Overblog
Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
23 mai 2011 1 23 /05 /mai /2011 20:38

الدورالقيادي في الأنظمة التعليمية أمام تحديات التكيف

 

أحمد أغبال

مع انتقال العالم من عصر الآلة إلى عصر المعلومات والعولمة، ودخوله مرحلة التغيرات السريعة وجدت الأنظمة التعليمة نفسهاث تغيير جذري في بيتها، وآليات اشتغالها، وفلسفتها وبرامجها من أجل التكيف مع البيئة الجديدة. وتأتي القيادة في مقدمة العناصر التنظيمية التي يجب أن يشملها التغيير الذي تفرضه التحديات البيئية. ذلك لأن تنفيذ برامج الإصلاح والتغيير يتطلب البدء بإرساء آلية للتحكم في عملية التغيير وقيادتها وتوجيهيا. ولما كانت ألأنماط القيادية التقليدية التي تبلورت في مراحل الاستقرار البيئي غير مؤهلة لقيادة التغيير بات من اللازم إعادة تحديد أهم خصائص القيادة لجعلها قادرة على مواجهة تحديات التكيف من خلال اكتساب القدرة على إعداد الموارد البشرية ل مضطرة لإحدااستقبالها والتعامل معها واستيعابها.

يهدف هذا العرض إلى بيان أهمية الدور القيادي في مرحلة التغيرات السريعة التي يشهدها العالم، وتحديد الموضوعات التي يجب أن تتركز عليها البحوث المستقبلية في هذا المجال. ولتحقيق هذا الهدف سنحاول في البداية التعرف على طبيعة التغير واتجاهه من أجل استنباط الاستراتيجيات القيادية الممكنة لمواجهة تحديات التكيف.

1- مفهوم التغير

انشغل علماء الاجتماع الأوائل وفلاسفة القرن التاسع عشر (هيجل، ماركس، كونت، الخ) بسيرورة المجتمعات والتنبؤ باتجاه التاريخ. وأما اليوم، فقد أصبح طموح العلماء متواضعا للغاية، إذ لم يعد أحد منهم يهتم بقضايا التغير الاجتماعي على المدى البعيد. لقد أصبح التحليل السوسيولوجي لدينامية المجتمع محصورا في الكشف عن منطق التغير في نظم التفاعل التي يمكن للباحث أن يحيط بها في حدود الإمكانيات المتوفرة له. وأما المنهجية المعتمدة فإنها ترتكز على مصادرة أساسية مفادها أن فهم التغير الاجتماعي يستلزم الرجوع إلى العناصر الأولى التي يتألف منها نظام التفاعل (الفاعلون الاجتماعيون). ويكون الهدف هو صياغة نموذج نظري لتفسير كيفية حدوث التغير في مجال معين من مجالات النشاط الاجتماعي. ومن أمثلة ذلك النموذج الذي صاغه عالم الاجتماع السويدي هاغرستراند Hagerstrand في دراسته للتغير الحاصل في نظام الإنتاج الزراعي على إثر إدخال تقنية جديدة وإشاعتها بين المزارعين. تتبع الباحث الكيفية التي انتشرت بها التقنية الجديدة، واختزلها في نموذج يرتكز على المبادئ التالية(أنظر بهذا الصدد:  Boudon 1997, pp. 167-168) :

  • انطلق مسلسل التغيير عندما استعمل أحد المزارعين التقنية الجديدة؛
  • يجتمع الفاعلون الاجتماعيون (المزارعون) في لقاءات ثنائية؛
  • للفاعلين استعدادات متباينة لقبول التقنية الجديدة، تتوزع بطريقة يفترض أن يكون الباحث على علم بها؛
  • يزداد احتمال ميل الفاعلين إلى قبول التقنية الجديدة كلما ازداد عدد اللقاءات التي يمارس فيها نوع من التأثير الإيجابي؛ 
  • تختلف درجة احتمال حصول اللقاء بين الأفراد، وتتحدد بالمسافة التي تفصل بعضهم عن البعض الآخر والتي يفترض أن يكون الباحث على علم بمقاديرها.

تصف هذه المصادرات سلوك الفاعلين الاجتماعيين على المستوى الميكروسكوبي، وتكمن أهميتها في كونها تساعد الباحث على استنباط منطق التغير في نظم التفاعل المخصوصة، وتعطينا فكرة عن التحليل السوسيولوجي المعاصر لعملية التغير الاجتماعي. يخضع هذا التحليل للمبادئ التالية :

  • تحليل الظواهر التي تقع على مستوى نظام التفاعل في مجال معين؛
  • يتم التعامل مع الظواهر الناشئة باعتبارها ظواهر مترتبة عن سلوك الفاعلين في النظام؛
  • ولكن الظواهر الملاحظة على مستوى النظام الكلي لا علاقة لها بإرادة الفاعلين ومقاصدهم. لذلك يمكن القول عنها بأنها ظواهر ناشئة (عن التفاعل)؛
  • يأخذ سلوك الأفراد شكل فعل موجه ضمنيا نحو غاية معينة؛
  • يندرج هذا الفعل ضمن ما يسمى بنظرية الفعل المعقد.

يفترض في ضوء هذا التحليل أن تكون للفرد قصدية. فهو يجد نفسه أمام اختيار الأخذ بالتقنية الجديدة أو عدم الأخذ بها، وعليه أن يتخذ القرار المناسب. يختلف هذا القرار عن القرار العقلاني الذي يتخذه الشخص المستنير الذي يضرب لكل شيء حسابا. إن الفرد في سياق هذا التحليل ليس متيقنا من أنه سيجني ربحا من التقنية الجديدة. ولذلك يتخذ القرار في ضوء التفاعل مع الآخرين. فبما أنه لا يستطيع أن يبني قراره على أساس موضوعي، يلجأ إلى التشاور مع من يثق بهم من الفاعلين الاجتماعيين. هذا مع العلم أن الأفراد يتحركون في وضعيات تختلف فيها المتغيرات التي تؤثر في تقديراتهم لتكاليف التقنية الجديدة وعوائدها. وكذلك تختلف الاستراتيجيات المعتمدة للحصول على المعلومات الضرورية لاتخاذ القرار المناسب. وتعتبر الثقة والاستشارة إحدى هذه الاستراتيجيات. ولكن هذه الاستراتيجية لا تعصم من الوقوع في الخطأ. فقد تفضي الاستشارة إلى نتائج متناقضة، وقد تتعارض مع التقاليد الموروثة التي تتمتع بقوة الإقناع بسبب قدرتها على الاستمرار والثبات والصمود في وجه التقلبات الظرفية لأمد بعيد (Boudon, 1997).

من وراء هذا التحليل تتراءى الصورة المعقدة للفاعل الاجتماعي. تتداخل في تكوين هذه الصورة عناصر ذاتية(الوعي والإرادة والقصدية) ومتغيرات الوضعية التي تخرج عن سيطرة الفرد. ولذلك تنشأ الظواهر الجمعية عن التفاعل بين الأفراد. حيث يجد الفرد نفسه مضطرا إلى التفاعل مع غيره. وعن هذا التفاعل تنشأ الظواهر التي تتجاوز الأفراد. يمكن القول بناء على ذلك إن فهم سلوك الفاعل الاجتماعي يستلزم اللجوء إلى نظرية للفعل تأخذ بعين الاعتبار الطبيعة المعقدة لهذا الفعل الذي يختلف عن السلوك العقلاني للنموذج المثالي للفاعل الاقتصادي homo_oeconomicus. إن الفعل الاقتصادي يميل على العموم إلى أن يكون فعلا عقلانيا. وأما سلوك الفاعل الاجتماعي فإنه غالبا ما تتداخل فيه العناصر العقلانية مع العناصر غير العقلانية. فقد يكون هذا الفعل عقلانيا على المدى القريب، وغير عقلاني على المدى البعيد، وقد تترتب عنه نتائج عكسية غير متوقعه.

نخلص من ذلك كله إلى القول إن آليات التغير في نظم التفاعل تقع على مستوى العلاقات البيشخصية. وبالتالي فإن إحداث التغيير في نظام معين، كنظام التعليم مثلا، يتطلب إرساء آليات للتأثير الشخصي. وتعتبر القيادة إحدى أبرز هذه الآليات. لا يحدث التغيير في نظم التفاعل بمجرد أن توضع التصاميم والخطط العقلانية ويعمد إلى تنفيذها بالاعتماد على الوسائل التقنية وحدها. ذلك لأن هذه النظم غالبا ما يمتزج فيها العقلاني باللاعقلاني. وعندما يتم التركيز على الجانب العقلاني، من غير أن يأخذ البعد العاطفي-الوجداني بعين الاعتبار، تظهر المقاومة، وتتصلب المواقف والاتجاهات السلبية نحو الإصلاح والتغيير.

1-1- مقاومة التغيير

هناك تصور شائع عن المدرسين بأنهم قوة محافظة تقاوم التغيير. والمقصود بالمقاومة رفض الانخراط في مسلسل التغيير. تولد المقاومة ردود فعل لدى دعاة الإصلاح والتغيير تتمثل في اتهام المدرسين بالتقاعس، والتكاسل، والاسترخاء، والتعلل، وفقدان القدرة على الإبداع والتجديد، وانعدام النظرة الواقعية إلى الأمور. ويتهمهم المدرسون من جهتهم بالسلطوية، والتعالي، والانفراد بالقرار. وهكذا يحتد الصراع بين الطرفين، ويتعثر الإصلاح. ولذلك كان من المفيد التعرف على الأسباب الكامنة خلف مقاومة التغيير.

يرى واطسون (Watson, 1969) أن» كل القوى التي تساهم في المحافظة على الثبات في الشخصية أو في النظام الاجتماعي تعتبر من جملة القوى التي تقاوم التغيير... إن الميل إلى الإنجاز وتحقيق الأهداف، والميل إلى المحافظة على الوجود، والعودة إلى التوازن هي ميول محبذة، لأنها تمكن من استمرار الهوية ، والأفعال السديدة، والحضارة والثقافة  « (ص 488). إن المقاومة، من وجهة النظر هذه، هي مقاومة للتغير في حد ذاته من أجل الحفاظ على التوازن. إن الخوف من فقدان التوازن هو سبب المقاومة العميق. ولذلك كان التغيير في نظر واطسون شيئا غير مرغوب فيه أصلا.

وعلى العكس من ذلك، يرى افريد (Fried, 1980) أن التغيير ليس ممكنا فحسب، ولكنه مطلوب وضروري أيضا، لأنه ينعش تجاربنا العاطفية-الوجدانية والمعرفية، ويثير خيالنا، ويمدنا بالطاقة التي تحرك تجاربنا الشعورية للخروج من الرتابة. »إن غياب التغيير، في نظره، يجعلنا نشعر وكأننا نموت موتا بطيئا« ( ص 15-16).

وهنا يطرح السؤال: هل يقاوم الناس التغيير أم يطلبونه ؟ وهل هناك إمكانية التوفيق بين الموقفين ؟ بإمكاننا أن نصل إلى حل معقول للإشكالية المطروحة إذا نحن قمنا بإعادة تحديدها باعتبارها مسألة تنطوي على مفارقة لا على تناقض. يبدو في ضوء هذا التحديد أن الناس يسلكون وفقا لهذا الموقف أو ذاك حسب ما تمليه عليهم الملابسات الظرفية. فقد يسعون إلى التغيير بعزم شديد، وقد يقاومونه بقوة. وربما تزامنت الرغبة في التغيير مع مشاعر القلق والإحجام.

فإذا كان المدرسون يقاومون التغيير في حد ذاته، مثلهم في ذلك مثل أية فئة اجتماعية أخرى، فإنهم يقاومونه أيضا تجنبا للخسارة المتوقعة التي قد يتسبب فيها. والواقع أنه غالبا ما تكون المقاومة مجرد رد فعل ضد الخسارة المتوقعة. ذلك لأن دعاة التغيير يطالبون المدرسين بالإقلاع عن عاداتهم وأساليبهم المعهودة في العمل، وتغيير أدوارهم وتصوراتهم لقضايا التربية والتعليم التي تنسجم مع تمثلهم القيم المهنية. وإذا كانوا يعترفون بأهمية وجدوى الأساليب الجديدة، فإن ما لا يستسيغونه هو أن يتم إدراجهم في قائمة الأشياء المستهدفة في استراتيجية التغيير. يدل ذلك على أن معايير العمل لا تنسجم دائما مع التجارب الشعورية للأفراد. وبسبب وجود الفجوة بين المعايير والتجارب الشعورية يميل الأفراد إلى التكتم على مشاعرهم. فقد يظهر الفرد ولاءه للمهنة في الوقت الذي يعيش فيه تجربة شعورية خاصة لا تنسجم في توجهاتها مع معايير العمل، وتتحول هذه المعايير، وربما القيم المهنية كلها، إلى قوة تكبت التجارب الشعورية، فيمسك الفرد عن التعبير عن مشاعره، ويتعذر التواصل بينه وبين غيره. وهكذا يتحول البعد العقلاني في نظام التفاعل إلى قوة خفية تعيق مجهود الإصلاح والتغيير. وأما محرك هذه العملية فهو الخوف من الخسارة المتوقعة التي تهدد الاعتبار الذاتي للفرد وصورته عن ذاته.

والواقع أن التغيير قد يجلب الفوائد مثلما يجلب الخسارة. ولا يهمنا هنا ما إذا كان مفيدا بالنسبة لفئة معينة ومضرا بمصالح فئة أخرى طالما اقتصر الحديث على أفراد فئة متجانسة، وهي فئة المدرسين. ومع أن التغيير يحمل في طياته الإيجابي والسلبي، فإن دعاة الإصلاح لا يبشرون إلا بالربح، وهو ما من شأنه أن يولد مشاعر الحذر في نفوس المدرسين الذين قد لا يرون فيه إلا الخسارة. وأما الخسارة التي ترعب المدرسين فهي، في نفس الوقت، خسارة واقعية ومتخيلة. ينطبق هذا الحكم على الربح المتوقع أيضا. ولا يمكن الحسم فيما إذا كانت هذه الأمور واقعية أو خيالية ما لم ينخرط المدرسون في تجربة التغيير. إن تصورهم للخسارة لا يستند، في الواقع، إلى أي معيار موضوعي لتقدير حجمها وآثارها السلبية على الحياة المهنية والشخصية. فمن خلال معايشة التجربة يستطيعون تحديد قيمة الخسارة بالمقارنة مع قيمة العوائد الإيجابية. وربما بدت لهم أقل بكثير مما كانوا يتوقعون. ويدركون بالتالي أن مخاوفهم، وإن كانت مبررة، فإنها كانت تتجاوز الحدود المعقولة.

إن ما يجب على دعاة التغيير أن ينتبهوا إليه هو أن توقع الخسارة، وما يرتبط بها من مشاعر الخوف، هو من التجارب الشعورية التي يجب تفهمها. إننا نخاف أن نفقد ما ينبني عليه توازننا واعتبارنا الذاتي. إن فقدان شيء عزيز علينا يولد في نفوسنا مشاعر الأسى، والحزن، والكرب، والغيظ، والإثم، والخزي، والعار. ومما يترتب عن هذه المشاعر الميل إلى جلد الذات وجلد الغير. ومن ثمة ينشأ الميل إلى الشكوى. وسرعان ما تتحول الشكوى إلى اتهام غير معقلن، ثم يتحول الاتهام إلى نقد معقلن في محاولة لإعادة التوازن إلى الذات. النقد، في هذه الحالة، وسيلة لإثبات الوجود واستعادة الاعتبار الذاتي. إن مشاعر الحزن والأسى جراح عميقة، والنقد بهذا المعنى بلسم لمداواتها، إنه جزء لا يتجزأ من التجارب الشعورية المرتبطة بعملية التغيير. ولذلك يجب تفهم هذا النقد، وإقامة قنوات للتواصل مع الفاعلين التربويين المتخوفين من التغيير. وهو ما يتطلب وضع استراتيجية واضحة للتواصل يكون هدفها هو حصر المخاوف ضمن حدود معقولة. يمكن تحقيق هذا الهدف من خلال إقامة حوار مفتوح تتاح فيه الفرص للأفراد للتعبير عن انشغالاتهم ومخاوفهم من خلال إثارة النقاش حول حسابات الربح والخسارة.

والملاحظ أن استراتيجيات التواصل التي يضعها المسئولون في الأنظمة التعليمية، باعتبارها جزءا من آلية تدبير الإصلاح، غالبا ما يكون هدفها هو التوعية بقضايا الإصلاح الذي يتعاملون معه بشكل مجرد دون التعرض لامتداداته على مستوى التجارب الشعورية للفاعلين التربويين المعنيين بالإصلاح. هكذا نجد المسئولين في النظام التعليمي المغربي، مثلا، ينظمون الحملات "التحسيسية" التي أطلقوا عليها اسم "منتديات الإصلاح" ليجعلوا منها مناسبة لإلقاء خطب لا تخلوا من النرجسية، تناقلها مختلف وسائل الإعلام، ومع ذلك لم تصل أصداؤها إلا إلى فئة قليلة من الفاعلين التربويين. نظمت هذه المنتديات وفقا لبرنامج أعد سلفا في الإدارة المركزية، يهدف إلى "التذكير" بأهداف الإصلاح، و"التعريف بالإنجازات"، وكذا "التعريف بآفاق النظام التعليمي"، الخ، حسب ما ورد في وثيقة نشرتها وزارة التربية الوطنية والشباب. وعندما يرد الحديث عن العوائق يكتفي الخطاب الرسمي المتداول في إطار استراتيجية التواصل البيروقراطية باستعراض بعض الإكراهات الموضوعية كالنقص في الموارد المالية والبشرية وفي البنية التحتية والتجهيزات وغير ذلك من المعيقات التي لا علاقة لها بشكل مباشر بنظم التفاعل في المؤسسات التعليمية. ويكتفي الخطاب الرسمي بالتعبير عن الأسف من »  تأخر إدماج الفاعلين التربويين والشركاء الاجتماعيين في المساهمة في تفعيل مقتضيات الإصلاح وتحقيق أهدافه « و »تردد مشاركة بعض الأطراف والفاعلين التربويين، ممن يمتلكون مهارات وكفاءات تربوية قيمة«    [1]. يتجلى ذلك أيضا من خلال ما عبرت عنه اللجنة الخاصة بالتربية والتكوين حين لاحظت  »أن العناية الخاصة التي حظيت بها الأوضاع المادية والاجتماعية لأسرة التعليم لم يرافقها انخراط قوي لأعضائها في تفعيل جوانب الإصلاح المرتبطة بمهامهم «   [2]. إنه الشعور بالخيبة.

ومن هنا يطرح السؤال: كيف يمكن قيادة التغيير من اجل إقناع المترددين وتبديد مخاوفهم ؟ يتعلق الأمر هنا بمسألة تدبير الموارد البشرية في المنظمات التعليمية خلال مراحل الإصلاح والتغيير. وتجدر الإشارة بهذا الصدد إلى أنه لا يوجد نوع واحد من التغيير (أنظر على سبيل المثال: (Rechard and Prichard, 1992 ;Nadler and Tushman, 1995 ; Quinn, 1996 ; Boudon, 1997). والملاحظ أن المنظمات التعليمية عبر العالم تميل إلى هذا النوع  أو ذاك من أنواع التغيير. ويترتب عن ذلك ميلها إلى استخدام هذا النوع أو ذاك من أساليب التدبير التي تتناسب مع متطلبات التغيير المراد إحداثه. فقد تكون خطط التغيير من نوع الخطط القريبة المدى أو من نوع الخطط البعيدة المدى. كما أنها قد تختلف من حيث درجة العمق والاستمرارية أو القطيعة مع الماضي. وكذلك تشتد المقاومة أو تخف حسب نوع التغير المراد إحداثه. وقبل ان تطرق لمسألة قيادة التغيير سوف نستعرض في البداية أواع التغيير.

1-2- أنواع التغيير

يميز الباحثون في هذا الإطار بين نوعين أساسين من التغير: التغير التدريجي incremental change  والتغير العميق deep change. يتحقق النوع الأول وفقا لاستراتيجية متسلسلة الخطوات، كل خطوة فيها هي عبارة عن تعديل محدود يدعم الخطوة السابقة ويكملها، حيث يفترض أن يؤدي كل تعديل جديد إلى تحسين أداء المنظمة بشكل تدريجي. يرى روبرت كوين أن هذا النوع من التغيير »غالبا ما يكون محدود المدى، قابلا للارتداد... وناذرا ما يتسبب في اضطراب الأنماط المعهودة، فهو امتداد للماضي«  (Quinn, 1996, p.3). يمكن القول بعبارة أخرى إنه تغير طبيعي، أو لنقل إنه جزء من آلية اشتغال المنظمة، لأنه يساعدها على الاشتغال بطريقة هادئة وفعالة. ومن التعديلات التي يمكن إحداثها فيما يتعلق بآلية اشتغال المنظمات المدرسية يمكن أن نذكر على سبيل المثال ابتكار طرق جديدة للدفع بآباء التلاميذ إلى الاهتمام أكثر بدراسة أبنائهم، وتحسين عمليات التفاعل بين المدرسين، وتقوية روح التعاون بينهم، ومساعدتهم على الحصول على معلومات وافية عن التلاميذ لتحسين عملية التفاعل معهم. يتحقق ذلك من خلال تنظيم ندوات تجمع المدرسين من مختلف التخصصات يكون هدفها بلورة تصور مشترك حول مختلف القضايا المرتبطة بعمليات التعليم والتعلم. إن التعديلات التي يتم إحداثها على مستوى عمليات التفاعل لا تؤدي إلى حدوث نقلة جوهرية في طريقة اشتغال المنظمة المدرسية، وإن كانت تساعد على تحسين أدائها نسبيا. يشمل التغيير المتدرج الحلول "الترقيعية" التي تستهدف  »رفع درجة التلاؤم والانسجام بين مختلف العناصر التي تتكون منها المنظمة «  (Nadler and Tushman, 1995, p. 22).

ومع أن التغيير المتدرج يؤثر بشكل من الأشكال في العلاقات وعمليات التفاعل بين الأفراد إلا أنه يختلف اختلافا جوهريا عن التغيير العميق الذي يحدث قطيعة مع الماضي. ذلك لأن التغيير العميق يحدث نقلة جوهرية في طريقة اشتغال المنظمة من خلال تغيير هويتها أو نظامها. إنه تغيير عسير وصعب، لآن تكاليفه بالنسبة للأفراد تكون باهظة للغاية. يقول روبرت كوين بهذا الصدد:  »يختلف التغيير العميق عن التغيير المتدرج من حيث انه يستلزم طرقا جديدة في التفكير والسلوك. فهو يشمل مجالا واسعا، ويحدث قطيعة مع الماضي، وليس قابلا للارتداد. إن المجهود المبذول لإحداث التغيير العميق يلحق الأذى بأنماط الفعل المعهودة، ويتطلب المجازفة وقبول المخاطر «  (Quinn, 1996,p. 3).

ذلك لأن برامج التغيير العميق تنفذ وفقا لمقاربة تقوم على معايير جديدة، وتستهدف إعادة هيكلة النظام التعليمي بناء على مصادرات ومبادئ جديدة. ومما يترتب عن تطبيق هذه المقاربة تغيير المنهاج وطرق العمل، وإعادة توزيع الموارد، وخلق نظام لجمع ومعالجة البيانات، إلى غير ذلك من الإجراءات التي تحدث قطيعة مع النظام السابق، والتي تؤدي إلى تغيير أنماط التفكير والسلوك لدى الفاعلين التربويين. حيث يجد المدرسون أنفسهم مضطرين لتغيير أساليبهم في التدريس والتقويم، ويجد التلاميذ أنفسهم في وضعية تغيرت فيها طبيعة العمل المدرسي والمهارات المطلوبة، ونوعية الأداء المرغوب فيه، ومقدار المسئولية الملقاة على عاتقهم. ويضطر الآباء، من جهتهم، إلى التكيف مع الوضعية الدراسية الجديدة لأبنائهم. تستدعي المقاربة الجديدة إعادة النظر في علاقة المدرسة بمحيطها، ونشر الوعي لدى أفراد المجتمع المحلي بالتغير الحاصل في طريقة اشتغال المؤسسات التعليمية لجعلهم أكثر قابلية لفهم آثار التغيير على أبنائهم، ومعرفة ما يتوقع منهم القيام به إزاءهم في ضوء متطلبات التغيير. وهكذا يتسع مجال التغيير ليشمل الأبعاد الداخلية والخارجية للعملية التعليمية-التعلمية.

والملاحظ أن الناس لا يرغبون دائما في التغيير الجذري العميق. ولكن قانون التكيف يفرض هذا النوع من التغيير. لقد أدت الثورات التيكنولوجية المعاصرة إلى إحداث تغير جذري في المحيط الخارجي للمنظمات المدرسية. يتجلى ذلك بالخصوص في التغيير الحاصل في بنية سوق الشغل وفي البنية الاقتصادية على العموم. حيث أصبحت عروض العمل الروتيني، الذي يتطلب إنجازه مهارات معرفية بسيطة، في تناقص مستمر. وفي المقابل ازداد الطلب على القوى النشيطة ذات المهارات المعرفية العالية، البالغة التعقيد. ولذلك لزم أن تعمل الأنظمة التعليمية على مواكبة هذه التحولات، وأن تجعل من القدرات المعرفية العالية والكفاءات التي ازداد عليها الطلب هدفها الأساسي. ومن هنا ظهرت الحاجة إلى تغيير المنهاج والبرامج، وأساليب التدبير والتدريس والتعلم، ونظم التقويم. لقد أصبحت الحاجة إلى التكيف مع الظروف المتقلبة تستلزم تغيير الباراديغم التربوي. والمفصود بذلك تغيير المصادرات، والأهداف، وأنماط السلوك والتدبير والتنظيم، ومجالات التركيز الاستراتيجية. إن التغير الحاصل على مستوى بنية المحيط الخارجي يستلزم إحداث تغيير بنيوي عميق في المنظمات المدرسية لتتمكن من تحقيق وظيفة التكيف الخارجي من أجل الحفاظ على البقاء. والحقيقة أن هذا النوع من التغيير عسير ومؤلم. إن تحديات التكيف، كما يقول هايفز ولوري  »هي مشكلات شمولية ليست لها حلول جاهزة «  .(Heifetz and Laurie, 1997, p. 124) إن معالجة هذه المشكلات تحتاج إلى وضع معايير تنظيمية جديدة، وإرساء نظم للدعم من أجل إحداث التغير المطلوب والتحكم فيه. إن التغير الحاصل في المحيط يستدعي بالضرورة إحداث تغيير مناسب على مستوى منظومة القيم والمعتقدات التي تقوم عليها تصوراتنا للتعليم والتعلم. والمقصود بذلك تغيير الثقافة التنظيمية والثقافة المدرسية تغييرا جذريا. ولا يتحقق ذلك إلا من خلال إرساء آليات جديدة لقيادة التغيير.

2- الدور القيادي

إن تحديات التكيف تستدعي ابتكار طرق جديدة لمعالجة المشكلات المطروحة في عالم يتميز بالتغيرات السريعة وعدم اليقين والغموض. ويعتبر مجال القيادة هو المجال الأول الذي يحتاج إلى طرق جديدة للتعامل مع المشكلات. ومعنى ذلك أنه يجب البدء بتغيير نمط القيادة نظرا لأهمية الدور القيادي في المنظمات المدرسية وغيرها من المنظمات الأخرى. إن مساعدة المنظمة المدرسية على التكيف الخارجي في عالم متقلب، تتوقف على مدى قدرة القيادات على اكتساب مهارات وقدرات جديدة تؤهلهم لاستيعاب التحديات البيئية والتعامل معها بشكل واقعي في ضوء متطلبات الدور القيادي، لما له من تأثير عميق وبعيد المدى في مجال الأداء الوظيفي للمنظمات. وقبل التطرق للقضايا المتعلقة بقيادة التغيير، نود في البداية التعرف على الأدوار المتوقعة لقيادات المنظمات في مواجهتها للتحديات البيئية.

2-1- القيادة التقليدية

لقد اعتاد الناس على الربط بين القيادة والسلطة الشكلية. وأفرز هذا التصور الأحادي الجانب أسطورة القائد-البطل، وذلك على الرغم من أن السلطة الشكلية لا تؤهل الفرد بالضرورة إلى اكتساب القدرة على التأثير. ومع افتراض وجود قائد يجمع بين السلطة الشكلية والسلطة الكاريزمية فإنه من المستبعد أن يحرك عملية التغيير ويتحكم فيها بمفرده في عصر لم يعد فيه مكان لفكرة البطولة. ولذلك دعا العديد من الباحثين إلى ضرورة التخلي عن فكرة القائد-البطل والأخذ بنظرة القيادة ذات القاعدة العريضة، على اعتبار أن هذا النمط القيادي جزء لا يتجزأ من آلية التحكم في عملية التغيير في المنظمات المدرسية بالخصوص.

تنسجم فكرة القائد-البطل أو نظرية الرجل العظيم مع نظرية السمات التي تربط القيادة بشخصية القائد. ترتبط القيادة، من وجهة النظر هذه، ببعض السمات الفطرية التي تتحول في ظروف معينة إلى مهارات قيادية. ومن هذه السمات الذكاء، وروح المبادرة، والبادرة، والحزم، والطموح، وقوة الإرادة، والاتزان الانفعالي، والثقة بالنفس، والميل إلى المخالطة الاجتماعية والمشاركة الوجدانية، على غير ذلك من السمات التي يمكن اختزالها في مفهوم النضج الشخصي. وأما المهارات التي يتعين على القائد اكتسابها فهي :

 

  • القدرة على اتخاذ القرارات وإصدار الأوامر؛
  • القدرة على إدارة الاجتماعات وتنظيم النقاش وتوجيهه؛
  • القدرة على الإقناع والتأثير، وتتطلب نوعا من الذكاء الاجتماعي، والاتزان الانفعالي، وضبط النفس، والقدرة على تفهم مشاعر الأفراد مع الحزم عند الضرورة؛
  • القدرة على حل المشكلات، وتتطلب توفر القائد على قدر مهم من الذكاء؛
  • القدرة على تنظيم المهام، وإدارة العمل، وتحديد الأهداف وتوجيه الجهود نحو تحقيقها؛
  • القدرة على التنبؤ بالمشكلات قبل وقوعها والعمل على تفاديها؛
  • الاستعداد للقاء أفراد المجموعة متى رغبوا في ذلك، ومناقشة ما يطرحونه من القضايا التي تشغل بالهم.

وأما الدوافع التي تحرك هذا النوع من النشاط القيادي فهي الرغبة في إثبات الذات، ونيل تقدير الجماعة، إلى جانب الرغبة في تحقيق أهداف المجموعة والرغبة في الارتقاء عبر مراتب السلطة.

ولقد أدت المغالاة في تقدير أهمية السمات الفطرية في بروز الدور القيادي لبعض الأفراد إلى تشكل الصورة المثالية للقيادة، والبحث، في ضوء هذه الصورة، عن الأشخاص الموهوبين، أولئك الأبطال الذين يتوقع منهم أن ينقذوا الناس، ويقودونهم نحو الخلاص. وعندما يرحل البطل، تعود الأوضاع إلى سابق عهدها، ويحصل الارتباك والاضطراب في حياة المجموعة إلى حين عودة "المهدي المنتظر". تتغذى هذه النظرة الرومانسية إلى القيادة من الثقافة السائدة الضاربة الجذور في وجدان الفرد والجماعة.

لا بد من إحداث قطيعة مع هذا التصور الرومانسي الذي لم يعد يتلاءم مع متطلبات الاستجابة للتحديات البيئية. يقول هايفتز ولوري (Heifetz and Laurie, 1997, p. 124) :

 » لإحداث التغيير، يتعين على هيئة الإدارة أن تضع حدا لنمطها السلوكي المعهود، وذلك بأن تطرح فكرة القيادة في شكل حلول. ومع أن هذا التوجه طبيعي للغاية... فإن موقع المسئولية، فيما يتعلق بحل المشكلات المرتبطة بتحديات التكيف التي تواجه الشركات، يجب أن ينتقل إلى مجموعات العمل. إن الحلول المتعلقة بتحديات التكيف لا تنبثق عن الطاقم الإداري وحده، بل عن الذكاء الجماعي للموظفين في جميع المستويات، والذين هم في حاجة إلى أن يكون كل واحد منهم موردا بالنسبة لغيره مهما كان موقعه، يتعلم منه طريقته في الوصول إلى الحلول « 

وخلاصة القول، إن إرادة التغيير، عندما تقتصر على شخص واحد أو عدد قليل من الأشخاص، يزداد احتمال الاصطدام بينها وبين إرادة العاملين في المنظمة للحفاظ على أنماطهم السلوكية وعاداتهم في العمل.

2-2- القيادة في عصر التحولات السريعة

لقد اعتادت القيادات الإدارية في مجتمعنا لفترة طويلة على ممارسة وظائفها في بيئة هادئة نسبيا. ومع تزايد وتيرة التغير في المحيط الخارجي للمنظمات المدرسية، مالت الكفاءة الإدارية للقيادات إلى الانخفاض. هذا بالإضافة إلى أن القيادات الإدارية لم يكونوا قد استشعروا الحاجة من قبل إلى اكتساب وتطوير المهارات والقدرات الضرورية لقيادة التغيير. وظلوا يمارسون أدوارهم الإدارية في نطاق محدود (تنفيذ المذكرات والتعليمات، برمجة الأعمال، مراقبة سير العمل، الخ)، ولا يتقاسمون أدوارهم مع غيرهم. وشاع نمط القيادة الفردي

ومع دخول العالم مرحلة التغيرات السريعة، ظهرت الحاجة إلى دمقرطة القيادة. ومعنى ذلك انه لا ينبغي أن تظل المهارات القيادية حكرا على القيادات الإدارية وحدها، بل يجب إشاعتها بين الفاعلين التربويين (المدرسون، التلاميذ، الآباء...). ذلك لأن تحديات التكيف تفرض على الجميع الانخراط في مسلسل الإصلاح والتغيير. ولا يتأتى ذلك إلا من خلال تجاوز نمط القيادة الفردي، وتوسيع تصورنا للقيادة ليشمل الفاعلين الذين يحتلون مختلف المواقع في المنظمة. لآن التغيير لا يتحقق بمجرد إصدار المذكرات والتعليمات، ولأنه عملية معقدة تشمل العديد من عناصر النظام التعليمي التي لا يمكن للقيادة الفردية أن تستوعبها مهما كانت عظمة القائد.

 

يرى نادلر وتوشمان (Nadler and Tushman, 1995) أن المهارات القيادية المطلوبة لمواجهة التحديات البيئية وتيسير عملية التغيير الجذري في مختلف أنواع المنظمات تختلف اختلافا جوهريا عن المهارات المستعملة لقيادة التغيير التدريجي. هذا مع العلم أن النمط القيادي للمنظمات المدرسية له خصوصيته التي تميزه عن الأنماط المعمول بها في غيرها من المنظمات الأخرى كالمنظمة العسكرية، والصناعية، الخ. ذلك لأن »  كل ما يحدث في المؤسسة التعليمية يكتسي دلالات أخلاقية قد لا تتناسب في الواقع مع طبيعة المؤسسات الأخرى في مجتمعنا «  (Sergiovanni, 1996). ومع ذلك، يقول سرجيوفاني ظل الباحثون في حقول التربية والتعليم يستعيرون أفكارهم من نظريات القيادة التي تبلورت في عالم الأعمال وإدارة المقاولات. إن مثل هذه النظريات لا تخدم، في نظره، الأهداف الحقيقية للأنظمة التعليمية، ولن تساعد على تحسين نوعية التعليم والتعلم. ومما يترتب عن ذلك ضرورة الاعتراف بخصوصية المنظمات المدرسية، ومن ثمة صياغة نظرية للقيادة تتناسب مع طبيعتها وأهدافها في زمن التغيرات السريعة.

يظهر من خلال مراجعة الأدبيات التي تناولت موضوع القيادة في السنوات الأخيرة، ان تطوير نظرية القيادة الملائمة للتحكم في عملية التغيير يستلزم الاستجابة للشروط التالية :

  • الاعتراف بأن مفهوم القيادة يختلف عن مفاهيم الإدارة والتدبير والتسيير؛
  • ضرورة التخلي عن فكرة القائد-البطل hero-leader؛
  • تطوير نموذج القيادة ذات القاعدة العريضة؛
  • تشجيع المبادرات الفردية؛
  • تطير قدرة المنظمة على التعلم؛
  • اكتساب القدرة على إقامة مسافة بين الأنا وبين ما يجري في حقل الممارسة العملية.

تشير هذه القضايا إلى القدرات والمهارات التي تندرج في تكوين قيادة التغيير. تختلف هذه المهارات عن تلك التي نجدها لدى قيادات المنظمات في مراحل الاستقرار النسبي. ومن أبرز الخصائص التي تميز قيادة التغيير، في نظر سيرجيوفاني (Sergiovanni, 1995) ارتكازها على مبدأ تفويض السلطة. وقد جاء هذا المبدأ كبديل لمفهوم "القيادة القوية" التي لا تستجيب لمتطلبات تنفيذ خطط التغيير. تكمن أهمية مبدأ تفويض السلطة في كونه يعزز روح المسئولية لدى الفاعلين، ويدعم التزامهم بخدمة المجتمع الذي أوكل إليهم مهمة السهر على تربية وتعليم أبنائه. ويتجلى الوعي بهذه المهمة من خلال القدرة على اتخاذ القرارات التي تراعي الجوانب الإيجابية في تقاليد المجتمع وأعرافه، وتأخذ بعين الاعتبار الوقائع الراهنة، وتنظر إليها من زوايا مختلفة، وتعمل على نشر الوعي بشروط استمرار الحياة بالنسبة للأجيال القادمة. تتلخص هذه المهمة في جعل المنظمة قادرة على التكيف والاستمرار، وخدمة أهداف تتجاوز أهداف الفرد.

تلك، إذن، هي المهام المنوطة بقيادة التغيير. تشمل ممارسة هذا النوع من الإشراف العناية بالموارد البشرية، وخلق مناخ تنظيمي داعم ومحفز، يساعد على تقوية الروح المعنوية للعاملين في المنظمة، والمحافظة على صحتهم النفسية، والارتقاء بالمهنة من خلال تطوير قيمها وترسيخها في نفوس الأفراد، والارتقاء بالقيمة الاجتماعية للفرد، وتعزيز صورته عن ذاته واعتباره الذاتي وثقته بنفسه وبقدراته الذاتية. ولتحقيق هذه الأهداف لزم أن يتوفر القائد على مهارات تتجاوز المهارات الإدارية التي تركز على الأداء، والنتائج، وحل المشكلات، والتأثير في القرارات المتخذة على مستوى قاعدة الهرم (Quinn, 1996). إن المدير الذي يظل منشغلا بتدبير الأنشطة اليومية وما يرتبط بها من مشكلات لا يستطيع قيادة التغيير، وضمان انخراط الفاعلين التربويين في مسلسل الإصلاح. إن قيادة التغيير تحتاج إلى قدرات تتجاوز المهارات التقنية المرتبطة بعملية التدبير الإداري الروتينية.

إن قيادة التغيير تستلزم مشاركة الجميع في عملية اتخاذ القرارات، وتشكيل مجموعات لتدبير في مختلف مجالات الحياة المدرسية، وإكسابها القدرات والمهارات القيادية، وتخويلها صلاحية اتخاذ القرارات التنفيذية. وهكذا يتسع مجال القيادة ليشمل مختلف المستويات التنظيمية، بحيث يمكن لفكرة الإصلاح أن تسري في الهيكل التنظيمي من القمة إلى القاعدة، وتصبح استراتيجية التغيير متضمنة في المستويات العليا والدنيا من الهرم، قادرة على التكيف مع الخصوصيات المحلية. ذلك لأن تفعيل برامج الإصلاح والتغيير لا يقتصر على القيادات الإدارية، ولا يتحقق بإصدار التعليمات أو بالخطب الرنانة، ولكنه يتوقف بالأساس على كسب الولاء لجهود الإصلاح، وخلق تجاوب استراتيجي مع التغيير من خلال توسيع قاعدة القيادة والمشاركة الفعلية في اتخاذ القرارات، وتوسيع شبكة التواصل على المستويين الأفقي والعمودي، وتكثيف عمليات التفاعل بين الفاعلين التربويين وبين مختلف دوائر النشاط في المنظمة، وتشجيع البحث، وجمع المعلومات حول الحالة الصحية للمنظمة وتيسير سريانها في الجسم التنظيمي وعملية استثمارها. من شأن هذه الإجراءات أن تساعد المنظمة المدرسية على اكتساب الوعي بالذات، والقدرة على التحكم في آليات اشتغالها، ومن ثمة تصبح الثقافة المدرسية مؤهلة للتغير الذي تفرضه التحديات البيئية.

تشمل قيادة التغيير، في نظر سينج (Senge, 1990)، ثلاثة أنواع من القادة: القادة المحليون، والقادة الذين يحتلون المواقع القيادية في شبكة العلاقات الاجتماعية، وقادة التنفيذ. يتألف الصنف الأول من الأفراد الذين يتحملون مسئولية تحقيق الأهداف التنظيمية على المستوى المحلي بحكم موقعهم في بنية السلطة الشكلية. وإليهم ترجع مهمة اختبار الأفكار الجديدة، وتقدير مدى قابلية المدرسين للانخراط في عملية التغيير. وقد يشمل هذا النوع من القيادة المدرسين الذين يشاركون القادة الرسميين في أداء بعض الأدوار كتنظيم النقاش في الاجتماعات، وتأطير البحوث والدراسات/ وجمع البيانات المتعلقة بأنشطة المجموعات. ويشمل الصنف الثاني الأفراد المتشبعون بالأفكار الجديدة ممن ليست لهم أية سلطة شكلية، ويعملون على نشر أفكارهم في النسيج الاجتماعي للمنظمة. ونظرا لعدم توفرهم على السلطة الشكلية يكونون أكثر قدرة على التأثير والإقناع، وأكثر فعالية ونشاطا، حيث نجدهم يتحركون بحرية عبر شبكة واسعة من العلاقات. وبفضل هذه الخصائص يجلبون التأييد لجهود الإصلاح، ويساهمون بشكل فعال في خلق التحالفات وعقد الشراكات. ويشمل الصنف الثالث الأفراد الذين لا يساهمون بشكل مباشر في مردودية العمل كالنظار والحراس العامون، ولكنهم يتحملون مسئولية الأداء الوظيفي للمنظمة ككل (Senge, 1999). يعتمد هؤلاء الأفراد في أداء أدوارهم القيادية على القادة المحليين وقادة الشبكة الاجتماعية، ويساعدون بدورهم هؤلاء القادة على تحقيق أهدافهم. مما يدل على أن الأدوار القيادية مهما كان مصدرها مترابطة يكمل بعضها بعضا على النحو الذي يمكن من تنفيذ خطة التغيير.

وخلاصة القول، إن تحديات التكيف تفرض علينا استبدال القيادة التي تقوم بوظائف الفرد بالقيادة التي تقوم بوظائف المجموعة. يساعد هذا النمط القيادي على تحريك الجماعة، وتقوية التواصل بين أعضائها، وتكثيف عمليات التفاعل، وحفظ تماسك المجموعة في عالم مضطرب.

ولكن القول بالقيادة الجماعية لا يعني قطع الطريق أمام المبادرات الفردية، وذوبان الفرد في الجماعة، وانمحاء الهوية الفردية، وإشهار مبدأ الإجماع لتكميم أفواه المنتقدين. إن القيادة الجماعية تقوم على أساس التفاعل التلقائي الحر بين الأفراد، والاعتراف بالخصوصيات والفروق الفردية، وتستمد قوتها وغنى أفكارها من الأفراد الذين يحتلون مواقع مختلفة، وينظرون إلى مجريات الأحداث من زوايا نظر متنوعة، وتؤمن بأن تحديد المشكلات الحقيقية والأفكار والحلول الناجعة قد تأتي من حيث لا تحتسب. ولذلك يجب أن تعمل قيادة التغيير باستمرار على تشجيع المبادرات الفردية لكي تتحول المنظمة من كونها جهازا يشتغل بطريقة آلية إلى منظمة معرفية تمتلك القدرة على التعلم، والابتكار، والوعي بالذات.

تكمن إحدى الوظائف الأساسية لقيادة التغيير في تحويل المنظمة المدرسية إلى منظمة معرفية قادرة على التعلم Learning organization. إن تحقيق هذه الوظيفة هو الذي يؤهل المنظمة للتكيف من خلال إكسابها القدرة على جمع ومعالجة المعلومات واستعمالها لتحقيق أهدافها في عالم متقلب. ولا يتحقق ذلك إلا من خلال تحويل كل وضعية وكل فرد إلى مصدر من مصادر التعلم. يتجلى ذلك، على المستوى العملي، من خلال تشكيل فرق للبحث تتناول بالدراسة والتحليل العمل المدرسي، ونتائج التقويم، وأساليب التدريس، من أجل تقليص الفروق في الأداء بين فئات التلاميذ. وقد يتسع البحث ليشمل الثقافة المدرسية بما تنطوي عليه من مصادرات، ومعتقدات، وأنماط السلوك والتفاعل. ويكون الهدف خلق مناخ تنظيمي محفز. إن خلق مثل هذا المناخ سيعزز الشعور بالأمن لدى الأفراد في ظروف يكتنفها الغموض وعدم اليقين.

يستلزم بناء المنظمة المعرفية تغيير الثقافة المدرسية من خلال الوعي بمصادراتها الضمنية وقيمها ومعتقداتها التي توجد خارج دائرة الوعي. وهي مهمة يتطلب تحقيقها توفر القادة على قدرات ومهارات كتلك التي نجدها عند علماء الاجتماع والأنثربولوجيا. وتأتي في مقدمتها القدرة على إقامة مسافة بين الأنا والعالم الذي توجد فيه. إن تورط القائد في تجربة العمل اليومي يحجب عنه رؤية العديد من الظواهر، ويحول دون مساءلة الذات، ولا يرى من المحيط إلا ما يرغب في رؤيته، ولا يرى إلا الشجرة التي تخفي الغابة. وحتى يتسنى له توسيع مجال إدراكه واكتساب النظرة العميقة يتعين عليه أن ينسحب من حين لآخر، على المستوى الوجودي، من العالم الذي يعيش فيه، وينفلت من إشراطاته، ليتمكن من رؤيته كما لو كان ينظر إليه من أعلى شرفة تطل عليه. (Heifetz and laurie, 1997). والمقصود بذلك هو أن يكتسب القدرة على الملاحظة الخارجية الموضوعية لما يجري بالفعل في محيط العمل لا لما يرغب في أن يتحقق فيه، حتى لا يظل حبيس النظام، متمركزا على الذات، غارقا في ذاتيته، لا يرى العالم إلا بلونها. تساعده النظرة من أعلى الشرفة على الوعي بالذات وبآليات اشتغال المجموعة. أن الوعي بهذه الأشياء هو الشرط الأول الضروري لوضع استراتيجية للتواصل من أجل الدفع بعملية التغيير وإذلال العقبات والمعيقات التي تعترض سبيلها.

المراجع

1- Boudon, R. (1997). La logique du social, Paris : Hachette Littéraire.

-1Heifetz, R. A. (1994). Leadership without easy answers. Cambridge, MA: Belknap        Press.

--2Heifetz, R. A., & Laurie, D. L. (1997). The work of leadership. Harvard Business Re

    view,75(1), 124–134.

 -3Hoyle, J. R., English, F. W., & Steffy, B. E. (1998). Skills for successful 21st century  

    school leaders: Standards for peak performers. Arlington, VA: American  

    Association of School Administrators.

-4 Lambert, L. (1998). Building leadership capacity in schools. Alexandria, VA:

    Association for Supervision and Curriculum Development.

 -5 Nadler, D. A., & Tushman, M. L. (1995). Types of organizational change: From

     incremental improvement to discontinuous transformation. In D. A. Nadler, R. B.  

     Shaw, A. E. Walton, & Associates, Discontinuous change: Leading organizational  

     transformation (pp. 15–34). San Francisco: Jossey-Bass.

 -6Quinn, R. E. (1996). Deep change. San Francisco: Jossey-Bass.

 -7Roberts, C. (1999). Conscious oversight: A discipline of organizational stewardship.

    In P.Senge, A. Kleiner, C. Roberts, R. Ross, G. Roth, & B. Smith, The dance of       

    change: The challenges of sustaining momentum in learning organizations (pp. 545–

    553). New York: Doubleday.

 

-8 Senge, P. (1999). The leadership of profound change: Toward an ecology of

    leadership. In P. Senge, A. Kleiner, C. Roberts, R. Ross, G. Roth, & B. Smith, The

    dance of change: The challenges of sustaining momentum in learning organizations

    (pp. 10–21). New York: Doubleday.

 -9Sergiovanni, T. J. (1996). Leadership for the schoolhouse: How is it different? Why

    is it important? San Francisco: Jossey-Bass.



[1]  وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي، قطاع التربية الوطنية، مديرية الاستراتيجية والإحصاء والتخطيط    

   (2004)، مغرب التربية. التقرير العام حول منتديات الإصلاح.

[2]  اللجنة الخاصة بالتربية والتكوين التقرير السنوي حول إصلاح نظام التربية والتكوين، 2003، ص 24

Partager cet article
Repost0
4 février 2011 5 04 /02 /février /2011 12:30

جذور الشر

مقاربة نفسية-اجتماعية

أحمد أغبال

استهل جان جاك روسو كتابه المشهور إميل بجملة تلخص فلسفته كلها: ''ليس في ما يخرج من يد الخالق إلا الخير، ويفسد كل شيء بين أيدي البشر". وما أراد قوله هو أن مصدر الشر يكمن في المجتمع, ينطوي هذا القول على شيء من الصواب، وتزداد قيمته عندما يتم نزع طابع التعميم عن مضمونه من خلال وضعه في سياق معين. يمكن لبنية المجتمع المنظم بشكل سيء أن تولد مشاعر الحقد والكراهية والبغضاء في النفوس، وأن تتسبب في انتشار الفساد على مختلف المستويات والأصعدة، وتؤدي آليات البنية المختلة إلى إعادة إنتاج الثقافة الفاسدة والمفسدة عبر الأجيال. سنحاول فيما يلي بيان الآليات التي نقف خلف النوازع الشريرة والخيرة للبشر من منظور علم النفس.

تنطلق هذه الدراسة من الفرضية التالية: الشر إمكانية تنبثق عن نمط من أنماط نمو الشخصية مرتبط بالتنشئة الاجتماعية غير السليمة في الأسر المختلة. يتعرض الأفراد في المجتمع المنظم بشكل سيء لتنشئة اجتماعية غير سليمة تتسبب في بزوغ مشاعر القرف والضغينة وانتشارها على نطاق واسع. ويميل النزوع إلى الشر في ظل المناخ الأسري السلبي إلى الترسخ في النفوس ليصبح جزءا لا يتجزأ من استعدادات الشخصية، ثم يأخذ بعد ذلك أبعادا اجتماعية وسياسية من خلال عمليات التفاعل الاجتماعي,

ولفهم هذه الظاهرة، سوف نعتمد على نموذج نظري صاغه مايكل دانيالز([1]) Maekel Daniels ؛ ينبني هذا النموذج على محورين: (1) التعاطف empathy في مقابل التمركز حول الذاتegocentrism ؛ (2) النزوع إلى أعمال البر والإحسانbenevolence  في مقابل النزوع إلى الإساءة والإذايةmalevolence . يهدف النموذج المقترح إلى تقديم جواب على السؤال التالي: ما الذي يجعل الناس قادرين على فعل الشر؟ ويرتكز على مصادرة أساسية مفادها أن وجود كل من الخير والشر يأتي كنتيجة لتشكل الضمير الأخلاقي لدى الفرد والقدرة على إصدار الأحكام الأخلاقية.

ويفترض النموذج المقترح، على خلاف ما ذهب إليه مفكرو ما بعد الحداثة ممن يعتقدون بنسبية الأخلاق، أن الأحكام الأخلاقية المتعلقة بقضايا الخير والشر هي أحكام ذات صلاحية كونية ما دام كل حكم يقوم على تقديرات عقلانية لما هو خير أو شر. وأما ما يبرر هذا القول فهو الإيمان بأن جودة الحياة تستلزم توفر بعض الضروريات كالمأكل والمسكن، والأمن المالي، والعيش في مجتمع عادل ومستقر، والحاجة إلى المحبة والاحترام، والقدرة على تفعيل المهارات الذاتية، وضمان الحياة الكريمة، وما إلى ذلك. وأما مفهوم الشر فهو يدل على كل ما ينغص حياة البشر ويحول دون إمكانية العيش بشكل طبيعي كالأمراض، والموت المفاجئ أو غير الطبيعي، والخوف، والاكتئاب، والفقر المدقع، والعنف، والتهميش.

وإنه لمن المهم التمييز بين تلك الخيرات أو الحاجات الكونية البسيطة وبين الخيرات النسبية المتعلقة بفرد بعينه أو بجماعة بشرية بعينها بما في ذلك الحاجات التي تقرها أيديولوجية معينة. تشمل الحاجات النسبية الثروة المادية، والشهرة، وصفاء العرق، والامتثالية، والتقوى الدينية، الخ. إن معظم الشرور، التي ما فتئت تعاني منها الإنسانية منذ أمد بعيد، تنشأ عن الرغبة في نشر الحاجات النسبية والأيديولوجية وفرضها في المجتمع على حساب الخيرات الكونية.

وكثيرا ما تأتي المصائب من جهة الطبيعة: فقد تنجم عن الزلازل والأوبئة أو عن الحيوانات المفترسة. إلا أن الشر الذي تتسبب فيه الطبيعة ليست له دلالة أخلاقية، لأن الطبيعة في ذاتها ليست خيرة ولا شريرة، وإنما هي موجودة فحسب؛ فهي محايدة من الناحية الأخلاقية وإن كانت بعض المذاهب الدينية تعتبرها عقابا إلهيا على الفساد الأخلاقي والمس بالمقدسات الدينية. والحقيقة أن الشر إنما يتحدد من حيث أنه ضرر غير مستحق يلحقه شخص بشخص آخر.

يمكن الاعتراض على هذا التحديد بالقول إن الضرر الذي يلحق بشخص ما يمكن أن لا يكون مستحقا ولا مبررا. يمكن مواجهة هذا النقد من منطلق أن الواجب الأخلاقي يلزمنا بحماية المجتمع وضمان سلامة وأمن المواطنين ورفاهيتهم. ولكي يكون تحييد القاتل المتسلسل فعلا أخلاقيا فلا يجب أن يكون الإقدام عليه بدافع الرغبة في الانتقام منه، وإلا فلن يكون هناك فرق بين دوافع القاضي ودوافع المجرم، حيث يصبح الجميع خاضعا لنفس النوازع الشريرة. ولذلك لزم أن تكون وظيفة الحد الأدنى للعقوبة المبررة التي يستحقها المجرم هي الحيلولة دون حدوث شر أكبر غير مبرر. وبناء عليه، فإن العقاب المعقول هو العقاب الذي يتناسب مع الفعل المقترف من حيث قدرته على إيقاف تسلسل الأحداث الرهيبة.

إلا أن التعريف السابق للشر بالمعنى الأخلاقي للكلمة بوصفه الأذى غير المبرر وغير المستحق الذي يلحقه الفرد بغيره يظل ناقصا ما لم يشمل نية الإقدام على الفعل. فقد حصل الاتفاق على أن الفعل لا يعتبر شريرا أو خيرا إلا إذا أقدم المرء عليه عن طواعية واختيار. والملاحظ أن معظم الأفعال الشريرة الجارية في الحياة اليومية هي من نوع الأفعال غير الإرادية؛ ولذلك كان من اللازم إضافة تمييز آخر إلى جانب التمييز السابق بين الشر المبرر (العقاب) والشر غير المبرر، وهو التمييز بين أفعال الشر القصدية وغير القصدية. يرتبط الشر غير المقصود بالسمات المؤذية لنمط من الشخصية ونوازعها الفاسدة كالأنانية، والحسد، والغيرة، والخذلان، والوحشية، والبخل وما إلى ذلك من الصفات المذمومة. إن الأفراد الذين اكتسبوا هذه السمات الضارة لا يلحقون الأذى بالغير عن قصد وإصرار، وإنما يتصرفون بشكل تلقائي وفقا لطبيعة مزاجهم.

باللجوء إلى التمييز بين الشر الإرادي والشر غير الإرادي يكون التحليل قد انتقل من المجال السوسيولوجي إلى المجال السيكولوجي؛ وتكون الأسئلة المطروحة حينئذ هي: ما الذي يدفع الناس إلى القيام بالأفعال الشريرة ؟ هل النزوع إلى الشر فطري أم مكتسب ؟ كيف يتشكل المزاج الأخلاقي ؟ وما الذي يجعل بعض الناس قادرين على اقتراف أفظع الجرائم ؟

يرى علماء النفس أن الطفل لا يكون قادرا على إتيان أفعال الخير أو الشر إلا بعد أن تشكل الأنا وينمو الوعي بالذات لديه؛ وطالما لم يكن للأنا عنده معنى ظلت أفعاله محايدة من الناحية الأخلاقية، لا تقبل إصدار أي حكم أخلاقي بشأنها، بحيث يمكن القول إن للطفل طبيعة، ولكنه لا يمتلك مزاجا أخلاقيا. إن الخير والشر هما من الإمكانيات التي تنطوي عليها طبيعة الطفل؛ ومع تنامي الوعي بالذات تنتقل من الإمكان إلى الفعل، وتفصح عن نفسها في شكل سمات المزاج الثابتة نسبيا. حينئذ فقط يمكن القول عن الشخص بأنه فاضل أو رذيل، ويصبح الخير أو الشر وظيفة من وظائف الأنا. ويتوقف تشكل هذه الوظائف ونموها على طبيعة التنشئة الاجتماعية التي خضع لها الطفل، فقد تكون من النوع الذي يساعد على تنامي هذه السمة أو تلك أو من النوع الذي يحول دون ذلك.

وكما هو الحال بالنسبة إلى للطبيعة الإنسانية، فإن اللاشعور محايد من الناحية الأخلاقية، بمعنى أنه ليس خيرا بذاته ولا شريرا. لاشك أن في الإنسان نزوع إلى العدوان، لكن هذا النزوع محايد أخلاقيا كما هو الشأن لدى الحيوان؛ ذلك لأنه من الممكن تسخير غريزة العدوان لتحقيق أهداف خيرة أو شريرة، ولا يمكن إدانتها إدانة أخلاقية إلا إذا اختار المرء استعمالها عن وعي أو عندما تفرض نفسها بوصفها سمة من سمات المزاج التي تتسبب في إلحاق الأذى غير المبرر بالآخرين، وسواء حصل ذلك بشكل إرادي أو غير إرادي. لقد كان فرويد Freud على صواب، إلى حد ما، حين افترض وجود غريزة الدمار أو 'الطاناطوس')[2]( thanatos؛ ولكنه كان على خطأ حين قال بأن الطاناطوس هو الشر الملازم للطبيعة الإنسانية. وكان من الأجدر به أن يقول إن الاستعدادات الفطرية لفعل الشر أو الخير تنجم عن الطريقة التي تمت بها برمجة الإنسان لكي يتشكل وعيه بذاته وتبرز سمات المزاج لديه وتنمو.

وعلى خلاف ما ذهب إليه فرويد، جاء Jung بتصور جديد للاشعور يمكن من فهم كيفية نمو سمات الشخصية بشكل أفضل. فهو يرى أن اللاشعور يمكن أن يكون خطيرا للغاية، ولكنه ليس قبيحا في ذاته. ومع ذلك، يعتقد يونغ بأن اللاشعور ينطوي على عنصر يقف خلف معظم الشرور الموجودة في هذا العالم: يتعلق الأمر بما يسميه 'الظل'، والمقصود به تلك المنطقة المظلمة من الجزء الواعي في الشخصية. يدل مفهوم الظل عنده على الصفات الشخصية التي يرفض الأنا قبولها ويعمل جاهدا على كبتها. فعندما يقمع الفرد البعض من ميوله ورغباته، يحبسها الأنا في اللاشعور باعتبارها أسرارا مخجلة ومذلة. يستهلك هذا النوع من القمع الذاتي كمية هائلة من الطاقة النفسية، ويتسبب الإنهاك العاطفي-الوجداني للفرد في الكثير من الأذى والمتاعب. وكذلك يمكن أن يتسبب القمع في الكثير من المعاناة إذا شملت منطقة الظل بعض الصفات الإيجابية التي لم تجد الطريق للإفصاح عن نفسها كالقدرة على التعبير عن مشاعر المسرة والمحبة والقدرة على التفكير والإبداع)[3](.

إلا أن أكثر أنواع الشر خطورة هي تلك التي ترتبط بالإسقاط بوصفه آلية دفاعية. فخلال عملية الإسقاط يتم استبعاد الخصائص المرفوضة التي تشكل منطقة الظل خارج دائرة الأنا وإلحاقها بالغير. وهكذا يسقط الأنا مشاعر الحقد والغيرة والأنانية على شخص ليجعل منه عدوه اللدود. تتحقق عملية الإسقاط هذه بطريقة لاشعورية وتؤدي على الفور إلى العصف بالقيمة الأخلاقية للشخص البريء المستهدف، ومن ثمة، يستباح كل شيء لديه، حيث يعتقد صاحب النزعة الإسقاطية بأن الضحية تستحق الأذى الذي تتعرض له والشر الذي يصيبها. ويمكن أن يأخذ هذا العدوان شكل عنف رمزي أو جسدي يتدرج من التعذيب إلى التصفية العرقية مرورا بالاغتيال والقتل.

ويلعب الظل في نظر يونغ دور التعويض ودور المكمل بالنسبة للشخص: فإذا نظر المرء إلى نفسه على أنه شخص 'جيد'، اعتبر الظل شريرا؛ وإذا تم إسقاط هذا الظل الشرير على الآخرين اعتبروا أعداء، ويتم تبرير الأذى الذي يلحقهم من جراء ذلك تبريرا واعيا؛ حيث يقوم الأنا بتأويل الشر الذي يلحق بهم بطريقة ماكرة ليقنع نفسه بأنهم يستحقون ما يتعرضون له من مصائب. وبهذه الطريقة يصبح الشر بوصفه الأذى غير المستحق خيرا، أي عقابا مستحقا. وهذا ما يجعل الإسقاط بوصفه آلية دفاعية ينتج خطابا أخلاقيا مزدوجا.

وتجدر الإشارة إلى أن أطروحة يونغ التي تقول بأن الظل مصدر أساسي من مصادر الشر لا تتنافى مع الأطروحة القائلة بأن القدرة على فعل الشر تنمو بموازاة عملية تشكل وتنامي الوعي بالذات لدى الفرد. ذلك لأن الظل نفسه هو نتاج تشكل وتنامي البعد الواعي من الشخصية؛ فهو يمثل، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، صفات الشخصية التي لا يقبل الفرد حضورها على مستوى الوعي. ولما كان الوعي يتضايق من استقرارها فيه، يعمل الأنا على كبتها وحبسها في غياهب اللاشعور حيث تأخذ شكل نظام هولامي من الظلال المخيمة على جزء كبير من وجوده.

وإلى جانب الإسقاط غير الواعي للظل بوصفه مصدر الشر، يكتسب الفرد من خلال التنشئة الاجتماعية غير السليمة في الأسر المختلة شخصية تتسم ببعض الصفات الشريرة. ومن هنا يمكن القول بأن السبب الرئيسي للشر يكمن، أولا وقبل كل شيء، في نظام الأنا المكتسب، لا في منطقة الظل. يمكن القول بعبارة أخرى، إن الفرد يميل، في ظل ظروف معينة، إلى إضفاء معنى خاص على ذاته، وإلى تشكيل البنية الواعية من شخصيته بشكل غير سليم وفاسد؛ وتنشأ عن هذه العمليات سمات المزاج المضرة به وبغيره. كيف يحصل ذلك إذن ؟

يكمن الجواب، بكل بساطة، في أن نمو الشخصية هو نتاج التنشئة الاجتماعية والتثاقف: فمن خلال التنشئة الاجتماعية يستبطن الطفل عناصر الثقافة التي تميز المحيط الذي يعيش فيه (أنماط السلوك، النظرة إلى العالم، القيم والمعايير، التوقعات، البنيات اللغوية والأيديولوجية، الخ) مما يؤدي إلى تشكل شخصيته وصورته عن ذاته. وإذا كانت العناصر الثقافية المستبطنة من النوع الفاسد، فإنه من المحتمل جدا أن تكون سمات المزاج المترتبة عنها لدى الطفل من النوع الذي يحث على فعل الشر. فإذا تلقى الطفل تنشئته داخل أسرة مختلة ومفككة الأوصال أو في بيئة اجتماعية تكاد تكون فيها ظواهر الحقد والجشع والأنانية والعنف أمورا طبيعية يشجع عليها المجتمع، حيث يسمح الناس لأنفسهم بالتعبير عن مواقف عنصرية أو جنسانية، فإنه يتوقع أن يبني هذا الطفل نسقه الذاتي وفقا لهذه الصفات الضارة ويعمل على نشرها وإعادة إنتاجها. وسيكون الأنا الذي تشكل على هذا النحو قادرا على فعل الشر بشكل تلقائي وطبيعي مثلما يستنشق المرء الهواء: فهو لا يفعل إلا ما اعتاد الناس إتيانه. وعندما يصبح أبا أو معلما أو قائدا، فإنه سيشارك في عملية إعادة إنتاج نسق الثقافة الفاسدة الشريرة.

وإذا كانت التنشئة الاجتماعية الفاسدة تفرض نفسها بوصفها النموذج المعترف به على صعيد المجتمع، فإن ذلك لا يعني أنها قدر محتوم لا يمكن تفاديه؛ وإنما يرجع السبب في ذلك إلى وقوع اختلال في نظام التواصل الذي تكمن وظيفته في نقل مشاعر التعاطف empathy. إن الاضطراب الذي يصيب عمليات التفاعل العاطفي-الوجداني تكون له عواقب وخيمة على السيرورة النمائية لدى الطفل. وأما ما يدل على غياب التعاطف في الأسرة، مثلا، فهو سوء معاملة الأطفال وإهمالهم. يصاب الطفل في هذه الظروف بصدمة قوية، ويميل من جراء ذلك إلى تشكيل صورة مزيفة عن ذاته ويشيد ما يمكن تسميته بالأنا المغلوطة؛ وتكون وظيفة الأنا المزيفة هي الحفاظ على البقاء في عالم يبدو للطفل خطيرا: فلكي يتمكن الطفل من التكيف مع قيم وآراء الآباء وأنماطهم السلوكية الخالية من روح التعاطف، يلجأ إلى الاستراتيجيات الدفاعية من أجل الحفاظ على البقاء، ويبني نسقه الذاتي المزيف.

ومن جهة أخرى، يؤدي فشل الآباء في التفاعل العاطفي مع أبنائهم إلى معاملتهم كما لو كانوا مجرد موضوعات أو مادة خام يمكنهم صياغتها وفقا لقيمهم ومعتقداتهم الخاصة ليجعلوا منهم صورة طبق الأصل لما كانت عليه طفولتهم البائسة المعذبة؛ ولا يتعاملون معهم البتة بوصفهم أشخاصا يتمتعون بنوع من الاستقلال الذاتي، ولا يولون أية أهمية لاحتياجاتهم الخاصة.

يصبح حب الوالدين لأبنائهم في السياق الخالي من روح التعاطف حبا مشروطا: فلكي يحظى الطفل بحب الوالدين له واعترافهما به يلزمه أن يستجيب لتوقعاتهما. ومع مرور الوقت يكتسب الطفل أساليب التعلم والتفكير التي تمكنه من انتزاع ما يحتاج إليه من والديه، وينتهي به الأمر إلى استبطان الشروط التي يفرضانها عليه؛ وبإدماجه لهذه الشروط ضمن نسقه الذاتي، تميل هذه الأخيرة إلى التحقق في شكل سمات الشخصية التي لا تطمح إلى ما هو أكثر من الحفاظ على البقاء. ولتفادي هذا المصير المأساوي، يتعين أن يكون حب الآباء لأبنائهم حبا غير مشروط وأن يكون اعترافهم بهم غير مشروط أيضا، وهذا ما يطلق عليه روجرز Rogers اسم 'الاعتبار الإيجابي غير المشروط'. وبالتالي، فإنه لا يمكن للطفل أن يشيد نسقه الذاتي الحقيقي إلا إذا كان المناخ الاجتماعي الذي يعيش فيه مفعما بمشاعر التعاطف.

تنشأ سمات الشخصية الشريرة، حسب نموذج مايكل دانيلز السالف الذكر، عن الفشل في إقامة علاقة تواصل عاطفية وجدانية مع الطفل، بحيث يمكن القول إن مصدر الشر، بالمعنى الأخلاقي للكلمة، يكمن في التعامل مع البشر كما لو كانوا أشياء، أي دون أخذ بعين الاعتبار حاجاتهم وما يجلب لهم الشعور بالسعادة. ويتوقع، عند غياب الاعتبار الإيجابي غير المشروط، أن يتملك الشر مزاج الناس ليصبح عندهم شيئا عاديا ومألوفا لا يبعث فعله على شيء من الندم.

يرتكز النموذج النظري المشار إليه على التمييز بين التعاطف  empathyونزعة التمركز حول الذات egocentrism، من جهة، وبين النزعة إلى الإساءة والإذاية malevolence والنزعة إلى البر والإحسان benevolence، من جهة أخرى. يتجلى التعاطف من خلال القدرة على تفهم تجارب الغير وحاجاته؛ وهو عكس ما نجده في حالة التمركز حول الذات أو ما يسمى أيضا بالنرجسية، التي ينصب فيها اهتمام الفرد على تجاربه الخاصة، ولا ينشغل إلا بحاجاته الأنانية. وأما ما يميز الفرد الميال إلى البر والإحسان فهو إرادته الخيرة التي تلعب عنده دور القوة الدافعة في كل ما يقدم عليه من أفعال، وذلك على خلاف من ينزع إلى فعل الشر بحكم إرادته الخبيثة التي تدفعه إلى الاعتداء على الآخرين والإساءة إليهم، وتجعله يشعر بالمتعة حين يراهم يتألمون.

ويفترض النموذج السيكولوجي لأصل الفضيلة والشر أن الأفراد يكونون على درجات متفاوتة من التعاطف ومن التمركز حول الذات؛ وكذلك تتفاوت درجات النزوع إلى البر والإحسان أو إلى الإساءة والإذاية. ويفترض كذلك أن البعد المتعلق بالتعاطف/التمركز مستقل نسبيا عن البعد المتعلق بالنزوع إلى الإحسان/الإساءة. وتمثل مختلف أنواع التوليفات بدرجاتها المتفاوتة (التعاطف/التمركز، الإحسان/الإساءة) الأصل فيما يتوفر عليه الفرد من إمكانيات واستعدادات للنزوع إلى الإحسان للغير أو الإساءة إليه. من المحتمل، إذن، أن تكون الغلبة للخير بالمعنى الأخلاقي في محيط تنتشر فيه مشاعر التعاطف والنزوع إلى البر والإحسان؛ ويتجلى الخير بالمعنى المشار إليه من خلال المشاركة العاطفية sympathy، والرحمة، والاهتمام بالآخرين، وتفهم حاجاتهم، والعناية بهم. وأما إذا كانت الغلبة في المحيط الاجتماعي لنوازع العدوان والتمركز حول الذات، فإنه من المحتمل أن يستشري فيه الشر والفساد على جميع الأصعدة والمستويات، ويتجلى ذلك من خلال الإهمال، والكراهية، ومشاعر العدوان، والإساءة إلى الآخرين.

هناك أنواع أخرى من الشر تنشأ عن التوليف بين نزعة التمركز حول الذات والنزوع إلى الإحسان، أو بين التعاطف والنزوع إلى الإساءة. لنعتبر مثال الأم المماثلة للدجاجة الحاضنة لأطفالها، المغالية في الاهتمام بشؤونهم الخاصة إلى درجة يفقدون معها روح المبادرة والاستقلال الذاتي. إن هذه الأم تسيء إلى أبنائها عن غير قصد: إن ما يحركها هي الإرادة الطيبة وحسن المقاصد، ولكن الإفراط في العناية بشؤونهم، والاهتمام بكل شاذة وفادة في حياتهم اليومية يؤدي بها إلى خنقهم وتجريدهم من مقومات الهوية الشخصية. إن مشكلة ما يسمى بالأم المماثلة للدجاجة الحاضنة هو أنها تسقط حاجاتها الخاصة على فضاء العلاقات البيشخصية الذي تتواجد فيه مع أطفالها، ويذهبون ضحية حبها التملكي. ولذلك يصدق عليها المثل القائل "ومن الحب ما قتل'. إن هذا النوع من الإسقاط النرجسي يؤثر تأثيرا سلبيا على نمو شخصية الطفل لأنه لا يمت إلى فعل التعاطف بأية صلة تذكر. هناك إذن نوع من الشر المرتبط بنوع من التفهم الذي يبديه الشخص لبعض المظاهر المتعلقة بتجربة الغير، إلا أن هذا التفهم يجري على نحو يسئ إلى الغير إما بسبب الحسد أو الرغبة غير الواعية في رؤية الآخرين وهم يتعذبون. فقد تبين من خلال الدراسات التي تناولت تجربة السادية، أن الشخص ذي النزعة السادية لا يجد المتعة في آلام الآخرين إلا عندما يصبح قادرا على التعاطف معهم في محنتهم.

ويدل التحليل السيكولوجي لمصادر الخير والشر على أن الشر ليس ظاهرة من الظواهر الشيطانية التي تستحوذ على النفس البشرية بطريقة تستعصي على الفهم، بل هو جزء من صميم الوضعية البشرية. يفرض الشر نفسه في شكل نسق من التفاعلات التي يتحكم فيها الظل المخيم على جزء كبير من عوالمنا الداخلية والذي يتغذى على المفعول الرجعي المنبعث من التفاعلات التي يحدثها. ينشأ الشر عن قدرة الإنسان على الوعي بذاته، وقدرته على تشكيل هويته الشخصية بالطريقة التي تمكنه من التكيف مع محيطه الاجتماعي. يولد الإنسان بطبيعة لا هي بالخيرة ولا بالشريرة، فإن كان المجتمع منظما بشكل سيء واستشرى فيه الفساد، أفسد أبناءه؛ وإن كان منظما بشكل جيد وعادل أنتج مواطنين صالحين يحبون الخير لغيرهم مثلما يحبونه لأنفسهم. وإذا كان الشر ينشأ عن الوعي بالذات، فإن هذا الوعي يمكن الإنسان أيضا من تقليص دائرة الشر، وذلك من خلال تحرير الفرد من نزعة التمركز حول الذات، ومن ثمة تمكينه من توسيع مجال التعاطف الاجتماعي وخلق المناخ الذي يشجع على أعمال البر والإحسان.

يبرز التعاطف كلما تراجعت نزعة التمركز حول الذات. لا يمكن للمرء أن يتفهم تجارب الآخرين وحاجاتهم ما لم يكتسب القدرة على التموقع خارج المنظور المتمركز حل الذات. ويمكن لدائرة التعاطف أن تتسع أو تضيق حسب طبيعة القيم التي نشأ عليها الفرد: فمن الأفراد من يكتفي بالتعاطف مع أفراد أسرته، ومنهم من يعطف بالإضافة إلى ذلك على أفراد الجماعة الإتنية أو الجماعة المذهبية أو الدينية التي ينتمي إليها، ومنهم من يشمل بعطفه الإنسانية جمعاء والكائنات الطبيعية كلها.

وخلاصة القول، إنه كلما اتسعت دائرة التعاطف والإحسان إلا وضعفت قوى الظل المخيم على نفوس البشر، ويعود ذلك كله بالخير والمنفعة على الإنسانية والطبيعة على حد سواء.

  

   

 



([1]) Maekel Daniels (2005). Shadow, self, spirit. Essay in transpersonal  psychology. Imprint Academic.

([2]) Sigmund Freud (1920). Au-delà du principe du plaisir. Traduction de l’Allemand par le Dr. S. Jankélévitch. 

   Version numérique produite par Gemma Paquet, bénévole :  

http://classiques.uqac.ca/classiques/freud_sigmund/essais_de_psychanalyse/Essai_1_au_dela/Au_dela_principe_plaisir.pdf  

([3]) Carl Gustav Jung (1977). Two essays in analytical psychology. Tra,slated by R.F.C.Hull. Princeton University 

   Press.

 

Partager cet article
Repost0
9 février 2010 2 09 /02 /février /2010 20:52

المقاربة المفاهيمية للنص الفلسفي

تطبيق على نص جون لوك: "الهوية والتنوع"

أحمد أغبال

(أنظر النص أسفله)

ما المقصود بالمقاربة المفاهيمية للنص ؟

المقصود بها هو طريقة الفيلسوف في بناء مفاهيمه. فما هي الإجراءات العملية التي يقوم بها لإنجاز هذه المهمة ؟ تتلخص هذه الإجراءات في ما يلي:

1.     غالبا ما ينطبق الفيلسوف من مفاهيم أولية عامة مثل مفهوم الشخص بالمعنى الشائع أو المتداول للكلمة. يطلق هذا المفهوم، في دلالته اليومية، على كل فرد من أفراد النوع البشري، ويدل بذلك على الإنسان بمختلف أبعاده البيولوجية والنفسية والثقافية، وما إلى ذلك.  ويعتبر هذا المفهوم الأولي غير محدد لأن دلالته في أذهان الناس تشمل هذه الأبعاد كلها من غير أن تقيم بينها أية علاقة منطقية. ويكون هدف الفيلسوف هو تحديد هذا المفهوم. 

2.     وما يقوم به الفيلسوف في لحظة أولى هو تحليل المفهوم الأولي للوقوف على مختلف أبعاده ومكوناته الإجرائية، وهذا ما يمكن تسميته بالتحليل الإجرائي للمفهوم. ذلك لأن المفهوم هو اختزال لمجموعة من الوقائع أو المتغيرات؛ فهو يدل، حسب تعريف أرسطو على الخصائص المشتركة بين مجموعة من الأشياء، وهو حسب النظريات العلمية والفلسفية الحديثة، بناء عقلي يعيد تأسيس الوقائع من خلال إقامة علاقات منطقية بين عناصرها. وغالبا ما تتم عملية البناء من خلال تحليل المفهوم الأولي، وفحص العناصر أو السلوكات التي تندرج في تكوينه، من أجل انتقاء ما يجب أخذه بعين الاعتبار في تحديد المفهوم وما يجب إسقاطه وفقا لإستراتيجية الفيلسوف ومقاصده. وقد يختلف الفلاسفة في تحديدهم للمفهوم حسب درجة تركيزهم على هذا العنصر أو ذاك في ضوء أهدافهم ومراميهم البعيدة والقريبة.

3.     وعندما ينتقي الفيلسوف ما يراه مناسبا لبناء مفهومه، يعمل جاهدا، في لحظة ثانية، على إقامة علاقات منطقية ضرورية بين الأبعاد الإجرائية أو العناصر الإبستمية المنتقاة. وهكذا تصبح أبعاد المفهوم مترابطة ومتلازمة يفضي بعضها إلى بعض، ويتشكل المفهوم هذه المرة على أساس عقلي منطقي، ويصبح خصبا وقابلا للارتباط بمفاهيم منطقية أخرى. وتجدر الإشارة إلى أن العلاقات بين العناصر الإبستيمية لا يتم إدراكها بشكل مباشر، ولا تنكشف إلا من خلال عمليات التحليل والتفسير التي تستهدف بيان موقع كل عنصر والوظيفة التي يؤديها في بناء المفهوم.

4.     تجري هذه العمليات كلها في إطار سياق دلالي محدد بشكل مسبق؛ وقد هذا السياق فلسفيا ميتافيزيقيا أو أخلاقيا أو قانونيا أو سياسيا. ولذلك نجد مفهوم الشخص يتخذ دلالة ميتافيزيقية لدى ديكارت، وأخلاقية لدى كانط، وقانونية لدى جون لوك، وسياسية لدى جون راولز.

نقدم فيما يلي نموذجا تطبيقيا يبين طريقة جون لوك في بناء مفهوم الشخص من خلال تحليل نص "الهوية والتنوع" الذي قمنا بترجمته كاملا.

انطلق جون لوك في بناء مفهومه للشخص من تصور للإنسان على أنه كائن حي ذو هيئة معينة. وتتطلب هذه العملية تحليل مفهوم الإنسان لبيان مختلف أبعاده والمتغيرات التي تندرج في تكوينه لمعرفة أي منها يجب أخذه بعين الاعتبار في تحديد مفهوم الشخص وأيها يجب استبعاده مع تبرير كل اختيار. وفيما يلي لائحة بالمتغيرات التي تندرج في تكوين المفهوم العام للإنسان، تليها خطاطة تتألف من العناصر أو المتغيرات التي تندرج في تكوين مفهوم الشخص كما يتصوره جون لوك:

-         الجسد أو الجوهر المادي أو البنية البيولوجية بما تنطوي عليه من دوافع غريزية.

-         الروح أو الجوهر اللامادي أو العقل الذي يشك، يفكر، يستدل، يتذكر. إنه الجهاز المعرفي الذي يشمل الحواس.

-         البعد الأخلاقي والاجتماعي، ويشمل حرية الإرادة والاختيار والشعور بالمسؤولية.

-         البعد ما فوق المعرفي، ويشمل الوعي بالإدراك أو التفكير في التفكير والأفعال: كون الفرد يدرك أنه يدرك.

 Sans titre

Partager cet article
Repost0
9 février 2010 2 09 /02 /février /2010 14:39

هذه ترجمة للفصل السابع والعشرين من كتاب "مقالة في العقل البشري" لجون لوك تحت عنوان: "الهوية والتنوع"

John Locke

An Essay Concerning Human Understanding

Chapter xxvii

Identity and diversity

تعريب د. أحمد أغبال

1. أما السياق الآخر الذي يقوم فيه العقل بمقارنة الأشياء بعضها ببعض [بمعنى اعتبار الأشياء بما هي متواجدة مع بعضها] فهو وجودها الفعلي: عندما نعتبر الشيء كما هو موجود في زمان ومكان محددين ونقارنه بنفسه عندما يكون موجودا في زمان آخر، فإننا بذلك نكون قد اتجهنا نحو تشكيل فكرة الهوية وفكرة التنوع [ يدل "التنوع" في هذا السياق على الاختلاف وعدم الهوية؛ فعندما نقول بأن x مختلف عن y فإنما نقصد بذلك أن x ليس y].عندما نرى شيئا – أي شيء مهما كان نوعه – في مكان ما وفي زمان ما، نكون على يقين أن ما نراه هو ذلك الشيء عينه وليس شيئا آخر موجودا في ذلك الوقت في مكان آخر، وذلك مهما كانا متشابهين في مناحي وجودهما الأخرى؛ وفي هذا تكمن الهوية: فيما تعزى إليه من الصفات التي لم تتغير من لحظة وجودها السابق مقارنه مع ما هي عليه في الحاضر. لا نجد أبدا – ولا يمكننا حتى أن نتصور- وجود شيئين من نوع واحد في نفس المكان ونفس الزمان، بحيث يمكن أن نستنتج على نحو صحيح أن ما يوجد في مكان ما وزمان ما يقصي كل ما عداه من الأشياء التي تنتمي إلى نوعه ليظل هو نفسه وحيدا هناك. وهكذا، فعندما نتساءل ما إذا كان شيء ما هو "نفسه" أم لا، فإن ما نقصده بذلك دائما هو شيء كان موجودا في زمن معين ومكان معين، شيء كان  في تلك اللحظة بالذات هو عينه، بكل تأكيد، مماثل لذاته، وليس مماثلا لأي شخص آخر. ويترتب عن هذا أن الشيء الواحد لا يمكن أن تكون له بدايتان في الوجود، لأنه يستحيل أن يكون الشيء الواحد في أمكنة مختلفة في وقت واحد، كما لا يمكن أن يكون لشيئين بداية واحدة، لأنه يستحيل على شيئين من نفس النوع [لهما نفس الجوهر: مادي أو لامادي] أن يتواجدا في نفس اللحظة بنفس المكان. وعليه، فإن ما له نفس البداية هو نفس الشيء؛ وأن ما له بداية مختلفة في الزمان والمكان عن تلك البداية يمثل التنوع لا الهوية. إن الصعوبات التي واجهت الفلاسفة فيما يتعلق بهذه العلاقة – علاقة الهوية – ترجع إلى كونهم لم يولوا للمفاهيم الدقيقة التي تشير إلى الأشياء التي تنسب إليها الهوية القدر الكافي من العناية والانتباه.

2. لدينا ثلاثة أفكار فقط عن ثلاثة أنواع من الجواهر: الله، العقول المتناهية، والأجسام. (1) الله، لا بداية له، خالد، لا يطال التغير ذاته، وهو موجود في كل مكان؛ ولذلك، فإنه لا مجال للشك في هويته. (2) كل روح [عقل] متناهية يكون لوجودها بداية في مكان وزمان محددين؛ ولذلك، فإن علاقتها بذلك الزمان وذلك المكان ستحدد هويتها طالما ظلت موجودة. (3) وينطبق هذا على كل جزيء من أجزاء المادة، فهو يستمر في الوجود بوصفه هو نفسه طالما لم يُضَفْ إليه شيء من المادة أو يُنْقَصُ منه... إن هذه الأنواع الثلاثة من "الجواهر" (كما يحلو لنا أن نسميها) لا يخلي بعضها بعضا من نفس المكان، غير أنه لا يمكننا أن نتصور أي أحد منها يسمح لغيره ممن ينتمي إلى نوعه بأن يحل معه في نفس المكان. فإذا كان بالإمكان حصول هذا [حلول شيئين متماثلين من حيث الجوهر في نفس المكان] فإن المفاهيم والأسماء الدالة على الهوية والتنوع ستصبح عديمة الجدوى، وسوف لن تكون هناك أية طريقة تمكن من تمييز الجواهر بعضها عن لعض أو تمييز أي شيء آخر عن غيره. وعلى سبيل المثال: إذا كان من الممكن أن يتواجد جسمان في نفس المكان وفي نفس الزمان، فإن هذين الجزأين من المادة سيكونان عبارة عن شيء واحد أو عين الشيء، وذلك مهما كان حجم كل واحد منهما. وبالفعل، فإن جميع الأجسام ستصبح جسما واحدا أو نفس الجسم، لأن التسليم بإمكانية تواجد جسمين في مكان واحد – في نفس الوقت – يجيز الإقرار بذلك لكل الأجسام. إن افتراض إمكانية حصول هذا، يعني إلغاء كل إمكانية للتمييز بين الهوية والتنوع أو بين الوحدة والكثرة، وجعل كل محاولة للتمييز أمرا سخيفا. إن القول بأن شيئين أو أكثر يمكن أن يكونوا شيئا واحدا قول فيه تناقض، ولكن الهوية والتنوع مفهومان يدلان على العلاقة وطرق المقارنة الرصينة المعمول بها للفهم. وليست الأشياء الأخرى سوى أحوال وعلاقات تفضي في النهاية إلى الجواهر، وأما الهوية والتنوع المتعلقين بالوجود الخاص بكل واحد منها فهما في حاجة إلى تحديد وفقا للطريقة المتبعة في تحديد هوية الجواهر. وأما بخصوص الأشياء التي يأخذ وجودها شكل سلسلة متوالية - من الأحداث – كأفعال الموجودات المتناهية من مثل الحركة والتفكير، فإن مسألة التنوع لا تطرح. ويرجع السبب في ذلك إلى أن كل حدث من تلك الحوادث يتلاشى بمجرد أن يبزغ إلى الوجود، ولذلك يكون من غير الممكن أن يوجد في أزمنة مختلفة أو في أمكنة مختلفة؛ وأما الأشياء الثابتة [التي تتمتع بالاستمرارية في الوجود] فيمكنها ذلك. وبالتالي، فإنه ليس بإمكان أية حركة أن تكون هي نفس الحركة التي نشأت في زمن لاحق، ولا لأي تفكير أن يكون هو نفس التفكير الذي تشكل في زمن آخر [لأن لكل حركة ولكل تفكير بداية خاصة في الوجود].

3. لقد سعت بحوث كثيرة إلى بيان مبدإ التفرد principle of individuation؛ لكن ما قلته آنفا سيمكننا من الكشف بسهولة عن حقيقة هذا المبدإ: إنه الوجود ذاته، الوجود الذي يربط كائنا من نوع معين بمكان وزمان مخصوصين لا يشترك معه فيهما كائن آخر من نوعه. يبدو أنه من السهل تصور هذا بخصوص الجواهر والأحوال البسيطة؛ ومع ذلك، نستطيع - إذا تحلينا بالقدر الكافي من اليقظة والانتباه - تطبيقها بسهولة على الجواهر المركبة. لنعتبر الذرة، أعني جسما له استمرارية في مساحة لا تتغير، موجود في زمان ومكان محددين: من البديهي أن يكون حتى هذه اللحظة هو هو مماثلا لذاته. ولما كان في هذه اللحظة ليس شيئا آخر غير ما هو، لزم أن يكون هو هو نفسه [مماثلا لذاته] وأن يبقى على حاله طالما استمر في الوجود، وطالما جرت الأمور على ذلك النحو، فإنه سيظل هو هو عينه وليس شيئا آخر. وكذلك هو الحال عندما تجتمع ذرتان أو أكثر لتشكل كتلة واحدة، فإن كل ذرة ستظل هي هي حسبما تقتضي القاعدة السابقة؛ وما دامت مجتمعة، لزم أن تظل الكتلة التي تمثل الذراتُ أجزاءَها هي نفس الكتلة أو نفس الجسم، وذلك مهما أعيد تنظيم الأجزاء. ولكن، إذا حصل أن انتزعت إحدى الذرات من الكتلة أو أضيفت إليها ذرة جديدة، فإنها لن تظل هي نفس الكتلة أو نفس الجسم.

وأما بخصوص الكائنات الحية، فإن هويتها لا تتوقف على الكتلة التي تتألف من نفس الجزيئات، بل على شيء آخر؛ لأن التغير الذي يطرأ على جزء كبير من مادتها لا يترتب عنه أي تغيير في الهوية. فالسنديان الذي يكون في البداية شتلة صغيرة، ثم ينمو ليصير شجرة عظيمة، ويشذب بعد ذلك، يظل هو نفس السنديان؛ والمهر ينمو ليصير حصانا سمينا أحيانا أو نحيفا أحيانا أخرى، ومع هذا يظل هو نفس الحصان. تتغير كمية المادة في كلتا الحالتين، ومع ذلك يظل السنديان في الحقيقة هو نفس السنديان وكذلك يظل الحصان هو نفس الحصان. ذلك لأن مفهوم الهوية في هاتين الحالتين، أي في حال الكتلة الجامدة والجسم الحي، لم يطبق على نفس الشيء.

4. ومن هنا يطرح السؤال: ما الذي يجعل السنديان مختلفا عن كتلة المادة الجامدة ؟ الجواب في نظري هو أن الكتلة هي تماسك جزيئات المادة المجمعة على أي نحو كان، وأما السنديان فهو عبارة عن ترتيب للجزيئات لتؤلف أجزاء السنديان التي تنتظم بشكل يمكن البنية الكلية من أخذ وتوزيع الغذاء من أجل الاستمرار في البقاء وتشكيل خشب ولحاء، وأوراق... السنديان الذين يمثلون الحياة النباتية. وهكذا، فإن الشيء يكون نباتا عندما تنتظم العناصر التي يتألف منها لتشكل جسما واحدا متماسكا تتقاسم أجزاؤه نفس الحياة؛ وبالتالي فإن أي نبات يظل باستمرار هو نفسه طالما أنه يشارك في نفس الحياة، وذلك حتى لو استمرت تلك الحياة عبر الجزيئات المادية الجديدة المتحدة اتحادا حيويا مع النبات الحي وفقا التنظيم المناسب لهذا النوع من النبات. إن التنظيم الذي يكون لهذا النوع من النبات في أية لحظة وفي أية مجموعة من الجزيئات المادية هو ما يميزه دائما عن غيره من النباتات الأخرى. وأما بخصوص ما به تتحدد هوية النبات فيكمن في التنظيم المتمثل في الحياة الفردية، تلك الحياة التي تظل ثابتة على حالها انطلاقا من أية لحظة باتجاه الماضي أو المستقبل، محافظة على استمراريتها المتمثلة في التعاقب غير الملموس للجزيئات المادية المتوحدة مع الجسد الحي للنبات. ويجعل هذا التنظيم من مكوناته الأجزاء التي يتألف منها نبات معين، ويبقى هذا النبات هو هو طالما ظلت الأجزاء متحدة في استمرارية التنظيم المعد لنقل الحياة المشتركة لجميع الأجزاء المتحدة مع بعضها البعض.

5. لا تختلف هوية الحيوانات الدنيا اختلافا كبيرا عما نجده لدى الكائنات غير الحية. بإمكان أي أحد أن يدرك ما يجعل من الحيوان حيوانا وما به يظل هو نفسه باستمرار. وما يجعله كذلك شيء مماثل لما تقوم عليه هوية الآلات؛ لنتساءل مثلا: ما هي الساعة ؟ من الواضح أنها نظام متماسك، أو بناء تنتظم أجزاؤه من أجل غاية معينة يمكنه تحقيقها إن أضيفت إليه قوة كافية. وإذا افترضنا أن هذه الآلة جسم يتمتع بالاستمرارية من خلال إصلاح أجزائه[المختلة] أو الزيادة فيها أو النقص منها بواسطة الإضافة والفصل الدائمين لأجزائه غير الملموسة، وأن لهذا الجسم حياة تشترك فيها جميع الأجزاء، فإنه سيكون أشبه بجسم الحيوان مع هذا الفرق المتمثل في أن التنظيم الملائم للحيوان والحركة التي تمثل فيه الحياة يتشكلان معا في وقت واحد. تأتي الحركة هنا من الداخل؛ وأما فيما يتعلق بالآلات، فإن القوة التي تحركها تأتي من الخارج، وغالبا ما تفتقر الآلة للقوة المحركة حتى عندما تكون مهيأة لاستقبالها، فالساعة مثلا تحتاج إلى تعبئة.

6. ويبين هذا أيضا فيم تتمثل هوية إنسان بعينه: المقصود هو أنها تكمن في المشاركة في استمرار حياة بعينها من خلال تعاقب الجزيئات المادية السريعة الزوال المتحدة عبر تعاقبها اتحادا حيويا بالجسم المنظم. أما وأن تضع هوية الإنسان في أي شيء غير هذا، فستجد صعوبة في أن تجعل من مضغة جنينية معينة ومن رجل معين بالغ سن الرشد نفس الإنسان؛ أو أن تجعل من رجل سوي ورجل مجنون نفس الإنسان. وأما الفرصة الوحيدة المتاحة لك للقيام بذلك فهي أن تقوم بالربط بين "نفس الرجل" و"نفس الروح"؛ غير أنه باستعمالك لهذه القاعدة ستجعل من الممكن بالنسبة لكل من سيث وإسماعيل وسقراط وبيلات والقديس أوغسطين وقيصر بورجيا، أن يصبحوا هم نفس الرجل. لأنه لو كانت هوية الروح وحدها هي ما يجعل المرء يبقى هو هو، ولو كانت طبيعة المادة لا تنطوي على ما يمنع الروح الفردية من الاتحاد مع عدد من الأجسام المختلفة، فإنه من الممكن أن يكون هؤلاء الرجال، الذين عاشوا في عصور متباعدة والذين لهم أمزجة مختلفة، هم نفس الرجل. قد لا يصدر الكلام بهذه الطريقة إلا عن استعمال غريب لكلمة "إنسان"، وهو استعمال يستبعد معنى الجسد وشكله الخارجي. قد لا ينسجم هذا الأسلوب في الكلام إلا بشكل سيء مع مفاهيم الفلاسفة الذين يؤمنون بهجرة الأرواح، ويعتقدون بأن الروح الإنسانية يمكن أن تُنقل إلى جسم حيوان عقابا لها على ما اقترفته من أفعال سيئة، وهو المأوى المناسب لها لما لذلك الجسم من أعضاء لا تطلب إلا ما يشبع نزوتها البهيمية. ومع ذلك فإنني أظن أنه لا أحد ممن يعتقد جازما بأن روح هيليوغابال تسكن أحد صغار خنازيره يمكنه القول بأن هذا الخنيزير رجل أو أنه هو هيليوغابال.

7. وبالتالي، فإن وحدة الجوهر لا تفضي إلى تشكل كل أنواع الهوية. فإذا أردنا أن نشكل تصورا عن الهوية وأن نصدر حكما صحيحا بشأنها لزم أن نأخذ بعين الاعتبار الفكرة التي تشير إليها الكلمة التي يطبق عليها ذلك المفهوم: فكون الكائن هو نفس الجوهر، هذا شيء؛ وكونه هو نفس الإنسان، شيء آخر؛ وأما كونه هو نفس الشخص فذلك شيء ثالث؛ هذا، إذا كانت كلمات "شخص"، "إنسان" و"جوهر" أسماء تطلق على ثلاثة أفكار مختلفة؛ لأنه كما أن الفكرة تنتمي إلى الاسم، كذلك يجب أن تكون الهوية. فلو كان هذا الأمر قد حظي بعناية أكبر لكان من الممكن تفادي الكثير من الالتباس الذي غالبا ما يحيط بموضوع الهوية وخاصة عندما يتعلق الأمر بالهوية الشخصية التي سأتحول إليها الآن، ولكن ليس قبل أن أضيف فقرة أخرى حول هوية الإنسان.

8. إن الحيوان هو عبارة عن جسم حي منظم؛ وبالتالي، فإن نفس الحيوان، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، هو نفس الحياة المستمرة عبر انتقالها إلى مختلف الجزيئات المادية المتوحدة في تعاقبها مع ذلك الجسم الحي المنظم. وعليه، فإنه مهما كانت التعريفات الأخرى المقترحة لمفهوم الإنسان، فإنه لن يكون بوسع أحد أن يشك في أن كلمة "إنسان"، كما نستعملها، تحيل على فكرة حيوان ذي هيئة معينة. إن التعريف الذي ظل قائما عبر الزمن على تبجيل الإنسان بوصفه "حيوانا عاقلا"، هو تعريف خاطئ. فلو نظرنا إلى الشكل الذي يوجد عليه جسم الإنسان بمكوناتها العضوية لأيقنا من أن كل من يراه سيسميه إنسانا حتى ولو لم يكن له من العقل أكثر مما للقط أو الببغاء، وسنكون على يقين أيضا من أن كل من يسمع القط أو الببغاء يتكلم أو يبرهن ويتفلسف فلن يسميه إلا باسم القط أو الببغاء، ويقول عن ذلك الإنسان بأنه فظ ولاعقلاني، وعن الببغاء بأنه عقلاني وذكي.

"كانت لي دائما رغبة في أن أسمع من فم الأمير موريس مباشرة Maurice de Nassau قصة تواترت على الألسنة وبلغت إلى مسمعي مرات عديدة؛ تحكي القصة عن ببغاء كان عنده لما كان حاكما في البرازيل؛ ومما ذكر عن هذا الببغاء أنه كان يتكلم، يطرح الأسئلة ويجيب عنها كما يفعل كل كائن عاقل؛ وكان أن استنتج أفراد حاشيته أن في الأمر سحر أو مس من الجان؛ وأن أحد القساوسة التابعين له، والذي قضى بعد ذلك مدة طويلة من حياته في هولندة، لم يعد منذ ذلك الوقت يتحمل الببغاوات، حتى إنه قال: إن الببغاوات تسكنها روح الشيطان. تواترت هذه القصة بتفاصيلها على مسمعي، وكان الناس يجزمون بصحتها حتى أصبح من الصعب التشكك فيها؛ وهذا ما دفعني إلى أن أسأل الأمير موريس عن حقيقة أمرها. وقال بشكل مقتضب وجاف على طريقته المعتادة في الحديث: إن في الحكاية شيء من الصواب، ولكن معظمها خاطئ. وددت أن أعرف منه المزيد فسألته: كيف كانت بداية هذه القصة ؟ وقال لي باختصار وببرودة أعصاب بالغة إنه سمع بخبر هذا الببغاء الطاعن في السن عندما حل بالبرازيل؛ وقال إنه لم يثق بشيء مما سمع، وبدافع الفضول فقط أمر بإحضار الببغاء: ولما أحضروه بدا له ضخما ومسنا؛ عندما أدخل لأول مرة إلى القاعة التي كان بها الأمير، وكان محاطا بأناس من أصل ألماني، قال على الفور: "يا لها من مجموعة ضمت أناسا بيض !". وسألوه: من يكون هذا الرجل؟ في إشارة إلى الأمير؛ وأجابهم: "لعله من القادة". ولما قربوه منه سأله [باللغة الفرنسية]: من أين أتيت ؟؛ وأجابه: جئت من مرنان Marinnan. الأمير: ومن هو صاحبك ؟ رجل برتغالي. الأمير: وماذا تفعل هنا ؟ الببغاء: أرعى الدجاج. وضحك الأمير وقال: ترعى الدجاج ؟ وأجاب الببغاء: نعم، أنا أرعى الدجاج، وأجيد هذا العمل، وأقوقي [مقلدا صوت الدجاج] أربع أو خمس مرات في النهار مثلما يفعل الناس عندما ينادون الدجاج. دونت عبارات هذا الحوار الهام الذي دار بينهما باللغة الفرنسية كما وردت على لسان الأمير موريس؛ ثم سألته: وما هي اللغة التي كان يتكلم بها الببغاء ؟ وقال: إنه كان يتكلم باللغة البرازيلية؛ وسألته ما إذا كان يفهم اللغة البرازيلية ؟ وقال إنه لا يفهما؛ ولكنه حرص على ترجمة كلام الببغاء بواسطة شخصين أحدهما ألماني يتكلم اللغة البرازيلية والثاني برازيلي يتكلم اللغة الألمانية؛ وقال إنه طلب من كل واحد مأخوذ على حدة أن يخبره بما قال الببغاء، وكان أن أخبره كل واحد منهما بنفس الشيء. وليس بوسعي إلا أن أروي هذه الحكاية لغرابتها، ولكونها وردت على لسان المعني المباشر بها، ويفترض بها أن تكون جيدة؛ وإنني لأجرؤ على القول بأن هذا الأمير كان، على الأقل، يعتقد بكل ما قال لي، وكان ينظر إليه على أنه رجل فاضل وصادق. وأترك للطبيعانيين [المهتمين بدراسة الكائنات الطبيعية الحية] مهمة التمحيص والتدقيق، وللآخرين أن يعتقدوا بما يحلو لهم مما ورد في هذه الحكاية. ومهما يكن من أمر ذلك، فلا ضير في أن نضفي على المشهد شيئا من النكهة بهذا النوع من الاستطراد سواء أكان هادفا أم لا.

لقد حرصت على أن يتلقى القارئ القصة كاملة بتفاصيلها كما وردت على لسان صاحبها لاعتقادي أنها لم تكن من الأمور غير القابلة للتصديق. لأنه لا يمكن أن نتصور رجلا على هذا القدر من الكفاءة والحصافة، ويتوفر على ما يكفي من الأدلة التي تثبت صحة شهادته، يتجشم متاعب لا فائدة من ورائها لربط هذه الحكاية – التي كان يعتقد هو نفسه أنها قصة غير موثوقة بقدر ما هي سخيفة – برجل قدمه بوصفه ليس صديقا له فحسب، بل أميرا كان بنظره محمود السيرة في صدقه وتقواه. إن الأمير الذي كان من الواضح أنه أكد هذه الحكاية، وكذا الراوي الذي نقلها إلينا عنه، كلاهما سمى ذلك المتكلم بـ"الببغاء"؛ وأسأل كل من يرى أن هذه القصة تستحق أن تروى: إذا كان هذا الببغاء وكل ما يندرج تحت نوعه يتكلمون دائما، حسب ما ورد على لسان الأمير، ألا يمكن الا يمكن اعتبارهم حيوانات عاقلة ؟ وبالتالي، وبالنظر إلى كل هذا، ألا يمكن أن نطلق عليهم اسم إنسان بدل اسم الببغاء؟ وفي رأيي، ليست فكرة الكائن المفكر أو العقلاني وحدها هي التي تشكل فكرة الإنسان كما يتصوره معظم الناس، بل فكرة الجسد الذي تشكل في هيئة معينة في ارتباطها بفكرة الكائن العاقل. وإذا كانت هذه هي فكرة الإنسان، فإن نفس الجسد الذي يستمر في البقاء من غير أن ينحل دفعة واحدة، وكذا نفس الروح اللامادية هما اللذان يصنعان بتضافرهما نفس الرجل.

9. وبعد أن قمنا بطرح هذه المقدمات، فإنه لكي يتسنى لنا العثور على مكمن الهوية الشخصية لزم أن نعتبر ما يشير إليه [لفظ] الشخص. أعتقد أنه إنما يدل على كائن مفكر وذكي، يمتلك العقل والقدرة على التفكير، ويستطيع أن ينظر إلى نفسه على أنه هو هو [وليس غيره]، شيء مفكر يظل هو هو نفسه في أزمنة وأمكنة مختلفة، ولا يتاح له ذلك إلا بفضل الوعي الذي لا ينفصل عن التفكير، والذي، على ما يبدو لي، أساسي بالنسبة له [أي للتفكير]، إذ من المستحيل لأي أحد أن يدرك دون أن يدرك بأنه يدرك. فعندما نبصر أو نسمع أو نشم أو نتذوق أو نحس أو نتأمل أو نرغب في شيء ما، فإننا ندرك أننا نفعل ذلك كله. هذا ما يحصل دائما لإحساسنا وإدراكنا، وبهذا يكون كل واحد في علاقته بنفسه هو ما يسميه الإنية، دون اعتبار، في هذه الحالة، لما إذا كانت لهذه الإنية نفسها استمرارية في نفس الشيء أو في أشياء متنوعة. ذلك لأنه ما دام الوعي مرافقا للتفكير دائما وأبدا، وطالما أنه هو ما يجعل من أي أحد ما يسميه إنيته، فإنه بالتالي هو ما يجعله يميز نفسه عن غيره من الأشياء المفكرة الأخرى، وفي هذا وحده تكمن الهوية الشخصية، أي تماثل الكائن العقلاني مع نفسه [وكونه هو هو حسب نظرته إلى نفسه]: ذلك أنه كلما عاد الوعي إلى ما حدث من أفعال أو تفكير في الماضي البعيد إلا وانتهى به المطاف عند هوية الشخص المعني؛ فيدرك أن الأنا الموجودة في الوقت الراهن هي نفسها التي كانت في ذلك الزمن البعيد، وأن هذه الأنا الحالية التي تفكر الآن فيما كانت عليه في السابق هي التي قامت بتلك الأفعال.

10. وإذا سلمنا بأنه هو نفس الشخص، فهل معنى ذلك أنه هو نفس الجوهر؟ قد يعتقد معظم الناس أنه هو نفس الجوهر إذا كانت التصورات بما يحيطها من وعي حاضرة على الدوام في الذهن، تجعل الشيء المفكر نفسه حاضرا في الوعي باستمرار بحيث يبدو بديهيا أنه مماثل لذاته (قد يكون هذا هو رأي معظم الناس). إن ما يطرح الصعوبات – ويدفع، على الأقل، إلى التساؤل عما إذا كان يجب أن يكون نفس الشخص هو نفس الجوهر – هو الواقعة التالية: غالبا ما يؤدي النسيان إلى حصول انقطاع في الوعي، ولا يكون في استطاعتنا أن نستحضر في أية لحظة من لحظات حياتنا السلسلة الكاملة لأفعالنا الماضية أمام أعيننا لنحيط بها بنظرة واحدة؛ فحتى أجود الذاكرات يغيب عن ناظرها جزء عندما توجه نظرها إلى جزء آخر. وعلاوة على ذلك، فإننا نمضي معظم أوقات حياتنا من غير أن نفكر أبدا في ماضي ذواتنا بسبب انكبابنا على أفكارنا الراهنة أو بسبب غياب الأفكار مثلما هو الحال عندما نغط في نوم عميق، أو على الأقل بسبب غياب الوعي الذي يميز أفكارنا عندما نكون في حالة اليقظة. في هذه الحالات كلها ينقطع الوعي، ونفقد رؤية ذواتنا كما كانت في الماضي، وهكذا تخامرنا الشكوك حول ما إدا كان الشيء المفكر هو نفسه أم لا، بمعنى إذا ما كان هو نفس الجوهر. قد يكون هذا التساؤل معقولا، غير أنه لا علاقة له بالهوية الشخصية. لأنه فيما يتعلق بهذه الأخيرة، فإن السؤال المطروح يتعلق بما يجعل الشخص هو نفسه مماثلا لذاته، وليس يتعلق الأمر بما إذا كان نفس الجوهر هو الذي يفكر دائما في نفس الشخص. إذ يمكن لمختلف الجواهر أن تشاطر نفس الوعي، فتتوحد بذلك في شخص واحد مثلما تندرج مختلف الأجسام ضمن نفس الحياة لتتوحد بذلك في أحد الحيوانات، وتكون لهذا الحيوان هوية تحافظ عليها الوحدة المستمرة لتلك الحياة المتفردة. إن ما يجعل المرء يبدو لنفسه على أنه هو هو [وليس غيره] هو تماثل الوعي، وعلى ذلك تتوقف الهوية الشخصية بشكل كامل، وسواء ارتبط الوعي على امتداد الحياة بجوهر واحد أو بسلسلة من الجواهر المختلفة. وذلك على اعتبار أنه طالما كان بإمكان أي كائن عاقل أن يستعيد فكرته عن أي فعل من أفعال الماضي كما كانت في وعيه أول الأمر، ويستحضرها في نفس الوعي الذي يحيط الآن بأفعاله الراهنة، فإنه سيظل هو ذات الأنا الشخصي. لأن الوعي الذي يكون له بأفكاره وأفعاله الراهنة هو ما يجعل منه الآن أنا بالنسبة إلى نفسه، وسيطل هو نفس الأنا طالما أمكن لنفس الوعي أن يمتد إلى أفعال الماضي ويعود إلى أفعال الحاضر. فلا المسافة الزمنية ولا تغيرات الجوهر يجعلان منه شخصين أو أكثر، مثلما أن النوم، طويلا كان أم قصيرا، وتغيير الملابس لا يجعلان منه أكثر من رجل واحد.

11. تقدم لنا أجسامنا نوعا من أنواع الأدلة على ذلك. إن جميع الجزئيات التي يتألف منها جسمك تصبح جزءا لا يتجزأ منك - أي من أناك الواعية المفكرة - عندما تتوحد بشكل حيوي بالأنا المفكرة الواعية، وتشعر أنت بما تتعرض له من تأثيرات طيبة أو مؤذية وتكون على وعي بما يحصل لها من ذلك كله. وهكذا تكون أطراف الجسد بالنسبة لكل فرد جزءا من ذاته هو؛ يشعر بما يعتريها [من ألم ولذة] وينشغل بها. فلو بترت اليد وفصلت بذلك عن الوعي الذي كان للشخص بما تشعر به من حرارة أو برودة أو غيرها من الأحوال، فإنها لن تظل بعد ذلك جزءا من أناه، وتصبح حينئذ مثل أي شيء من الأشياء المادية الموجودة هناك بمعزل عنه. وهكذا يتبين لنا أن الجوهر المرتبط بالأنا الشخصية قد يتغير من حين لآخر من غير أن يؤدي ذلك إلى حدوث تغير في الهوية الشخصية؛ لأنه لا يمكننا الشك في أن المرء يظل دائما هو نفس الشخص وإن بترت إحدى أطرافه.

12. ولسائل أن يسأل: هل يمكن للمرء أن يظل هو نفس الشخص إذا تغير الجوهر؟ وهل بإمكانه أن يصير أشخاصا مختلفين إن تولى نفس الجوهر مهمة التفكير على مدى الحياة ؟ قبل أن أجيب على هذين السؤالين في الفقرتين 13 و 14، أود التطرق إلى نقطة تمهيدية تتمثل في أن أيا من السؤالين لا يطرح بالنسبة لأولئك الذين يعتقدون أن الفكر خاصية يتميز بها التكوين المادي الخالص للحيوان، ولا دخل فيه للجوهر اللامادي. وسواء أكانوا على صواب أو خطأ فيما ذهبوا إليه، فإنه من الواضح أنهم يرون أن الهوية الشخصية تُحفظ ويستمر وجودها في شيء آخر غير هوية الجوهر، تماما مثلما أن هوية الحيوان تستمر في نفس الحياة لا في نفس الجوهر. يطرح هذان السؤالان تحديا على أولئك الذين يعتقدون أن الجواهر اللامادية وحدها هي التي تفكر، وأن هوية الشخص تتوقف على هوية الجوهر اللامادي. ولكي يتمكنوا من مواجهة خصومهم الماديين، يتعين عليهم أن يبينوا لماذا لا يمكن للهوية الشخصية أن تستمر عبر تغير الجواهر اللامادية، ولماذا تستمر هوية الحيوان عبر تغير الجواهر المادية. ولن يتأتى لهم ذلك ما لم يركنوا إلى القول بأن جوهرا لاماديا واحدا هو ما يجعل حياة الحيوانات الدنيا هي نفس الحياة – ويصنع بذلك هوية الحيوان – مثلما أن الجوهر اللامادي الواحد هو ما يجعل – حسب هؤلاء – من المرء نفس الشخص؛ ولن يتجه الديكارتيون بالخصوص في هذا المنحى خوفا من أن يجعلوا من الحيوان شيئا مفكرا أيضا.

13. أما بخصوص السؤال الأول المتعلق بما إذا كان باستطاعة المرء أن يظل هو نفس الشخص إن تغير الجوهر المفكر فيه، فجوابي عنه أن هذا الأمر إنما يتقرر عند أولئك الذين يكونون على علم بنوع الجوهر المفكر الذي ينطوون عليه، ويعرفون ما إذا كان بالإمكان نقل الوعي بأفعال الماضي من جوهر  مفكر إلى جوهر آخر. ولا مناص لي إلا الاعتراف أنه إذا كان نفس الوعي متعلقا بنفس الفعل الفردي، فلن يكون من الممكن نقله؛ لأنه لو أمكن نقله لكان استرجاع الفرد للصداع الذي ألم بالفرد في الماضي في وعيه بمثابة استحضار للصداع الفعلي المرتبط بالجوهر الذي ينشأ فيه. ولكن الوعي الراهن بأفعال الماضي ليس من هذا القبيل؛ إنه بالأحرى تَمَثُّلُُ في الحاضر لفعل وقع الماضي؛ ويبقى أن نبين لماذا يتعذر علينا أن نتمثل في الذهن تصورا عن شيء وكأنه حدث بينما لم يحدث أبدا في الواقع. وإنه لمن الصعب تحديد مدى ارتباط الوعي بأفعال الماضي بفاعل متفرد، بحيث يتعذر على غيره أن يكون له نفس هذا الوعي، طالما أننا لم نعرف ما هو نوع الأفعال التي لا يمكن القيام بها إن لم يرافقها فعل من أفعال الإدراك المفكر فيه، وطالما لم نعرف كيف تنتج الجواهر المفكرة تلك الأفعال، هذه الجواهر التي لا يمكنها أن تفكر دون أن تعي بأنها تفكر. من الصعب، في نطاق المعرفة المتوفرة اليوم، معرفة لماذا يكون من المستحيل لأي جوهر مفكر، بالنظر إلى طبيعة الأشياء، أن يتمثل ما لم يقدم على فعله أبدا وكأنه قام به بالفعل، أو أن يتمثل ما قام به فاعل آخر. وإلى أن تتضح نظرتنا أكثر إلى طبيعة الجوهر المفكر، فإننا نفترض أن مثل هذه التغيرات لا تلحق الجوهر المتعلق بشخص متفرد على الإطلاق، مستندين في ذلك على طبيعة الله الخيرة. ولما كانت سعادة المخلوقات وشقاؤها من الأمور التي يشملها حكم الله، فإن عدله اقتضى آلا ينقل الوعي، الذي بدونه لا يصح الثواب والعقاب، من جوهر إلى آخر.

14. وأما السؤال الثاني المتعلق بما إذا كان بإمكان المرء أن يصير أشخاصا مختلفين إن كان نفس الجوهر يتولى مهمة التفكير على مدى الحياة، فهو صادر عن التساؤل حول ما إذا كانت الأمور التالية ممكنة:

هل يمكن تجريد الكائن اللامادي الذي كان في الماضي على وعي بوقائع وجوده من الوعي الذي كان له حتى أصبح غير قادر على تذكر شيء منها ؟ إن أمكن ذلك، فهل سيكون بعدئذ كمن فتح حسابا جديدا ليبدأ مرحلة جديدة من حياته يكون له فيها وعي لا يصل إلى ما يوجد خلفها من أحداث [في الماضي المنسي] ؟

يتلخص السؤال، في حال حصول ذلك، فيما إذا كان المرء سيظل هو نفس الشخص بعد أن كان له وعي أول الأمر ثم أصبح له وعي آخر بعد ذلك من دون أن تكون بينهما علاقة تواصل [واستطرد لوك قائلا إن هذا الأمر يكون ممكنا لدى أولئك الذين "يؤمنون بوجود حياة سابقة" أي بتناسخ الأرواح؛ وهاجمهم بسبب الفصل الذي يقيمون بين "نفس الشخص" و"نفس الوعي"، واقترح التجربة النظرية التالية لفحص مختلف المواقف]. فكر في نفسك، تجد أن لديك جوهرا لاماديا يضطلع بمهمة التفكير بداخلك ويجعلك تبقى كما أنت مماثلا لذاتك رغم التغير الدائم الذي يطال جسمك، وهذا الجوهر هو ما تسميه إنيتك. افترض الآن أن نفس الروح هي التي كانت داخل نسطور Nostor أو ثرسيت Thersites خلال حصار طروادة. وليس في هذا شيء من العبث؛ لأن الأرواح حسب ما تيسر لنا من المعرفة بطبيعتها، يمكن أن تحل في هذا الجزء أو ذاك من المادة وتذهب معه، وبالتالي، فإن الروح التي هي الجوهر المفكر بداخلك، والتي تمثل الآن إنيتك، من الممكن أنها كانت في إحدى المرات روح غيرك كأن تكون هي روح ثرسيت أو نسطور. ولكنك لا تملك الآن أي وعي بما قام به هذا أو ذاك من الأفعال؛ فهل يمكنك بالتالي أن تتصور نفسك على أنك تمثل مع نسطور أو مع ثرسيت نفس الشخص ؟ هل لأفعالهما أية علاقة بك؟ هل بإمكانك أن تنسب أفعلهما إليك، أو أن تفكر فيها وكأنها أفعالك أنت لا أفعال أي إنسان آخر؟

15. يمكننا، بالتالي، أن نتصور بدون صعوبة ما يجعل من المرء نفس الشخص يوم القيامة والحساب حتى ولو بعث في جسم مختلف في بنيته ومكوناته عما كان عليه في الحياة الدنيا، فسيظل هو نفس الشخص طالما بقي الوعي مرافقا للروح التي تسكن الجسد [مهما كانت خلقته]. ولا تعتبر الروح وحدها هي ما يجعل من المرء نفس الشخص حين تتغير الأجساد إلا بالنسبة لمن يطابق بين الروح والإنسان ويجعل منهما شيئا واحدا. فإذا حدث أن دخلت روح الأمير وهي تحمل معها الوعي بحياته السابقة في جسد الإسكافي الذي هجرته روحه وأمدته بمعلوماتها، فإنه من البديهي أنه سيكون هو نفس شخص الأمير، وسيكون مسؤولا فقط عن أفعال الأمير؛ ولكن، من ذا الذي سيقول إنه هو نفس الرجل ؟ إن الجسد يشارك في تشكيل الرجل، ويبدو لي، في هذه الحالة، أن أي أحد سينظر إلى الجسد على أنه هو ما يجعل من المرء نفس الرجل ولن تثنيهم الروح بما تحمل من أفكار أميرية بالعدول عن تصورهم هذا. وسينظر إليه الجميع، باستثنائه هو، على أنه هو نفس الإسكافي ونفس الرجل. إنني أعلم أن "نفس الشخص" و"نفس الرجل" يدلان في اللغة العامة على نفس الشيء؛ وبطبيعة الحال، يمكن لأي أحد أن يتكلم دائما كما يحلو له، وأن يعطي للكلمات المعاني التي يرى أنها مناسبة لها، وأن يغيرها متى شاء. ومع ذلك، يتعين علينا، عندما نريد أن نعرف ما الذي يجعل من الروح نفس الروح، أو من الرجل نفس الرجل، أو من الشخص نفس الشخص، أن نحدد أفكار الروح والرجل والشخص ونثبتها في أذهاننا؛ وعندما يتضح لنا المعنى الذي نريد أن يكون لها، يتيسر لنا حينئذ أن نقرر بخصوص كل واحد منها متى يكون هو نفسه [مماثلا لذاته] أو غير ذلك.  

16. غير أنه على الرغم من أن نفس الجوهر اللامادي أو الروح ليس هو الذي يجعل المرء مماثلا لنفسه في كل الظروف، فإنه من الواضح أن الوعي هو الذي يوحد الأفعال لدى نفس الشخص، سواء تعلق الأمر بأفعال الماضي البعيد أو بأفعال اللحظة التي انقضت على الفور. ولذلك فإن كل من حصل له الوعي بأفعال الحاضر والماضي سيظل هو نفس الشخص الذي تنسب إليه تلك الأفعال كلها. فإذا كان الوعي الذي به أدركت أنني أرى سفينة نوح في الطوفان هو نفس الوعي الذي به أدركت أنني رأيت فيضان نهر التاميز خلال فصل الشتاء المنصرم، أو الذي به أدركت أنني أكتب الآن، فإنني لن أستطيع الشك في أن من يكتب الآن، وفي أن من رأى فيضان نهر التايمز في فصل الشتاء السابق ومن رأى الطوفان الشامل هو نفس الأنا؛ ضع هذه الأنا في أي جوهر شئت غير الجوهر الذي لدي وأنا أكتب ما أكتب الآن، فإن أناي بالأمس ستظل هي هي عندما كنت أكتب (سواء كنت جوهرا ماديا أو غير مادي أو غير ذلك). لأنه طالما ظلت الأنية هي هي فلا يهم ما إذا كانت الإنية الحاضرة موجودة في نفس الجوهر أم لا. فإن كنت معنيا بأمر من الأمور، وكنت عرضة للمحاسبة، عن جدارة واستحقاق، على فعل قمت به قبل ألف سنة، فإن هذا الفعل سينسب إلى الآن بحكم هذا الوعي.

17. إن الأنا هي ذلك الشيء المفكر الواعي، مهما كانت طبيعة الجوهر الذي تنتمي إليه (وسواء أكان جوهرا روحيا أو ماديا، بسيطا أو مركبا، هذا لا يهم)؛ هذه الأنا الحساسة الواعية باللذة والألم، المؤهلة للشعور بالسعادة والشقاء، المنشغلة بذاتها كلما امتد ذلك الوعي [في الزمن]. والمثال على ذلك أنه بإمكان كل فرد أن يدرك أن إصبعه، إن كان موضوعا للوعي محايثا له بوصفه جزءا منه، فإنه لو بتر الإصبع وحل به الوعي وذهب معه تاركا الجسد الذي بتر منه، فإن هذا الإصبع سيصبح بالضرورة شخصا، وسيطل نفس الشخص دون أن تكون له علاقة بباقي الجسد. وفي هذه الحالة، عندما يفصل جزأ من شيء ما، فإن ما يجعل من الجزء المنفصل شخصا وذاتا غير قابلة للتجزيء هو الوعي المرافق له. وينطبق هذا أيضا على الجواهر التي مضى عليها زمن بعيد. تلك التي بواسطتها يلتقي وعي هذا الشيء المفكر الموجود في اللحظة الراهنة بذاته ليجعل منه نفس الشخص، يشترك معه في إنية واحدة، ولا يشترك فيها مع غيره. ولذلك ينسب إليه أفعال ذلك الشيء بوصفها أفعاله طالما بلغها الوعي باستثناء ما لم يصل إليه، ما دام بوسع من يفكر أن يدرك [بأنه يفكر].

18. تمثل الهوية الشخصية أساس الحق والعدالة في كل ما يتعلق بقضايا الثواب والعقاب. إن ما يشغل بال كل امرئ بالنظر إلى نفسه هي قضايا السعادة والشقاء، وذلك بغض النظر عما تؤول إليه أية ماهية أخرى مما ليست له علاقة بوعيه بتلك القضايا [يوضح لوك هذه الفكرة من خلال تطبيقها على المثال الذي قدمه بخصوص إصبعه، مفترضا أنه في حال ما إذا ذهب الوعي الأصلي معه حين يبتر، فإن الجسد الذي انفصل عنه سيكتسب وعيا جديدا].

19. وهذا يؤكد الأطروحة التي تقدمت بها والتي تقول إن الهوية الشخصية لا تكمن في تطابق الجوهر مع ذاته بل في تماثل الوعي وتطابقه مع ذاته. فإذا اتفق سقراط والمحافظ الحالي لبلدية كوينبرو على أنهما نفس الشخص، وكان سقراط المستيقظ لا يشارك في نفس الوعي الذي يكون لسقراط النائم، فإنهما لن يكونا نفس الشخص. وأما عقاب سقراط المستيقظ على ما فعل سقراط النائم، من غير أن يكون لسقراط المستيقظ وعي بذلك الفعل، فهو عقاب غير عادل، مثلما أنه ليس من العدل في شيء معاقبة شخص على جرم ارتكبه توأمه بدعوى أن مظاهره مشابهة لمظاهر أخيه إلى حد لا يمكن معه تمييز أحدهما عن الآخر.

20. ولقائل أن يقول: "لنفترض أن أجزاء من حياتي سقطت من ذاكرتي، ولم يعد بإمكاني أبدا استرجاع أي شيء منها، فلن يكون بوسعي، بعدئذ، الوعي بها مرة أخرى. ألا زلت أنا هو نفس الشخص الذي قام بتلك الأفعال، والذي كانت لديه تلك الأفكار التي كنت على وعي بها فيما مضى رغم أنني نسيتها الآن ؟ جوابي على هذا السؤال هو أنه يجب أن ننتبه إلى ما تحيل إليه كلمة "أنا". إن من يعترض علينا بهذا القول إنما يفكر في هوية الرجل ويسميها "أنا"، لاعتقاده أن نفس الرجل هو نفس الشخص. ولكن هذا الاعتقاد ليس صحيحا بالضرورة. فإذا كان بالإمكان أن تكون لرجل واحد أنماط وعي متمايزة ومنفصلة عن بعضها البعض في أزمنة مختلفة، فإن هذا الرجل سيمثل بدون أدنى شك أشخاصا مختلفين في أزمنة مختلفة. وأما أن يكون هذا هو رأي الناس على العموم، فبين في تصريحاتهم الرزينة التي يعبرون فيها عن آرائهم: يؤمنون بأن قوانين البشر لا تعاقب المجنون عما اقترفه صاحب العقل السليم [أي لما كان سليم العقل]، كما أنها لا تعاقب الرجل ذي العقل السليم عما فعل المجنون [عما فعل حين كان مجنونا]، لأنهم يتعاملون معهما بوصفهما شخصين لا شخصا واحدا. يتجلى هذا في لغة الحياة اليومية حين نقول عن رجل إنه "لم يعد هو نفسه الشخص الذي كنا نعرفه" أو "لا صلة له بنفسه". تدل هذه الجمل على ميل المتكلم إلى الاعتقاد بأن أنا الرجل قد تغيرت، وأن أنا الشخص المماثلة لذاتها لم تعد قائمة في ذلك الرجل.

21. "إنه لمن الصعب أن نتصور كيف يمكن لسقراط، الذي هو نفس الرجل المتفرد، أن يصبح شخصين." ولتيسير فهم هذه المسألة، يتعين علينا بيان المقصود بـ"سقراط" أو "نفس الرجل المتفرد". هناك ثلاث اختيارات؛ يمكن أن يكون المقصود بنفس الرجل أحد الأمور التالية:

1.     نفس الفرد الذي هو كائن لامادي أو جوهر مفكر؛ وباختصار، إنه بالمعنى العددي، الروح الواحدة المتوحدة مع ذاتها، ولا شيء غير ذلك.

2.     نفس الحيوان بصرف النظر عن الروح أو الجوهر اللامادي.

3.     نفس الروح أو الجوهر اللامادي المتوحد مع حيوان بعينه.

اعتمد على نفسك [واختر التفسير المناسب] ! ليس في هذه التفسيرات لما يجعل من المرء نفس الرجل ما يسمح بالقول إن الهوية الشخصية تقوم على الوعي فحسب، وليس بإمكانها أن تذهب إلى أكثر مما يستفاد من ظاهر القول. فإذا نظرنا إلى المسألة وفقا للاختيار الأول، فإن الرجل الذي أنجبته نساء عديدات في أزمنة متباعدة سيظل دائما هو نفس الرجل. إن من يقبل بهذا الأمر يلزمه أن يقبل أيضا بأن نفس الرجل يمكن أن يكون شخصين متمايزين. وفقا للاختيار الثاني والثالث، فإن سقراط الذي عاش في هذه الحياة الدنيا لا يمكن أن يكون هو نفس الرجل ولا مماثلا لأي رجل في حياة الآخرة. وأما الطريقة الوحيدة التي تتيح إمكانية أن يكون سقراط الذي عاش في أثينا وسقراط الذي يواجه مصيره يوم القيامة هو نفس الرجل، فتكمن في الأخذ بمبدإ تماثل الوعي. وأما التفسيرات السابقة فإنها تعادل بين هوية الإنسان - هوية الرجل – والهوية الشخصية. ولكن هذه المعادلة فيها مشكلة، لأنها تسمح بفهم كيف يمكن لسقراط الطفل أن يكون هو نفس الرجل الذي هو سقراط في يوم البعث والحساب. يبدو أن هناك قدر قليل من الاتفاق  حول ما يجعل من الرجل رجلا، وبالتالي، حول ما يجعل من المرء نفس الرجل المتفرد؛ غير أنه مهما كان رأينا في هذه المسألة، وإذا أردنا تجنب الوقوع في التفاهات، فإنه لابد من الاتفاق حول الرأي القائل بأن الهوية الشخصية تكمن في الوعي.

22. وقد تعترض بقولك: "أليس الرجل الذي كان سكرانا ثم صحا من سكره هو نفس الشخص؟ ولماذا يعاقب على ما قام به وهو في حالة سكر حتى ولو لم يكن له من الوعي شيء بذلك بعد الصحو؟ فهو يظل نفس الشخص، مثله في ذلك مثل الرجل الذي يمشي وهو نائم، هذا الرجل يكون مسؤولا عما اقترفه من أفعال سيئة وهو في حالة نوم غير واعي بما يفعل." جوابي على هذا الاعتراض هو أن قوانين البشر تعاقب الاثنين معا بعقوبة عادلة تتناسب مع مستوى المعرفة المتوفرة لدى أولئك الذين يتولون تطبيق القانون: ففي هاتين الحالتين لا يمكنهم التمييز بوضوح تام بين الوقائع وما يشبه الوقائع؛ ولذلك لا يجيزون اعتبار الجهل المتصل بحالات السكر والنوم كحجة لتبرئة الذمة. والحاصل أن العقاب إنما يرتبط بمفهوم الشخص الذي يرتبط بدوره بالوعي؛ قد لا يكون السكران على وعي بما يفعل، ولكن المحكمة تعاقبه عقابا عادلا لقيام الدليل على ثبوت التهم المنسوبة إليه، وأما فقدان الوعي بما اقترف من أفعال سيئة فلا يمكنه تبريره بدليل قاطع. وإنه لمن المعقول الاعتقاد بأنه في يوم المعاد، عندما تنشر أسرار القلوب، لا أحد يكون مسؤولا عن أفعال لا يعرف عنها شيئا، كل امرئ سيلقى حسابه بما له من وعي وضمير، يمتثل لحكم الله الذي قد يعاقبه وقد يعفو عنه.

23. لا شيء غير الوعي يمكنه أن يوحد بين الموجودات المتباعدة عن بعضها البعض في شخص واحد بعينه. لن يكون بوسع هوية الجوهر فعل ذلك؛ لأن الجوهر مهما وجد، ومهما كان نوعه، فلن يكون للشخص وجود في غياب الوعي. ليس بإمكان جوهر خال من الوعي أن يكون شخصا، وسواء كان هذا الجوهر جسما أو أي شيء آخر. لنفترض أن جسما واحدا يشتمل على وعيين اثنين متمايزين ولا يتواصلان فيما بينهما، يشتغل أحدهما دوما في النهار والأخر في الليل، ولنفترض أن على الجانب الآخر وعي واحد يشتغل بالتناوب في جسمين مختلفين تارة في أحدهما وتارة في الآخر. أقول، فيما يتعلق بالحالة الأولى، أليس من الممكن أن يكون الرجل في النهار شخصا وفي الليل شخصا آخر متميزا عن الأول مثلما يتميز شخص سقراط عن شخص أفلاطون ؟ وفيما يتعلق بالحالة الثانية، ألا يمكن أن يوجد شخص واحد في جسمين مختلفين مثلما يبقى الرجل كما هو في لباسين مختلفين ؟ وفي كلتا الحالتين، فإنه ليس من المهم القول بأن أنواع الوعي، في الحالتين السابقتين، تكون متماثلة أو مختلفة بحسب اختلاف أو تماثل الجواهر اللامادية التي تجلب معها الوعي، في نفس الوقت، إلى الأجسام. وسواء أكان هذا صحيحا أو خاطئا، فلن يغير من الأمر شيئا، لأنه من البديهي أن ما يحدد الهوية الشخصية في كلتا الحالتين هو الوعي، وسواء أكان هذا الوعي مرتبطا بجوهر لامادي متفرد أو غير مرتبط به. وإذا سلمنا بضرورة أن يكون الجوهر المفكر بداخل الإنسان لاماديا، فإنه من البديهي أيضا أن نتصور إمكانية انفصال الشيء المفكر اللامادي عن وعيه السابق وإمكانية استرجاعه مرة أخرى؛ ولا أدل على ذلك من النسيان، إذ كثيرا ما ينسى الإنسان أفعال الماضي؛ وفي كثير من الأحيان يسترجع العقل ذكريات الوعي السابق الذي ضاع قبل عشرين عاما. افترض الآن أن لحظات التذكر والنسيان يعقب بعضها بعضا بانتظام حسب تعاقب الليل والنهار، تجد أن هناك شخصين يشتركان في جوهر لامادي واحد كما هو الحال في المثال السابق حيث يشترك شخصان في جسم واحد. وبالتالي، فإن الإنية لا تتحدد بتماثل الجوهر أو تنوعه واختلافه – وهو ما لا يمكنها التحقق منه- بل بتماثل الوعي ووحدته فقط.

24. قد لا يتوحد الوعي بجوهر معين دون غيره؛ إذ يمكن للأنا أن تتصور أن الجوهر الذي تتشكل منه الآن كان موجودا في السابق، متوحدا بهذا الكائن الواعي نفسه. وبدون وعي، لن يكون هذا الجوهر هو نفس الأنا، ولن يكون أكثر اتصالا بها من غيره؛ وهذا أمر بديهي يؤكده مثال العضو المبتور الذي سقناه آنفا، فالعضو المبتور لا يكون على وعي بالحرارة والبرودة أو غيرهما من التأثيرات الأخرى، ولا يعتبره المرء جزءا منه بعد البتر ويصبح بالنسبة إليه كأي عنصر من العناصر المادية الموجودة في محيطه. وهكذا يكون الشأن بالنسبة لأي جوهر لا مادي عندما يفتقر إلى الوعي، هذا الوعي الذي يقضي بأن تكون أناي هي أنا كما أبدو لنفسي: فلو افترضنا أن جزءا من وجودها سقط من ذاكرتي ولم يعد بإمكاني وصله بوعيي الحالي الذي يجعلني الآن أكون أنا، فإنه لن يكون من صميم أناي مثله في ذلك مثل أي كائن لامادي آخر. وذلك لأن كل ما فكر فيه جوهر ما أو فعله مما لم يعد باستطاعتي أن أتذكره أو أن أجعل منه بواسطة الوعي أفكاري وأفعالي الشخصية، فهو ليس ملكا لي، كما لو أن من فكر في ذلك أو فعله هو كائن لامادي آخر يوجد في أي مكان كان.

25. يوحد الوعي الجواهر، مادية كانت أو روحية، بشخصية معينة. وأعترف بأن الرأي الأكثر احتمالا هو أن هذا الوعي مرتبط بجوهر لامادي متفرد، وأنه صفة من صفاته.

دع الناس يقررون في هذا الأمر كما يشاءون وفقا لافتراضاتهم المختلفة. يجب على كل ذي عقل حصيف، ممن له إحساس بالسعادة والشقاء أن يعترف بوجود شيء هو أناه، يهتم به، ويريد له أن يكون سعيدا، وبأن هذا الأنا كان موجودا باستمرار لأكثر من لحظة واحدة، ويمكنه بالتالي أن يستمر في الوجود شهورا وأعواما كما في الماضي من غير أن توضع لهذه الاستمرارية أية حدود؛ ومن الممكن أن يظل هو نفس الأنا بفضل استمرار نفس الوعي في المستقبل. وهكذا، وبفضل هذا الوعي يجد أنه هو نفس الأنا الذي قام بهذا الفعل أو ذاك قبل عدة سنوات، وبه [أي بالوعي] يصبح الآن سعيدا أو شقيا. في هذا العرض التفسيري للأنا لم أنظر إلى الهوية العددية للجوهر بوصفها السبب في تشكل نفس الأنا، بل اعتبرت أن السبب في ذلك هو استمرار نفس الوعي الذي يمكن أن تتوحد به عدة جواهر كما يمكن أن تنفصل عنه؛ وطالما ظلت هذه الجواهر متحدة بشكل حيوي مع ما يقوم مقام المأوى بالنسبة للوعي، تكون جزءا لا يتجزأ من نفس هذه الأنا بعينها. وهكذا يصبح عضو من جسدي حين يتحد اتحادا حيويا بالجزء الواعي مني جزءا من أناي؛ أما إذا انفصل عن الوحدة الحيوية التي بواسطتها ينتقل الوعي، كف عن أن يكون جزءا من أناي، شأنه في ذلك شأن الجزء المرتبط بأنا الغير، والذي لا يمكن أن يكون جزءا من أناي؛ وليس من المستبعد أن يصبح بعد فترة وجيزة جزءا فعليا من شخص آخر. وبهذا يصبح نفس الجوهر العددي جزءا من شخصين مختلفين، وبذلك يمكن لنفس الشخص أن يبقى كما هو عبر تغير الجواهر. لنفترض وجود جوهر منزوع الذاكرة والوعي بأفعاله السابقة، كما يحدث دوما لأذهاننا التي يضيع منها جزء كبير من تلك الأشياء، وأحيانا تفقدها جميعها؛ إن ما يمر به هذا الجوهر الروحي من حالات الوحدة والانفصال لا ينجم عنه أي تغير في الهوية الشخصية، تماما مثلما أن تغير الجزيئات المادية لا تؤدي إلى تغيرها. إن كل جوهر مرتبط ارتباطا حيويا بالكائن المفكر الموجود هنا الآن هو جزء من هذه الأنا الموجودة هنا الآن، وكذلك فإن كل ما يرتبط بذلك الجوهر ويتحد به بواسطة الوعي بالأفعال السابقة يصبح جزءا من نفس الأنا، الأنا التي كانت في الماضي والتي هي نفس الأنا الراهنة.   

26. إن [لفظ] شخص، حسب فهمي له، اسم يطلق على الإنية. فحيثما عثر امرؤ على ما يسميه إنيته، هنالك، على ما أظن، سيقول آخر إنه نفس الشخص. إنه لفظ قانوني، إليه تنسب الأفعال وحسناتها؛ ولا ينسحب بالتالي إلا على كل فاعل عاقل يتمتع بالأهلية القانونية والقدرة على الشعور بالسعادة والتعاسة. تمتد هذه الشخصية لتعود بنفسها إلى ما وراء الوجود الراهن، إلى الماضي، بواسطة الوعي وحده، إذ به تصبح معنية ومسئولة، تعترف بما قامت به من أفعال في الماضي وتنسبها إلى نفسها تماما مثلما تتعامل مع أفعالها في الحاضر بناء على نفس الأسس ولنفس الاعتبارات. يرجع الأصل في كل هذه الأفعال إلى الانشغال بالسعادة الذي ينشأ بالضرورة عن الوعي بحيث لا يمكن تفاديه؛ ذلك لأن من يكون على وعي باللذة والألم، سيرغب في أن تكون الذات الواعية سعيدة. وبالتالي، إذا كان من غير الممكن للذات في الزمن الحاضر أن تتقبل أفعال الماضي وتتملكها بواسطة الوعي، فلن تنشغل بها، كما لو أنها لم تنجز شيئا منها. أما وأن تحصل على المتعة أو الألم، أي على المكافأة أو العقاب، جراء تلك الأفعال، فالأمران سيان، ولا فرق بين ذلك وبين أن تكون قد تعرضت لما جعل منها كائنا سعيدا أو شقيا في وجودها الأول [في الماضي]، فلا سيئات هناك على الإطلاق.لأنه إذا افترضنا رجلا يتعرض الآن للعقاب على ما اقترفه في حياة أخرى وجد فيها من غير أن يكون له شيء من الوعي بتاتا، فأي فرق سيكون بين ذلك العقاب وبين كونه خلق بائسا تعسا ؟ ولهذا، وفي انسجام مع ما سبق ذكره، أخبرنا أحد أتباع الرسول أنه في يوم البعث والنشور، عندما "ينال كل امرئ جزاءه على أفعاله، تفتح أسرار القلوب وتنشر بعناية". إن ما سيبرر حكم العقاب هو الوعي الذي سيكون لدى جميع الأشخاص بكونهم نفس الأشخاص الذين قاموا بتلك الأفعال التي استوجبت عقابهم، وذلك مهما كانت الأجسام التي سيبعثون بها، ومهما كانت طبيعة المادة التي يسكنها ذلك الوعي.

27. ولقد بدا لي من خلال معالجة هذه المسألة أنه من الممكن افتراض وجود بعض الوضعيات - كوضعية الأمير والإسكافي – التي قد تبدو غريبة لبعض القراء، بل وربما كانت غريبة بالفعل. ومع ذلك فإنني أعتقد أنه من الجائز افتراض وجودها ما دمنا نجهل طبيعة ذلك الشيء المفكر الكامن بداخلنا والذي ننظر إليه على أنه إنيتنا. فإذا حصلت لنا المعرفة بالإنية في علاقتها بهذا الشيء المفكر، وعلمنا ما هي، وكيف ترتبط بانفعالات الروح الحيوانية، وما إذا كانت قادرة أو غير قادرة على إنجاز عمليات التفكير والتذكر خارج نطاق الجسد ذي الهيئة الإنسية، وما إذا كان الله قد قرر ألا ترتبط هذه الروح – أو الشيء المفكر- إلا بهذا النوع من الأجساد دون غيره، بحيث تكون ذاكرتها متوقفة [في اشتغالها] على سلامة أعضاء الجسد. قد تبدو بعض الحالات التي عرضنا لها فيما تقدم سخيفة ومنافية للعقل. ولما كانت هذه الأمور على قدر كبير من الغموض، جرت العادة على أن نعتبر الشيء المفكر أو الروح الإنسانية جوهرا لاماديا لا يدين بشيء للمادة؛ وعليه، فإنه ليس يعد أمرا سخيفا افتراض أنه من الممكن أن ترتبط نفس الروح في أزمنة مختلفة بأجساد مختلفة لتجعل من كل جسد رجلا واحدا طالما ظلت متوحدة معه.

28. وخلاصة القول: إن أي جوهر حين يبدأ في الوجود يلزمه بالضرورة أن يظل هو هو في تطابق مع نفسه طوال فترة وجوده؛ وأن أي مركب من الجواهر حين يبدأ في الوجود لزم أن يظل مماثلا لذاته طالما ظلت الأجزاء التي يتألف منها موجودة؛ وأن أي نمط [من أنماط الكائنات] حين يبدأ في الوجود يبقى هو نفسه مماثلا لذاته خلال فترة وجوده... يبدو في ضوء هذا أن ما يجده الناس من صعوبة أو غموض بخصوص هذه المسألة إنما ينشأن عن الاستعمال السيئ للألفاظ لا عن غموض كامن في الأشياء ذاتها. لأنه مهما كان الشيء الذي يجعل من الفكرة التي يطبق عليها الاسم فكرة مخصوصة، وإذا حرصنا على الالتزام بهذه الفكرة بكل عزم وثبات، فسيكون من السهل علينا أن نميز بين ما هو مماثل لذاته وما هو مختلف دون أن نقع في براثن الشك. ولسوف أدافع عن هذا الطرح في الفقرة الموالية والأخيرة [من هذا الفصل].

29. إذا افترضنا أن الإنسان روح عاقلة، فسيكون من السهل، بالتالي، معرفة ما معنى أن يكون الرجل هو نفسه، أي نفس الروح، سواء أكانت متجسدة أم لا. وإذا افترضنا أن الإنسان روح عاقلة متوحدة بشكل حيوي مع جسد ذي بنية معينة، فإن هذه الروح العاقلة ستظل هي نفس الرجل طالما ظلت مرتبطة بذلك الجسد، وذلك على الرغم من أن هذا الأخير لا يحتاج لأن يظل على حاله كما هو طوال فترة حياته. فإذا كانت الفكرة التي لدينا عن الإنسان هي أنه عبارة عن اتحاد حيوي للأجزاء في شكل معين [أو بنية معينة]، فإنه طالما ظلت هذه الوحدة وذلك الشكل قائمين في الجسد المركب، وطالما ظلا على حالهما، إذا استثنينا تعاقب الجزيئات التي تندرج في تكوينها، فإن ذلك الإنسان سيظل كما هو مماثلا لذاته. وذلك لأن الفكرة المركبة التي نستعملها لتصنيف شيء ضمن نوع معين [من الكائنات]، تحدد أيضا ما الذي يستمر في الوجود لدى الشيء الذي ينتمي إلى ذلك النوع.

Partager cet article
Repost0
4 janvier 2010 1 04 /01 /janvier /2010 13:10

شجرة البطمة


آخر شجرة من نوعها في هضبة ملوية

SUC50160.jpg

ولعت بالتجوال مشيا على الأقدام في الهضاب والجبال.

أمشي في الصيف تحت لظى الشمس.

كثيرا ما كنت أحتمي بظل هذه الشجرة.

كانت وارفة الظلال.

وها هي ذي الآن قد ماتت.

مررت بها عند طلوع الشمس

في هدوء الصبح، وأنا أمشي

سمعت نبضات قلبي.

وفجأة، تمزق جدار الصمت.

طلقات نارية تنبعث من مكان بعيد

تفصلني عنه وديان وتلال.

سرت في اتجاه مصدر الصوت

سيارة بيضاء بميم حمراء..إدارية

إنهم يصطادون فراخ الحجل!

في عز الصيف !

با كوبنهاكن !

 SUC50158.jpg

 

 

 

 




 

Partager cet article
Repost0
1 janvier 2010 5 01 /01 /janvier /2010 23:07

تحليل نص لأفلاطون حول الفضيلة

أحمد أغبال

أجرت الباحثة مارالي هارل Maralee Harrell تجربة عبر سلسة من الدروس تندرج في المدخل إلى الفلسفة شملت 139 طالبا؛ وكان الهدف من هذه التجربة هو التحقق من الفرضية التالية: إن استعمال خطاطات الاستدلال الفلسفي يساعد على تنمية قدرة التفكير النقدي لدى الطلبة. وتوصلت إلى أن استعمال خطاطة الاستدلال يزيد من قدرة المتعلمين على الفهم والتحليل وتقييم البراهين والأدلة والتفكير النقدي([1]). سنقدم فيما يلي الخطاطة التي رسمتها الباحثة لأحد البراهين التي قدمها أفلاطون في محاورة مينون لإثبات أطروحته على لسان سقراط، وذلك تعميما للفائدة.  

تقديم النص

النص المقترح للتحليل هو الجزء الخامس من محاورة مينون تحت عنوان"عود إلى تحليل الفضيلة ونظرية الرأي الصائب". من المعلوم أن محاورات أفلاطون هي من نوع الخطاب الذي يمتزج فيه الأسلوب الجدلي الحجاجي بالأسلوب البرهاني المنطقي. وقد تنبه فيلسوف قرطبة، أبو الوليد ابن رشد، إلى هذه المسألة في شرحه واختصاره لـ"جمهورية" أفلاطون؛ وأسقط من المحاورة أبوابا كاملة بسبب كونها خطابية أو جدلية، يقول: "وأما المقالة الأولى من هذا الكتاب، فكلها أقاويل جدلية، وليس فيها برهان إلا ما كان عرضا.وكذلك فاتحة (المقالة) الثانية. ولذلك لم نفسر شيئا مما فيها"([2]). وسوف نقدم في خاتمة هذه المقالة مثالا من كتاب "الضروري في السياسة" يبين طريقة ابن رشد في التعامل مع نصوص أفلاطون وكيف ميز فيها بين الأسلوب الجدلي الذي يقوم على الحجاج والأسلوب البرهاني الذي يقوم على القياس المنطقي.   

 وبسبب هذا التداخل بين الأساليب الخطابية والجدلية والبرهانية في نصوص أفلاطون يكون من الصعب بالنسبة للقارئ المبتدئ أن يهتدي إلى الأطروحة التي يدافع عنها الفيلسوف وأن يكشف عن القضايا الاستدلالية التي تدعمها. وتزداد هذه الصعوبة لدى الأفراد الذين يعيشون في ظل ثقافة يطغى فيها البيان بحجاجه على الاستدلال والمنطق، حيث لا توجد كلمات تميز تمييزا واضحا بين فعل persuader وفعل convaincre. في هذا السياق، يصبح كل ما يفحم المخاطَبَ دليلا مقبولا سواء أكان مبنيا على أساس علمي رصين أو على أساس مغالطي. يبدو وكأن الإبستومولوجيا المهيمنة توجهها الروح المكيافيلية.

اختير هذا النص لكونه يلخص نتائج الفصول السابقة كلها، ويشتمل على جميع القضايا الاستدلالية التي تندرج في بنية البرهان، ويعلن عنها بوضوح أكبر. ومع ذلك، فإن الأسلوب الخطابي-الجدلي كثيرا ما يلقي بظلاله على الأسلوب البرهاني ويجعل من الصعب إدراك العلاقات بين القضايا. لم تكن وظيفة الأسلوب الخطابي-الجدلي في المحاورة هي الإقناع، وإنما كان الهدف منه، في المقام الأول، هو خلق الاضطراب في نفس مينون من خلال إيقاعه في التناقض، ودفعه إلى الشك في معتقداته كخطوة أولى لقبول نتائج البرهان.

وكان الغرض من اختيار هذا النص هو بيان أهمية الدور الذي يلعبه رسم خطاطة الاستدلال الفلسفي في بناء الدرس، من جهة، وفي تنمية القدرة على الفهم والتحليل والمناقشة والتفكير النقدي لدى المتعلمين، من جهة أخرى. وسوف نغتنم هذه الفرصة لبيان بعض الإجراءات المنهجية لتحليل النصوص الفلسفية.

صاغ أفلاطون الإشكالية التي كانت مطروحة في زمانه بوضوح تام في الفقرة الأولى من القسم الأول من محاورة مينون. ولقد جعلنا من هذه الفقرة مقدمة للجزء الخامس الذي قررنا معالجته. يتعلق السؤال الذي طرحه أفلاطون في بداية المحاورة، والذي لا يزال مطروحا حتى اليوم، بما إذا كانت الفضيلة تعلم أم لا تعلم. كان لهذه الإشكالية في زمانه بعد سياسي خاص إضافة إلى بعدها التربوي والأخلاقي. ذلك لأن من يتولى الحكم وتدبير شأن المدينة-الدولة اليونانية لم يكن له دائما من العلم قسط وافر. وانطلاقا من هذه الخلفية، كان لابد من طرح السؤال المتعلق بما إذا كانت للفضيلة علاقة بالعلم، من جهة، وبالظن الصحيح أو الحدس السليم، من جهة أخرى؛ وبعبارة أخرى، ما هو مصدر الفضيلة ؟ إن الجواب على هذا السؤال سيفضي بصاحبه منطقيا إلى إصدار حكم بخصوص من يتولون تدبير شؤون المدينة. فإذا كان مصدرها هو التربية والتعليم، لزم أن يكون الحكام من فئة الفلاسفة والعلماء. وإذا كانت الفضيلة على صلة وثيقة بالرأي السديد المبني على ضرب من ضروب الحدس فقط، فما هو منبعها الأصلي ؟ وإذا كان مصدرها شيئا آخر غير العقل، فإنه من المحتمل أن يكون مصدرها إلهيا. هذه هي أطروحة أفلاطون أو سقراط؛ وهي على ما يبدو، لا تنسجم تمام الانسجام مع النظرية السياسية لأفلاطون التي قضت بأن يكون حاكم المدينة الفاضلة فيلسوفا. ومهما يكن من أمر ذلك، فإن المهمة التي ما فتئت تشغل اهتمامنا تتعلق ببناء خريطة الاستدلال الفلسفي لنص مينون. ولسوف تيسر لنا هذه العملية الإجراءات المتعلقة بمناقشة الأطروحة الأفلاطونية وبيان مدى أهميتها وحدودها.

بناء خريطة الاستدلال كوسيلة لتنمية القدرة على التفكير النقدي

تعتبر تنمية التفكير النقدي أحد الأهداف الرئيسية للعملية التعليمية-التعلمية. ويستلزم التفكير النقدي امتلاك العديد من القدرات وفي مقدمتها الفهم، والتحليل، وتقييم الأدلة والبراهين وأساليب الاستدلال. ولذلك يمكن القول: إن القدرة على التفكير النقدي هي قدرة بالغة التعقيد وصعبة المنال. يرى بعض الباحثين ممن يهتمون بدراسة وتطوير طرق وأساليب تدريس الفلسفة أن رسم خريطة الأدلة الفلسفية هي من أكثر طرق التدريس فعالية لأنها تيسر الفهم والتحليل والتقويم، وتساعد بالتالي على تنمية القدرة على التفكير النقدي.

يعرف الاستدلال الفلسفي بأنه سلسلة من القضايا تمثل القضية الأخيرة فيها النتيجة وتسمى القضايا السابقة بالمقدمات التي تدعم الحصيلة النهائية. وأما خريطة الاستدلال فهي عبارة عن رسم بياني بشخص القضايا ويبين العلاقات المنطقية الاستدلالية التي تربط بعضها ببعض.

في محاورة مينون، مثلا، حاول أفلاطون أن يبرهن على لسان سقراط أن الفضيلة هبة من الله. هذه هي الأطروحة التي حاول الدفاع عنها أمام خصومه والتي ستصبح هي نتيجة البرهان. فما هي القضايا التي تدعمها ؟ وكيف تنتظم وتتسلسل ؟ لابد من الاعتراف بأن اكتشاف كيفية تسلسل القضايا مهمة صعبة بالنسبة للتلميذ، لأن الطبيعة الخطابية للنص تلقي بظلالها على بنية البرهان وتحيطها بنوع من اللبس والغموض، وتخلق الارتباك لدى القارئ. ولذلك لزم أن يكون هدف القراءة في لحظة أولى هو عزل القضايا التي تندرج في بنية البرهان. يتطلب تحقيق هذا الهدف امتلاك القدرة على التمييز والانتقاء. ومن المؤشرات الدالة على وجود أو عدم وجود هذه القدرة، هو تصور القارئ للقراءة. تكمن أهمية التصور في أنه يوجه السلوك؛ فإذا نظر القارئ إلى القراءة على أنها عملية انتقائية، يكون قد وفر لنفسه إمكانية تنمية القدرة على الانتقاء. يدل مفهوم الانتقاء، من وجهة نظر علم النفس المعرفي، على القدرة على توجيه الانتباه نحو المعلومات الأساسية وحفظها في الذاكرة القريبة المدى أو النشيطة. وعندما يتعلق الأمر بنص فلسفي، فإن المعلومات الأساسية هي القضايا التي تتشكل منها بنية البرهان. ويكون من الصعب على القارئ اكتشاف هذه القضايا ما لم يكن قد اكتسب القدرة على التمييز بين العبارات الخطابية والقضايا الأساسية التي تدعم أطروحة الكاتب.

ومن هنا تأتي أهمية التفكير الاستراتيجي الذي يستهدف الكشف عن القضايا الأساسية، ويعيد تركيبها في شكل ملموس يبرز بنية البرهان. وعندما تتضح بنية البرهان يكون من السهل تقييمها وإخضاعها للنقد. تلك، إذن، هي مراحل منهج تنمية وتطوير التفكير النقدي، وتحتل فيه القدرة على رسم خريطة القضايا الاستدلالية التي تظهر عناصر البرهان وعلاقاتها بشكل ملموس موقعا مهما للغاية. وهذا نموذج يمثل خريطة القضايا الاستدلالية التي تكشف عن بنية البرهان في نص مينون.

Nouvelle image (1).jpg

اقرأ الخطاطة في اتجاه السهم، بدءا بالمصادرتين: "يمكن تعليم شيء ما إذا كان له معلم" هذا مبدأ عام؛ "لا يوجد معلمون للفضيلة" هذه ملاحظة أو حكم من واقع الحياة.      

يتوقع أن يساعد اكتساب مهارة رسم خريطة القضايا الاستدلالية التلاميذ والطلبة على تنمية قدراتهم على تحليل ومناقشة أساليب البرهان الطويلة المعقدة، بحيث يمكن القول إنه كلما ازدادت القدرة على رسم هذه الخريطة إلا وازدادت القدرة على التعامل مع هذا النوع من البراهين. يرى الباحثون المتخصصون في مجال التربية أنه يكون من الصعب على التلاميذ والطلبة التعامل مع البراهين التي تثير لديهم نتائجها ردود فعل عاطفية-وجدانية قوية لاعتبارات دينية أو اجتماعية أو أيديولوجية أو غيرها. ويتوقع أن تساعد القدرة على رسم خريطة القضايا الاستدلالية التلاميذ على التعامل مع هذه البراهين بهدوء وموضوعية أكبر. ويتوقع في النهاية أن تساعد تنمية هذه المهارة التلاميذ على تطوير قدرتهم على الكتابة الإنشائية.

تمييز ابن رشد بين الجدل والبرهان في نصوص أفلاطون

قال ابن رشد:
        "فقد تبين من اختصار هذا القول مراتب هذه المدن و[مراتب] السعادة، والشقاء، ومراتب الولاة فيها، وأن أسعدهم هو الملك [الفاضل..]، كما أن أشأمهم هو وحداني التسلط.

"فهذا ما يراه أفلاطون في تحول تلك المدن وأهلها، وتحول بعضها إلى بعض. ولقائل أن يقول: إن كان الأمر كما ظن، من أن في هذه المدن ما يشبه الطرفين المتقابلين، وهما السياسة الفاضلة وسياسة وحدانية التسلط، وفيها ما يشبه الوسط بين المتقابلين، فإنه لا يلزم أن يكون ما تؤول إليه المدن على ذلك الترتيب (الخماسي الذي ذكره أفلاطون: الحكم الدستوري ملكية أو أرستقراطية، التيمقراطية أو الكرامية أي السعي وراء المجد، الأوليغارشية أو حكم القلة من الأغنياء، والديمقراطية مدينة الحرية والفوضى، والطغيان وحدانية التسلط). وإنما هذا يوجد في الأشياء الطبيعية، إذ الطبيعة هي التي من شأنها أن يأتي المتقابلان [فيها] عن طريق الوسائط. وأما هذه الأمور، وهي إرادية كليا وجميع هذه الطبائع، أعني التي وصفنا، توجد في هذه المدن، فكيف أمكن لكل مدينة منها أن تتحول إلى أخرى ؟

"قلنا: إن الذي قاله أفلاطون لاشك أنه ليس ضروريا، إنما هو الأكثر. وسبب هذا هو أن السياسة القائمة لها أثر في إكساب الناشئ عليها خلقا ما، وإن كان منافيا لما طبع عليه من التهيؤ للأخلاق، ولذلك صار ممكنا أن يكون معظم الناس فاضلين بالفضائل الإنسانية، وناذرا ما يمتنع ذلك. وقد تبين هذا في الجزء الأول من هذا العلم، إذ قيل هناك إن طرق بلوغ الفضائل العملية هو التعود، كما أن طريق بلوغ العلوم النظرية هو التعليم. ولما كان ذلك كذلك، فإن تحول الإنسان من خلق إلى خلق إنما يكون تابعا لتحول السنن ومرتبا على ترتيبها. ولما كانت النواميس، وخاصة في المدينة الفاضلة، لا تتحول من حال إلى حال فجأة، وهذا أيضا من قبل الملكات والأخلاق الفاضلة التي صار على نَهْجِهَا أصحابها وربوا عليها، وإنما تتحول شيئا فشيئا، وإلى الأقرب فالأقرب. كان تحول الملكات والهيئات بالضرورة على ذلك الترتيب حتى إذا فسدت النواميس غاية الفساد، برزت هناك الأخلاق القبيحة غاية القبح.

"ويتبين لك ذلك مما طرأ عندنا من الملكات والأخلاق بعد العام الأربعين [540هـ] لدى أصحاب السيادة والمراتب. وذلك أنه لما انقطعت أسباب السياسة الكرامية التي نشأوا عليها، صار أمرهم إلى الدنيويات التي هم عليها الآن، وإنما يثبت منهم على الخلق الفاضل من كانت به فضيلة الشريعة القرآنية، وهم فيهم قلة.

"ولما انتهى أفلاطون من القول في هذا، أراد كذلك أن يقيس بين اللذات الحاصلة لكل واحد من هؤلاء، لأن هذا من تمام المقايسة بينهم – وبهذا ينقضي كلامه في الأجزاء الضرورية من هذا العلم الذي قصدنا نحن بيانه – فشرع يقول: لما كانت أخلاق النفس تتوزع على ثلاثة أصناف [من الرجال]، وكذا الحال في المدن: النوع الأول المحب للحكمة، والثاني الغضبي، إما بالعفة فيكون كراميا، وإما بالإفراط فيكون متسلطا، والثالث الشهوي المحب للربح، كانت أنواع اللذات هي بالضرورة ثلاثة أصناف، لكل واحدة من هذه، لأنه قد تبين أن هذه اللذات كالظل [لكل واحد منهم].

"بدأ أفلاطون مستعملا الأقاويل الجدلية لبيان أي من هذه اللذات أفضل، وذلك أنه قال: كل واحد من أصحاب هذه اللذات الثلاث يجد أنه إنما يختار اللذة التابعة لسلوكه، وبعد ذلك عمل موضعا مشهورا(=أسلوب من أساليب الجدل) من المواضيع المذكورة في الثاني من كتاب طوبيقا، وهو كتاب الجدل، وقال: إلا أن ما يفضله صاحب الفلسفة والعلم هو أفضلها، وأكد ذلك الموضوع بأن قال: وذلك أن صاحب الفلسفة والعلم هو الذي عنده الآلتان اللتان بهما تنتظم الأمور، وهما التجربة والقياس. وصاحب الفلسفة هو الذي يتفق له وحده أن يرتب هذه اللذات الثلاث بالتجربة والقياس. أما بالتجربة فذلك لأنه هو الذي سبق أن ذاق تلك اللذات منذ طفولته، وأما الآخرون، فإنهم لم يذوقوا لذة الحكمة أصلا. وأما أن صاحب الحكمة هو الذي يمكنه أن ينهج نهج البرهان فهذا بين بنفسه. فنحن نرى العامة إنما يتذكرون اللذات حينما يقرنونها بأضدادها، فيقولون في وقت المرض أن الصحة هي ألذ الأشياء، ويقولون حين الحاجة إن الاستغناء [الثراء] هو ألذ الأشياء. والأشياء اللذيذة بما هي لذيذة لا يلزم أن يسبقها ضد، مثال هذا: الإبصار وغير ذلك، لكن أشرف اللذات هي التي على غير هذه الصفة، ولذلك كانت توجد على أكمل وجه. وأفلاطون أطال في هذا الغرض، أعني في بيان جهل من سوى الفلاسفة بالحكم على اللذات، وقدرة الفلاسفة على فعل هذا. ومع كل هذا لا يصل بهذا القول إلى أن يكون برهانيا، فنتركه ونأخذ بما قاله بعد ذلك – مما يبدو أنه برهاني، وكان قد استعمل في هذا قولا آخر- وهو هذا:

"قال: إن الجوع والعطش إفراغ للجسم وفراغ يعرض له. كذلك الجهل وعدم المعرفة إفراغ للنفس وفراغ لها. ولما كان ذلك كذلك فهما رجلان يمتلئان، أعني الذي يتناول الطعام والذي يكتسب المعرفة. والملء الحقيقي هو في الشيء الأشرف، وهو (العقل) أشرف شيء في الوجود، وهو الأكثر حضورا والأكثر حقيقة. والأشياء إنما تتفاضل في هذا الأمر تبعا لقربها من الأشياء الأزلية ذات الوجود الخالص، الدائمة البقاء.

"ولما كان ذلك كذلك، فالشيء الذي به تمتلئ النفس هو الأقرب إلى الحقيقة من الشيء الذي يملآ الجسد. والنفس أقرب إلى جوهر تلك الأشياء [الأزلية] من الجسد، وخاصة إذا كان إدراكها إدراكا أزليا. وبما أن الملء، أعني الإدراك، يكون لذيذا بالجملة، فإن الذي يدرك ما هو في جوهره أفضل وأقرب إلى الحقيقة وأولى بالدوام، فله، بالضرورة، أفضل اللذات. وكذلك لذة العقل مع سائر اللذات، لأن اللذات هي سريعة الفساد إذا ما خالطتها الأضداد، ولذة العقل ليس لها ضد، فهي خالدة أزلية، وأما إن فسدت، فذلك لتغير طرأ عليها. وهذا لعمري هو القول البرهاني، لا الذي سبق.

"ثم قال أيضا: أما معظم لذات العقل، فإنها تصير أفضل بفعل العقل لها، وما كان سببا في وجود أمر ما أفضل، فهو أفضل، ولما كان ذلك كذلك، فالحكيم هو الذي يدرك جميع اللذات على أفضل ما تكون عليه. وهذا لعمري حق، غير أن القول الذي قال فيه إن كل ما كان سببا في كون شيء على الصفة الأفضل، هو أفضل، هو قول مشهور، وإن لم يبين ذلك. وجالينوس لجهله بالطرق المنطقية، يظن أن هذه كلها أقاويل برهانية. والقول البرهاني، في المقايسة بين هذه اللذات، إنما هو القول السابق لهذا"[1]

أسئلة حول النص

1.     يقول ابن رشد: " وأفلاطون أطال في هذا الغرض، أعني في بيان جهل من سوى الفلاسفة بالحكم على اللذات، وقدرة الفلاسفة على فعل هذا. ومع كل هذا لا يصل بهذا القول إلى أن يكون برهانيا". ما لذي يبرر هذا القول ؟ لماذا اعتبر ابن رشد القول السابق قولا غير برهاني ؟

2.     أورد ابن رشد بعد ذلك قولا لأفلاطون اعتبره برهانيا، حاول أن ترسم لهذا القول خريطة القضايا الاستدلالية.

 

 


([1]) ابن رشد المصدر السابق، ص. 203-206



 


 

([1])  Maralee Harrell. “Using Argument Diagrams to Improve Critical Thinking Skills”, in Introductory

     Philosophy. Carnegie Mellon University, Department of Philosophy 135 Baker Hall, Pittsburgh, PA, 15213

 

 

  ([2])  ابن رشد. الضروري في السياسة: مختصر كتاب السياسة لأفلاطون. نقله عن العبرية إلى العربية الدكتور أحمد شحلان. مركز دراسات

      الوحدة   العربية. الطبعة الثانية بيروت 2002. ص. 208.

 

 

Partager cet article
Repost0
30 décembre 2009 3 30 /12 /décembre /2009 12:59

تحليل نص لأفلاطون حول الفضيلة

أحمد أغبال

أجرت الباحثة مارالي هارل Maralee Harrell تجربة عبر سلسة من الدروس تندرج في المدخل إلى الفلسفة شملت 139 طالبا؛ وكان الهدف من هذه التجربة هو التحقق من الفرضية التالية: إن استعمال خطاطات الاستدلال الفلسفي يساعد على تنمية قدرة التفكير النقدي لدى الطلبة. وتوصلت إلى أن استعمال خطاطة الاستدلال يزيد من قدرة المتعلمين على الفهم والتحليل وتقييم البراهين والأدلة والتفكير النقدي(*). سنقدم فيما يلي الخطاطة التي رسمتها الباحثة لأحد البراهين التي قدمها أفلاطون في محاورة مينون لإثبات أطروحته على لسان سقراط، وذلك تعميما للفائدة.  

تقديم النص

النص المقترح للتحليل هو الجزء الخامس من محاورة مينون تحت عنوان"عود إلى تحليل الفضيلة ونظرية الرأي الصائب". من المعلوم أن محاورات أفلاطون هي من نوع الخطاب الذي يمتزج فيه الأسلوب الجدلي الحجاجي بالأسلوب البرهاني المنطقي؛ ولذلك يكون من الصعب الكشف عن الأطروحة التي يدافع عنها الفيلسوف وعن القضايا الاستدلالية التي تدعمها، وإن كان من السهل بيان الإشكالية التي بعالجها. وتزداد هذه الصعوبة لدى الأفراد الذين يعيشون في ظل ثقافة يطغى فيها البيان بحجاجه على الاستدلال والمنطق، حيث لا توجد كلمات تميز تمييزا واضحا بين فعل persuader وفعل convaincre. في هذا السياق، يصبح كل ما يفحم المخاطَبَ دليلا مقبولا سواء أكان مبنيا على أساس علمي رصين أو على أساس مغالطي. يبدو وكأن الإبستومولوجيا المهيمنة توجهها الروح المكيافيلية.

اختير هذا النص لكونه يلخص نتائج الفصول السابقة كلها، ويشتمل على جميع القضايا الاستدلالية التي تندرج في بنية البرهان، ويعلن عنها بوضوح أكبر. ومع ذلك، فإن الأسلوب الخطابي-الجدلي كثيرا ما يلقي بظلاله على الأسلوب البرهاني ويجعل من الصعب إدراك العلاقات بين القضايا. لم تكن وظيفة الأسلوب الخطابي-الجدلي في المحاورة هي الإقناع، وإنما كان الهدف منه، في المقام الأول، هو خلق الاضطراب في نفس مينون من خلال إيقاعه في التناقض، ودفعه إلى الشك في معتقداته كخطوة أولى لقبول نتائج البرهان.

وكان الغرض من اختيار هذا النص هو بيان أهمية الدور الذي يلعبه رسم خطاطة الاستدلال الفلسفي في بناء الدرس، من جهة، وفي تنمية القدرة على الفهم والتحليل والمناقشة والتفكير النقدي لدى المتعلمين، من جهة أخرى. وسوف نغتنم هذه الفرصة لبيان بعض الإجراءات المنهجية لتحليل النصوص الفلسفية.

صاغ أفلاطون الإشكالية التي كانت مطروحة في زمانه بوضوح تام في الفقرة الأولى من القسم الأول من محاورة مينون. ولقد جعلنا من هذه الفقرة مقدمة للجزء الخامس الذي قررنا معالجته. يتعلق السؤال الذي طرحه أفلاطون في بداية المحاورة، والذي لا يزال مطروحا حتى اليوم، بما إذا كانت الفضيلة تعلم أم لا تعلم. كان لهذه الإشكالية في زمانه بعد سياسي خاص إضافة إلى بعدها التربوي والأخلاقي. ذلك لأن من يتولى الحكم وتدبير شأن المدينة-الدولة اليونانية لم يكن له من العلم دائما قسط وافر من العلم. وانطلاقا من هذه الخلفية، كان لابد من طرح السؤال المتعلق بما إذا كانت للفضيلة علاقة بالعلم، من جهة، وبالظن الصحيح أو الحدس السليم، من جهة أخرى؛ وبعبارة أخرى، ما هو مصدر الفضيلة ؟ إن الجواب على هذا السؤال سيفضي بصاحبه منطقيا إلى إصدار حكم بخصوص من يتولون تدبير شؤون المدينة. فإذا كان مصدرها هو التربية والتعليم، لزم أن يكون الحكام من فئة الفلاسفة والعلماء. وإذا كانت الفضيلة على صلة وثيقة بالرأي السديد المبني على ضرب من ضروب الحدس فقط، فما هو منبعها الأصلي ؟ وإذا كان مصدرها شيئا آخر غير العقل، فإنه من المحتمل أن يكون مصدرها إلهيا. هذه هي أطروحة أفلاطون أو سقراط؛ وهي على ما يبدو، لا تنسجم تمام الانسجام مع النظرية السياسية لأفلاطون التي قضت بأن يكون حاكم المدينة الفاضلة فيلسوفا. ومهما يكن من أمر ذلك، فإن المهمة التي ما فتئت تشغل اهتمامنا تتعلق ببناء خريطة الاستدلال الفلسفي لنص مينون. ولسوف تيسر لنا هذه العملية الإجراءات المتعلقة بمناقشة الأطروحة الأفلاطونية وبيان مدى أهميتها وحدودها.

بناء خريطة الاستدلال كوسيلة لتنمية القدرة على التفكير النقدي

تعتبر تنمية التفكير النقدي أحد الأهداف الرئيسية للعملية التعليمية-التعلمية. ويستلزم التفكير النقدي امتلاك العديد من القدرات وفي مقدمتها الفهم، والتحليل، وتقييم الأدلة والبراهين وأساليب الاستدلال. ولذلك يمكن القول: إن القدرة على التفكير النقدي هي قدرة بالغة التعقيد وصعبة المنال. يرى بعض الباحثين ممن يهتمون بدراسة وتطوير طرق وأساليب تدريس الفلسفة أن رسم خريطة الأدلة الفلسفية هي من أكثر طرق التدريس فعالية لأنها تيسر الفهم والتحليل والتقويم، وتساعد بالتالي على تنمية القدرة على التفكير النقدي.

يعرف الاستدلال الفلسفي بأنه سلسلة من القضايا تمثل القضية الأخيرة فيها النتيجة وتسمى القضايا السابقة بالمقدمات التي تدعم الحصيلة النهائية. وأما خريطة الاستدلال فهي عبارة عن رسم بياني بشخص القضايا ويبين العلاقات المنطقية الاستدلالية التي تربط بعضها ببعض.

في محاورة مينون، مثلا، حاول أفلاطون أن يبرهن على لسان سقراط أن الفضيلة هبة من الله. هذه هي الأطروحة التي حاول الدفاع عنها أمام خصومه والتي ستصبح هي نتيجة البرهان. فما هي القضايا التي تدعمها ؟ وكيف تنتظم وتتسلسل ؟ لابد من الاعتراف بأن اكتشاف كيفية تسلسل القضايا مهمة صعبة بالنسبة للتلميذ، لأن الطبيعة الخطابية للنص تلقي بظلالها على بنية البرهان وتحيطها بنوع من اللبس والغموض، وتخلق الارتباك لدى القارئ. ولذلك لزم أن يكون هدف القراءة في لحظة أولى هو عزل القضايا التي تندرج في بنية البرهان. يتطلب تحقيق هذا الهدف امتلاك القدرة على التمييز والانتقاء. ومن المؤشرات الدالة على وجود أو عدم وجود هذه القدرة، هو تصور القارئ للقراءة. تكمن أهمية التصور في أنه يوجه السلوك؛ فإذا نظر القارئ إلى القراءة على أنها عملية انتقائية، يكون قد وفر لنفسه إمكانية تنمية القدرة على الانتقاء. يدل مفهوم الانتقاء، من وجهة نظر علم النفس المعرفي، على القدرة على توجيه الانتباه نحو المعلومات الأساسية وحفظها في الذاكرة القريبة المدى أو النشيطة. وعندما يتعلق الأمر بنص فلسفي، فإن المعلومات الأساسية هي القضايا التي تتشكل منها بنية البرهان. ويكون من الصعب على القارئ اكتشاف هذه القضايا ما لم يكن قد اكتسب القدرة على التمييز بين العبارات الخطابية والقضايا الأساسية التي تدعم أطروحة الكاتب.

ومن هنا تأتي أهمية التفكير الاستراتيجي الذي يستهدف الكشف عن القضايا الأساسية، ويعيد تركيبها في شكل ملموس يبرز بنية البرهان. وعندما تتضح بنية البرهان يكون من السهل تقييمها وإخضاعها للنقد. تلك، إذن، هي مراحل منهج تنمية وتطوير التفكير النقدي، وتحتل فيه القدرة على رسم خريطة القضايا الاستدلالية التي تظهر عناصر البرهان وعلاقاتها بشكل ملموس موقعا مهما للغاية. وهذا نموذج يمثل خريطة القضايا الاستدلالية التي تكشف عن بنية البرهان في نص مينون.



(*)  Maralee Harrell. “Using Argument Diagrams to Improve Critical Thinking Skills”, in Introductory

     Philosophy. Carnegie Mellon University, Department of Philosophy 135 Baker Hall, Pittsburgh, PA, 15213

Partager cet article
Repost0
26 novembre 2009 4 26 /11 /novembre /2009 14:08

تأثير خطاب الأزمة على الروح المعنوية للمتعلمين

أحمد أغبال

(نص المداخلة التي ألقيتها في الندوة التي نظمتها "جمعية بلا حدود" بمدينة مكناس)

من الصعب تحديد مفهوم الأزمة. هناك تضارب في تصورات الباحثين والخبراء لما يوصف بحالة الأزمة. ويرجع السبب في ذلك إلى اختلاف المقاربات التي ينطلقون منها لتحليل أسبابها وآلياتها، وتشخيص أعراضها، وبيان النتائج المترتبة عنها. وعندما يتخطى الحديث عن الأزمة حدود دائرة الخبراء والأكاديميين والمعنيين المباشرين بها (رجال المال والأعمال ومؤسسة الدولة) لينتقل إلى العموم في شكل خطاب أيديولوجي تكون للأزمة تداعيات غير متوقعة على المستوى السيكولوجي لدى الجمهور. ويشكل الناس عنها تصورات خاصة بهم، وتكون لهذه التصورات آثار سلبية وأحيانا مدمرة على علاقتهم بالمؤسسات التي يتعاملون معها. تسعى هذه المداخلة إلى تسليط الضوء على النتائج المترتبة عن "خطاب الأزمة" العالمية الراهنة في ما يتعلق بعلاقة مختلف مكونات المجتمع بالنظام التعليمي. تتلخص المداخلة في الإجابة على السؤالين التاليين:

-         ما هي الكفايات المطلوبة في عصر المعلومات والعولمة الذي يتميز بالتغيرات السريعة والغموض وعدم اليقين ؟

-         ما هي العوائق التي تحول دون اكتساب هذه الكفايات في سياق ما بات يعرف بالأزمة العالمية التي ليست في جزء منها سوى التعبير الصارخ عن خصائص عصر المعلومات والعولمة السابقة الذكر؟  

 

1.    تعريف مفهوم الأزمة

اسمحوا لي أن أبدأ بتحديد الدلالة اللغوية لكلمة "أزمة" التي تستعمل الآن في اللغة العربية كترجمة لكلمة "crise" الفرنسية أو "crisis" الإنجليزية. يرجع أصل هذه الكلمة في اللغات اللاتينية إلى كلمة "krisis" التي كانت تستعمل في اللغة اليونانية القديمة للإشارة إلى مرحلة جديدة من مراحل تطور وضعية ما يكون فيها من الضروري اتخاذ القرار المناسب للمرحلة الجديدة. تحيل الكلمة الأصلية (krisis) في اللغات اللاتينية على فكرة التطور أو التغير، وفكرة اتخاذ القرار المناسب لكل مرحلة مراحل التطور أو التغير؛ وهذا شيء مهم للغاية من حيث أن لهذه الدلالة قيمة منهجية كبيرة، كما سيتبين لنا ذلك بعد قليل.

ولكلمة "أزمة" في اللغة العربية، حسب تعريف ابن منظور لها في قاموسه "لسان العرب"، معنى خاصا له علاقة بمشاعر القوم إزاء عوادي الدهر والتقلبات المناخية في المناطق الصحراوية. نقرأ في "لسان العرب" ما يلي:

"والأَزْمُ: الجَدْبُ والمَحْل".

وقال ابن سيده: "الأَزْمة الشدّة والقَحْط، وجمعها إِزَمٌ"  

ويقال أيضا "الأَزْبَةُ"، وهي مرادف "الأَزْمةِ"، "وهي الشّدَّةُ، وأَصابتنا أَزْبَةٌ وآزِبةٌ أَي شدَّة"

"ويقال: نزلتْ بهم أَزامِ وأَزُومٌ أَي شدَّة. والمُتَأَزِّمُ: المُتَأَلِّم لأَزْمةِ الزمان؛ أَنشد عبد الرحمن عن عمه الأَصمعي في رجل خطَب إِليه ابنَته فردَّ الخاطِبَ: قالوا:

تَعَزَّ فَلَسْتَ نائِلَها،

حتى تَمَرَّ حَلاوَةُ التَّمْرِ

لَسْنا من المُتأَزِّمينَ، إِذا

فَرِحَ اللَّمُوسُ بثائبِ الفَقْرِ

أَي لَسْنا نُزَوِّجك هذه المرأَة حتى تَعود حَلاوةُ التَّمْر مَرارةً، وذلك ما لا يكون. والمُتَأَزِّمُ: المُتَأَلِّم لأَزْمةِ الزَّمان وشدَّتِه، واللَّمُوسُ: الذي في نَسَبه ضَعَةٌ، أَي أَن الضعيفَ النسَب يفْرَح بالسَّنة المُجْدبة ليُرْغَب إِليه في ماله فيَنْكِحَ أَشْراف نِسائهم لحاجَتهم إلى ماله".

وفي الحديث: اشْتَدِّي أَزْمَة تَنْفَرِجي، قال: الأَزْمَة السَّنة المُجْدِبة. يقال: ِإن الشدَّة إِذا تَتابَعت انفرجت وإِذا تَوالَتْ تَوَلَّت. وفي حديث مجاهد: أَن قُرَيْشاً أَصابَتْهم أَزْمةٌ شديدةٌ وكان أَبو طالب ذا عيالٍ. والأَوزامُ: السِّنُون الشدائد كالبَوازِم. وأَزَمَ عليهم العامُ والدهرُ َأْزِمُ أَزْماً وأُزُوماً: اشتدّ قَحْطُه، وقيل: اشتدَّ وقَلَّ خَيرُه؛ وسنة أَزْمَةٌ وأَزِمَةٌ وأَزُومٌ وآزِمةٌ؛ قال زهير: إِذا أَزَمَتْ بهم سَنةٌ أَزُوم"

تحيل كلمة "أزمة" في اللغة العربية إلى الحالة النفسية التي يوجد عليها الناس في مواجهتهم لظروف القحط في صحراء مترامية الأطراف. ولما كانت سنوات القحط تتكرر بكثرة وبنوع من الانتظام، اكتسبوا القدرة على الصبر والتحمل، وهو ما يشير إليه الحديث الذي نسبه ابن منظور إلى النبي (ص): "اشْتَدِّي أَزْمَة تَنْفَرِجي"، وكذا القول المأثور الذي أورده بعد ذلك: " ِإن الشدَّة إِذا تَتابَعت انفرجت وإِذا تَوالَتْ تَوَلَّت". وهو ما يدل على قدرة أهل الصحراء على التكيف مع ظروف الأزمة بالمعنى المشار إليه في هذا السياق.

ولدلالة الأزمة في اللغة العربية أهمية كبيرة من الناحية النظرية في ما يتعلق بفهم ردود الفعل العاطفية-الوجدانية إزاء ظروف الأزمة كما يتصورها الناس.

يمكن القول في ضوء ما سبق، إنه إذا كانت كلمة "أزمة" في اللغة اليونانية تحيل، في المقام الأول، إلى ما يجري في العالم الخارجي، فإنها تشير في دلالتها اللغوية العربية، قبل كل شيء، إلى ما يجري في العالم الداخلي. يمكن النظر إلى هاتين الدلالتين على أنهما متكاملتان، تساعدان معا على الإحاطة بمختلف ظواهر الأزمة وأبعادها في عالمنا المعاصر.

وأما فيما يتعلق بالدلالة الاصطلاحية لمفهوم الأزمة، فإنه يحيل، حسب تعريف إدغار موران، على الوضعية التي يكون فيها من المستحيل اتخاذ قرار ما)[1](. يصف هذا المفهوم الانقطاع الحاصل في تطور ظاهرة ما بحيث يصبح من الصعب اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، أي قبل أن تتفاقم الإختلالات الحاصلة في النظام.

2.   المقاربات النظرية للأزمة

هناك مقاربتان أساسيتان لتفسير ظواهر الأزمة، وهما: المقاربة الحدثانية التي تركز على أعراض الأزمة، وتنصب على تحليل طبيعة المعلومات ذات الصلة بالحدث العارض المتعلق بالأزمة وبنتائجه التي لم تعد تخفى على أحد، والمقاربة الإجرائية التي تضع الأزمة في سياقها المتعدد الأبعاد من أجل توفير المعلومات لمراكز القرار حول جذور الأزمة وديناميتها.

تنظر المقاربة الحدثانية إلى الأزمة على أنها حدث مفاجئ وصادم يكون من الصعب التمييز بينه وبين الحدث العارض الذي رافق بروزها والذي يتسبب في ظهور بعض الأعراض في زمان معين ومكان محدد. وما يميز الأزمة بهذا المعنى هو طابعها المفاجئ، وعشوائيتها، وخروجها عن دائرة الاحتمال والتوقع، وعدم اليقين، وشح المعلومات عنها. وبسبب هذه الخصائص يكون وقعها على النفس قويا، وتتسبب في التوتر والقلق والضغط النفسي والارتباك، مما يجعل اتخاذ القرار أمرا بالغ الصعوبة إن لم يكن مستحيلا. ولذلك يتم التركيز في تناولها على الأحداث العرضية التي تفجرها والأعراض المترتبة عنها.

وإذا كانت المقاربة الحدثانية تركز في تناولها للأزمة على الجوانب العرضية غير المتوقعة أو غير المحتملة الوقوع، فإن المقاربة الإجرائية تنطلق من رصد الإختلالات الوظيفية الخفية من أجل التكهن بالأزمة ومعالجتها قبل وقوعها. تنطلق هذه المقاربة من مصادرة مفادها أن كل نسق معرض للاختلال وفقا لقانون الأنثروبيا الذي يمثل النزعة التدميرية في مختلف أنواع النظم الاجتماعية والاقتصادية والطبيعية أو البيولوجية. يدل هذا القانون على أن الاختلال والقابلية للتعرض للمخاطر شيء طبيعي في كل نسق من الأنساق مهما كان نوعه. ولذلك فإن توقع الأسوأ يساعد على تفادي الصدمة ويزيد من قدرة الفاعلين على مواجهة التحديات، ويعزز قدرتهم على التحمل والصمود والتكيف مع الظروف المتقلبة مثلما هو الحال بالنسبة لسكان الصحراء.

تنظر المقاربة الإجرائية إلى النظم الاقتصادية الحديثة على أنها نظم بالغة التعقيد، معرضة بحكم درجة تعقدها العالية للمخاطر. تتألف هذه النظم من عدد لا حصر له من العناصر المتفاعلة فيما بينها. وبسبب الترابط العضوي التفاعلي بين هذه العناصر، فإن الاختلالات عندما تظهر يؤثر بعضها في بعض، مما يؤدي إلى تفاقمها وانتشار لهيبها بسرعة مذهلة ليشمل كل مناحي النسق. ومن خصائص النظم الحديثة أيضا الارتفاع المتزايد في وتيرة التغير، مما يتسبب في الغموض وعدم اليقين. ولذلك يفترض أن تكون أسباب الأزمة ملازمة للنظم الحديثة وإن كانت خفية وغامضة، ويتوقع أن تكون لها آثار مدمرة على المستويات التقنية والاجتماعية والنفسية؛ ويكون من اللازم أن يكتسب الإنسان الذي يعيش في كنف هذه الأنساق المعقدة الشديدة الحركية والتغير، المتسمة بالغموض وعدم اليقين، قدرة كبيرة على التكيف ومواجهة الصعوبات.

3.   الكفايات المطلوبة في عصر المعلومات والعولمة

التكيف، إذن، أو التهميش وتفكك الشخصية والروابط الاجتماعية. ومن هنا يبرز دور الأنظمة التعليمية في بناء الشخصية القادرة على التأقلم مع الظروف المتغيرة التي تتميز،  إضافة إلى ما ورد ذكره آنفا، بالمنافسة الشديدة بين الأفراد والمنظمات والدول. فما هي المهارات المطلوبة في زمن العولمة والتغيرات السريعة والغموض وعدم اليقين ؟

يمكن تقسيم هذه المهارات إلى ثلاثة أنواع، وهي المهارات المعرفية والمهارات فوق المعرفية، والمهارات البيشخصية أو الاجتماعية ذات الصلة الوثيقة بالمهارات فوق المعرفية.

تشمل المهارات المعرفية ما يعرف بالمهارات الأساسية كالقراءة والحساب، والمهارات العقلية كالقدرة على الحفظ والتذكر، والفهم، والتحليل، والتركيب، والحكم، والاستقراء، والاستنباط، والقدرة على حل المشكلات إلى غير ذلك من المهارات التي لم تعد تخفى على أحد. تندرج هذه المهارات ضمن ما يسمى بالجهاز المعرفي. ويشمل هذا الجهاز القدرة على جمع المعلومات، وتنظيمها، ومعالجتها، وتأويلها، وتقييمها، واستعمالها، وتبليغها للآخرين، وهو ما يتطلب استعمال أجهزة الكمبيوتر لمعالجة المعلومات، والقدرة على التعامل مع النظم التكنولوجية، وفهم النظم الاجتماعية وهياكلها التنظيمية.

يرى المختصون في مجال علم النفس المعرفي أن هذا الجهاز لا يشتغل من تلقاء نفسه، وإنما يخضع في اشتغاله لجهاز آخر يتحكم فيه، وهو الجهاز فوق-المعرفي. يتألف هذا الجهاز من مجموعة من العناصر الإبستيمية وغير الإبستيمية، كالقدرة على التخطيط وتحديد الأهداف والاستراتيجيات، والحوافز، والقدرة على ضبط النفس، والثقة في القدرات الذاتية أو الفعالية الذاتية، والاعتبار الذاتي، والقدرة على بذل المجهود، والقدرة على الصبر والتحمل ومواجهة الصعاب، وروح المسئولية، ومحاسبة النفس.

وأما المهارات البيشخصية فتشمل العمل بروح الفريق، ويتجلى ذلك من خلال القدرة على التعاون مع الآخرين لحل المشكلات، واتخاذ القرارات، وتحقيق الأهداف من خلال العمل الجماعي، والقدرة على تعليم المهارات الجديدة للآخرين وإرشادهم وتوجيههم، والقدرة على خدمة الآخرين، ويتطلب ذلك التوفر على المهارات القيادية، ومهارات التفاوض والإقناع، والقدرة على التعامل مع أشخاص ينتمون إلى مختلف الثقافات والبيئات الاجتماعية. تمثل هذه المهارات السياق الاجتماعي الذي يحدد المستوى الأمثل لنمو القدرات فوق-المعرفية، التي تحدد بدورها مستوى نمو القدرات المعرفية ودرجة فعاليتها في أداء وظائفها.

يتبين من هذا التحليل بأن العقل هو قبل كل شيء نتاج اجتماعي، ويتأثر سلبا أو إيجابا بما يجري في الواقع الاجتماعي-الثقافي.

دعونا الآن نتأمل في ضوء هذا التحليل الآثار المحتملة لـ"خطاب الأزمة" على الفاعلين في الأنظمة التعليمية. الملاحظ أن هذا الخطاب يميل إلى التركيز أكثر على الأعراض عندما يخرج إلى العموم من دوائره المغلقة، فيتحول على الفور إلى خطاب الرعب، ويزرع الخوف من المستقبل في نفوس المتعلمين والمعلمين على حد سواء، وتنتشر مشاعر التشاؤم واليأس على نطاق واسع، وتموت الحوافز المدرسية لفقدان الأمل في الارتقاء الاجتماعي الذي يجعل منه معظم الأفراد الغاية من دراستهم. ذلك لأن الغاية من الدراسة لدى الغالبية العظمى من المتعلمين لم تعد تتمثل في تحقيق الذات من خلال تنمية القدرات الذاتية، بل في الحصول على الوظيفة التي أصبحت محط منافسة قوية. يؤدي تنامي الاتجاهات السلبية تحت تأثير خطاب الأزمة إلى إضعاف القدرات فوق-المعرفية ومن ثمة كبح الجهاز المعرفي وتعطيل قدراته. وتكون النتائج بالنسبة لمن وضع هدف الدراسة خارج الذات عكسية؛ لأن القدرة على التكيف في زمن المعلومات والعولمة تتطلب توفر الفرد على قدرات عالية جدا.    



([1])  Morin, E. Pour une crisologie, Connexions, vol.25, p.149-163   

Partager cet article
Repost0
16 mai 2009 6 16 /05 /mai /2009 23:57

مبادئ الفلسفة السياسية لدى باروخ سبينوزا

أحمد أغبال

تقوم الفلسفة السياسية لدى باروخ سبينوزا على مصادرة أساسية مفادها أن الأنظمة السياسية ليست أنظمة طبيعية بل هي أنظمة مبتكرة، صنعها الإنسان من أجل تحقيق بعض الأهداف. ويرتبط عنده الدافع إلى تأسيسها بالطبيعة الإنسانية. تتحدد فلسفته السياسية، إذن، بتصوره للطبيعة الإنسانية، منها استنبط مبادئها وغاياتها، وعليها أسس مفهومه لطبيعة النظام السياسي الصالح للبشر. ولذلك لزم البدء بالتعريف بتصور سبينوزا للطبيعة الإنسانية.

1.     تصور سبينوزا للطبيعة الإنسانية

سار سبينوزا على نهج هوبز في بناء فلسفته السياسية. كلاهما انطلق من فكرة أن الأهداف والغايات السياسية تستنبط من الطبيعة الإنسانية كما هي في الواقع لا كما ينبغي أن تكون. تمثل الطبيعة الإنسانية في نظر سبينوزا كيانا لا يختلف عن الكائنات الطبيعية الأخرى من حيث أنها تخضع جميعها لقوانين طبيعية. فكما أن بنيتنا العضوية والفيزيولوجية تخضع لهذه القوانين كذلك تخضع لها بنيتنا النفسية بما تنطوي عليه من انفعالات ومشاعر وأهواء ورغبات. ولذلك لزم التعامل مع الطبيعة الإنسانية ودراستها مثلما يدرس أي كائن طبيعي آخر. وأما المبدأ الأساسي الذي يتحكم في الكائنات الإنسانية فهو مبدأ الكاناتوس canatus principal أو قانون الشهوة الذي يمثل الدافع الحيوي وإرادة الحياة، وهو ما عبر عنه سبينوزا بقوله: "كل شيء يكافح من أجل الحفاظ على البقاء بقدر المستطاع وبقدر ما له من قوة". يقوم هذا المبدأ مقام المصادرة الأساسية التي تنبني عليها الفلسفة السياسية لدى باروخ سبينوزا. يقول بهذا الصدد:

"ولما كان العقل لا يرغب في ما ليس موافقا للطبيعة، فإنه بقضي بأن يحب كل امرئ نفسه، وأن يسعى لما فيه مصلحته وإلى ما هو مفيد له بالفعل؛ ولا ويرغب إلا بما يفضي بالإنسان إلى مزيد من الكمال؛ ويقضي، بكل تأكيد، بأن يكافح كل فرد من أجل الحفاظ على وجوده بقدر المستطاع. والواقع، أن هذا الأـمر ضروري وبديهي مثلما هو بديهي أن الكل أكبر من الجزء"[1]

إن قانون الشهوة هو ما يجعل الإنسان كائنا أنانيا بامتياز. هذا هو تصور سبينوزا للإنسان: إنه أناني بطبعه.  تلك بديهية لا تحتاج إلى برهان في نظره. إنها عبارة عن مبدإ قبلي يفرض نفسه بوصفه حقيقة متعالية عن ظروف الزمان والمكان. ومما يلزم عن هذا المبدإ أن يتصرف كل امرئ وفقا لما يرى فيه مصلحته الخاصة.

وبحكم طبيعته ونوازعه الشهوانية أصبح الإنسان مؤهلا – بالفطرة -  لأن يكون لغيره عدوا. وإذا تصورناه وهو في حالة الطبيعة، حيث لا وجود للدولة والقانون، فإن وضعه لا بد أن يكون محكوما بالصراع. يصف سبيونوزا الإنسان وهو في حالة الطبيعة بقوله:

"..يتحدد الحق الطبيعي لكل إنسان حسب الرغبة والقدرة، لا حسب العقل السليم. وليس الجميع مؤهلا طبيعيا للتصرف وفقا لقوانين العقل السليم وقواعده، بل إن جميع الناس ولدوا، على العكس من ذلك، في حالة من الجهل المطبق، وقبل أن يتعلموا أسلوب الحياة الصحيح ويكتسبوا العادات الفاضلة، يكون الجزء الأكبر من حياتهم قد انقضى، حتى وإن كانوا على قدر كبير من التربية. إلا أنهم يكونون في غضون ذلك مضطرين للعيش والحفاظ على وجودهم، بقدر المستطاع، بدافع الرغبة الشهوانية التي تكون مستقلة غير تابعة لغيرها[=متحررة من ضوابط العقل]. لم تمنحهم الطبيعة موجها آخر سواه، فحرمتهم من القدرة على العيش طبقا للعقل السليم. ولذلك لم يكونوا ملزمين بأن يعيشوا وفقا لأوامر العقل المتنور مثلما أن القط ليس مضطرا لأن يعيش طبقا للقوانين المتحكمة في طبيعة الأسد. ومن ثمة، فإن كل ما يعتقد الفرد الواقع تحت سيطرة الطبيعة بأنه نافع له، وسواء أكان منقادا في ذلك بالعقل السليم أو مدفوعا بقوة انفعالاته، يكون له الحق المطلق في طلبه والاستيلاء عليه بأنجع الطرق، وسواء أكان ذلك بواسطة القوة أو التحايل أو التوسل أو أية وسيلة أخرى. وبالتالي، فإنه لابد أن ينظر إلى كل من يَحُولُ دون تحقيق هدفه على أنه عدو له"[2]  

في حالة الطبيعة يعيش الإنسان وفقا لمبدإ الشهوة، ويكون شغله الشاغل هو تحقيق مصلحته بكل الوسائل المتوفرة ولو على حساب الآخرين. ولم يكن بوسعه أن يتصرف في ضوء العقل السليم، لأن معظم تصوراته للرغبة والمنفعة توجهها الغرائز الشهوانية والانفعالات التي لا تهتم بما وراء اللحظة الراهنة والموضوع المباشر. والسبب في ذلك أن الإنسان جزء من الطبيعة، واقع تحت قوانينها. ومن قوانينها الأساسية أن لكل موجود حق مطلق على ما يقع في نطلق قدرته، وأن كل شيء يحاول الحفاظ على وجوده والبقاء على وضعه بقدر ما له من قوة من غير أن يراعي في ذلك أي شيء آخر. هذا هو حال الإنسان في الطبيعة، لا يملك سوى أن يسلك وفقا لما تمليه عليه طبيعته، مثله في ذلك مثل سائر الموجودات الطبيعية، ولا فرق في ذلك بين الأذكياء والأغبياء من الناس. ولذلك، فإن كل من يتصرف وفقا لقوانين الطبيعة إنما يمارس حقه الطبيعي المطلق. وإذا كان ذكيا فإنه يستخدم قدراته العقلية وفقا للمنطق الطبيعي، وبذلك يظل خاضعا لقانون الشهوة دون غيره، يسعى إلى السيطرة على كل ما يقع تحت قدرته، و"تمتد حقوق الفرد إلى الحد الأمثل الذي ترسمه القدرة المشروطة [بالمتغيرات الطبيعية]"

ولما كانت حالة الطبيعة خالية من السلطة السياسة، وحيث أن الدفاع عن النفس حق طبيعي، فإن هذا الحق مشروط بالقدرة على استعمال القوة. لا حق في الدفاع عن النفس، إذن، إلا لمن له قدرة على ذلك. يمكن القول بعبارة أخرى: إنه بانتفاء القدرة ينتفي الحق.

وبسبب جهل الإنسان بقوانين العقل انعدمت فيه الروح الخلقية. ليس في حالة الطبيعة، إذن، شيء من قبيل السلطة السياسية والتشريعات الوضعية أو الإلهية والأخلاق. يقول سبينوزا:

"من اللازم وصف حالة الطبيعة على أنها حالة لا وجود فيها لا للدين ولا للقانون، وبالتالي لا وجود فيها للخطيئة والذنب"

ليس في الطبيعة معيار للتمييز بين الخير والشر ولا بين العدل والجور. وبعبارة واحدة، لا وجود فيها لمعاني الأخلاق. وهذا رأي ينسجم تمام الانسجام مع تعاليم بولس الرسول الذي نسب إليه سبينوزا قوله بأنه لا وجود للخطيئة قبل الشريعة، وبهذا المعنى يمكن فهم الآية الكريمة:"وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً". يقول سبينوزا:

"إن الحق والقانون الطبيعيين اللذان ولد الإنسان في أحضانهما وعاش في كنفهما لا يٌحَرِّمَانِ إلا الأشياء التي لا رغبة لأي أحد أو التي لا يستطيع أحد نيلها: فهما لا يٌحَرِّمَانِ العنف، ولا الحقد، ولا الغضب، ولا الخداع، ولا أية وسيلة من الوسائل التي توحي بها الرغبة الشهوانية"

ولذلك كانت القدرة أو القوة هي المعيار الوحيد للحق. في حالة الطبيعة لا يكون البقاء إلا للأقوى. ولكن القوة لا تدوم، فالقوي اليوم ضعيف غدا. ومع خوار القوة تتعطل آليات الكاناتوس وتتقلص حدود الحق تدريجيا إلى أن تصل إلى المستوى الذي يصبح معه الحفاظ على البقاء أمرا مستحيلا. ومن هنا ظهرت الحاجة إلى الاسترشاد بالعقل باعتباره الوسيلة الكفيلة بضمان الأمن والبقاء للجميع.  

إن الاسترشاد بالعقل يعني الارتقاء فوق الأهواء الشخصية، وتجاوز نزعة التمركز حول الذات. ذلك هو السبيل الوحيد لإقامة علاقات التعاون بين الناس. يخبرنا العقل بأن التعاون المتبادل هو الكفيل بتوفير الأمن على الحياة والممتلكات لكل فرد. فإذا كان العقل يحث الأفراد على إقامة روابط اجتماعية فيما بينهم على أساس من التعاون المتبادل، فإن الغرائز الشهوانية تدفع كل فرد إلى التمركز حول الذات، فيصير أنانيا. وإذا تغلبت الغرائز على العقل، أدى ذلك إلى نشوب صراعات طاحنة بين الأفراد.

نخلص من ذلك كله إلى القضية التالية: الشهوة تفرق الشمل والعقل يجمعه. إن للعقل، إذن، دلالة اجتماعية من حيث أنه يمثل الشرط الضروري لتأسيس المجتمع وتقوية الروابط الاجتماعية. وأما الرغبة الشهوانية والانفعالات فإنه من شأنها أن تقوض دعائم الاجتماع والمعاشرة والتآلف. يقول سبينوزا بهذا الصدد:

"إنه طالما عانى الناس من الغضب والحسد أو من أي انفعال ينشأ عنه الحقد، يتشتت شملهم ويعارض بعضهم بعضا. وبذلك يكون الخوف منهم أعظم، لاسيما وأنهم أكثر قوة واحتيالا ودهاء من الحيوانات الأخرى. ولما كان الناس أكثر عرضة لهذه الانفعالات، فإنه من الطبيعي أن يكون بعضهم لبعض عدوا"

الانفعالات، إذن، هي مصدر الصراع المدمر للوجود البشري. إن الصراع، بطبيعته المدمرة، مناقض لمبدإ الكاناتوس الذي تكمن وظيفته في الحفاظ على البقاء. وأما يجعل الإنسان قادرا على تجنب الخصومات والنزاع فهو الاسترشاد بالعقل. يكتسي العقل هنا دلالة أكسيولوجية؛ إنه القوة الدافعة للفرد نحو الآخرين، يدفعه إلى إقامة علاقات إيجابية معهم، ويضفي طابعا أخلاقيا على سلوكه إزاءهم، ويضمن، بالتالي، الاستقرار والأمن للمجتمع.

2. أهمية السلطة السياسية ودورها في حياة الإنسان

لا يشك سبينوزا في أن الاسترشاد بالعقل هو السبيل الأمثل للخلاص، ما دام كل فرد يرغب في التخلص من القلق الناتج عن العيش في مناخ يزخر بمشاعر الحقد والكراهية والصراع؛ هذا فضلا عن أن انعدام التعاون بين الناس يجبرهم على العيش في فقر مدقع وخوف رهيب. واهتدى الناس، من خلال استرشادهم بالعقل، إلى ضرورة بناء مجتمع على أساس نوع من التعاقد يفوض فيه كل فرد حقوقه الطبيعية للجماعة. يقول سبينوزا:

"يتبين لنا بوضوح تام أنه من اللازم أن يتوصل الناس إلى اتفاق للعيش مع بعضهم البعض في أمان وعلى أفضل نحو ممكن إن هم أرادوا التمتع جميعهم بالحقوق التي تعود إليهم بشكل طبيعي بوصفهم أفرادا؛ وينبغي ألا تكون حياتهم مشروطة بقوة ورغبات الأفراد، بل ينبغي أن تكون مشروطة بقوة وإرادة الجماعة. ولا يمكنهم بلوغ هذا الهدف إذا كانت الرغبة الشهوانية هي موجههم الوحيد (لأن قوانين الرغبة تدفع كل فرد للسير في اتجاه مختلف)؛ ويجب عليهم، بالتالي، أن يتخذوا قرارا صارما بإصدار تشريع يقضي بأن يخضعوا لتوجيهات العقل في كل شيء (والذي لا يجرؤ أحد على مخالفته صراحة حتى لا ينظر إليه على أنه مجنون أخرق)، وأن يعملوا على كبح جموح رغباتهم إذا كانت ستلحق الأذى بالآخرين، ومعاملة الجميع بمثل ما يحبون أن يعاملوا به، وصيانة حقوق الجار كما لو كانت حقوقهم الخاصة"    

والمراد بالقول هو أن الإنسان بحكم وقوعه تحت قانون الكاناتوس، وميله الفطري إلى تحقيق ما يرى فيه مصلحته، لا يمكنه أن يعيش في مأمن من المخاطر التي تهدد وجوده  بدون عقد اجتماعي يتنازل فيه كل فرد عن حقه الطبيعي على كل شيء؛ وهي فكرة نجدها أيضا لدى طوماس هوبز.

وللبرهنة على هذه الأطروحة، ساق سبينوزا تفسيرا سيكولوجيا لسلوك الإنسان يبين من خلاله الآليات أو القوانين الطبيعية التي تحكمت في اختيار السلطة السياسية كحل لمسألة الحفاظ على البقاء. وانطلق في تفسيره من المصادرات التالية التي تمثل القوانين المتضمنة على نحو أبدي في الطبيعة الإنسانية:

-    لا أحد يمكنه أن يفوت على نفسه فرصة يتوقع أن يجني منها نفعا عظيما إلا أَنْ يَتَرَجَّحَ عنده أحد أمرين: إما الحصول على نفع أعظم إذا لزم أن يختار بين بديلين، وإما الخوف من أن يلحقه منه أذى عظيم وخاصة إذا كان الأذى أعظم من النفع.

-    لا أحد يمكنه أن يتحمل أي نوع من الأذى إلا أَنْ يَتَرَجَّحَ عنده أحد أمرين: إما أن تحمل هذا الأذى يجنبه الوقوع في مشكلة يكون أذاها أعظم، وإما أن يتوقع الحصول بعد ما تعرض له من الأذى على خير عظيم.

-    وعن هاتين المصادرتين تنشأ مصادرة ثالثة مفادها أنه إذا كان على الفرد أن يختار بين أمرين نافعين، فإنه سيختار أكثرهما نفعا، وإذا كان عليه أن يختار بين شيئين كلاهما مضر بمصلحته، فإنه سيختار أهون الضررين.

وإذا نظرنا إلى هذه المصادرات في ضوء مبدإ الكاناتوس أو الشهوة تبين لنا أن الإنسان، بحكم كونه عقلانيا، يميل إلى تقدير قيمة الأشياء، بما تنطوي عليه من خير أو شر، في ضوء تقديره للإمكانيات التي توفرها له للحفاظ على وجوده. ومن هذه المقدمات (الأكسيومات) استنبط سبينوزا القضية التالية: إن الإنسان، بسبب حصول الوعي له بمصلحته العليا، اختار التخلي عن حالة الطبيعة والتنازل عن حقه الطبيعي على كل شيء وقبول سلطة الدولة حين رأى فيها خيرا أعظم أو شرا أقل مما وجده في حالة الطبيعة، وخاصة فيما يتعلق بقضايا الحفاظ على البقاء والأمن والرقي والرفاهية. والحقيقة أنه لولا خوف الإنسان من شر أعظم أو طمعه في خير أكبر لما قبل التنازل عن حقوقه الطبيعية والتزام بالعقد الذي أبرمه مع بني جنسه. ومن هنا يتبين أن قيمة العقد الاجتماعي تتحدد بمقدار ما يجلب من المنفعة ويدرأ من الضرر. يقول سبينوزا:

"..إن المنفعة وحدها هي التي تجعل العقد صالحا، وإذا انتفت يصبح فارغا ولاغيا. ومن ثمة، يكون من الغباء أن يُطَالَبَ المرء بالوفاء بالعهد الذي قطعه معنا إلى الأبد ما لم نُبين له أن خرق العهد الذي قطعناه على أنفسنا سيجلب للناكث من الضرر أكثر مما يجلب له من الخير. وسيكون لهذا الاعتبار الوزن الأكبر في تأسيس الدولة"

وإذا كان الإنسان قد فضل العيش في كنف الدولة بدل العيش في حالة الطبيعة، فليس لأن الدولة خير في ذاتها، بل لأنها تمثل أهون الضررين. إنها شر لا بد منه؛ وهذا الشر يمكن التحكم فيه، لأن الدولة من صنع الإنسان وليست قدرا محتوما. وأما الشر الملازم لحالة الطبيعة، فلا سيطرة للإنسان عليه. نفهم الآن لماذا فضلت البشرية الانتقال من حالة الطبيعة، التي يخضع فيها السلوك البشري لحتمية القوى الفطرية العمياء والغرائز الشهوانية، إلى حالة المدنية التي تنظمها القوانين التي شرعها العقل.

لننتقل الآن إلى مناقشة تصور سبينوزا لكيفية الانتقال من حالة الطبيعة إلى حالة المدنية والدولة. سبقت الإشارة إلى أن مفهوم الحق لدى هذا الفيلسوف مرادف لمفهوم القوة أو القدرة على دفع المعتدي والدفاع عن النفس. فعندما قال بأن لكل فرد الحق في الحياة والحرية والملكية، فإنما يقصد بذلك أنه يمتلك القدرة على الحفاظ على حياته وحريته وملكيته ودَفْعِ المعتدي على حقوقه، وأن الدفاع عن النفس ومعاقبة المعتدي هو حق طبيعي. إذا كان الأمر كذلك، فإنه يحق لنا أن نتساءل عما إذا كان التعاقد يستلزم تجريد الناس من هذا الحق، وعما إذا كان من الممكن تفويض الحق الطبيعي إلى طرف آخر.

المسألة بالنسبة لهوبز محسومة. وأما فيما يتعلق بسبينوزا، فإن موقفه منها يشوبه نوع من اللبس والغموض. فهو يرى، من جهة، أنه "يجب على كل فرد أن يفوض للمجتمع كل ما له من قدرة، بحيث يكون لهذا الأخير الحق الطبيعي المطلق على كل شيء"- كما ورد في الفصل السادس عشر من رسالته في اللاهوت والسياسة -   ويذهب، من جهة أخرى، في الفصل السابع عشر من نفس المؤلف إلى أنه "لا يستطيع أي فرد أن يفوض قدرته، وبالتالي حقوقه، تفويضا تاما لغيره، وإلا فإنه سيكف بعدئذ عن أن يكون إنسانا، كما أنه لا يمكن أن توجد سلطة لها من السيطرة ما يجعلها قادرة على تحقيق أية رغبة ممكنة". وخلص إلى القول: "يجب التسليم، إذن، بأن كل فرد يحتفظ لنفسه بجزء من حقه، ويضعه تحت تصرفه، في منأى عن [تأثير] أي شخص آخر". ومن الحقوق الطبيعية والقدرات التي لا يمكن لأي فرد تفويضها لغيره بأي حال من الأحوال، حقه أو قدرته على التفكير الحر في كل شيء، لأن عقل الإنسان لا يمكن أن يقع تحت سيطرة أي إنسان آخر" (الفصل العشرون). ولا يمكن للدولة أن تخضع العقول لمشيئتها إلا بالعنف، وتكون أشد عنفا عندما تقف ضد حرية التفكير، وقد تذهب في ذلك إلى حد إصدار أحكام بالإعدام على من يخالفونها الرأي، ولكن هذه الأحكام تظل مخالفة للعقل السليم الذي هو مبدأ تأسيس الدولة ذاتها. وهذا ما جعل سبينوزا ينكر على الدولة حقها المطلق في ذلك.    

وإذا كان الحق في التفكير الحر لا يُفَوَّضُ، فما المانع من سحب هذا الحكم على الحقوق الطبيعية الأخرى ؟ وإذا كان الحق عند سبينوزا مرادفا لمفهوم القدرة، فهل يمكن تفويض القدرات للغير؟. وإذا ثبت أنه من غير الممكن ولا من الجائز تفويض القدرات للغير، فما الذي يجب تفويضه ؟ يمكن القول في ضوء نتائج التحليل التي توصل إليها سبينوزا في الفصل العشرين من رسالته في اللاهوت والسياسة إن ما يمكن للأفراد تفويضه للدولة التي تمثل إرادة الجماعة هي سلطة القرار في كل ما يتعلق بكيفية استعمال القدرات وتقييم نتائجها لتحديد ما يصلح منها للمجتمع وما لا يصلح له. وأما تفويض القدرات فهو بمثابة سلب مقومات الهوية الإنسانية للأفراد، وتحويلهم إلى مجرد آلات أو بهائم. يقول بالحرف الواحد:

"لا، ليس القصد من إقامة الحكومة هو تحويل الناس من كونهم كائنات عاقلة إلى بهائم أو دمى متحركة، بل المقصود منها هو تمكينهم من تنمية قدراتهم العقلية والجسدية في أمن"

ويتجلى موقفه بوضوح على المستوى العملي بخصوص ما يمكن تفويضه في الخطاب الذي توجه به إلى حكومة بلاده في ختام الفصل المذكور. يقول:

"وهكذا أكون قد أنجزت المهمة التي اعتزمت معالجتها في هذه الرسالة. ولم يبق لي سوى التنبيه إلى أنني لم أكتب شيئا مما لم يكن في نيتي أن أتقدم به لمن يتولون مقاليد الحكم في بلدي ليقوما بفحصه والحكم عليه، وأنني على استعداد للتراجع عن كل ما سيثبت لهم أنه مخالف للقوانين أو ضار بالمصلحة العامة. إنني أدرك أنني بشر، وأنني معرض بوصفي إنسان للخطأ. لقد اتخذت كل الاحتياطات اللازمة لتجنب الوقوع في الزلل، وحرصت على البقاء في انسجام تام مع قوانين بلدي بروح الولاء والأخلاق"

هذه الفقرة الختامية ترديد لصدى أقوال وردت في مقدمة الكتاب.

 

       



[1] Benedict de Spinoza. The ethics. Translated from the latin R.H.M. by Elwes. Web edition published by

  eBooks@Adelaide.  Part  IV. http://ebooks.adelaide.edu.au/s/spinoza/benedict/ethics/

كل الاستشهادات مقتطفة  من هذا الكتاب باستثناء ما تمت الإشارة إليه 

[2] Benedict de Spinoza. َ A theologico-political treatise. Translated from the latin R.H.M. by Elwes. Web edition  

  published by  eBooks@Adelaide, The University of Adelaide LibraryUniversity of Adelaide South Australia  

 50052007. 2007. http://ebooks.adelaide.edu.au/s/spinoza/benedict/treatise/

كل الاستشهادات التي سترد أسفله مقتطفة  من هذا الكتاب باستثناء ما تمت الإشارة إليه 

Partager cet article
Repost0
16 avril 2009 4 16 /04 /avril /2009 00:42

نظرية العقد الاجتماعي لدى طوماس هوبز

أحمد أغبال

طوماس هوبز (1588-1679) فيلسوف إنجليزي عاش في القرن السابع عشر، في فترة تميزت بالاضطرابات والقلاقل، عانى خلالها المجتمع الإنجليزي من ويلات الحرب الأهلية. تابع هوبز مجريات الأحداث في بلده باهتمام كبير حتى أنه جعل من مسألة السلطة السياسية شغله الشاغل، فانكب على دراستها لبيان أسباب الاستقرار السياسي والأمن الاجتماعي. ولتحقيق مشروعه الفلسفي، سعى هوبز إلى الكشف عن المبادئ العقلانية التي تنبني عليها السياسة المدنية الكفيلة بتعطيل مفعول العوامل الداخلية التي تتسبب في تفكك النظام السياسي وانهياره. وانطلق في ذلك من فكرة مفادها أن مصائب الحكم المستبد "أقل وطأة على النفس من البؤس والويلات التي تنجم عن الحرب الأهلية". ومعنى ذلك أن أي نظام حكم مهما كان نوعه أفضل من الحرب الأهلية. وإلى جانب هذه المصادرة الأساسية وضع هوبز مصادرة أخرى مفادها أن جميع أنظمة الحكم معرضة للاضطراب والوقوع في الحرب الأهلية والانحلال باستثناء نظام الحكم المطلق. وبما أن الناس عقلانيون ويميلون بالفطرة إلى طلب الأمن من أجل الحفاظ على البقاء، فإنهم سيفضلون العيش في كنف نظام سياسي مطلق يضمن لهم الأمن والاستقرار ويجتبهم الوقوع في الحرب الأهلية. وهكذا، فإن رغبة الناس في الاستقرار والأمن يفرض عليهم عدم القيام بما من شأنه أن ينال من هيبة الدولة ويضعف قوتها، ويلزمهم بتقديم الولاء اللامشروط للحاكم مهما كان مستبدا، وأن يطيعوه ولا يتمردوا عليه أبدا مهما كانت الظروف. ومن هنا يتبين أن ما حاول هوبز إثباته وتأكيده هي الأطروحة التي تقول بوجود علاقة تأثير متبادل بين الامتثال للسلطة السياسية والسلم. يمكن صياغة هذه الأطروحة بعبارة أخرى: إنه إذا أقر الناس بنظام حكم ما وامتثلوا لأمر الحاكم، فإن ولاءهم له يضمن لهم السلم، وإذا تحقق السلم تقوى نظام الحكم وزادت درجة امتثال الناس للحاكم.

ولإثبات هذه الأطروحة دعانا هوبز إلى التفكير معه فيما يمكن أن يترتب عن وجود الإنسان في حالة الطبيعة بخصوص علاقته بالآخرين وأحواله النفسية ونوعية الحياة بصفة عامة. ومن هنا يتبين أن مفهوم حالة الطبيعة إنما يكتسي عنده أهمية منهجية بالدرجة الأولى، فهو بمثابة مقدمة أو مصادرة من المصادرات الأساسية التي يتأسس عليها أسلوبه في البرهنة على الأطروحة المشار إليها. يدل هذا المفهوم عنده على وضعية مفترضة لا وجود فيها لسلطة الدولة، وقدم لنا وصفا تحليليا دقيقا لما يمكن أن تكون عليه أحوال الناس وهم على هذه الحال في كتابه "اللوفيتان"* « Leviathan » الصادر عام 1651، يقول في الفصل الثالث عشر من هذا المؤلف المشهور:

"كل ما هناك لازم كنتيجة منطقية لزمن الحرب حيث يكون كل امرئ عدوا لما سواه من الناس؛ ومن الأمور الملازمة لزمن الحرب أيضا أن الناس يعيشون دون أن يكون لهم مما يضمن الأمن غير قوتهم الخاصة والوسائل الخاصة المبتكرة. لا مكان للصناعة في مثل هذه الظروف، لأن ثمارها تكون غير مضمونة. ومما يترتب عن ذلك انعدام زراعة الأرض والملاحة، وعدم إمكانية استعمال السلع التي يمكن استيرادها عن طريق البحر؛ وكذلك يتعذر توسيع مجال العمران، وتنعدم وسائل التنقل ووسائل نقل الأشياء التي يتطلب تحريكها قوة كبيرة؛ ولا يكون في هذه الظروف مجال لقيام المعرفة بأديم الأرض، ولا اعتبار للوقت، ولا فنون، ولا أدب، ولا مجتمع؛ والأسوأ من ذلك كله انتشار الخوف المستمر ومخاطر التعرض للعنف المميت؛ وتكون حياة الإنسان حياة عزلة، وفقر، ورداءة، ووحشية، وتكون قصيرة"      

كيف يفسر طوماس هوبز وجود هذه الوضعية ؟ يُرجع السبب في ذلك إلى الطبيعة الإنسانية. ذلك لأن الطبيعة ساوت بين بني البشر، وجعلتهم سواسية كأسنان المشط فيما يتعلق بالقدرات الجسدية والعقلية، وذلك على الرغم من وجود أفراد يتمتعون بقوة عضلية هائلة أو بدرجة ذكاء عالية. فعندما يؤخذ الكل بعين الاعتبار وينظر إلى الناس كافة بدون تمييز، فإن الفوارق بينهم تبدو غير ذات أهمية. إن تدخل بعض العوامل يبطل الفروق في درجة القوة بين من يبدو قويا ومن يبدو ضعيفا، ويكون بإمكان الضعيف حينئذ أن يقتل القوي، إما بالتحايل عليه أو بالتعاون مع من يشكل القوي خطرا عليهم.

ويرى هوبز أن الناس متساوون في القدرات العقلية الفطرية أكثر مما هم متساوون في القدرات الجسدية. ومن الأشياء التي فطروا عليها التعقل والاحتراس والقدرة على تقدير عواقب الأفعال. وأما ما قد يعرض المساواة في القدرات العقلية للشك فهو تصور الفرد المغلوط لقدراته الذاتية، لأن معظم الأفراد يميلون إلى المغالاة في تقدير قدراتهم الذاتية مقارنة بقدرات عامة الناس، ويحصل لهم الاعتقاد بأن مستوى قدراتهم العقلية لا يوجد له مثيل إلا لدى فئة قليلة من الناس. والناس في هذا متساوون، لأن المباهاة هي من طبيعة البشر. وتدل المباهاة على ميل الفرد إلى أن يقنع بقسمته من العقل، والناس في هذا متساوون أيضا.

وعن المساواة في القدرات ينشأ الاختلاف. لأن تساوي القدرات يؤدي إلى تساوي الطموح لتحقيق الأهداف. فإن وُجِدَ شخصان يرغبان في شيء واحد، وكان من غير الممكن أن يستمتعا به معا على حد سواء، أصبح الواحد منهما عدوا للآخر، يحاول بقدر المستطاع القضاء على غريمه أو إخضاعه لإرادته. وهكذا، فقد يحصل التنافس بين الناس على الأرض ومواردها، ويترامى الأقوياء على أراضي الضعفاء، ويستولون على خيراتها، ويفقد أصحاب الأرض خيراتهم وحريتهم، وربما فقدوا حياتهم أيضا، وقد يلقى المهاجم نفس المصير إذا تعرض لهجوم من هو أقوى منه.

وهكذا تنشأ الحرب عن الاختلاف، لأن الاختلاف يجعل الأمن مستحيلا. وعندما يشعر المرء بانعدام الأمن فإن أحسن وسيلة للدفاع عن النفس هي الهجوم، أي اللجوء إلى الاستراتجيات الهجومية التي يعتمد فيها الأفراد على القوة أو الردع للتحكم في الآخرين إلى أن يستتب لهم الأمر ويتأكدوا من عدم وجود قوة تشكل خطرا عليهم. إنه قانون الحفاظ على البقاء في زمن حرب الكل ضد الكل، بمعنى أن الحفاظ على البقاء يستلزم السيطرة على الآخرين. إن الغرض من السيطرة هنا هو الحفاظ على البقاء فقط. ولكن قد يوجد بين الناس من لا يكتفي بذلك، فيزهو بقوته ويتباهى بعظمته، ويجد المتعة في السيطرة على الآخرين، ويذهب في ذلك إلى أبعد مما تتطلبه الحاجة للحفاظ على البقاء وذلك طلبا للمجد.

هذا بالإضافة إلى أن الإنسان لا يمتلك الرغبة أصلا في مرافقة الغير أو معاشرته طالما لم توجد قوة يخشاها جميع الأفراد ويحترمونها في نفس الوقت. يرجع السبب في ذلك، حسب هوبز، إلى أن كل فرد يرغب في أن ينظر إليه الغير بنفس النظرة التي ينظر بها هو إلى نفسه، وبحب أن يقدره الغير بمقدار ما يقدر هو نفسه. وإذا بدا له من تصرفات الغير إزاءه ما يدل على الكراهية أو التقليل من قيمته، عمل جاهدا على انتزاع نوع من الاحترام منه بالقوة.

ومن هذا التحليل خلص هوبز إلى النتيجة التالية المحتومة: تنطوي الطبيعة الإنسانية على ثلاثة أسباب رئيسية للنزاع بين البشر وهي: التنافس، والاختلاف، والرغبة في تحقيق المجد. يجعل السبب الأول الناس متلهفين إلى استقصاء الربح والحصول على ما تشتهيه أنفسهم بلا حدود، ويدفعهم السبب الثاني إلى طلب الأمن، وأما السبب الثالث فيدفعهم إلى طلب السمعة والرياء. تستعمل نزعة التنافس القوة كوسيلة للتحكم في الآخرين سواء أكانوا أبناء أو زوجات أو إخوة، الخ... ويدفعه الشعور بالاختلاف إلى استعمال القوة للدفاع عنهم وحمايتهم، وأما هاجس السمعة فيتطلب استعمال القوة لمواجهة كل من تسول له نفسه التقليل من شأنهم والمس بكرامتهم من خلال الاستهزاء بهم ونشر الأقاويل التي تسيء إليهم وتحط من قدرهم إلى غير ذلك مما يتسبب في الإساءة إلى أفراد الأسرة أو الأقارب أو أفراد الجماعة التي ينتمي إليها ويتعصب لها.

تلك إذن هي القوى والانفعالات التي تتحكم في سلوك البشر في حالة الطبيعة أو عند غياب سلطة الدولة. إن غياب الدولة يعني غياب قانون يحتكم إليه الناس ويحميهم جميعا، ومع انعدام القانون تحل الفوضى، ويصبح الإنسان ذئبا لأخيه الإنسان، وتنتشر مشاعر الخوف والحذر، ذلك هو زمن الحرب. "إبان حرب الكل ضد الكل هذه، لا شيء ينظر إليه على أنه غير عادل، وهذه نتيجة منطقية أيضا. لا مكان في هذه الوضعية لمفاهيم الصواب والخطأ ولا لمفاهيم العدل والجور. ذلك أنه حيث لا توجد سلطة مشتركة لا يكون للقانون وجود؛ وحيث لا وجود للقانون، لا يكون لما ليس بعادل وجود. في الحرب تكون القوة والخداع هما الفضيلتان الأساسيتان. وأما العدالة والظلم فلا يمتان إلى القدرات العقلية أو الجسدية بأية صلة تذكر، لأنه لو كانت على صلة بها لوجدت لدى الإنسان المنعزل أو المتفرد في العالم مثلما توجد لديه حواسه وانفعالاته. إنها من الصفات المرتبطة بالإنسان الذي يعيش في المجتمع لا بالإنسان الذي يعيش في عزلة. ومما يترتب عن ذلك ولنفس الأسباب، أنه لا وجود للملكية ولا للمزارع وأنواع العقار في زمن الحرب، ولا تمييز فيه بين ما بحوزتي وما بحوزتك؛ إن ما يملك المرء هو ما يقدر على أخذه بالقوة، ويظل بحوزته ما دام قادرا على الذود عنه والحفاظ عليه".

في مثل هذه الظروف تكون الحرية هي الحق الطبيعي الأساسي الذي يتمتع به لإنسان. والمقصود بذلك الحرية المتاحة لكل فرد لاستعمال كل ما لدية من قوة للدفاع عن نفسه والحفاظ على حياته. ومعنى ذلك أيضا أن دافع الحفاظ على البقاء يخول لكل فرد الحق في استعمال كل الوسائل المتاحة بحرية تامة لتأمين حياته. يدل مفهوم الحرية هنا على عدم وجود قوة خارجية تحول دون استعمال القدرات والوسائل المتوفرة للفرد لتلبية رغباته وتحقيق أهدافه. ومما يترتب عن الحرية بوصفها حقا طبيعيا الصراع بين مختلف الإرادات.   

ومع ذلك يوجد لدى الإنسان نزوع إلى السلم؛ ومن الانفعالات التي تدفعه للجنوح إليه، الخوف من الهلاك، والرغبة في تحسين ظروف العيش من خلال العمل والإنتاج. وبفضل العقل اهتدي الناس إلى القواعد التي ينبني عليها السلم واتفقوا عليها. يطلق هوبز على هذه القواعد اسم القوانين الطبيعية. يعرف هوبز القانون الطبيعي بأنه: "قاعدة عامة اهتدى إليها العقل، تمنع الإنسان من فعل كل ما من شأنه أن يدمر حياته، ولا تبيح له أن يحرم نفسه من الوسائل التي تضمن له الحفاظ عليها، أو أن يتخلى عن كل ما يظن بأنه أحسن وسيلة للحفاظ عليها. ومع ذلك، اعتاد الناس الخلط بين الحق والقانون في حديثهم عن هذا الموضوع؛ ولذلك لزم الآن التمييز بينهما، لأن الحق يعني حرية الاختيار بين فعل شيء أو عدم فعله، بينما يلزمنا القانون بأحدهما ويحدد ما يجب وما لا يجب القيام به. وهكذا فإن الفرق بين القانون والحق كالفرق بين الإلزام والحرية اللذان يكونان قي حالة تنافر عندما يتعلق الأمر بنفس الموضوع".

ومما يترتب عن وجود الإنسان في حالة الطبيعة بوصفها حالة "حرب الكل ضد الكل" أن "لكل فرد الحق في كل شيء" حسب تعبير هوبز. لا يخضع الفرد في مثل هذه الظروف إلا لما يمليه عليه عقله الشخصي، فيدرك أن من حقه أن يستعمل كل الوسائل المتاحة لمقاومة أعدائه من أجل صيانة حياته. وهكذا، فإن غاية الحفاظ البقاء تمنحه الحق في كل شيء بما في ذلك بدن الغير وممتلكاته. وطالما ظل هذا الحق الطبيعي سائدا فلن يكون هناك مجال للسلم، ولن يشعر أي أحد بالأمن مهما كانت قوته العضلية والعقلية.

يتمثل الحق الطبيعي الأساسي، حسب طوماس هوبر في "أن كل فرد يلزم نفسه بالسعي في طلب السلم طالما أنه لم يفقد الأمل في الحصول عليه. وإن هو لم يتمكن من الحصول عليه لجأ إلى استعمال كل وسائل الحرب والخداع". يتألف هذا القانون من شقين، أولهما، "طلب السلم والسير على نهجه"، وثانيهما، "الدفاع عن النفس بكل الوسائل". ومن هذا القانون الطبيعي الأساسي استنبط هوبز القانون الطبيعي الثاني، ومفاده "أن المرء يرغب في شيء عندما يرغب فيه الآخرون أيضا، مثلما هو الحال بالنسبة للسلم والدفاع عن النفس الذي يعتبره ضروريا. فهو يرغب، عندما يرغب الآخرون، في التناول عن حقه في كل شيء، وإذا كان يرغب في التصدي للآخرين بكل حرية فلأنه يسمح للآخرين بمواجهته. لأنه طالما أن لكل امرئ الحق في أن يفعل ما يريد فسيظل الناس في حالة حرب. وإن لم يقبل الآخرون التنازل عن حقهم..فلن يكون هناك أي مبرر لأي أحد للتنازل عن حقه". ومعنى ذلك أن مصلحة أي فرد تستلزم العدول عن السعي إلى تحقيق الغايات من خلال استعمال أية وسيلة من الوسائل بعض النظر عما يمكن أن تلحق من الأذى بالآخرين.

والمقصود بالتخلي عن الحق في كل شيء هو التنازل عن الحرية في الحصول والاستمتاع بشيء على حساب الآخر الذي يمتلك الحق في الاستمتاع به أيضا. ذلك لأن تنازل المرء عن حقه لا يخول لغيره حقا لم يكن يتمتع بها من قبل، لاسيما وأن القانون الطبيعي يخول لكل فرد الحق في كل شيء. ولذلك لا يجوز لمن يرغب في السلم حقا أن يتمتع بحق طبيعي ويحرم الآخرين منه. ولذلك يتطلب تحقيق السلم ضرورة تخلي كل فرد عن حقوقه الطبيعية إما بالتنازل عنها أو بتفويضها إلى غيره. يتنازل عنها إذا كان واثقا من أن تنازله لا يعزز موقع الغير على حسابه، ولا يجعل حياته في خطر. عبر عن هذه القاعدة بقوله: "ليس لدي الحق في فعل أي شيء مهما كان نوعه من أجل البقاء على قيد الحياة بغض النظر عمن سيستفيد من ذلك". ويقوم بتفويضها بوضعها في يد الغير إذا كان يتوقع أن يجني من وراء ذلك منفعة ما. ولكن التنازل عن الحقوق الطبيعية هو في حقيقة الأمر خرق للقانون الطبيعي الأساسي، إذ ليس هناك ما يبرر التنازل عن الحق في الدفاع عن النفس. وأما تفويضها لسلطة ما بناء على عقد متفق عليه فإنه ينسجم تمام الانسجام مع القانون الطبيعي. حيث يكون من المنطقي أن يقبل الفرد بمبدإ عدم الاعتداء على الغير إذا قبل الغير بهذا المبدإ أيضا. وبناء عليه يتفق الجميع على أن تتولى سلطة مشتركة مهمة حفظ أمن وسلامة كل فرد. ذلك لأن التعاقد على عدم الاعتداء المتبادل لا يضمن في حد ذاته الالتزام ببنود العقد، ولذلك يحتاج المتعاقدون إلى وجود سلطة تلزم الجميع بالوفاء بالعهود والمواثيق المبرمة.

ولكن، ما الذي يجعل سلطة الدولة ضرورية لإلزام الأفراد بالوفاء بالعهود التي قطعوها على أنفسهم ؟ ألا يكفي القانون الطبيعي المتمثل في الميل الفطري إلى طلب السلم لضمان التزامهم بالعقد الاجتماعي الذي وضع أصلا لتحقيق أمن وسلامة الجميع ؟ يقتضي الجواب عن هذه الأسئلة استحضار المصادرتين التاليتين: (1) إن الإنسان كائن عقلاني، (2) ويتميز أيضا بكونه أناني وشهواني. فقد تأمر النفس الشهوانية أي فرد باستغلال ثقة الآخرين أو غفلتهم لتحقيق بعض المصالح على حسابهم. ومعنى ذلك أن كل فرد معرض للوقوع في إغراء الإفلات من العقاب، فيستولي على ممتلكات الغير. وإنه لمن الطبيعي أن يلجأ المرء إلى تحقيق مصلحته على حساب الغير؛ وهذا في حد ذاته سلوك عقلاني. فإن كنتَ تملك 100 درهم وكنتُ أنا أملك نفس المقدار من المال، واتفقنا على ألا يسرق بعضنا بعضا، فإن الاتفاق في حد ذاته لا يضمن الحيلولة دون وقوع السرقة بيننا. لا يؤدي العقد الاجتماعي، إذن، بالضرورة إلى إبطال مفعول العوامل الطبيعية السابقة الذكر. فإن سولت لي نفسي الاستيلاء على أموالك، فماذا أخسر؟ إن فشلت خطتي فلا ربح ولا خسارة هناك، وإن نجحت فستكون بحوزتي 200 درهم. وبذلك نكون قد عدنا إلى مرحلة ما قبل معاهدة السلم وعدم الاعتداء.

لنفترض الآن وجود سلطة تلزم الأفراد باحترام وتطبيق بنود المعاهدة بسن قانون يفرض عقوبة مقدارها 300 مائة درهم لكل من سرق 100 درهم. في هذه الحالة سأجد نفسي أمام ثلاث احتمالات: إما أن تفشل خطتي في الاستيلاء على أموالك، وإما أن أسرق أموالك وأنجو، ويكون مجموع ما لدي 200 درهم، وإما أن أسرق ويُلقى القبض علي وأدفع غرامه مقدارها 300 مائة درهم. وإذا كانت الغرامة (300 درهم) وكان مقدار عوائد السرقة 100 درهم، فإنني سأفضل بوصفي عقلاني عدم الاعتداء عليك ما دامت قيمة الخسارة المحتملة (الغرامة) أعظم من قيمة العائدات المحتملة التي تذرها السرقة. من الحكمة في هذه الحالة ألا يجازف المرء بالاعتداء على الغير والاستيلاء على ممتلكاته. وهكذا، فإن الالتزام بالعقد يقتضي بالضرورة وجود قوة رادعة.

ومن القانونين الطبيعيين السابقين استنبط هوبز قانونا طبيعيا ثالثا وهو "أن على الناس أن ينفذوا ما اتفقوا عليه وإلا أصبحت الاتفاقية بلا جدوى أو كلاما فارغ ليس إلا، ولظل حق الإنسان في كل شيء قائما، ولَكُنَّا حينئذ ما زلنا في حالة الحرب". يمكن صياغة هذا القانون بعبارة أخرى على النحو التالي: إن من مصلحة الإنسان أن يطبق بنود الاتفاقيات والمعاهدات، لأن ما يجنيه من تطبيقها (السلم) أعظم قيمة مما ستؤول إليه أحواله (الحرب وانعدام الأمن والثقة) إن نكث العهود. وعن هذا القانون الثالث تصدر العدالة. إذ من العدالة أن يلتزم الجميع بالعقد الاجتماعي الذي اتفقوا على إبرامه، وتقتضي العدالة أن يكون المواطنون متساوون أمام القانون. وبالتالي، فإن الظلم يكمن في عدم الوفاء بالعهود والمواثيق المبرمة عن طواعية واختيار وفي عدم تطبيق القانون على الناس بشكل متساو. ومن القانون الطبيعي الثالث استنبط هوبز جملة من المبادئ والقيم الأخلاقية التي يلخصها المبدأ الأخلاقي الذي يأمر بأن "لا تفعل لغيرك ما لا ترغب في أن لا يفعله الغير لك ".

وإذا كانت الدولة بقوانينها ضرورية لإلزام الناس باحترام العقد الاجتماعي لضمان الأمن وتحقيق السلم والاستقرار في المجتمع، فهل القانون كافي لإجبار الناس على الالتزام بالمواثيق والعهود ؟ هل السلطة كافية لردعهم ؟ وهل يكفي الخوف من العقاب لإجبار الناس على الامتثال للقوانين ؟ ألم يوجد القانون إلا ليخرق، كما يقال ؟ وإذا كان القانون غير كاف وحده لردع الناس، فما هي المواصفات التي يجب أن تتوفر في الفرد ليكون قادرا على التعاقد والالتزام بالعقود ؟ هذه هي الأسئلة التي حاول الفيلسوف الأمريكي جون راولز الإجابة عليها في مؤلفه المشهور "العدالة كإنصاف" في محاولة منه لتطوير نظرية العقد الاجتماعي التي ترجع أصولها إلى طوماس هوبز وجون لوك وجون جاك روسو وغيرهم ممن جاؤوا بعدهم (أنطر مقالتنا "الليبرالية السياسية وفكرة العدالة لدى جون راولز").         

* كل النصوص الموضوعة بين مزدوجتين مقتبسة من النسخة الأصلية لكتاب

  Thomas Hobbes. Leviathan

Partager cet article
Repost0

Recherche

Archives

&Amp;#1593;&Amp;#1606;&Amp;#1575;&Amp;#1608;&Amp;#1610;&Amp;#1606; &Amp;#1575;&Amp;#1604;&Amp;#1605;&Amp;#1602;&Amp;#1575;&Amp;#1604;&Amp;#1575;&Amp;#1578;

دروس في الفلسفة

Liens