرفي من منظور إبستملوجي بينما كان يجب أن ينظر إليه من منظور سيكولوجي، على اعتبار أن القضية المطروحة ليست قضية إبستملوحية بالأساس بل إنها قضية سيكولوجية.(Barcker and Newson, 1979)، عبر الفيلسوف هاملين عن نفس الموقف في معرض حديثه عن الشروط التي تجعل التعلم ممكنا، حيث قال: "إن هذه الاعتبارات بمعناها العميق والأصيل هي اعتبارات سيكولوجية وليست جزءا من الإبستملوجيا التكوينية" (Hmlyn, 1981, p. 172). ذلك لأن بياجي اهتم بدراسة البنية المنطقية-الرياضية الشكلية التي يُنظر إليها الآن على أنها بنية افتراضية وليست واقعية، وباعتبارها كذلك فإنها لا تقبل الملاحظة والقياس.
وعلى الرغم من الانتقادات التي تعرضت لها نظرية بياجي فإنها ستظل على الدوام مصدرا للإلهام لا ينضب. لقد خلف لنا بياجي إرثا عظيما، غنيا بالقضايا التي أثارها، وبالحلول التي اقترحها، وبالتأويلات التي تعرضت لها، والجدل الذي أثير حولها، وبالأسئلة التي ظلت معلقة. كان له أتباع كثيرون من المجددين لفكره يحملون اسمه تكريما له، وكرسوا حياتهم لتطوير أفكاره. هؤلاء هم البياجيون الجددneo-piagetians. يتفق هؤلاء الباحثون مع آراء المعلم الأول في بعض الأمور ويختلفون معه في أمور أخرى، مع وجود تباين كبير في تصوراتهم للعديد من القضايا وخاصة ما تعلق منها بطبيعة النمو المعرفي وآلياته. فإذا كانوا يتفقون جميعا مع بياجي حول المصادرة الأساسية التي بنى عليها نظريته كلها والتي تقولإن البنية العقلية للطفل تزداد تعقيدا كلما انتقل من مرحلة عمرية إلى أخرى، فإنهم أخذوا عليه كثرة انشغاله بالجانب المنطقي الشكلي وتغافله عن جوانب كثيرة كعمليات معالجة المعلومات وتنوع الأنشطة المعرفية والفروق الفردية. وجاءت حركة البياجيين الجدد لسد هذه الثغرات. ولم تكن هذه الحركة متجانسة لأنها تشكلت على خلفية انفجار النظريات الكبرى ومنها نظرية بياجي نفسه. ولذلك سعى رواد هذه الحركة إلى بلورة نماذج أو نظريات صغرى. وكان لابد أن تختلف تصوراتهم للعديد من القضايا، وفي مقدمتها مسألة العلاقة بين مستوى الأداء ومستوى نمو البنية العقلية:  فبينما برى البعض أن مستوى الأداء - الذي يتناسب من حيث المبدأ مع مستوى نمو البنية العقلية ودرجة تعقدها - يظل ثابتا مهما اختلفتالحقول المعرفية وتباينت طبيعة المهام المرتبطة بها،وخاصة إذا كانت الظروف مواتيةللتعلم (1984 Case,)،يرى البعض الآخر أن طريقة الطفل في معالجة المهام المعرفية لا تنسجم دائما مع مستوى نموه العقلي (Sylvern, 1985 ; Fischer andBiggs and Collis, 1982).
وعندما يطرح السؤال: ماذا ينمو لدى الطفل ؟ يجيب بياجي:إن البنية العقلية هي التي تنمو، وأن غاية نموها هي العمليات المنطقية- الرياضية الشكلية.ولكن البياجيين الجدد لا يتفقون جميعا حول هذه الفكرة،ولذلك كانت تصوراتهم لموضوع النمو والارتقاءمتنوعة ومختلفة جدا. فبينما يرى البعض أن ما ينمو في الواقع هي الاستراتيجيات المستخدمة لحل المشكلات(Case, 1984, 1985 ; Siegler, 1997)، يرى البعض الآخر أن المهارات المرتبطة بالبنية العقلية المتزايدة التعقيد هي التي تنمو(Fischer, 1984 , 1985). فإذا كان روبي كيس Case مثلا يعتقد أن الاستراتيجيات جزء من البنيات المفاهيمية المركزية القابلة للتعميم أو التطبيق في مختلف الحقول المعرفية، فإنكورت فيشرKurt Fischerلا يفصل المهارة عن الحقل المعرفي الذي تبلورت في أحضانه. ترتبط المهارات في نظرية فيشر ارتباطا وثيقا بالمهام المعرفية وتتنوع بتنوعها. ولجون بيغس John Biggsتصور آخر يجمع بين ما قاله روبي كيس عن الاستراتيجيات وما ذهب إليه كورت فيشر في معرض حديثه عن المهارات، ولكنه لا يقف عند الحدود التي وقف عندها هذان الباحثان. إن ما ينمو في نظره هي بنية حصيلة التعلم القابلة للملاحظة والقياس  the structure of observed learning outcome(SOLO)والتي ترتكز ديناميتها على التفاعل المستمر بين بعض المتغيرات الشخصية والعمليات المعرفية وآليات التعلم كالقدرات العامة وخاصة الذاكرة النشيطة working memory والمهارات والاستراتيجيات والحوافز الخوبين عوامل السياق الذي يكيف المهمة المعرفية ومتطلبات إنجازها(Biggs and Collis. 1982).
وهكذا، فإذا كان علماء النفس النمائي يختلفون في تصورهم لنموالقدراتالمعرفية، وإذا كانت أجوبتهم عن السؤال: ماذا ينمو؟ مختلفة ومتضاربة، فإنه لابد أن تختلف الأجوبة المتعلقة بالكيف، وذلك نظرا للعلاقة الموجودة بين تصور الباحث للسيرورة النمائية وتصوره لآلياتالانتقال من مرحلة إلى أخرى. وقبل أن نتطرقبنوع من التفصيل إلى مختلف الطروحات نود أن نستعرضفي البداية نظرية علم النفس المتخصص في دراسة عمليات معالجة المعلومات، أو لنقل توخيا للإيجاز: علم النفس المعلوماتيinformation-processing psychology، الذي كان له تأثير كبير في حركة البياجيين الجدد.
Partager cet article
Repost0
27 janvier 2008 7 27 /01 /janvier /2008 11:48

 

1- علم النفس المعلوماتي
بدأ علم النفس المعلوماتي يتشكل تدريجيا ليتأسس كعلم قائم بذاته منذ حوالي أربعة عقود خلت في الولايات المتحدة الأمريكية، رافق ظهوره تطور أنظمة الذكاء الاصطناعي، ونما تحت تأثيرها. وقد جاء النموذج المعلوماتي information-processing model كرد فعل ضد نظرية بيني Binet التي تعتبر الذكاء قدرة ثابتة، وبدأ يفرض نفسه في أعقاب الضجة التي أثارها استخدام روائز الذكاء في مجال التعليم بالولايات المتحدة الأمريكية،وأتى بتصور جديد للذكاء. يرتكز التصور الجديد على مصادرة مفادها أن الذكاء ليس سمة من سمات الفرد الثابتة، ولكنه طريقة في تناول الموضوعات ومعالجة المعلومات وحل المشكلات. يشمل مفهوم الذكاء، منظورا إليه من هذه الزاوية،مجموعة من العمليات العقلية التي لا تخرج خروجا تاما عن نطاق السيطرة، إذ يمكنالتحكم فيها، وتدريبالمتعلمين عليها، وتطويرها بشكل إرادي.
يركز هذا التصور على البعد الدينامي الحركي للذكاء،ويستبعد أن يكون له مضمون ثابت.وإذا صحت هذه الفرضية فإنه لا يجوز لأحد أن ينعت الطفل الذي يعاني من صعوبات التعلمبالغباء، وذلكعلى اعتبار أن الخلل ليس متأصلا في الذات،بليقع على مستوى الطريقة التي يباشر بها المهام المعرفية، ولذلك يمكن القولإن الطفل ليس غبيا، ولكن سلوكه ليس ذكيا. لهذا التصور مزايا عديدة تنكشفلنا عندما نقوم بفحصهفي ضوء الدور المنوط بالمدرس،وهو مساعدة التلميذ على تقويم سلوكه. وأما إذا افترضنا أن الذكاء قدرة ثابتةفإنه لن يكون باستطاعة أي مدرس مهما كانت قدراته أن يؤثر فيه،وسيكون من الطبيعي أن يعمد إلى تصنيف التلاميذ إلى فئات حسب درجات الذكاء أو الغباء،وأن يتعامل مع بعضهم على أنهم أذكياء بالطبع، ومع غيرهم على أنهم أغبياء بالطبع،وسيكون من العبثأن نرسل أطفالنا إلى المدارس إذا كانت حصيلة التدريس متغيرا تابعا لمتغير آخر يقع خارج سيطرة المعلم. ولعل من أبرز مزايا التصور الجديد للذكاء وأكثرها أهمية هو أن الوعي بمبادئه ومقاصده يساعد على تنامي الروح المهنية في ميدان التربية والتعليم، وهو ما عبر عنه بيغس ومور بقولهما: « إن خلع الطابع الميثولوجي عن هذا المفهوم [الذكاء] مهم جدا لكونه يساعد على تطوير التصور المهني لدور المدرس»Biggs and Moore, 1993, p. 159))  
تلحق صفة الذكاء،منظورا إليه في ضوءعلم النفس المعلوماتي،بالسلوك لا بالذات.يرد مفهوم الذكاء في سياق الخطاب السيكولوجي الجديدمرادفا لمفهوم معالجة المعلومات. كتب هونت Hunt مقالا تحتعنوان:  « Intelligence as an information-processing concept »(Hunt, 1980)ليؤكد على مدى أهمية هذه الفكرة. ترتكز نظرية هونت على ثلاثة مفاهيم أساسية وهي: مفهوم البنية structure، ومفهوم العملية process، ومفهوم قاعدة المعرفة Knowledge base. تعكس هذه المفاهيم نظام الكمبيوتر، ولكن الباحثين عمموا استعمالها ليشمل أنظمة أخرى ولتغدو أكثر اتصالا بواقع السلوك الإنساني، وأصبحت تشير إلى بنية الدماغ والجهاز العصبي للإنسان.
كان داس  Das وكيربيKirbyوجارمن Jarman (1979) من أبرز الباحثين الذين اتجهوا في هذا المنحى في محاولة للجمع بين نظرية لوريا Luria  حول وظائف الدماغ ونظرية معالجة المعلومات. وتعتبر نتائج بحوثهم من أكثر الأعمال انسجاما مع الإنجازات التي تحققت في مجال فيزيولوجيا الدماغ والجهاز العصبي (Kirby, 1984). وكان لورياقد ميز بين ثلاثة أنظمة وظيفية وهي: النظام الذي يؤدي وظيفة التذكرarousal، والنظام الذي يتولى معالجة المعلومات processing، والنظام الذي يؤدي وظيفة التخطيط planning. تبنى داس وكيربي وجارمن هذه المفاهيم، وركزوا على وظيفة معالجة المعلومات، وميزوا فيها بين نوعين من العمليات: العمليات التي تعالج المعلومات وفقا لمبدأ التزامن simultaneous processing، والعمليات التي تعالج المعلومات وفقا لمبدأ التعاقب successive processing. وعلى هذا الأساس بلور داس Das ما سماه نموذج دمج المعلومات information integration model(Das, 1984). ويتألف نظام معالجة المعلومات من ثلاث نظم صغرى مترابطة فيما بينها، وتمر عملية معالجة المعلومات بثلاث مراحل، يشتغل في كل واحدة منها نظام معين،وهي:
المرحلة الأولى: وفيها تشتغل العمليات المرتبطة بنظام استقبال الانطباعات الحسية. يرتكز هذا النظام على عملية انتقاء المعلومات، وتتطلب هذه العملية درجة عالية من الانتباه من أجل فحص المدخلات الواردة من المحيط الخارجي لتقدير مدى أهميتها بسرعة فائقة. ذلك لأن الفرد يتلقى خلال هذه المرحلة كمية هائلة من المعلومات عن طريق الحواس، ونظرا لضخامة حجم المعطيات التي ترد إليه من المحيط يعجز عن معالجتهادفعة واحدة وبشكل متزامن،ولذلك يركز انتباهه على أكثرها أهمية بالنسبة إليه.وتجري عملية الانتقاء ضمن ما يسميه داسبسجل الانطباعات الحسية sensory register، وتستغرق مدة قصيرة جدا لا تتجاوز ثانية واحدة.
المرحلة الثانية: وفيها تنتقل المعطيات المنتقاة إلى الذاكرة النشيطة working memory. ومن أهم ما يميز هذه الذاكرة هو وقوعها داخل دائرة الوعي، ومحدوديةطاقتها الاستيعابية، وقصر مداها، لا تستقر فيها المعلوماتأكثر من دقيقة واحدة، ولذلك سميت بالذاكرة القريبة المدى. وتحتل الخطط والاستراتيجياتقسطا وافرا من حيز الذاكرة القريبة المدى إلى جانب المدخلات التي تم انتقاؤها،ولذلك اعتبرت بمثابة المحطة الرئيسية في عملية معالجة المعلومات.وتجدر الإشارة هنا إلى وجود علاقة وثيقة بين الخطط والاستراتيجيات من جهة، ونظم معالجة المعلومات من جهة أخرى، وهو ما عبرعنه كيربي بقوله:« إن الاستراتيجية الجيدة تعوض النقص في حيز الذاكرة النشيطة»(Kirby. 1984. pp. 6). وعندما تنتقل المدخلات إلى الذاكرة النشيطة تعالج بطريقة تمكن من حفظها في الذاكرة البعيدة المدى.
المرحلة الثالثة:وفيها تنتقل المعلومات التي تمت معالجتها إلى الذاكرة البعيدة المدى، ويفترض أن تستقر فيها مدى الحياة إذا تمكن الفرد من تنظيمها تنظيما محكما. ولكن الأساليب المستعملة لاختزانها وتنظيمها تختلف من فرد لآخر. فهناك من يلجأ إلى استراتيجية التكرار والحفظ والاستظهار، وهناك من يستخدم استراتيجية أخرى تقوم على الربط بين المدخلات الجديدة والمعارف المكتسبة من خلال تأويلها في ضوء تلك المعارف، وهذا ما يشير إليه مفهوم التحويل coding  أو encoding في لغة علم النفس المعلوماتي(Biggs and Moore, 1993).
يتألف نظام معالجة المعلومات، إذن،من ثلاثنظم فرعية وهي: سجل الانطباعات الحسية، والذاكرة النشيطة، والذاكرة البعيدة المدى، ويشتملبالإضافة إلى ذلك على عمليات التحويل,والتخزين,والتخطيط, والإستراتيجيات المرتبطة بها. وتعتبر الذاكرة النشيطة المحطة المركزية في هذا النظام. وبحكم مكانتها المركزية في الجهاز المعرفي تلعب الذاكرة النشيطة دورا رئيسيا في عملية معالجة المعلومات،حيث إنها تؤدي العديد من الوظائف البالغة الأهمية: منها ما يتصل بالتخطيط، وتحديد الأهداف، واتخاذ القراراتفيما يتعلق بانتقاء الاستراتيجيات المناسبة لتحقيق الأهداف أو ابتكار استراتيجيات جديدة من أجل التحكم في الأداء؛ ومنها ما يتصل بتحويل المدخلات التي تم انتقاءها وفرزها وتصنيفها وتحليلها وتركيبها في ضوء الأهدافالمتوخاة.
وعلى هذا الأساس أمكن التمييز في الجهاز المعرفي بين نوعين من الوظائف: هناك من جهة وظيفة تحويل encoding المدخلات وتخزينها،وهي الوظيفة التي تمثل المضمون الحقيقي لعملية معالجة المعلومات؛ وهناك من جهة أخرى الوظائف المرتبطة بنظم التحكم في العمليات السابقة الذكر. يتعلق الأمر هنا بالخطط والاستراتيجيات التي توجه عملية معالجة المعلومات وتمكن الفرد من تنفيذها بطريقة فعالة. يتألف الجهاز المعرفي إذن من عمليات معالجة المعلومات ونظم التحكم فيها.  
يستعمل مفهوم العمليةprocess، بالمعنى الدقيق للكلمة، للدلالة على التحويلencoding لتمييزه عن الإجراءات التي يشملها مفهوم التخطيط ومفهوم الاستراتيجية. هذا مع العلم أن الاستراتيجيات والقدرة على التخطيط تميل، عندما يتقنالفرد استعمالها ويطبقها بطريقة آلية، إلى الاشتغال مثلما تشتغل عملية معالجة المعلومات. وفي هذه الحالة يصبح من الصعب التمييز بين العمليات والاستراتيجيات. غير أن التطور الحاصل في الاستراتيجيات لا يفقدها وظيفتها، حيث تظل في موقع السيطرة متحكمة في عملية معالجة المعلومات، ترسم لها الخطط والأهداف والغايات. يدل مفهوم الاستراتيجيةبمعناها العام على المنهجية أو المقاربة المعتمدة في أداء المهام المعرفية. ومع أنه يمكن استخدام مصطلح الخطة plan كمرادف لمفهوم الاستراتيجية إلا أن بعض الباحثين يفضلون التفريق بينهما، حيثيميزون في الخطة بين عدة مستويات متراتبةحسب درجة خصوصيتها أو عموميتها: فهناك الخطط الصغرى والخطط الكبرى (Kirby, 1984).
Partager cet article
Repost0
26 janvier 2008 6 26 /01 /janvier /2008 12:14

تتخذ الخطةفي نظرية جون كيربي مستويات متعددة ومتراتبة، تتدرج من أكثرها خصوصية إلى أكثرها عمومية، بحيث إن تنفيذ خطة معينة يستلزم أولا تنفيذ الخطط التي تقع في المستويات الدنيا من الدارج. تندرج الاستراتيجية في هذا النظام المتراتب باعتبارها خطة فرعية subplan،إنها جزء من نظام الخطط. والفرق بينها وبين الخطة هو أن هذه الأخيرة تبدو أكثر عموميةوشمولا. غير أنه يمكن التعامل مع الاستراتيجية بوصفها خطة عندماتوظف إجراءاتها ضمن نطاق محدود. ومع ذلك فإن مفهوم الاستراتيجية لا ينطبق دائما على جميع الأنشطة المعرفية، فهناكالكثير من الأنشطة التي لا يعبر عنها إلا بمفهوم الخطة.
وكذلك ميز جون كيربي في الاستراتيجيات بين نوعين: الاستراتيجيات الصغرى أوالأكثر خصوصية microstrategies والاستراتيجيات الكبرى أو الأكثر عمومية macrostrategies. وما يميز الصنف الأول هو أن كل استراتيجية منها تتناسبمع نوع محدد من المهام المعرفية دون غيره.إن ما يميز هذا النوع من الاستراتيجيات هو أنها تأخذ بعين الاعتبار خصوصيةكلمهمة، ولذلك تكون أكثر ارتباطا بالمعارف والقدرات التي يتطلبها إنجازها، وهو ما يجعلها قادرة على التأثير في الأداءبشكل مباشر.وتكمن أهميتها، إضافة إلى ذلك، في كونها قابلة للتلقين. وأما الصنف الثانيفيتميز بكونه أكثر شمولا وأكثرارتباطا بالبعد الوجداني للفرد وحوافزه.تعكس الاستراتيجيات الكبرى  الأسلوب المعرفي cognitive styleللشخص وطريقته في معالجة مختلف المهامالمعرفية. ولعل أهم ما يميز هذا النوع من الاستراتيجيات هو ارتباطها الوثيق بثقافة المجتمع، ولذلك يكون من الصعب تغييرهابواسطة التربية والتعليم.
وكذلك يمكن التمييز في الخطط بين نوعين: الخطط التي تطبق على مستوى الميكرو والخطط التي تطبق على مستوى الماكرو. ويكون من الصعب التمييز بين الاستراتيجيات والخطط الصغرى microplans عندما تميل هذه الأخيرة لأنتصبح أكثر شمولية، وكذلك يصعب التمييز بينها وبين خطاطة المعرفة knowledge schemeأو بنية المعارف الأكثر التصاقا بأفعال الفرد، عندما تصبح أكثر خصوصية. وكثيرا ما يحصل الخلط أيضا بين الأساليب المعرفية العامة والخطط الكبرى عندما تبلغ هذه الأخيرة درجة عالية من التعميم(Kirby. 1984).
إن ما يميز نموذج معالجة المعلومات بصفة عامة هو أنه يولي أهمية بالغة لنظم التحكم في عملية معالجة المعلومات. أخذ هذا النموذج العام شكلا خاصا عند داس Das وكيربي Kirby وجارمن Jarman عندما أدرجوا في نظريتهم أفكار لوريا حول التركيب المتزامن simultaneous synthesis والتركيب المتعاقب successive synthesis، وأطلقوا على الصيغة الجديدة اسم نظرية دمج المعلومات information integration theory. تمر عملية معالجة المعلومات في إطار هذا النموذج بنفس المراحلالتي كشف عنها النموذج المعلوماتي.والجديد في نظرية داس ومجموعته هو أن استعراض المعلومات وتنظيمهايتم وفقا لمبدأ التزامن ومبدأ التعاقبفي كل مرحلة من مراحل عملية المعالجة.
هناك إذن طريقتان لمعالجة المعلومات: طريقة ترتكز على مبدأ التعاقب، وأخرى ترتكز على مبدأ التزامن. ويختلف الأفراد في طريقة معالجة المعلومات، فمنهم من يظهر ميلا واضحا إلى بسطها واستعراضها في شكل حلقات متوالية، ولا يقيم بينها أية علاقةأخرى غيرعلاقة التسلسل،وهذه هي طريقة التركيب المتعاقب. ويفترض أن يكون الفرد الذي يستخدم هذه الطريقةشديد الميل إلى الحفظ والاستظهار. ومن الأفراد من يمتلك القدرة على أن يستحضر في ذاكرته كمية هائلة من المعطيات في آن واحد، ثم يقيم بينها علاقات منطقية، ويتمكن بذلك من إدراكالمعنى العام الذي تدل عليه التركيبة التي بناها على ذلك النحو،وهذه هي طريقة التركيب المتزامن. وتجدر الإشارة هنا إلى أن إنجاز بعض المهام يتطلب بالضرورة توظيف منهجية التركيب المتعاقب، كما هو الشأن مثلا بالنسبة للسلاسل الزمنية أو التراكيب اللغوية، فإن فهمها يستلزمتنظيمهاوفقا لمبدأ التعاقب. وما يمكن ملاحظته على العموم هو أن الأفراد يتوزعونعلى هاتين الطريقتين، غير أن هذا التوزيع لا يحول دون إمكانية تصور فئة ثالثة تجمع بينهما. ويتحدد ميل الفرد إلى استخدام هذه الطريقةأو تلك بمدى قدرته على التخطيط.
وترتكز نظرية دمج المعلومات على مجموعة من المصادرات من أهمها:
§         تتم عملية معالجة المعلومات المتزامنة والمتعاقبة والتخطيط على جميع مستويات الجهاز المعرفي بما في ذلك مستوى الإدراك الحسي والذاكرة،وعلى مستوى بناء المفاهيم؛
§         إن عملية التركيب المتزامن وعملية التركيب المتعاقب لا تخضعان لمبدأ التراتب؛
§         وإذا كان من الممكن أن تظهر إحداهما قبل ظهور الأخرى، فإن كل واحدة منهما تنمو في استقلال عن الأخرى؛    
§         يمكن مقاربة المهمة المعرفية الواحدة بالاعتماد على طريقة التركيب المتزامن أو على طريقة التركيب المتعاقب، هذا مع العلم أنه يمكن لنفس الطريقة أن توظف استراتيجيات مختلفة. وتقف مجموعة من العوامل المتفاعلة خلف اختيار الفرد لهذه الطريقة أو تلك.تتمثل هذه العوامل في: (أولا) ميل الفرد إلىإتقان نمط معين من أنماط التحويل أكثر مما يتقن نمطا آخر؛؛ (ثانيا)اعتيادهعلى استعمال نمط معين إذا كان يتقن النمطين معا؛ (ثالثا)يشمل هذا العامل شروط إنجاز المهمة المعرفية. وقد تتغير هذه الشروط كلما تغيرت التعليمات التي يتلقاها الفرد بخصوص كيفية معالجتها.
§         إن التخطيط والتحويل عمليتان مترابطتان فيما بينهما.
لهذا النموذج النظري أساسه الفيزيولوجي أيضا. فقد تبلور انطلاقا من نظرية لوريا Luria التي تؤكد أنالمنطقةالجبهية الأمامية من الدماغ هي المسئولة عن أداء وظيفة التخطيط. لقد أثبت هذا العالم بواسطة التجارب التي أجراها على عدد كبير من الأفراد أنه عندما تتعرض هذه المنطقة للأذى تضعف قدرة الفرد على التخطيط. ومن الآثار المترتبة عن ذلك أيضا حصول اضطراب على مستوى الإدراك الحسي-البصري، وضعف القدرة على التحكم في الانتباه وتوجيهه لانتقاء المدخلات المهمة، مما يتسبب في انخفاض مستوى الأداء. وتوصل أيضا إلىأنلكل من أسلوب التركيب المتزامنوأسلوب التركيب المتعاقب أساس فيزيولوجي، حيث أثبت أن لكل أسلوب منطقة خاصة به في الدماغ (Das, Kirby and Jarman, 1979 ; Das. 1984).
وتجدر الإشارة أخيرا إلى أن نظرية كيربي تبلورت خارج حقل التربية والتعليم،إلا أنها كانت تطمح منذ البداية إلى المساهمة في فهم طرق التحصيل والأداء لدى المتعلمين وأساليب التدريس وتطويرها. يعترف كيربي أن هذه » النظرية تشكلت قبل جمع المعطيات« ، ولكنه قام بفحصها في ضوء نتائج البحوث الميدانيةالتي أجراها مع زملائه في ميدان التربية والتعليم، ودعموها بنتائج البحوث التي أجريت في ميدان علم النفس الفارقي، وانطلقوا في بحوثهم الميدانية من افتراض وجود علاقة بين مستوى الذكاء ومستوى الأداء لدى التلاميذ. وصاغوا هذه الفرضية انطلاقا من مصادرة مفادها أن ما يحدد كلا من مستوى الأداء ومستوى الذكاء هيالعمليات المعرفية cognitive processes التي تشكل بنيتهما التحتية. تسعى هذه البحوث إلى التعرف على طبيعة المشاكل التي يعاني منها التلاميذ من أجل وضع برامج للتدخل في المؤسسات التعليمية لتصحيح سلوك المتعلمين وتطوير أساليب التدريس والتعلم وخاصة ما تعلق منها بالخطط والاستراتيجيات(Kirby, 1984b. p. 60).
2
Partager cet article
Repost0
25 janvier 2008 5 25 /01 /janvier /2008 12:17

2- البياجيون الجدد
لقد كان لعلم النفس ألمعلوماتي تأثيرعميق في حركة البياجيين الجدد. ولبيان ذلك سنحاول فيما يلي التعريف بأفكار اثنين من كبار ممثلي هذه الحركة، وهما روبي كيس Robbie Case، وكورت فيشر Kurt Fischer.وتجدر الإشارة إلى أن بعض الدارسين قاموا بجمع ومناقشة أعمال العديد من الباحثين الذين ينتمون إلى هذا التيار الفكري في مؤلفات باتت مشهورة(Kessen, 1984 ; Demetriou. 1988).
2-1- نموذج روبي كيس
أعلن روبي كيس Case بعبارة صريحة انتماءه إلى حركة البياجيين الجدد، وذلك حين قال إن أحسن وصف يمكن أن يوصف به موقفه من مسألة النمو كما طرحها بياجي هو أنه موقف « بياجي جديد»Piagetian-Neo. وبرر ذلك بقوله(Case, 1984 , p. 20):
 » إنني أعتقد مثل بياجي أن أحسن وصف يمكن أن توصف به آليات التفكير لدى الأطفال في مختلف المراحل النمائية هو أنها سلسلة من البنيات الذهنية تكون فيها كل بنية أكثر تطورا من سابقاتها. وكذلك أعتقد مثل بياجي أن شكل هذه البنيات ودرجة تعقيدها في أية مرحلة من مراحل العمر تظل ثابتة مهما تنوعت مضامين الحقول المعرفية (شريطة أن تتوفر للأطفال الظروف المناسبة للتعلم). ومع ذلك فإنني أعتقد، على خلاف ما ذهب إليه بياجي، أن البنيات الذهنية للأطفال يمكن التفكير فيها أحسن بواسطة المفاهيم التي تبلورت في حقل معالجة المعلومات والذكاء الاصطناعي كبديل للمفاهيم التي تبلورت في حقل المنطق الرمزي. ولابد أن يؤدي الاختلاف في طريقة وضع المفاهيم التي تصف البنيات الذهنية للأطفال إلى الاختلاف في طريقة بناء المفاهيم التي تصف عملية الانتقال من مرحلة نمائية إلى أخرى «        
وتعتبر نقط الاتفاق والاختلاف هذه هي السمات المشتركة المميزة للمفكرين البياجيين الجدد، إن ما يجمع بين هؤلاء الباحثين هو سعيهم إلى تصحيح نظرية بياجي في ضوء الإنجازات التي تحققت في ميدان علم النفس المعلوماتي، وإثرائها بالمفاهيم التي تبلورت في هذا المجال.
أخذ كيس Case بعض المفاهيم الأساسية التي تبلورت في حقل علم النفس المعلوماتي ووظفها لتأسيس نظرية تقترح تفسيرا جديدا للنمو كبديل للتفسير الذي قدمه بياجي. تركز هذه النظرية على مصادرة مفادها أن النمو المعرفي يتحقق على مستوى الاستراتيجيات أو ما يسميه «بنية التحكم في الأداء»executive control structure. هذا هو المفهوم المركزي في نظريته، وعرفه بأنه«خطة ذهنية لحل صنف من أصناف المشكلات»(Case, 1984 , p. 21). تنمو هذه البنية مع مرور الزمن، ويدل مفهوم النمو هنا على ازدياد درجة تعقيد البنية. فكلما ازدادت درجة تعقيدها انتقل الفرد إلى مرحلة جديدة من مراحل النمو. لا يحصل الانتقال، إذا نظرنا إليه في ضوء هذه النظرية، من خلال تجاوز بنية المرحلة السابقة، ولكن من خلال دمجها في البنية الجديدة وفقا لمبدأ التراتب. وهكذا، فإن المبدأ المتحكم في النمو المعرفي حسب نظرية كيس هو مبدأ الاندماج المتراتب لبنيات التحكم في الأداء hierarchical integration.كيف يتحقق ذلك في الواقع ؟
يرى روبي كيس أن جميع بنيات التحكم في الأداء تقوم على أساس تصور معين لظروف المشكلة التي تواجه الفرد.فعندما يجد الفرد نفسه أمام مشكلة ما، ثم يفكر في وضع الخطة المناسبة لحلها، فإن ما يحدد الخطة التي يضعها هو تصوره للظروف المناسبة لتطبيقها من جهة،وتصورهللوضعية المرغوب فيها التي تستهدفها الخطة من جهة أخرى. ويشترط أن يكون للفرد بالإضافة إلى ذلك تصور واضح عن الاستراتيجية التي ستوجه نشاطه عبر سلسلة من الإجراءات نحو تحقيق أهدافه. يمكن القول بعبارة أخرى إن ما يحدد بنيات التحكم في الأداء هي تصورات الفرد للوضعية التي تواجهه،  وللوضعيةالتي يرغب فيها، وللإجراءات التي تنقله من الوضعية الأولى إلى الوضعية الثانية. هذه هي الخصائص المشتركة بين جميع نظم التحكم في الأداء. وعلى الرغم من أن لهذه النظم بنية شكلية متماثلة فإنها لا تمكن الفرد من معالجة جميع أنواع المهام وحل جميع المشكلات. والدليل على ذلك هو أن الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين أربع وخمس سنوات يمرون بنفس المراحل عندما يعالجون مشكلة حسابيةيتطلب حلها توفر القدرة على التعامل مع الأعداد أو مشكلة يحتاج حلها إلى توفر القدرة على التعامل مع الأوزان، أو مشكلة تستلزم توفر القدرة علىتمييز نوع آخر من الكميات. ولكن هؤلاء الأطفال يجدون صعوبة في حل مشكلة مركبة تجمع بين بعدين مختلفين كالعددوالوزن، وذلك على الرغم من أن بنية التحكم في أداء المهمة المتعلقة بمعالجة الأعداد لا تختلف من حيث بنيتها الشكلية عن بنية التحكم في أداء المهمة المتعلقة بمعالجة الأوزان.
ويحصل الانتقال إلى مرحلة جديدة من مراحل النمو في حوالي السنة السادسة من العمر عندما يصبح الطفل قادرا على حل المشكلة المركبة من خلال دمج بنية التحكم في معالجة البعد المتعلق بالعدد ببنية التحكم في البعد المتعلق بالوزن على نحو متراتب، حيث يستعمل الهدف المتعلق ببنية التحكم في العدد من أجل حل مشكلة الوزن. هذا مع العلم أن الطفل البالغ من العمر أربع سنوات يمتلك القدرة على استخدام البنيتين معا، ولكنه يستخدم كل واحدة منهما على حدة لحل مشكلة بسيطة، ولا يستطيعالجمع بينهما لحل مشكلة معقدة. يتفق كيس Case مع بياجي وغيره من الباحثين في مجال علم النفس النمائي على أن الانتقال من المرحلة التي تنطلق من السنة الرابعة إلى المرحلة التي تنطلق من السنة السادسة من العمر يمثل التحول الرئيسي في البنية المعرفية بالمقارنة مع تحولات المراحل اللاحقة. ففي حوالي السنة السادسة من العمر تظهر الوظيفة المنطقية لدى الطفل حسبنظرية بياجي، وفي هذه اللحظة نفسها يظهر التفكير البعدي dimentional thought حسبنظرية كيس. وأما نمط التفكير الذي يميز المرحلة التي تمتد من السنة الرابعة إلى السنة الخامسة من العمر فيصفه كيس بأنه تفكير علائقي relational thought. ويحصل الانتقال إلى نمط التفكير البعدي عندما يصبح الطفل قادرا على التنسيق بين بنيات التحكم في الأداء المتوفرة لديه، وتنظيمها بشكل متراتب من أجل الإحاطة بمختلف أبعاد المشكلة.
وتحدث تحولات أخرى في الثامنة والعاشرة من العمر. ولكن هذه التحولات لا تضيف شيئا جديدا إلى البنية المتراتبة التي تشكلت في السنة السادسة، ولا تؤدي إلى ظهور نمط جديد من التفكير. يقول كيس بهذا الصدد:«إن التغير الذي يلحق طريقة اشتغال بنية التحكم في الأداء بعد سن السادسة ليس تغيرا نوعيا كبيرا،إن ما يحدث بعد هذه السن هو عبارة عن سلسلة من التغيرات النوعية الطفيفة. وتعتبر هذه التغيرات في الواقع امتدادا للتغير الذي حصل بين السنة الرابعة والسنة السادسة من العمر، والذي يتعاظم ويتسع مداه تدريجيا »(Case, 1984. p. 26). هكذا يتحقق النمو في جميع مراحل العمر. حيث يتم دمج البنيات السابقة بعضها ببعض بطريقة متراتبة، ويتولد عن ذلك نمط جديد من التفكير. ثم تتبلور البنية الجديدة بشكل تصاعدي عبر سلسلة من المراحل، ويتسع مداها أكثر في كل مرحلة جديدة، وتزداد قدرة الفرد على الإحاطة أكثر فأكثر بمختلف جوانب المشكلات التي تواجهه، ويأخذ بعين الاعتبار في كل مرة عددا أكبر من المتغيرات إلى أن تحصل قفزة نوعية أخرى في سلم النمو المعرفي. هذا هو المبدأ العام الذي يتحكم في عملية النمو.(Case, 1985 , 1992)
تمتد المرحلة الحسية-الحركية في نموذج كيس من صرخة الميلاد إلى الشهر الثامن عشر، تليها مرحلة التفكير العلائقي وتمتد إلى السنة الخامسة. وابتداء من السنة السادسة يظهر نمط التفكير البعدي ويستمر في النمو إلى أن يبلغ ذروته في السنة الحادية عشرة، حيث تبدأ مرحلة التفكير الشكلي أو المجردوالتي يستغرق نموها سنوات عديدة(Case, 1985). وفي كل مرحلة جديدة تزداد درجة تعقد بنية التحكم في الأداء، وتحصل الطفرة عندما يصبح الطفل قادرا على دمج البنيات المكتسبة بعضها  ببعض على نحومتراتب. ولكن، كيف يتسنى له ذلك ؟ ما هي العمليات التي تقف خلف القدرة على دمج البنيات ؟
يميز كيس بين نوعين من العمليات:» العمليات أو القدرات التي يأتي الكائن الإنساني وهو مجهز بها منذ الولادة«، »والقدرات التي لا يأتي الكائن الإنساني وهو مجهز بها منذ الولادة « (Case. 1984 . p. 27). ويرى أن النوع الأول من القدرات يظل ثابتا على الدوام يلعب دور اللامتغير الوظيفي functional invariant الذي تحدث عنه بياجي والذي تمثله عمليات الاستيعاب والتوافق والموازنة في نظريته. ويعتبر اللامتغيرالوظيفي العامل الأساسي الذي يتحكم في عملية  دمج البنيات، ويشمل،حسب كيس، القدرات التالية :
§         القدرة على وضع الأهداف؛
§         القدرة على استخدام الخطاطات schemes أو الخطط الذهنية المتوفرة وفقا لتسلسل جديد من أجل تحقيق الأهداف المرسومة؛
§         القدرة على تقييم نتائج الخطة في تسلسلها الجديد في ضوء الوضعية الراهنة والأهداف المسطرة؛
§         القدرة على هيكلة وتعميم الخطة الناجعة على التجارب المستقبلية وبشكل مقصود؛
§         القدرة على تذكر هذه البنيات (الخطط) التي تم صقلها بواسطة الممارسة المتكررة في المستقبل، ودعمها وهيكلتها باستمرار إلى أن تصبح جزءا من البنيات المتحكمة في الأداء.
Partager cet article
Repost0
24 janvier 2008 4 24 /01 /janvier /2008 12:22

تذكرنا هذه القدرات الفطرية،» التي يأتي الكائن الإنساني وهو مجهز بها منذ الولادة«بما قاله لوريا Luria وداس Das وكيربي Kirby عن التخطيط باعتباره وظيفة من وظائف الدماغ. ولكن كيس أضاف إليها قدرات أخرى تتميز بكونها عامة وفطرية إلى حد ما وهي:القدرة على حل المشكلات، والاستكشاف exploration، والتقليد imitationوالتفاعل المتبادل mutual regulation الذي يتجلى من خلال بعض السلوكات كالبسمة المتبادلة مثلا: تبتسم الأم لرضيعها فيبتسم لهابدوره. تظهر هذه القدرات في «سن مبكرة جدا»، خلال الشهر الأول أو الثاني بعد الولادة،ولكننالا نعرف على وجه الدقة ما إذا كانت فطرية أو مكتسبة، والحال أنه أدرجها في صنف العمليات التي يأتي الفرد مجهزا بها منذ الولادة. وبرى كيس أن هذه القدرات الأربع ضرورية لتشغيل العمليات السابقة الذكر وللتحكم فيها، وهي التي تؤدي إلى دمج البنيات المتوفرة لدى الطفل بشكل متراتب، وتدفعه إلى الارتقاء في سلم النمو من خلال إنتاج ببنيات جديدة أكثر تعقيدا وأكثر فعالية. يعتقد كيس أن عملية الدمج تتحقق بشكل تلقائي وبطريقة أوتوماتيكية، ولا يكون للراشدين أي دخل في ذلك. وهذا رأي لا يتفق معه العديد من الباحثين. وسوف نعود إلى مناقشة هذه المسألة في مناسبة لاحقة.
وفيما يتعلق بالقدرات التي لا يأتي الفرد وهو مجهزا بها منذ الولادة،فإن أكثرها أهمية في نظر كيس هي الذاكرة القريبة المدى أو النشيطة. يميز كيس في الذاكرة القريبة المدى بين الحيز الذي تشغله عملية معالجة المعلومات operating spaceوالحيز المخصص لمخزون الذاكرة القريبة Short Term Storage Space. وتجدر الإشارةهنا إلى أنكيس يستخدمكلمة»حيز« بالمعنى المجازي للدلالة على مدى قدرة الفرد على الانتباه، ويفترض وجود علاقة بين الحيز الذي يشغله مخزون الذاكرة القريبة المدى وبين عملية دمج البنيات، ومعنى ذلك أن نمو الذاكرة القريبة المدى يتيح للفرد إمكانية دمج البنيات بعضها ببعض والانتقال، بالتالي، من مرحلة إلى أخرى. ويطرح كيس، بالإضافة إلى ذلك، فرضية أخرى مفادها أن الطاقة الاستيعابية العامة للذاكرة النشيطة محدودة، ولا فرق في ذلك بين الطفل والراشد. لا توجد فروق، إذن، بين الراشدين والأطفال فيما يتعلق بمدى اتساع حيز الذاكرة القريبة المدى. ومع ذلكيفترض كيس وجود علاقة بينعامل السن ومدى اتساع الحيز الذي يشغله مخزون الذاكرة القريبة المدى. وهكذا، فكلما تقدم الفرد في السن إلا واتسع الحيز المخصص لذلك المخزون في نظره.
وانطلاقا من هذه الفروض، التي أكدتها نتائج البحوث التجريبية والميدانية التي قام بها كيس ومجموعته، يمكنأن نستنبط كل الوقائع والاحتمالات الممكنة. يمكن أن نفهم مثلا لماذا لا يستطيع طفل في الرابعة أو الخامسة من العمر توظيف المعارف المكتسبة لحل المشكلاتالحسابيةوالمشكلاتالمتعلقة بالوزن لمعالجة مهمة مركبة تشمل البعدين معا (العدد والوزن). ذلك لأن معالجة المهام المركبة يتطلب القيام بعمليتين مختلفتين في آن واحد، حيث يتعين على الطفل أن يحتفظ في ذاكرته بأهداف الخطة المتصلة ببنية التحكم في أداء المهمة المتعلقة بالوزن، وأن يقوم في نفس الوقت بتنفيذ خطته لحل المشكلة الحسابية كخطوة ضرورية، وأن يحتفظ بنتائجها لتنفيذ الخطةالمتعلقة بحل مشكلة الوزن. ولكن ذاكرته النشيطة لا تتحمل هذا العبء كله،ذلك لأن انتباهه ينصبعلى عملية معالجة المعلومات فيتسع الحيز الذي تحتله هذه العملية على حساب حيز المخزون. ولا يكون باستطاعته أن يدمج البنيتينمع بعضهما إلا بعد أن يتمكن من تقليص الحيز الذي تحتله عملية معالجة المعلومات، ثم يخصص الحيز المحررللمخزون. وهكذا، فإن نمو الذاكرة القريبة المدى لا يعني الزيادة في حيزها العام، بل يدل فقطعلىاتساع الحيز المخصص للمخزون على حساب الحيز الذي تشغله عملية معالجة المعلومات. وعندما يتسع حيز المخزون لاحتواء بنيتين مندمجتين تحصل الطفرة في النمو (Case. 1984). ولكن، ما هي العوامل التي تتيح الفرصة لاتساع حيز المخزون في الذاكرة القريبة المدى ؟
عندما تستحوذ عملية معالجة المعلومات على انتباه الفرد تضعف القدرة على الانتباه إلى ما يجب حفظه وتخزينه في الذاكرة. يحصل ذلك عندما يكون الفرد حديث عهد بالمهمة التي يتعين عليه إنجازها،مثله في ذلك مثل سائق سيارة مبتدئ، يركز انتباهه على عملية معينةولا ينتبه إلى ما يجري حوله من الأمور التي قد تشكل خطرا عليه، ويجد صعوبة في التحدث إلى من يرافقه، ويصاب بالإرهاق والإعياء بسرعة. ومع مرور الوقت يكتسب الخبرة والمهارة، ويتمكن من أداء العديد من العمليات بطريقة آلية في آن واحد، فيتحرر انتباهه ويتجه إلى أمور أخرى. وهذا ما يحدث للطفل، فمع كثرة الممارسة يكتسب القدرة على أداء العمليات المعرفية بمزيد من الكفاية والفعالية. وتؤدي القدرة على تحقيق تلك العمليات، أو ما يسميه كيسبالكفاية الإجرائية operational efficiency، إلى تحرير نسبة مهمة من الحيز الذي تشغله عملية معالجة المعلومات، ويصبح الحيز المحرر في متناول مخزون الذاكرة القريبة المدى.
ويرى كيسأنالممارسة وحدها غير كافية للارتقاء بالكفاية إلى المستوى الذي يحصل معه ذلك التحول،وافترض وجود عوامل أخرى ذات صلة وثيقة بمستوى النضج البيولوجي،يتعلق الأمر بتشكل ونمو غمد النخاعينmyelinization، وهو المادة التيتحيط بالألياف العصبية. ويعتبر تشكل غمد النخاعين مرحلة بالغة الأهمية في نمو الجهاز العصبي، ويأخذ نموه شكل موجات متتالية، تظهر كل موجة فيمرحلة من مراحل العمر. يساعد تنامي هذه المادة على ازدياد سرعة انتقال السيالة العصبية. يفترض كيس وجود علاقة بين نمو غمد النخاعين وازدياد القدرة على أداء العمليات المعرفية.وما يدل على ذلك في نظره هو وجود نوع من التطابق بين مراحل تشكل غمد النخاعين ومراحل النمو العقلي. وربما كان نمو هذه المادة العصبية هو المسئول عن بروز وتنامي القدرة على التفكير الشكلي المجرد لدى كل من المراهقين والراشدينعلى حد سواءCase. 1984b)).
يتفق روبي كيس مع رأي بياجي الذي يقول إن قدرات الأطفال محدودة. وإذا كان بياجي يعتقد أننزعة التمركز حول الذات هي العامل الأساسيالمسئولعن ضعف القدرة على معالجة المعلومات لدى الأطفال، فإن كيسيفسر هذه الظاهرة بعوامل لها علاقة بالإكراهات المرتبطة بالذاكرة القريبة المدىالتي لا تتسع لاستيعاب بنيات التحكم المندمجة التي تمكن من معالجة المهام المعقدة. يتعلق الأمر هنا بالنقص في الحيز المخصص لمخزون الذاكرة النشيطة. ومن آثار هذا العجز ضعف القدرة على التعلم في مراحلالنمو الأولى. وتقف العوامل المتصلة بنمو الجهاز العصبي خلف النقص الملاحظ في حيز الذاكرة القريبة المدى. تؤثر هذه العوامل في تنامي الذاكرة القريبة المدى وتحدد وتيرة نموها. يلتقي روبي كيس في هذه النقطة بالذات مع صاحب نظرية «الابستملوجيا البيولوجية»،. ويعتقد مثله أن النمو يسير في اتجاه خطي تصاعدي.. ومع ذلك يلحكيس على أهمية الدور الذي تلعبه التجربة والخبرة المكتسبة وعوامل المحيط في نمو الذاكرة القريبة المدى، إلا أنه يجعل تأثير هذه العوامل مشروطا بمستوى النضج. ويعتقد كذلكأن النمو يحصل بطريقة تلقائية، وهو ما يترتب عنه القول إن عملية التعلم لا تتحقق إلافي حالارتكازها على مبدأ التوجيه الذاتي، ولذلك يستبعد كيس أن يكون للراشدين أي دور في تنامي القدرة على التعلم. وربما جاء هذا الموقف كنتيجة منطقية للمغالاة في تقدير أهمية الدور الذي يلعبه عامل النضج. ومع انه أشار إلى أهمية الممارسة والمعارف المكتسبة والخبرة،إلا أنه غض الطرف عن الإكراهاتالمحتملة التي تخضع لها، كما أنه تحاشى الحديث عن الحدود التي ترسمها لها طبيعة التفاعل مع الغير. فقد يكون للدعموالتدخل الإرشادي الذي يتلقاه الطفل من الكبار دور مهم في تنظيم المعارف المكتسبة باعتباره الشرط الضروري لقيام الخبرة.
Partager cet article
Repost0
23 janvier 2008 3 23 /01 /janvier /2008 12:24

 

2-2- نموذج فيشر
لا يختلف النموذج الذي وضعه فيشر Fischer لتفسير نمو القدرات المعرفيةاختلافا كبيرا عن نموذج كيس.ولعل أهم ما يجمع بينهما هو الاتفاق حول المصادرة التي تقولإن ما يمكن للطفل أن يتعلمه في مرحلة معينة من مراحل العمر لا يتجاوز بعض الحدود. وأما الفرق الجوهري بينهما فيعود إلى اختلاف تصوراتهما للعوامل التي ترسم للقدرة على التعلم حدودها.فبينما يرى كيس أن الذاكرة القريبة المدى هي العامل الأساسي الذي يحدد ما يمكن للطفل أن يتعلمه، يعتقد فيشر أن درجة تعقد بنية المهارات، أو مستواها الأمثل optimal level، هي التي ترسم للتعلم لدى الطفل حدوده القصوى الممكنة..  
إن ما يميزنظرية فيشر هو عدم فصلها النمو عن التعلم. فقد كان بياجيوالبعض ممن ساروا على نهجه يفصلونعمليات النمو عن عمليات التعلم، ويركزون في بحوثهمعلى عملية النمو لاعتقادهم أن النمويسبق فعل التعلم ويوفر الشروط الضرورية لتحقيقه،وكأن التعلم لا يؤثر بدوره في عملية النمو. إن فصل النمو عن التعلم يدل على عدم اعترافهم بأهمية الدور الذي يلعبه العامل الاجتماعي في عملية النمو.
وكرد فعل ضد هذا التوجه اقترح فيشر ومجموعته نظرية أطلقوا عليها اسم «نظرية المهارات»skill theory، وهي نظرية تجمع بين النمو والتعلم.عبر فيشر Fischer وزميله بيب Pipp عن رأيهما في هذه المسالة بقولهما: «إننا نؤكد في عرضنا لنظريتنا على أن التعلم لا يتعارض مع النمو، كما أنعوامل المحيط لا تتعارض فيها مع العوامل المتصلة بالوحدة العضوية [ للفرد]. إننا لا نضع التعلم في مقابل النمو, ولكننا نتعامل معهما على أنهما مترابطان بصورة لا انفصام فيها»(Fischer and Pipp. 1984 , p.46). إن تنامي العمليات المعرفية في نظر هؤلاء الباحثين هو نتاج التفاعل بين عوامل المحيط والعواملالذاتية. ويرتكز تفسيرهم للنمو على مفهومين أساسيينتمت صياغتهما في ضوءأطروحة التفاعل بين الفرد والمحيط،، وهما: مفهوم المستوى الأمثل optimal level ومفهوم اكتساب المهارات skill acquisition.
2-2-1- نمو المهارات
يدل مفهوم المستوى الأمثل على الدرجة القصوى التي يمكن أن يصل إليهامستوى تعقد المهارات التي يمكن التحكم فيها،ولا يمكن بلوغ المستوى الأمثل إذا كانت ظروف المحيط لا تساعد الفرد على استثمار طاقاته إلى أقصى حد ممكن. وأما عملية اكتساب المهارات فتشير إلى القواعد التي تستخدم لتحويل مهارة معينة لجعلها أكثر تعقيدا وفعالية من خلال ربطها بمهارات أخرى.تأخذ المهارات، من وجهة النظر هذه، شكل بنية دينامية متحولة، تتحرك فتتحرك معها عجلة النمو والتعلم.
وأما المبادئ التي تتحكم في دينامية بنية المهارات فهي:التعويضsubstitution، والتركيزfocalisation، والتأليف compounding، والتمييز differentiation، والتناسق المتبادل intercoordination. ويعتبرفيشر وزملاؤهمبدأ التناسق المتبادل هو المسئول الأول عن نقل بنية المهارات من مستوى معين إلى مستوى أكثر تعقيدا. إن هذا المبدأ هو الذي يحدد كيفية التأليف بين المهارات المكتسبة للحصول على بنية جديدة أكثر تعقيدا وفعالية. وتدلنا المبادئ الأخرى، في نظرهم، على المراحل الفرعية التي تمر بها بنية المهاراتخلال كل مرحلة من المراحل النمائية الكبرى. تقوم هذه المبادئ مقام اللامتغير الوظيفي functional invariant في نظريتهم Fischer and Pipp. 1984 , p.46)).
تتحكم المبادئ الخمس السابقة الذكر في عملية اكتساب المهارات وتحويلها، وتحدد مسار نموهاوالمراحل الكبرى والصغرى التي تمر بها. وتجدر الإشارة إلى أن الأفراد الذين ينتمون إلى نفس الفئة العمرية لا يتوفرون بالضرورة على نفس المهارات،ولذلك يتحركون خلال سيرورتهم النمائية في اتجاهات مختلفة. ومعنى ذلك أن النمو لا يسير دائما في اتجاه خطي تصاعدي كما يعتقد بياجي. وما يدل على ذلك، في نظر فيشر، هو كيفية تعاقب مراحل النمو الفرعية التي تتخلل المراحل النمائية الكبرى المطابقةلمراحل العمر. فقد لاحظ فيشر وجود فروق جوهرية في كيفية تفاعل الأفراد الذين ينتمون إلى نفس الفئة العمرية مع موضوع معين، وتبين له أن طريقة معالجة المعلومات تختلففي تفاصيلها من فرد إلى آخرفي سياق كل مرحلة من المراحل النمائية الفرعية. ويعتبر هذا الاختلاف من أهم مظاهر الفروق الفردية.يفسر فيشر الفروق بين الأفراد في النمو والتعلم بمجموعة منالمتغيرات الشخصية ومتغيراتالمحيط الاجتماعي. ويؤدي التفاعل بين هذه المتغيرات إلى تشعب مسالك عملية النمو، وتسير في اتجاهات مختلفة.ومن هذا المنطلق عرف فيشر وزميله كندي النمو  بأنه:(Fischer and Kennedy, 1997, p 118)  :
» كل نوع من أنواع التغير المنتظم، ولا يشمل فقط التصاعد أو التراجع في اتجاه خطي، بل يشمل أيضا الأنماط المعقدة كالتذبذب بين نقطتين أو الارتقاء الذي يظهر عبر سلسلة من القفزات والكبوات «
ولعل ما يدعم هذه الفكرة هو التنوع الملاحظ في سلوك الأفراد الذين يعالجون نفس الموضوع، والاختلاف الكبير في الأفكار التي يشكلونها عنه. يرى فيشر أن المفاهيم العامة، كمفهوم القدرة أو الكفاية، لا تعكس ذلك التنوع. إن مفهوم القدرة لا يسمح بالتمييز في الأداء بين عدة مستويات بشكل دقيق، ويرجع السبب في ذلك إلى صعوبة التمييز في القدرة ذاتها بين مستويات عديدة ومتنوعة. وعلى العكس من ذلكيمكن التمييز في المهارة بين عدة مستويات، ومن ثمة يمكن إقامة علاقة بين مستويات الأداء ومستويات المهارة، بحيث يمكن القول إن مستوى الأداء يتحدد بالمستوى الذي يقف عنده الفرد في استخدامه للمهارة التي يوظفها لمعالجة مهمة معينة.
وبالإضافة إلى ذلك فإنه غالبا ما تكون المفاهيم العامةالمستخدمة لوصف السيرورة النمائية مضللة بسبب اختزالها الشديد للواقع وإغفالها للتفاصيل. لذلك يبدو النمو وكأنه يسير في اتجاه خطي تصاعدي عندما يصفه الباحثون في ضوء المفاهيم العامة، وعندما تؤخذ التفاصيل بعين الاعتبار يبدو مساره متعرجا ومتشعبا. يمكن القول بعبارة أخرى إنه عندما يجري التحليل على مستوى المقولات العامة يبدو النمو كما لو كان يسير في اتجاه خطي تصاعدي، وعندما يجرى التحليل على مستوى السلوك الفعلي بأبعاده المتعددة والمتنوعة يبدو مساره متشعباوغير خطي. يستعمل فيشر صيغة بلاغية خاصة عندما يتعرض لوصف النمو المتشعب المسالك كبديل عن الصيغة التقليدية التي تشبهه بالسلم، حيث شبهه بنسيج الشبكة وأغصان الشجرة للتأكيد على ديناميته المتذبذبة ومده وجزره في كل مرحلة من مراحل العمر. يدل هذا التشبيه على أن الفرد يمر خلال كل طور من أطوار النمو بعدة مراحل مختلفة ومتزامنة، تعكس كل مرحلة منها درجة تعقد المهارات المستخدمة لمعالجة المهام المرتبطة بحقلمعين من الحقول المعرفية التي يتمتع كل واحد منها بنوع من الاستقلال النسبي الذي لا يلغي التقاطع مع غيره من الحقول الأخرى. بإمكان كل مدرس أن يلاحظأن مستوى نمو المهارة التي يوظفها التلميذ لمعالجة القضايا المرتبطة بمادة دراسية معينة قد يختلف عن مستوى نموهافي مجالات دراسية أخرى،يبدو التلميذ وكأنه ينتقلمنمرحلة عمريةإلى أخرىعندما ينتقل من مادة دراسية إلى أخرى. يدل ذلك على أن وتيرة النمو تختلف باختلاف المجالات المعرفية، ويدل أيضا على أن طبيعة الموضوع تؤثر في بنية المهارات، كما يدل على أن المشكلة لا تكمن فقط في القدرة على نقل المهارة من حقل إلى آخر، ويدل أخيرا على أن «العقل ليس وحدة كلية، ولكنه يتكون من أجزاء مستقلة»Fischer and Kennedy. 1997. p. 123))، بحيثيمكن التأليف في كل وضعية متميزة بين بعض العناصر أو الأجزاء لتشكيل بنية جديدة من المهارات تكون على درجة معينة من التعقيد.
.يشبه فيشر وكندي مسالك النمو بشبكة نسجت من الحبال. يتكون كل حبل منها من مجموعة من الخيوط المجدولة. تمثل الخيوط فيها المهارات، وتمثل الجديلة بنيتها،وترتبط كل جديلة من جدائل الشبكة بمجال معين من مجالات النشاط المعرفي. تدل كل جديلة على مجموعة من المهارات التي تنمو كل واحدة منها عبر سلسلة من المراحل. وفي كل مرحلة جديدة من المراحل النمائية يعاد تركيب العناصر، وتدمج البنية السابقة في البنية الجديدة بطريقة متراتبة وفقا لما تنص عليه نظرية كيس Case تماما. وكذلك يمكن الحصول على بنية أكثر تعقيدا من خلال الجمع بين جديلتين مما يؤدي إلى ازدياد فعالية الفرد في معالجة المهام المتصلة بحقل معين من الحقول المعرفية. وعلى إثر ذلك تحصل الطفرة في النمو
وتحصل الطفرات أيضا في الحالات التي تكون فيها البنيات مستقلة عن بعضها البعض ومتفاوتة في درجةنموها بسبب انتمائها إلى مختلف المجالات المعرفية.ليس من المستبعد، إذن، أن يطرأ التحول في مختلف البنياتفي نفس الفترة الزمنية، وذلك على الرغم من التفاوت الموجود في درجة نمو مختلف المهارات التي تندرج في تكوينها. ولكن هذه الطفرات المتزامنة تأخذ أشكالا عديدة ومتنوعة كالتشعب، وتغيير الاتجاه، والاندماج.يدل التنوع في شكل الطفرات على التباين الموجود بين مختلف الحقول المعرفيةفي كيفية تنظيم المهارات، كما يدلعلى أن المهمة المعرفية تؤثر في المهارة وتحدد مستوى نموها.
Partager cet article
Repost0
22 janvier 2008 2 22 /01 /janvier /2008 12:28
تميز نظرية المهارات في السيرورة النمائية بين ثلاث مراحل كبرى أو ثلاثة أطوار: الحسي-الحركي، والتمثلي، والتجريدي. وفي كل طور من هذه الأطوار تمر المهارة خلال نموها بعدة مراحل،وتزداد درجة تعقدها كلما انتقلت من مرتبة إلى أخرى. وتشتمل الأطوار الثلاثة على عشر مراتب، وتمثل المرتبة الأخيرة في كل طور بداية الطور الموالي.
فخلال المرحلة الحسية-الحركية،التي تمثل الطور الأول في السيرورة النمائية، يكون الطفل في البداية قادرا على إدراك وفهم سلوك بسيط واحد، ثم إنه لا يلبث أن يكتسب القدرة على ربط هذا السلوك بسلوك آخر بسيط ليألف منهما وحدة سلوكية متميزة. وخلال المرحلة الثالثة من الطور الأول يكتسب القدرة على التأليف بين الوحدة السلوكية السابقة ووحدة سلوكية أخرى في إطار نسق متكامل من الوحدات السلوكية الحسية-الحركية. وفيالمرحلة الأخيرة من هذا الطور يصبح قادرا على التأليف بين مختلف الأنساق السلوكية الحسية-الحركية ليشكل نسق الأنساق الذي يدل على أنه استبطن مختلف أنواع السلوك الحسي-الحركي وحولها في ذهنه إلى تمثلات. فعندمايتمكن من إدراك العلاقة بين سلوك الطبيب وسلوك المريض، مثلا، يتمثل دور الطبيب. يحصل هذا الأمر في حوالي السنة الرابعة أو الخامسة من العمر.
ويلج الطفل طوره النمائي الثاني في حوالي السنة السادسة أو السابعة من العمر، عندما يكتسب القدرة على الجمع بين تمثلين. ويستمر في التأليفبين التمثلات على نحو تصاعدي، وتزداد درجة تعقد المهارات أكثر فأكثرإلى أن يتشكل نسقمتكامل من التمثلات. وفي المرحلة الأخيرة من الطور الثاني يؤلف بين أنساق التمثلات ليبني نسق الأنساق الذي يضاهي المفهوم المجرد.يحصل هذا التحول في حوالي السنة العاشرة أو الثانية عشرة من العمر.
وينطلق طور التجريد في حوالي السنة الرابعة عشرة أو السادسة عشرة من العمر عندما يكتسب الفرد القدرة على الربط بين المفاهيم في إطار نسق مجرد. ويبلغ التجريد درجة عالية في نهاية الطور الثالث عندما يتشكل نسق الأنساق المجردة الذي يدل على قدرة الفردعلى إدراك المبدأ المنظم للوقائع التي تختزلها المفاهيم. يحصل هذا التحول في حوالي الرابعة والعشرين أو السادسةوالعشرين من العمر(1983; (Fischer and Pipp. 1984 ; Fischer Hand and Russel.
يمكن القول بصفة عامة إنه كلما ازدادت درجة تعقد المهارات وبلغت حدها الأقصى في نهاية كل طور إلا وحصلت الطفرة التي تنقل الفرد من التمثل إلى المفهوم، ومن المفاهيم إلى المبدأالعام المنظم للمعلومات.وتجدر الإشارة إلى أن تحديد المراحل الزمنية قدتم في ضوء نتائج البحوث الميدانية التي أجريت على عينة من الأفراد الذين ينتمون إلى الشرائح الوسطى من المجتمع الأمريكي.
 والملاحظ أن مراحل النمو التي كشف عنها فيشر تشبه إلى حد كبير المراحل التي وصفها كيس Case. ولكن التشابه بينهما يقف عند هذا الحد. هناك في العمق اختلاف جوهري بينهما فيما يتعلق بتصوراتهما لآليات النمو. فبينما يرى كيس أن السيرورة النمائية تتوقف على تنامي الطاقة الاستيعابية للذاكرة القريبة المدى، يعتقد فيشر أن دينامية النمو تتحدد قبل كل شيء بالقدرة على تنظيم السلوكات والمهارات. وبينما يرى كيس أن المهارات تظل ثابتة بعد تشكلها، يؤكد فيشر على أن عملية تشكل المهارات هي عملية مستمرة لا تتوقف في أية مرحلة من المراحل النمائة إلى أن تصل إلى الحدود القصوىالتي يرسمهاالمستوى الأمثل في كل طور.
2-2-2- مستوى النمو الأمثل
يتبين في ضوء نموذج فيشر أن بنية المهارات تسير خلال مراحل نموها بوتائر متفاوتة في اتجاهات مختلفة. ولا يحصلالنمو في إطار هذا النموذج بطريقة تلقائية،على عكس ما يوحي به نموذج كيس،لأن بنية المهارات تخضع في سيرورتها النمائية لتأثير مجموعة من العوامل العاطفية-الوجدانية، وتتحدد بمدى قوة الحوافز ومقدار الدعم الذي يتلقاه الفرد من الوسط الذي يعيش فيه. تساعد هذه العوامل على الزيادةفي وتيرة النمو،وتحدد موقع الفرد فيما يسميه فيشر وزملاؤه بمدى النمو development rangeالذي يتراوح بين الحد الأدنى الذي يدل عليه مفهومالمستوى الفعلي functional level  والحد الأقصىالذي يدل عليه مفهوم المستوى الأمثل optimal level.
ومن هذا المنطلقعرف فيشر مدى النمو بأنه المسافة الفاصلةبين المستوى الفعليوالمستوى الأمثل لنمو المهارات في مجال معين من المجالات المعرفية خلال مرحلة معينة من مراحل العمر. ففي ظل الشروط المثلى بفصح سلوك الطفلعن الحد الأقصى الذي وصل إليه نمو قدراته العقلية ومهاراته. ويرتفع مستوى الأداء ليصل إلى حدوده القصوى الممكنة عندما يجد الطفل من يوجهه ويساعده على التعلم، ويدعم مبادراته وسعيه إلى تحقيق أهدافه،وعندما يكون قد اعتاد على العمل وأصبح قادرا على تنفيذ المهامبكيفية فعالة بسبب كثرة الممارسة وقوة الحوافز.
يدل مفهوم المستوى الأمثل على أقصى ما يمكن للطفل أن يحققه من إنجازات في ظل الشروط المثلى.ويدل مفهوم المستوى الفعلي على ما يمكنه إنجازه في غياب هذه الشروط، أي في الظروف العادية. يدل مفهوم المستوى الأمثل إذن على الحد الأقصى الذي يمكن أن تصل إليه درجة تعقد المهارات في الظروف المساعدة؛ويدل مفهوم المستوى الفعلي على الحد الأقصى الذي يصل إليه نمو المهارات في الظروف العادية. ولابد من الإشارة في هذا السياق إلى أن مفهوم النمو الأمثل هو مفهوم مشتق من مفهوم «منطقة النمو القريب المدى»the zone of proximal development  الذي بلوره العالم السوفياتي فيكوتسكي قبل عدة عقود خلت(Vygotsky, 1978; Fischer Bullock. Rotenberg and Raya, 1993 )
يؤدي مفهوم المستوى الأمثل وظيفة أساسية في نظرية المهارات. يقوم هذا المفهوم مقام المؤشر الذي يدل على طبيعة النمو ومراحله في نظرية فيشر، ويستعمل باعتباره المعيار الذي يبين ما إذا كان الفرد قد انتقل بالفعل إلى مرحلة نمائية جديدةأم أنه لازال حبيس المرحلة التي يوجد فيها.وتكمن أهمية هذا المفهوم أيضا في أنه يأخذ بعين الاعتبار عوامل المحيط،ويبرز دورها في تحديد وتيرة النمو وفي حدوث الطفرات. فعندما يعتاد الفرد على العمل في الظروف المثلى يرتفع مستوى الأداء ليصل إلىحدوده القصوى، وترتفع وتيرة النمو تبعا لذلك، وتحصل الطفرةفي النمو بعد فترة قصيرة نسبيا، ويرتفع المستوى الأمثل لينتقل إلى الأفق الجديد الذي يتجه إليه بصره. وعندما يكون مستوى الأداء مطابقا للمستوى الفعلي أو غير بعيد عنه تتباطأ وتيرة النمو، ويحصل التغير بطريقة تدريجيةعلى امتداد فترة زمنية طويلة نسبيا. وخلال الفترة التي يتجدد فيها المستوى الأمثل تميل بنية المهارات إلى التغير بسرعة في الحقول المعرفية المألوفة. وعندما يتجدد المستوى الأمثل ويصبح قائما بالفعل تتباطأ وتيرة نمو المهارات في تلك الحقول المعرفية، ويكون ذلك بداية طور جديد، وهكذا دواليك.
ولا تتوقف السيرورة النمائيةأبدا، إذكثيرا ما يجد المرء نفسه أمام مهمة جديدة تتطلب معالجتها توظيف المهارات المكتسبة في بعض الميادين التي لم يعتد على التعامل معها بدرجة كافية، وهنا يجد نفسه مضطرا إلى صقل تلك المهاراتوالاعتياد على تطبيقها من أجل تعميماستعمالها على الرغم من أن الظروف التي تحيط به لا توفر له من أسباب الدعم والمساعدة ما يكفي لتحقيق هذه الأهداف. ويؤدي الجهد المبذول لصقل المهارة وتعميم استعمالها إلى تشكل بنية جديدة من المهارات، وعندئذ تكونالشروط المعرفية قد تهيأت لارتفاع المستوى الأمثل وانفتاح الفرد على أفق جديد.يمكن القول بناء على ذلك إنه يتعين على الفرد أن يُعِدّ لكل حقل من الحقول المعرفية التي يقتحمها لأول مره بنية خاصة من المهارات تتناسب مع الحقل الجديد.وتتحدد درجة تعقد البنية الجديدةبطبيعة المستوى الأمثل المتاح.
Partager cet article
Repost0
21 janvier 2008 1 21 /01 /janvier /2008 12:34

يلعب المستوى الأمثل دورا مهما في عملية النمو، فهو الذي يحدد ما يمكن للفرد أن يتعلمه، ويحدد المهارات التي يمكنه اكتسابها،ويتحكم في القدرة على تطبيق قواعد التحويل الخمس، وينبئ بالمرحلة النمائية التي يمكن للفرد ولوجها. فإذا كانت المرحلة الأخيرة من الطور الأول، مثلا، هي التي تمثل المستوى الأمثل بالنسبة لطفل في الرابعة أو الخامسة من العمر، فسيكون باستطاعة هذا الطفل أن يتمثل دور الطبيب، ولكنه لن يكون قادرا على التنسيق بين المهارات التي تؤهله لتمثل مختلف الأدوار من أجل إدراك علاقة التفاعل بينها. وكذلك الحال بالنسبة لقواعد التحويل الأربع الأخرى، فإن إمكانية تطبيقها من أجل إحداث نقلة في بنية المهارات تتحدد بطبيعة المستوى الأمثل في مرحلة معينة من المراحل النمائية. فإذا كان الطفلفي بداية طوره النمائي الثانيقد اكتسب القدرة على تطبيق قاعدة التأليف على مستوى الأدوار للخروج بفكرة التفاعل بينها، فإنه لن يكون قادرا على تطبيقهاخلال تلك المرحلة على مستوى التفاعل بين وحدات الأدوار المتفاعلة التي تم بناؤها،ولذلك تظل كل وحدة من وحدات الأدوار المتفاعلة منفصلة عنبعضها البعض. تمثل كل وحدة من وحدات الأدوار المتفاعلة في المرحلة الأولى من الطور الأول نسقا من التمثلات. ولن يتمكن الطفل من التأليف بين الأنساق التمثلية إلا بعد مضي حوالي ثلاث أو أربع سنوات، أي بعد أن يكتسب القدرة على بناء نسق الأنساق التمثلية الذي يضاهي المفهوم المجرد.
وهكذا، فإن كل مستوى أمثل جديد يجعل الفرد أمام تحديات جديدة، لأنه يرفع سقف المطالب فيما يتعلق بالقدرات التي يتعين على الفرد اكتسابها ليكون قادرا على تطبيققواعد التحويل الخمس. ذلك لأن تطبيق قواعد التحويل من أجل تغيير بنية المهارات الأكثر تعقيدا يتطلب مجهودا أكبر من المجهود الضروريلتغيير بنية المهارات الأقل تعقيدا، ولذلك يعجز الفرد على تطبيقها في بداية كل مرحلة جديدة. ومع مرور الوقت يرتفع العجز تدريجيا، ويبدأ بتطبيق القواعد البسيطة كالتعويض والتمييز والتركيز إلى أن يكتسب القدرة على التنسيق والتأليف. ولا تتشكل هذه القدرة إلا بعد أن تظهر مقومات المستوى الأمثل الجديد في أفق قريب المدى.
يخضع النمو المعرفي، من وجهة النظر هذه، لإكراهات المستوى الأمثل لا لإكراهات الذاكرة القريبة المدى.. وتجدر الإشارة إلى وجود علاقة بين المستوى الأمثل وعامل السن: ففي كل مرحلة من مراحل العمر يتشكل المستوى الأمثل من جديدفي نفس الفترة الزمنية على وجه التقريب لدى جميع الأفراد العاديين الذين ينتمون إلى نفسالفئة العمرية والذين يعيشون في ظروف اجتماعية متماثلةـ ويمر جميع أفراد الفئة بنفس المراحل، وتحدث كل طفرة في فترة محددة من فترات العمر بالنسبة إليهم جميعا. تحدث الطفرة الأولى لدى الأطفال في السنة الرابعة من العمر، وتحدث الطفرة الثانية في السنة السادسة، وتأتي الطفرة الثالثة في حوالي السنة الحادية عشرة من العمر. يتطابق هذا التحقيب مع التحقيب الذي اقترحه كل منروبي كيس Case وجون بيغس Biggs وغيرهما (Siegler,. 1997). وتظهر الطفرات لدى المراهقين والراشدين في حوالي السنة الخامسة عشرة، والتاسعة عشرة، والخامسة والعشرين Fischer. 1984 . p. 51)). وفي أعقاب كل طفرة تزداد بنية المهارات قوة وفعالية، ويرجع الفضل في ذلك إلى انبثاق المستوى الأمثل الجديد في الأفق القريب.
ومن المزايا المترتبة عن ازدياد درجة تعقد بنية المهارات المصاحب للطفراتاتساع الطاقة الاستيعابية للذاكرة القريبة المدى. ذلك لأن الذاكرة النشيطة تصاب بالإتخام في نهاية كل طور من الأطوار النمائية بسبب تضاعف عدد الوحدات أو العناصر المعرفية التي يتعين على الفرد معالجتها في آن واحد. ففي نهاية الطور الأول، مثلا، تزداد قدرة الطفل على تمثل الوقائع، فينتج من التمثلات ما لا يستطيع التحكمفيه، ويزداد الضغط على الذاكرة القريبة المدى.ذلك أنه كلما تضاعف عدد الوحدات التي يتم إنتاجها إلا وتقلصت الطاقة الاستيعابية للذاكرة القريبة المدى،ويتواصل الضغط على الذاكرة النشيطة إلى أن تستنفذ طاقتها. وعندما يصبح الفرد قادرا على التأليف والتنسيق بين مجموعة من الوحدات يتحرر جزء مهم من حيز الذاكرة القريبة المدى لفترة من الزمن، ثم إنها لا تلبث أن تصاب بالإتخام من جديد كلما ازداد الضغط عليها. وعندما يتمكن الفرد من التنسيق بين التمثلات في إطار نسق متكامل يتحرر جزء من حيز الذاكرة النشيطة مرة أخرى، ثم تصاب بالإتخام عندما تتكاثر الأنساق التي تشكلت على ذلك النحو. وعندما يتمكن الفرد من اختزالأنساق التمثلات في مفهوم مجرد تتسع طاقتها الاستيعابية من جديد، حيثيتشكل النسق الكلي الذي يساعد على تحريرها، وهكذا دواليك. يدل ذلك على وجود علاقةبين الذاكرة القريبة المدى والمستوى الأمثل. يتوقع في ضوء هذه النظرية أن تزداد قدرة الذاكرة القريبة المدى كلما ارتفع المستوى الأمثلوكلما ازدادت درجة تعقد بنية المهارات في كل مرحلة من المراحل النمائية. يقول فيشر وبيب بهذا الصدد(Fischer and Pipp. 1984, p. 71):
 »إن ارتفاع المستوى الأمثل يزيد من قدرة الفرد على معالجة المعلومات، لكن ازدياد القدرة لا يترتب عن الزيادة في كمية المعلومات التي يتم الاحتفاظ بها في الذاكرة النشيطة، بل عن التغير الحاصل في طبيعة البنية التي يمكن التحكم فيها. إن بروز المستوى الأمثل الجديد يمنح القدرة للفرد على إعادة تنظيم مهاراته بطريقة أكثر فعالية. وهكذا، فإن حصول نقلة في المستوى الأمثل يزيد من موارد الذاكرة، لأن المستوى البنيوي الجديد يؤدي إلى معالجة المعلومات بفعالية أكبر «    
تتضمن هذه الفقرة إشارة إلى نظرية كيس Case المتعلقة بنمو الذاكرة القريبة المدى. يبدو أن فيشر وزميله يتفقان معه حول نقطة واحدة على الأقل، وهي أن قدرة الذاكرة القريبة المدى تنمو مع مرور الزمن، ولكنهما يختلفان معه فيتفسير هذه الظاهرة. فبينما يرى كيس أن الزيادة في فعالية الذاكرة القريبة المدى تتجلى من خلال قدرة الذاكرة على استيعاب عدد أكبر من المعلومات في كل مرحلة جديدة، يعتقد فيشر وزميله بيب Pipp أن الأمر لا يتعلق بكمية المعلومات بل بكيفية تنظيم المهارات. وليس معنى ذلك أن كيس لا يأخذ بعين الاعتبار الجانب الكيفي في عملية النمو، فقد سبقت الإشارة إلى مدى أهمية مبدأ دمج البنيات في نظريته، وهو ما ألح عليه فيشر بدوره في حديثه عن مبادئ التحويل. والفرق بين فيشر وكيس هو أن هذا الأخيريفسر عجز الذاكرة القريبة المدى بتزايد كمية المعلومات التي يتعين على الفرد معالجتها في لحظة واحدة، ويرتفع العجز عندما يكتسب القدرة على دمج عمليات معالجة المعلومات بعضها مع البعض الآخر، مما يؤدي إلى اتساع الطاقة الاستيعابية للذاكرة القريبة المدى، فيرتفع مستوى الأداء؛بينما يرى فيشر أن الفرق بين البنية الجديدة والبنية السابقة لا يكمن في كمية المعلومات التي يمكن لهذه البنية أو تلك أن تستوعبها،بل في درجة الفعالية في معالجة المعلومات التي يرسم المستوى الأمثل الحدود القصوى التي يمكن أن تصل إليها في كل مرحلة نمائية.
خلاصة
على الرغم من الاختلافات الجوهرية بين أفكار كل من فيشر وكيس وغيرهما من البياجيين الجدد ثمة نقاط تقاطع ذات معنى بينهم. ولا عجب في ذلك إذا علمنا أنهم ينطلقون جميعا من مرجعية مشتركة. ترجع جذور أفكارهم جميعا إلى بياجي وعلم النفس المعلوماتيوعلم النفس الفارقي الذي جعلهم يأخذون بعين الاعتبار الفروق الفردية في النمو ويحاولون تفسيرها. ويستطيع المحلل أن يلمس في أعمال بعضهم إلى أي حد كان تأثير عالم النفس السوفياتي فيكوتسكي Vygotskyسائدا وقويا. لقد أمدهم هذا المفكر الذي سبق عصره بتصوراته وأفكاره ببعض المفاهيم الأساسية التي مكنتهم من إدراج عوامل المحيط في معادلات النمو والتعلم.
ومع أن هؤلاء الباحثين ينطلقون جميعا من أرضية واحدة فإنهم تعاملوا معها بطرق مختلفة، وتأثروا بها بدراجات متفاوتة. وهذا شيء طبيعي، وهو ما يفسر نقاط التلاقي والتقاطع والاختلافبينهم. فهم يعتقدون مثل بياجي أن متغيرات السن والنضج ترسم لقدرة الطفل على معالجة المعلومات في كل مرحلة من مراحل العمر حدودا لا يمكنه تجاوزها،وتحدد بذلك قدرة الفرد على اكتساب المهارات والتعلم. ويرون جميعا أن الإكراهات التي تفرضها عوامل السن ومستوى النضج الفيزيولوجي تخفوطأتها مع مرور الزمن، وتزداد القدرة على التعلم واكتساب المهارات. ولكنهم يختلفون في تصورهم لآليات النمو، حيث ركز كيس على أهمية الدور الذي تلعبه الذاكرة القريبة المدى، بينما أولى فيشر أهمية خاصة لمفهوم المستوى الأمثل. وقد يرجع هذا الاختلاف إلى تباين تقديراتهمالمدى أهمية الدور الذي تلعبه كل من العوامل الفيزيولوجية وعوامل المحيط في السيرورة النمائية. وما يمكن ملاحظته بهذا الصدد هو أن فيشر يولي أهمية كبيرة لعوامل المحيط التي يختزلها مفهوم المستوى الأمثل الذي أخذه عن فيكوتسكي. إن هذه العوامل هي التي تلعب الدور الرئيسي في تنامي قدرة الذاكرة القريبة المدى في نظرية فيشر،بينما تظل هذه العوامل ثانوية في نظرية كيس بالمقارنة مع المكانة التي تحتلها العوامل الفيزيولوجية فيها. ولذلك نجد كيس يميل أكثر إلى الرأي القائل بأن النمو يحصل في الغالب بطريقة تلقائية، ويميل بالتالي إلى تمجيد التعلم الذي يرتكز على مبدأ التوجيه الذاتي، ويقلل من أهمية دور الراشدين في عملية النمو والتعلم، ويرى، علاوة على ذلك، أن بإمكان الفرد أن يعمم استخدام المهارة المكتسبة ليشمل جميع الحقول المعرفية. وفي المقابل يلح فيشر على أهمية الدعمالذي يتلقاه الطفلمن الراشدين، ويعتقد أن لكل حقل من الحقول المعرفية بنية خاصة من المهارات. ولعل التباين في تقدير أهمية الدور الذي تلعبه كل من العوامل الاجتماعية وعوامل النضج الفيزيولوجي في السيرورة النمائية هو ما يفسر اختلاف تصوراتهما لسيرورة النمو العقلي المعرفي، حيث إنها تأخذ شكلا خطيا تصاعديا في نظرية كيس، بينما تأخذ شكل شبكة معقدة في نظرية فيشر.
                                                                                       
Partager cet article
Repost0

Recherche

Archives

&Amp;#1593;&Amp;#1606;&Amp;#1575;&Amp;#1608;&Amp;#1610;&Amp;#1606; &Amp;#1575;&Amp;#1604;&Amp;#1605;&Amp;#1602;&Amp;#1575;&Amp;#1604;&Amp;#1575;&Amp;#1578;

دروس في الفلسفة

Liens