Overblog
Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
26 avril 2012 4 26 /04 /avril /2012 20:58

مفهوم الدولة عند إميل دوركايم

أحمد أغبال

 تصور دوركايم للسياسة

ليست السياسة، في نظر إميل دوركايم، واقعا قائما بذاته في استقلال عن المجتمع، بل هي من صميم التمثلات الجمعية. ومما يدل على ذلك، في نظره، أن الاشتراكية بوصفها تيارا من التيارات السياسية المعاصرة، إنما هي واقعة من وقائع الرأي العام أو شكلا من أشكال الفعل الإنساني الذي يرمي إلى تحقيق مثل أعلى يتمحور حول قيم العدالة الاجتماعية والمساواة. إنها بهذا المعنى تصور سياسي لما ينبغي أن يكون عليه الواقع، أو حلم من أحلام الروح الجمعية. إنها بعبارة أخرى شكل من أشكال التمثلات الجمعية.

إن التصورات السياسية هي من جملة التمثلات الجمعية، تشترك معها في بعض الخصائص، وتتميز عنها بخصائص أخرى. تتميز التمثلات الجمعية بكونها ضرورية بحكم ارتباطها الوثيق بالمحيط الاجتماعي وبنيته الأساسية؛ فلا وجود لمجتمع بدون تمثلات مشتركة. وعلى الرغم من كونها شديدة الصلة بالواقع، فإنها تحتفظ لنفسها بنوع من الاستقلال. وتتميز أيضا بما تنطوي عليه من قوة الإكراه والإلزام. تنطبق هذه الخصائص على السياسية أيضا بوصفها واقعة من الوقائع الاجتماعية. ولذلك اعتبرت شكلا من أشكال التمثلات الجمعية. وبوصفها كذلك، فإنها لا تعدو أن تكون مجرد وهم من أوهام الضمير الجمعي.

يعتقد الناس ويتوهمون أن للحاكم قوة أو سلطة مطلقة، ويعتقد الحاكم أن للسلطة المركزية من القوة ما يجعل تأثيرها يسري في هيكل المجتمع بأسره. ويعتقد عامة الناس أن لبعض الأشخاص قدرة خارقة للعادة، ويضعون فيهم ثقتهم، ويقعون تحت تأثيرهم بسبب معتقداتهم. ذلك لأنهم يتصورون السلطة من خلال الأشخاص الذين يمثلونها ويجسدونها في ظروف تهيأت لهم فيها الفرصة للأخذ بزمام المبادرة. وبسبب نجاحهم النسبي في ظروف معينة، أضفت عليهم العامة هالة من القداسة، ونسبت إليهم القدرة على التأثير في مجريات الأحداث والقدرة على صنع التاريخ. وما هي في الحقيقة إلا تمثلات وأوهام. تبدو السياسة، من وجهة نظر دوركايم، على أنها جملة من التمثلات الناشئة عن التفاعل بين طرفي معادلة السلطة، وهما الحاكم والمحكوم. ينشأ هذا الوهم عن عدم قدرة الناس على فهم حقيقة الدولة بوصفها مجموعة متميزة من الموظفين في المقام الأول. ولما لم يفهموا هذه الحقيقة، حولوا الدولة في أذهانهم إلى كيان مفارق للمجتمع يتحكم في إرادتهم ويوجهها وفقا لغاياته الخاصة. ومع ذلك، يبقى هذا الوهم ضروريا لاشتغال المجتمع وتنظيمه. وليس العلم بقادر على تبديد هذا الوهم الضروري.

ومن هنا يمكن تعريف السياسة بأنها الوهم الذي يقوم عليه النظام الاجتماعي، إنها التمثلات التي تنظم المجتمع. يمكن القول بعبارة أخرى، إن السياسة هي تجسيد للتمثلات الجمعية في مرحلة من مراحل تطور المجتمع. ويلزم عن هذا القول إنه كلما تغيرت التمثلات الجمعية أدى ذلك إلى حدوث تغير في مؤسسات الدولة.

وإذا كانت السياسة من جملة التمثلات الجمعية، فإنها تتصف بمجموعة من الخصائص التي تنفرد بها وتميزها عن التمثلات الجمعية للمجتمع الكلي. تتميز التمثلات الجمعية، التي يطلق عليها دوركايم أحيانا "الحياة النفسية"للمجتمع الكلي، بكونها هلامية،غامضة وغير منظمة. تبدو الحياة النفسية للمجتمع كما لو كانت تلقائية، أوتوكاتيكية لاإرادية، ولا شعورية إلى هذا الحد أو ذاك. تنتقل عناصر الحياة النفسية الجماعية أو التمثلات الجمعية بين الأفراد الذين يشكلون الجماعة السياسية، وتنتشر في الأوساط التي تتولى مهمة إضفاء الطابع المؤسساتي على أنماط معينة من السلوك والتعامل. ومن خلال التفاعل بين المجتمع الكلي والدولة تتشكل حياة نفسية داخل مؤسسات الدولة. وتتميز الحياة النفسية التي تسكن الجهاز الحكومي بكونها عقلانية، منظمة، وعلى قدر كبير من الوعي. ذلك لأن أعضاء الحكومة لا يتخذون قراراتهم إلا من خلال سلسلة من النقشات والمداولات والتحليل والتمحيص. ومن خلال هذه العمليات تتشكل الحياة النفسية للدولة على أساس عقلاني. والفرق بينها وبين الحياة النفسية للمجتمع الكلي كالفرق بين وعي الفرد ولاشعوره. تشتغل الحياة النفسية للمجتمع بطريقة أوتوماتيكية لاإرادية ولاشعورية، تتحكم فيها التقاليد والأعراف؛ وأما الحياة النفسية للدولة فهي متعقلة، تفكر وتناقش وتتخذ القرارات عن وعي وروية. وفي ذلك يقول دوركايم: "إن التداول والتفكير خاصيتان من خصائص ما يجري داخل الجهاز الحكومي"[1].

ومع ذلك، فإن الحياة النفسية للمجتمع والحياة النفسية للدولة ترتبطان مع بعضهما البعض في علاقة لا تنفصم، وتتفاعلان بشكل يجعل كل واحدة منهما تغذي الأخرى، وتتبادلان التأثير فيما بينهما. إنهما في حوار لا ينقطع. في إطار عملية التفاعل المتبادل هذه، تبدو قرارات الدولة وأنشطتها كما لو كانت عبارة عن ردود أفعال إزاء توقعات المجتمع. فالحكومة تحاول أن تبدو كما لو كانت تستجيب من خلال قراراتها لمطالب المجتمع. وأما مطالب الأفراد المعزولين، فإن الدولة لا تعيرها أي اهتمام، ولا تهتم بها إلا إذا اتخذت شكلا منظما إلى هذا الحد أو ذاك.

 وهكذا، فإن ما كان يبدو للوهلة الأولى على أنه العقل المدبر، أصبح الآن عقلا مشتركا يتخذ القرارات بناء على موازين القوى بين طرفي عملية التفاعل (المجتمع المدني والدولة). غير أن ذلك لا يلغي الدور المركزي للدولة فيما يتعلق بتدبير الشأن العام. ولكن هذا الدور لا يبرر انفراد الدولة بالقرار. وما أن تستفرد الدولة بالقرار حتى تجلب عليها غضب المجتمع. ذلك لأن قوة الدولة أو ضعفها إنما يتحددان وفقا لطبيعة التصورات المشتركة أو التمثلات الجمعية؛ وتتحدد هذه التمثلات بدورها من خلال عملية التفاعل بين المجتمع المدني والدولة. بل إن التفاعل بين الطرفين يجري في نطاق التمثلات الجمعية التي تضفي على البعد السياسي للمجتمع معناه ودلالته، وتجعل منه كيانا يشتغل بطريقة متميزة. وقد يؤدي التغير في التمثلات الجمعية أو الرأي العام إلى حدوث أزمة سياسية عميقة أو تغير جذري في نظام الحكم. وقد يحدث التغير عندما ينعدم التوافق بين ما يتوقع كل طرف من الطرف الآخر.

وإذا كان كل نشاط سياسي يتحدد بموازين القوى بين طرفي عمليتي التفاعل، فإن ذلك لا يلغي دور الدولة بوصفها الفاعل المحتكر لما يسميه ماكس فيبر بحق استعمال العنف المشروع. سوف نحاول فيما يلي بيان مصدر قوة الدولة وضعفها ومشروعيتها وفقا لنظرية دوركايم.

 الوظائف الاجتماعية وبعدها السياسي حسب نظرية دوركايم

لنتذكر أن دوركايم قد جعل من الإكراه خاصية ملازمة لكل واقعة اجتماعية. في كتابه "حول التقسيم الاجتماعي للعمل" يطرح دوركايم المسألة المتعلقة بطبيعة الجريمة ووظيفة العقاب في المجتمع. عندما يرتكب فرد ما جريمة شنيعة في حي من أحياء المدينة، مثلا، يثير ذلك سخط السكان، ويفصحون عن مشاعر مشتركة إزاء ذلك الحدث المؤلم، ويتشكل موقف مشترك ومتميز، ويتخذ شكل شعور جمعي أو عمومي قائم بذاته في استقلال عن شعور كل فرد مأخوذ على حده؛ إنه "السخط العمومي" «la colère publique »، حسب تعبير دوركايم، ذلك الانفعال الجمعي الذي يمتزج فيه سخط الفرد بسخط غيره من أفراد المجموعة البشرية التي ينتمي إليها ليشكل قوة تتجاوزهم جميعا وتفرض عليهم منطقها الجمعي المتميز. إنها التمثلات الجمعية في حالة غليان. نجد مثل هذه الانفعالات الجمعية عند الحشود. وقد يتحول الأفراد الوديعون ذووا المزاج الهادئ المسالم إلى قوة عنيفة عندما يجتمعون، فيخضعون في سلوكهم لمنطق دينامية الجماعة، ويتحولون بالتالي إلى قوة عنيفة. هكذا يؤدي التفاعل بين الأفراد إلى تشكل تمثلات جديدة تتمتع بقوة خاصة مستقلة عن كل فرد مأخوذ على حدة، ولا يجد الفرد مناصا من الخضوع لها. والنتيجة هي أنه لا وجود للفرد المستقل بذاته تماما عن الحياة النفسية للجماعة، ولا يمكنه الإفلات تماما من قبضة التمثلات الجمعية. إن هذه التمثلات هي القوة الأساسية التي تأجج انفعالات الفرد وتخرجه من ذاته، وتجعله تابعا للجماعة، خاضعا لنفوذها وإكراهاتها. إن قوة التمثلات الجمعية هي العامل الأساسي الذي يفسر، في نظر دوركايم، ظواهر الجريمة والعقاب في المجتمع. إن الجريمة، من وجهة النظر هذه، هي الفعل الذي يلحق الأذى بما يسمى "الضمير الجمعي". يتمثل هذا الأخير في "رد الفعل الانفعالي الذي يتحقق بدرجات متفاوتة [حسب خطورة الفعل المرتكب] والذي يمارسه المجتمع بواسطة كيان مؤسساتي على الأفراد الذين قاموا بخرق بعض قواعد السلوك"[2]. وينشأ رد الفعل هذا عن وجود تصور جماعي لما هو مشروع ومباح. وفي غياب هذا التصور لن يكون للعقاب معنى.

إن العقاب القانوني هو المؤشر الدال على ظواهر الجريمة المعترف بها على مستوى المجتمع الكلي؛ ويمثل تحليل دوركايم لهذا النوع من العقاب خطوة حاسمة في اتجاه بناء السياسة كموضوع لعلم الاجتماع. ويؤكد هذا التحليل الدور السياسي الذي تلعبه التمثلات الجمعية من حيث أنها تمتلك من قوة الإكراه ما يلزم الأفراد، في الفترات العادية على الأقل، على الامتثال والخضوع للنظام العام، وتصب جام غضبها على كل سلوك منحرف، وتنزل العقوبة على مرتكبه. ولما كانت التمثلات الجمعية هي الأساس الذي تقوم عليه التنشئة الاجتماعية التي تفرض من خلالها على الطفل قواعد المجتمع ومعاييره، وتجعله منه كائنا يخضع للنظام الاجتماعي القائم، أمكن القول بأنها مصدر كل إكراه سواء اتخذ شكلا اجتماعيا أو سياسيا. ومن الوظائف التي تضطلع بها التمثلات الجمعية أيضا أنها تحدد المقدار الكافي من الامتثال الضروري لقيام المجتمع والحفاظ على توازنه. في المجتمعات المتطورة، تنتظم هذه التمثلات في إطار أجهزة ومؤسسات من أجل أداء هذه الوظائف بأكبر ما يمكن من الفعالية. ومما يترتب عن ذلك أن السلطة هي من صميم الآليات التي يستعملها المجتمع لمراقبة ذاته. ينتج كل مجتمع، مهما كان مستوى تطوره، معايير وقواعد وآليات لمراقبة مدى احترام الأفراد لتلك القواعد. وهذا ما عبر عنه دوركايم في كتابه "الانتحار" بقوله: "المجتمع سلطة تنظم الأفراد"[3]. في كتابه "الأشكال الأولية للحياة الدينية" قدم لنا دوركايم شرحا وافيا للدور الذي تلعبه التمثلات الجمعية في الحفاظ على النظام. يقول بالحرف الواحد:

«Les manières d’agir auxquelles la société est assez fortement attachée pour les imposer à ses membres, se trouve, par cela même marquées du signe distinctif qui provoque le respect. Parce qu’elles sont élaborées en commun, la vivacité avec laquelle elles sont pensées par chaque esprit particulier retentit dans tous les autre et réciproquement. Les représentations qui les expriment en chacun de nous, ont donc une intensité à laquelle des états de conscience purement privés ne sauraient atteindre: car elles sont fortes des innombrables représentations individuelles qui ont servi à former chacune d’elles. C’est la société qui parle par la bouche de ceux qui les affirment en notre présence : c’est elle que nous entendons en les entendant et la voix de tous a un accent que ne saurait avoir celle d’un seul. La violence même avec laquelle la société réagit par voie de blâme ou bien de répression matérielle, contre les tentatives de dissidence, en manifestant avec éclat l’ardeur de la conviction commune, contribue à en renforcer l’empire»[4]

وما يستفاد من هذا القول أن لكل مجتمع معتقدات مشتركة، ويعمل كل شيء فيه على دعم نفوذ هذه المعتقدات التي تدعمها عمليات التفاعل الاجتماعي وتزيدها قوة. ومن المفارقات أن كل محاولة للمساس بها وخرقها تزيد من قوتها بسبب ردود الفعل التي تولدها. وهكذا يساهم الرأي المشترك أو العمومي في الحفاظ على النظام القائم واستمراره، بحيث يمكن القول بأن أصل النظام هو الرأي العام، وأن وظيفة الرأي العام هي الحفاظ على النظام.

ينطبق هذا التحليل أيضا على المجتمعات التي تتوفر على جهاز الدولة. في كتابه "حول التقسيم الاجتماعي للعمل" انكب دوركايم على دراسة وظائف الدولة ودورها في الحياة السياسية من خلال تحليل وظيفة العقوبة القانونية. وتبين له أن للدولة وظيفتان أساسيتان: تتجلى إحداهما من خلال الحياة النفسية للدولة التي تعكس الحياة النفسية للمجتمع الكلي. والمقصود بذلك أن وظيفة الدولة تكمن في إعادة صياغة ما تنطوي عليه المشاعر الجماعية بشكل ضمني من أوامر ونواهي صياغة شكلية، وينظمها حسب أهميتها بشكل عقلاني ومتراتب، مما يجعل العقوبة تتناسب مع خطورة الانحراف. ويكون من نتائج ذلك ازدياد ولاء الأفراد للدولة عندما تكون عادلة في تطبيعها للقانون مراعية لمدى تناسب العقوبات مع درجة خطورة الانحراف عن القواعد والمعايير التي يفرضها الضمير الجمعي. يبدو وكأن المجتمع يضع مشاعره الجماعية بين يدي الدولة ويفوض لها حق ترجمتها إلى قوانين والسهر على تنفيذ مقتضياتها نيابة عنه. وبذلك تضطلع الدولة بحق ممارسة العنف المشروع: تعاقب، وتسجن، وتقتل من خلال تطبيق أحكام الإعدام. وهكذا اكتسبت الدولة وظيفة القمع الاجتماعي إلى جانب وظيفتها التأسيسية المتمثلة في ترجمة ما تنطوي عليه التمثلات الجمعية من قواعد ومعايير إلى قوانين وأحكام.

لقد تشكلت سلطة الدولة كنتيجة للعمليات التنظيمية التي كانت الجماعات البشرية في حاجة إليها كلما ازدادت كثافتها السكانية، وكلما ازداد تعقيدها بسبب التقسيم الاجتماعي للعمل. والحقيقة أن كل جماعة بشرية مهما كان مستوى تطورها تتوفر على نظم للضبط تكون في البداية محايثة لكينونتها وغير متميزة عن المجتمع الكلي. إن رئيس القبيلة أو شيخها في المجتمعات البدائية لا يوجد بينه وبين من يخضعون لسلطته فرق كبير، فهو يوجد على مسافة قريبة منهم. ومع تفكك النظام القبلي، وازدياد عدد السكان ظهر الميل إلى تمركز السلطة في إطار تنظيمي متميز عن المجتمع الكلي. ومع ظهور الدولة، اتسع مفهوم السياسة ليشمل إلى جانب التمثلات الجمعية الدولة وموظفيها، ونظم الحكم كالنظام الملكي، والأرستقراطي، والديمقراطي، وكذا الفئات التي تدعم نظام الحكم القائم والفئات التي تعارضه. ويمثل البعد التنظيمي في السياسة الجوانب المتعلقة بالمؤسسات والتشريعات أو ما يسميه دوركايم نمط الوجود السياسي manière d’être في مقابل أسلوب العمل السياسي manière de faire. يعكس هذا التمييز بين مستوى الوجود ومستوى الفعل تصور دوركايم لمستويات النظام الاجتماعي الذي ميز فيه بين المستوى المادي (الأساس المادي للمجتمع) ومستوى البنيات الشكلية (القوانين والتشريعات) والمستوى اللامادي (التمثلات الجمعية).

ويكتسي الميل إلى إضفاء الطابع الشكلي على آليات الضبط المرتبطة بالضمير الجمعي أهمية بالغة في تفسير دوركايم لنشوء المؤسسات السياسية كما سبقت الإشارة إلى ذلك. لقد أصبحت القوانين التي تحدد ما يجب وما لا يجب فعله تتمتع بوجود فعلي أشبه ما يكون بالأساس المادي للمجتمع عندما اتخذت طابعا شكليا صريحا، تفرض وجودها على الأفراد بنفس القوة التي تفرض القوى المادية نفسها عليهم. ولكنها قابلة للتطور والتغير: فما كان محظورا في الماضي قد يصبح مباحا في فترة لاحقة، وما كان يعتبر جريمة شنيعة قد يصبح مجرد جنحة صغيرة. ونظرا لكونها قابلة للتغير فإنها اقرب ما تكون إلى التمثلات الجمعية التي تخضع بدورها للتطور والتغير. وهكذا أدرج دوركايم البنيات الشكلية (القوانين المنظمة للعلاقات الاجتماعية) ضمن تصوره للنظام الاجتماعي الذي تحتل فيه مرتبة وسيطة تقع بين الأساس المادي للمجتمع وبنائه الفوقي المتمثل في التمثلات الجمعية. يطلق دوركايم على البنيات الشكلية اسم التنظيمات أو المؤسسات؛ يقول بهذا الصدد:

"هناك كلمة تعبر بشكل جيد عن هذا النمط من الوجود المتميز جدا، وهي كلمة مؤسسة. وفي الواقع، يمكننا، دون أن نشوه مدلول هذه العبارة، أن نطلق اسم مؤسسة على جميع المعتقدات وجميع أنماط السلوك التي قامت الجماعة بمأسستها"[5]

 

 ولذلك تعتبر الدولة في نظر دوركايم مؤسسة سياسية بامتياز. وقد فرضت هذه المؤسسة نفسها عندما بلغ المجتمع درجة من التطور والتعقيد فقدت معها آليات الضبط التقليدية فعاليتها. يقول دوركايم: "إنه بمجرد أن بلغت المجتمعات السياسية درجة معينة من التعقيد، لم يعد بإمكانها أن تشتغل بشكل جماعي [لأداء وظيفة الضبط الاجتماعي] إلا من خلال تدخل الدولة"([6]). وفيما يلي عرض مفصل حول تصور دوركايم للدولة ومؤسساتها بناء على ما ورد من تحليلات في المقالة التي اقتبس منها هذا الاستشهاد.

 مفهوم الدولة عند دوركايم

يرى دوركايم أن مفهوم الدولة هو من جملة المفاهيم الفضفاضة التي كثيرا ما تستعمل من غير أن يتم تحديد مضمونها بدقة. فهو يستعمل تارة للدلالة على المجتمع السياسي في كليته، ويستعمل تارة أخرى للدلالة على جزء معين من ذلك المجتمع. وحتى في الحالة التي يستعمل فيها بالمعنى الثاني فإن حدوده قد تتسع لتشمل العديد من المؤسسات دون تمييز. فقد يشمل مفهوم الدولة الكنيسة، والجيش، والجامعة وغيرها من المؤسسات العمومية التي تندرج في تكوين الدولة. ولكن تصور الدولة على هذا النحو قد يؤدي إلى الخلط بين نوعين مختلفين من التنظيمات وهما مؤسسات القضاء والجيش والجامعة من جهة، ومؤسسة الدولة بمعناها المتميز، من جهة أخرى. ولذلك لزم التفريق في نظره بين هيئات المهندسين والأساتذة والقضاة وبين مجلس الحكومة، والمؤسسة التشريعية، والوزارات، ومجلس الوزراء والمصالح التابعة لهذه الهيئات الحكومية. ويخلص دوركايم إلى حصر مفهوم الدولة في الهيئات الاجتماعية التي يحق لها التكلم باسم المجتمع الكلي. فعندما تتخذ الحكومة قرارا، أو يصوت البرلمان على قانون، فإن المجتمع كله يكون معنيا بالقرارات والقوانين الصادرة عن مختلف أجهزة الدولة، بمعنى أن هذه القرارات والقوانين تكون ملزمة للجميع. وأما المصالح الإدارية فإنها عبارة عن أجهزة وهيئات ثانوية تقع تحت سلطة الدولة؛ وبالتالي فإنها ليست جزءا من كيانها الذي يتميز عنها بطبيعة الوظائف التي يؤديها. ومن هنا يمكن القول بأن مفهوم الدولة مرادف لمفهوم المجتمع السياسي. ذلك أنه عندما يبلغ المجتمع السياسي درجة معينة من التعقيد يصبح عاجزا عن مزاولة نشاطه التنظيمي، ولا يستطيع بالتالي أداء وظيفته إلا من خلال جهاز الدولة التي تتكفل نيابة عنه بوظيفة الضبط الاجتماعي.

وتكمن وظيفة الدولة، حسب دوركايم، في إحلال التفكير العقلاني في المجتمع وتنظيمه بطريقة عقلانية. وتزداد أهمية التفكير العقلاني في المجتمع كلما نمت الدولة وتطورت. وليس يعني ذلك أن الدولة هي السبب في وجود الروح الجماعية وانتشارها في الجسم الاجتماعي، ذلك لأن التاريخ يشهد على وجود مجتمعات سياسية بدون دولة. إن ما يجعل التماسك الاجتماعي ممكنا هي المعتقدات المشتركة التي تحرك الأفراد بشكل غامض ولاشعوري تقريبا، وتجعل منهم كتلة واحدة هي عبارة عن حشد دائم يتحرك بطريقة غير واعية تماما، تحركه قوة انفعالية غالبا ما تقع خارج دائرة الوعي الفردي مما قد يجعل من الحشد قوة عنيفة ومدمرة. ويرجع السبب في ذلك إلى عدم توفر الحشد على مركز يستقبل تلك القوى العمياء ويتفكر فيها ويعقلنها قبل أن تقدم على فعل غير محسوب العواقب. وهنا بالضبط يكمن دور الدولة المتمثل في التحكم العقلاني في انفعالات المجتمع.

تكمن وظيفة الدولة، إذن، في توجيه الضمير الجمعي في الاتجاه الصحيح. لأن غياب مركز القرار العقلاني قد يؤدي إلى تصريف القوة الانفعالية المرتبطة بالضمير الجمعي أو الحشد بشكل عشوائي مدمر بسبب طبيعتها غير العقلانية. وقد يحصل ذلك عندما ينشب خلاف في المجتمع ويكون جهاز الدولة ضعيفا غير قادر على معالجة أسباب الخلاف بطريقة عقلانية، مما قد يؤدي إلى نشوب حرب أهلية تأتي على الأخضر واليابس. أما إذا كانت الدولة قوية وعقلانية، فإنها ستطرح القضايا الخلافية على طاولة التداول والنقاش، وتتخذ القرار المناسب الذي يرضي الجميع. تلك هي وظيفة الدولة ومبرر وجودها في المجتمعات المعقدة. إن ما يسمح للدولة بالاضطلاع بهذه المهمة هو موقعها المركزي الذي تتقاطع عنده كل المصالح ويجعل منها كيانا محايدا بالنظر إلى كل طرف من الأطراف المتنافسة في المجتمع. ونظرا لموقعها المركزي والمحايد في المجتمع تستطيع الدولة أن تدرك مدى تعقد الوضعيات التي تنشأ عن التفاعل بين مختلف التوجهات الاجتماعية، وتستحضر في معالجتها للقضايا الخلافية ما غاب عن إدراك كل طرف من الأطراف المتنافسة. وبذلك يمكنها الوصول إلى حلول مرضية ما كان من الممكن أن تخطر ببال القوى المتصارعة.

إن الدولة بهذا المعنى هي العقل المدبر؛ إنها العقل وقد حل محل القوة الانفعالية الغامضة. وهذا ما يفسر طبيعة الدساتير التي تتشكل الدولة على أساسها والتي تكمن وظيفتها في إحلال منطق التداول العقلاني والمعقول محل السلوك الانفعالي الأحادي الجانب. وهذا ما يفسر ظهور مجالس الحكومة إلى جانب الحاكم الذي يمثل الدولة. تكمن وظيفة هذه المجالس في التداول حول مختلف المشاريع المقترحة قبل تنفيذها. ولتكون هذه المشاريع مقبولة في المجتمع، كان لابد أن تضم المجالس ممثلين عن مختلف التوجهات الموجودة في المجتمع، بحيث يمكن لمختلف المشاعر الهلامية الغامضة التي يزخر بها المجتمع أن تفصح عن نفسها داخل المجالس الحكومية.

ويميز دوركايم في أنشطة الدولة بين نوعين: نشاط موجه نحو الخارج وآخر موجه نحو الداخل. يتميز النشاط الأول بكونه عنيف وعدواني، ويتميز الثاني بكونه مسالم وأخلاقي. هذا من حيث المبدأ. ولكن الأهمية التي يكتسيها هذا النشاط أو ذاك اختلفت باختلاف المراحل التاريخية التي مرت بها المجتمعات البشرية. في المراحل السابقة من تاريخ المجتمعات البشرية، كانت الغلبة للنشاط الموجه نحو الخارج على حساب النشاط الموجه نحو الداخل. كان الشغل الشاغل للدولة إلى عهد قريب هو توسيع نطاق حدودها لتضم أراضي جديدة وتبسط نفوذها على سكانها بالقوة. وكان الحاكم هو القائد الأعلى للجيش المهووس بالغزو، وكان الجيش هو وسيلته الأساسية في الحكم ما دام اهتمامه كله منصبا على الغزو. ويرى دوركايم أن الدافع إلى الغزو لم يكن ذا صلة بالمشكلات الاقتصادية التي يتخبط فيها البلد، بل كان يرتبط في المقام الأول بتصور الحكام للدولة. كانوا ينظرون إلى الدولة على أنها كيان واقعي قائم بذاته، موجود كشيء في ذاته، لا بوصفها أداة في خدمة المواطنين من أجل تحقيق العدالة، والتنسيق بين الأنشطة الاجتماعية، وتدبير الشأن العام بما يضمن التقدم والرفاهية للسكان. وبدل أن تكون الدولة وسيلة في خدمة المجتمع تحولت إلى غاية تستقطب جهود الأفراد وتسخر كل إرادة لدعمها وتقويتها أكثر فأكثر، حتى تحولت إلى قوة مستبدة تقهر إرادة المجتمع.

وعندما تأخذ الدولة طابعا عسكريا واستبداديا، تنشغل بالحروب، ولا تولي أهمية كبيرة للوظيفة المتجهة نحو الداخل والمتمثلة في تدبير الحياة الخلقية للمجتمع في اتجاه تحقيق مزيد من الرفاهية والعدالة. وعندما تكون الأولوية في الدولة للوظيفة المتجهة نحو الخارج يتم اختزال القانون إلى ما ترغب فيه الدولة وترتضيه بمعزل عن إرادة المجتمع. ويرى دوركايم أنه كلما تقدم المجتمع ازدادت أهمية الوظيفة المتجهة نحو الداخل على حساب الوظيفة المتجهة نحو الخارج. فبينما كان النشاط العسكري هو النشاط المهيمن في سلوك الدولة خلال المراحل السابقة، أصبحت الأنشطة القانونية والتنظيمية تحتل مكان الصدارة في المراحل اللاحقة، حتى إن الحروب أصبحت تمثل حالات استثنائية، بينما كان الاهتمام بالأنشطة القانونية والتنظيمية في الماضي هو الذي يمثل الحالة الاستثنائية. هكذا يتصور دوركايم تطور الدولة. يتجلى هذا التطور في تزايد حجم التشريعات والقوانين الجديدة. ذلك لأن تطور المجتمع، وازدياد درجة تعقيده بسبب التقسيم الاجتماعي للعمل الذي يفرز باستمرار نظما وظواهر جديدة، يستلزم سن قوانين جديدة. يتجلى ذلك من خلال التطور الهائل الذي عرفته الترسانة القانونية. فقد شمل التطور والتغير قانون الأحوال الشخصية، وقانون التجارة والصناعة، وقانون العقود والالتزامات وما إلى ذلك من القوانين التي تنظم مختلف مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، والتي لم يسبق للكثير منها أن وجدت من قبل.

وخلاصة القول: إنه كلما تطور المجتمع وخطى خطوة إلى الأمام إلا وتطورت معه مؤسسات الدولة، وازدادت حقوق المواطنين، واتخذت العلاقات الاجتماعية طابعا أكثر عدالة. ولقد أصبحت العدالة تحتل مكانة مرموقة في المجتمعات الحديثة، وأصبح مقياس تقدمها مرتبطا بمدى احترام حقوق الفرد؛ لأن العدالة هي، قبل كل شيء، إعطاء الفرد الحقوق التي يضمنها له القانون. والملاحظ، حسب دوركايم، أن حقوق الفرد قد ازدادت في المجتمعات الحديث واتخذت طابعا اجتماعيا، حتى إن الفرد أصبح قيمة في ذاته، يحاط بهالة من القداسة، يقول دوركايم:

"فبينما لم تكن للشخص أية قيمة في البداية، أصبح اليوم الكائن المقدس بامتياز، يُحدث كل طعن في شرفه نفس الأثر الذي يحدثه الطعن في الآلهة لدى المؤمنين بها في الأديان البدائية"([7])

وأما ضامن هذه الحقوق فهي الدولة التي نظر إليها دوركايم على أنها "الهيئة المدنية للعدالة" «organe civil de la justice» . وأما ما يبرر ضرورة قيام الدولة بهذا الدور فهو أن المجتمع ينطوي على قدر كبير من التفاوت بين الأفراد والطبقات والفئات فيما يتعلق بامتلاك وسائل القوة والنفوذ الاقتصادية منها والاجتماعية والثقافية وما إلى ذلك. ولكي لا يطغى البعض على البعض الآخر ويهضم حقوقه، يحتاج المجتمع إلى هيئة محايدة ومستقلة ومتعالية عن المصالح الفردية والفئوية والطبقية، قادرة على فهم ضروريات العيش المشترك. وتقتضي العدالة أن تعمل الدولة على الحد من مطامع كل من يريد استغلال مقومات العيش المشترك من أجل تحقيق مصالحه الأنانية على حساب المصلحة العامة ومصالح غيره من المواطنين. ومن هنا تأتي الوظيفة الأخلاقية للدولة حسب دوركايم. ولكن ذلك لا يعني، في نظره، أن تنفرد الدولة بالقرار، وتفعل ما تشاء دون أخذ بعين الاعتبار توجهات الرأي العام. هذا مع العلم أن قوة الدولة مستمدة من قوة الضمير الجمعي، إنها القوة "المحايثة للضمير المشترك" حسب تعبيره[8] ولذلك لزم إخضاعها لمراقبة القوى الثانوية التي تخضع لنفوذها، وإلا تحولت إلى دولة استبدادية ذات سلطة مطلقة لا حدود لها؛ وبدل أن تكون أداة لتحقيق المساواة والعدالة بين المواطنين تصبح غاية في حد ذاتها. ويكون من نتائج ذلك فقدان الثقة في مؤسسات الدولة مما قد يؤدي إلى نزع المشروعية عنها.  ذلك لأن سلطة الدولة إنما نشأت كرد فعل إزاء توقعات الضمير الجمعي بوصفها سلطة مُفوَّضة تعبر عن إرادة الروح الجماعية. ولذلك يتوقع أن تسحب منها إذا استبدت برأيها ونصبت نفسها بوصفها قوة قائمة بذاتها.     

 

 

 

 

 

 

 



[1] Emile Durkheim (1969). Leçons de sociologie :physique des mœurs et du droit. Paris : PUF. Coll : Bibliothèque de la philosophie contemporaine, p. 96.

[2] Emile Durkheim(1963). Les règles de la méthode sociologique. Paris : PUF. Coll : Bibliothèque de la philosophie contemporaine, p. 64.

[3] Emile Durkheim (1967). Le suicide. Paris : PUF. Coll : Bibliothèque de la philosophie contemporaine, p. 264.

[4] Emile Durkheim (1968). Les formes élémentaires de la vie religieuse. Paris : PUF. Coll : Bibliothèque de la philosophie contemporaine, p. 297.

[5] Emile Durkheim (1963). Les règles de la méthode sociologique, op. cit. p. XXIL.

[6] Emile Durkheim. L’Etat. Texte extrait de la Revue philosophique, n° 148, 1958. Publication posthume d’un cours datant de 1900-1905. Edition électronique, p. 4 http://classiques.uqac.ca/classiques/Durkheim_emile/textes_3/textes_3_6/durkheim_Etat.pdf

[7] Emile Durkheim. L’Etat. Op. cit. p. 7.

[8] Emile Durkheim (1967). De la division sociale du travail. Paris : PUF. Coll : Bibliothèque de la philosophie contemporaine, p. 51.

Partager cet article
Repost0
16 novembre 2011 3 16 /11 /novembre /2011 10:22

علم النفس الأرسطي: قراءة في كتاب "النفس"

أحمد أغبال

لم يكن أرسطو فيلسوفا فحسب، بل كان عالما أيضا. عشق الطبيعة بكل أشكالها فراح يبحث في أسرارها من خلال الكشف عن مبادئها وقوانينها؛ وبدأ بتصنيف أنواع النباتات والحيوانات الموجودة في بلاده، وتعدى ذلك إلى الدراسة التشريحية للحيوان ولكيفية سلوكه في محيطه الطبيعي. وقاده اهتمامه بطبيعة الكائنات ومراتبها في الوجود إلى دراسة النفس التي تمثل عنده أرقى درجات الكمال، وخصص لهذا الموضوع كتابا تحت عنوان الذي يعتبر بحق أول مصنف ظهر في علم النفس، لاسيما وأن أرسطو قد أفرد لموضوع النفس مؤلفا مستقلا، وكأنما أراد بذلك أن يجعل منه موضوع علم قائم بذاته. وعرف موضوع هذا العلم بأنه "الظواهر المشتركة بين الجسد والروح".

لقد أراد أرسطو أن يجعل من النفس موضوعا لعلم خاص، وهو العلم الذي يبحث في طبيعة النفس وخواصها؛ ونظر إلى النفس على أنها مبدأ الحياة العام. ولذلك كان لابد أن يشمل موضوع هذا العلم عنده جميع الكائنات الحية على اختلاف مراتبها، بدءا بالنبات وصولا إلى الإنسان. ولذلك نجد في كتاب "النفس" وصفا دقيقا، بمعايير العصر الذي ينتمي إليه، للأنشطة التي تقوم بها الكائنات الحية من نبات وحيوان إلى جانب أنشطة الإنسان وسلوكه. ولذلك جاء موضوع علم النفس عند أرسطو عاما جدا وشاملا لكل ظواهر الحياة بما في ذلك طبيعة الحياة ذاتها. وهذا ما جعله مختلفا عن علم النفس الحديث أو المعاصر.

أثار أرسطو في كتاب "النفس" مجموعة من القضايا والإشكالات المتعلقة بطبيعة الظواهر السيكولوجية وعلاقتها بالبدن من جهة، وبالنفس أو الروح من جهة أخرى. ومن أمثلة ذلك قوله:

"وهناك مشكلة أخرى تتصل بأحوال النفس: هل تعم جميعها الكائن ذا النفس، أم أن بعضها يخص النفس ذاتها ؟ والجواب عن هذا السؤال ضروري ولكنه صعب. ويبدو أن النفس في معظم الحالات لا تفعل ولا تنفعل بغير البدن: مثل الغضب، والشجاعة، والنزوع، وعلى وجه العموم الإحساس. وإذا كان هناك فعل يخص النفس بوجه خاص فهو التفكير. ولكن إذا كان هذا الفعل نوعا من التخيل، أو لا ينفصل عن التخيل، فإن الفكر لا يمكن أن يوجد كذلك بدون البدن. وإذن، إذا كان هناك وظائف أو أحوال للنفس تخصها وحدها، فقد يمكن أن يكون للنفس وجود بدون الجسم. وعلى العكس، إذا لم يكن لها شيء من ذلك يخصها، فلن تكون النفس منفصلة عن الجسم... ويبدو أن جميع أحوال النفس توجد مع الجسم: كالغضب، والوداعة، والخوف والشفقة والإقدام، وأيضا الفرح والحب والبغض؛ لأنه عندما تحدث هذه الأحوال يتغير الجسم. ويظهر ذلك من أنه في بعض الأحيان تحدث فينا أسباب قوية وعنيفة توجب هذه الأحوال، دون أن يعقبها تهيج أو خوف، على حين أنه في بعض الأحيان الأخرى تؤدي أباب ضعيفة وقليلة الثر إلى حدوث هذه الآثار، إذا كان الجسم متهيجا، وفي حالة تشبه الغضب. وهناك دليل أكثر وضوحا: في غيبة كل سبب للخوف قد ننفعل انفعال الخوف. فإذا كان ذلك كذلك، فمن الواضح أن أحوال النفس صور حالُّةََ في الهيولى. ولذلك يجب أن يُنْزِلَ هذه الأمور عند النظر في حدها على هذا النحو، كأن يقول مثلا: إن الغضب هو حركة هذا الجسم، او هذا الجزء من الجسم، أو هذه القوة أو هذه القوة عن هذا السبب لهذه الغاية. ولذلك كان البحث عن النفس مما يختص به عالم الطبيعة سواء فيما يتصل بالنفس كلها، أو بأحوالها التي وصفناها. "

وإلى جانب الإشكالية العويصة المتعلقة بطبيعة الظواهر السيكولوجية وعلاقتها بالبدن، طرح أرسطو مشكلة المنهج المتعلق بدراسة هذه الظواهر الشديدة التعقيد. يقول بهذا الصدد:

"غير أن الحصول على معرفة وثيقة عن النفس أمر، على الإطلاق ومن كل وجه، شديد الصعوبة. ذلك أن هذا الفحص، لأنه يعم كثيرا من الأشياء (أعني البحث عن الجواهر والماهية) فقد يُظَنُّ أنه لا بوجد إلا منهج واحد ينطبق على جميع الأشياء التي نريد أن نعرف جوهرها (كما هو الحال في البرهان فيما يخص الصفات العرضية)، فيكون من الواجب أن نطلب هذا المنهج. ومن جهة أخرى إذا لم يوجد منهج واحد ومشترك للبحث في الماهية، فإن عملنا يصبح أكثر صعوبة، إذ ينبغي تحديد الطريق المتبع في كل حالة. ومع ذلك إذا كان من الواضح أن هذه الطريقة هي ضرب من البرهان أو القسمة أو حتى منهج أخر، فإنه يبقى بعد ذلك مشكلات وشكوك فيما يجب أن يبدأ منه بحثنا. لأن المبادئ تختلف باختلاف الأشياء المختلفة كالحال، مثلا، في الأعداد والسطوح" (ص. 4)

وهذا الطرح لمسألة المنهج السيكولوجي في علاقته بطبيعة موضوع البحث لا يختلف عما ذهب إليه رواد علم النفس المعاصر الذين اختلفت مناهج البحث السيكولوجي عندهم باختلاف أنواع الظواهر السيكولوجية كما يحددونها. ويختلف المنهج المعتمد لدراسة النفس عند أرسطو باختلاف كيفية تصوره لأحوالها: فإذا كانت أحوال النفس على صلة وثيقة بالجسد، وكانت النفس "لا تفعل ولا تنفعل بغير البدن"، حسب قوله، فإن دراستها ستصبح حينئذ جزءا من اهتمامات عالِم الطبيعة؛ وإذا كانت للنفس خواص تخصها، احتاج الباحث إلى منهج برهاني يقوم على مبادئ قبلية. ولا زالت مسألة المنهج السيكولوجي مطروحة على هذا النحو في الأزمنة المعاصرة. ولذلك اختلفت مناهج البحث السيكولوجي باختلاف تصورات الباحثين والعلماء للموضوعات التي يتناولونها بالدراسة والتحليل.

افترض أرسطو على غرار أستاذه أفلاطون وجود ثلاثة أنواع من النفس، وهي: النفس النباتية التي تمثل القوى الغاذية في الكائنات الحية؛ والنفس الحيوانية التي تنشأ عنها القدرة على الحركة الذاتية؛ والنفس الإنسانية التي تمثل القوى العقلية. ونظر إلى النفس في ضوء مقولاته الميتافيزيقية أحيانا، ومقولاته الفيزيائية أحيانا أخرى، واعتبرها مبدأ الوجود الفعلي للجسد الذي به يتحقق بوصفه كائنا له أهداف وغايات، ونظر إليها بوصفها الكمال الأول للجسد الذي ينطوي على الحياة بالقوة أو بالإمكان، يقول:

"إلا أن الآراء قد أجمعت على أن الأجسام هي قبل كل شيء الجواهر، وأن من بينها الأجسام الطبيعية لأنها مبادئ غيرها. وبعض الأجسام الطبيعية بها حياة، وبعضها لا حياة لها. ونعني بالحياة: أن يتغذى الكائن، وينمو، ويفسد بذاته. ويترتب على ذلك أن كل جسم طبيعي ذي حياة، فهو جوهر، ونعني بالجوهر هاهنا الجوهر المركب [من الهيولى والصورة]. وما دمنا نتكلم هاهنا عن جسم ذي صفة معينة، ونعني بهذه الصفة وجود الحياة في الجسم، فليس الجسم هو النفس، لأن الجسم الحي [أي الذي فيه نفس] ليس صفة لشخص، بل الأولى أنه هو نفسه حامل وهيولى، ويترتب على ذلك أن النفس بالضرورة جوهر بمعنى أنها صورة جسم طبيعي ذي حياة بالقوة. ولكن هذا الجوهر كمال أول لجسم له هذه الطبيعة. إلا أن الكمال الأول يقال على معنيين: فهو تارة كالعلم، وتارة كاستعمال العلم. ويظهر هاهنا أن النفس كمال أول كالعلم، لأن النوم كاليقظة، يقتضيان وجود النفس، من حيث إن اليقظة شيء شبيه باستعمال العلم، والنوم شبيه بوجود العلم دون استعماله. ولكن العلم في الفرد متقدم في النشوء على استعمال العلم. لهذا كانت النفس كمالا أول لجسم طبيعي ذي حياة بالقوة، نعني بجسم آلي [أو عضوي]"(ص. 42)

ولما كانت النفس كمالا أولا لجسم طبيعي، ونظرا لكونها أشبه ما تكون بالعلم قبل استعماله، فإنه يفترض أن يكون لها استقلال عن أفعالها. ومن هنا جاء تعريف أرسطو للنفس على أنها جوهر لجسم طبيعي ذي حياة بالقوةّ، وعرفها بقوله:

"والنفس علة ومبدأ الجسم الحي. وهذان اللفظان "علة" و "مبدأ" يقالان على معان كثيرة...فالنفس علة من حيث إنها أصل الحركة، وإنها غاية، وإنها كذلك جوهر الأجسام المتنفسة. أما إنها علة من جهة الجوهر، فهذا بين؛ لأن علة الكائن في كل شيء هو الجوهر. ولكن الحياة عند جميع الكائنات الحية، هي قوام وجودها. والنفس هي علة حياتها ومبدؤها. وأيضا فإن صورة الكائن بالقوة هي الكمال الأول. ومن الواضح أيضا أن النفس علة أيضا من جهة الغاية: فكما أن العقل يفعل من أجل شيء، فكذلك الطبيعة، وهذا الشيء غايتها. ولكن النفس هي مثل هذه الغاية في الحيوان، وهذا مطابق للطبيعة، لأن جميع الكائنات الطبيعية الحية آلات للنفس، والأمر في النبات كما هو في الحيوان. فالنفس، إذن، غايتها"(ص. 54-55)

وينطبق هذا على جميع الكائنات الحية من نبات وحيوان وإنسان. والمقصود بالجوهر هنا الصورة التي تنقل الكائن من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل. وهكذا، فإن علاقة النفس بالجسد إنما تمثل حالة خاصة بالنظر إلى العلاقة العامة التي تربط الصورة بالهيولى في الميتافيزيقا الأرسطية.

وبالإضافة إلى اهتمامه بدراسة العلاقة العامة بين النفس والجسد في ضوء نظريته الميتافيزيقية ونظرية العلل الأربعة، خصص أرسطو عدة فصول من كتاب "النفس" لدراسة أحوال النفس أو القوى النفسية وعلاقة بعضها ببعض، ومنها القوى الغاذية، وملكات الإدراك الحسي والتفكير العقلي، والقوة الشهوانية أو الرغبة، وما إلى ذلك من القوى النفسية. ونقد جاءت مرتبة عنده حسب مراتب الكائنات الحية. نقرأ في كتاب النفس ما يلي:

"توجد جميع قوى النفس التي ذكرناها في بعض الكائنات، كما سبق أن قلنا، وليس في بعض الكائنات إلا بعض القوى، وبعضها الثالث ليس فيه إلا قوة واحدة فقط. والقوى التي عددناها هي: القوة الغاذية، والنزوعية، والحساسة، والمحركة، والمفكرة. وليس في النبات إلا القوى الغاذية فقط؛ وفي بعض الكائنات هذه القوة، وكذلك قوة الحس؛ وإذا كانت عندها قوة الحس فعندها طذلك القوة النزوعية، لأن النزوع يشمل الشوق، والغضب، والإرادة. ولكن الحيوانات عندها جميعا إحدى الحواس على الأقل، نعني اللمس. وحيث يوجد الإحساس يوجد كذلك اللذة والألم. وإذا وجدت هذه الأحوال في كائن وجد عنده الشوق، إذ أن الشوق هو طلب المُلِذ. وأيضا فإن جميع الحيوانات عندها الإحساس بالغذاء، لأن اللمس حاسة التغذي. ذلك أن اليابس والرطب، والحار والبارد من الأشياء، هي وحدها غذاء جميع الكائنات الحية. (وهذه الصفات تُدْرَكُ باللمس، على حين أن غيرها من المحسوسات، ليست كذلك إلا بالعرض)، لأن الصوت، واللون، والرائحة لا تساهم في التغذي. أما الطعم فهو احد موضوعات اللمس. ولكن الجوع والعطش من الشوق، فالجوع [شوق] لليابس والحار، والعطش للبارد والرطب. والطعم بنوع ما، يجمع بين هذه الصفات....ولنكتف الآن بالقول بأن الحيوانات التي عندها اللمس، عندها النزوع كذلك. أما أنها هل عندها تخيل فأمر يُشَكُّ فيه...وعند بعض الحيوان أيضا قوة الحركة، وعند بعضها الآخر قوة التفكير والعقل، كالإنسان مثلا، وأي كائن حي آخر، إن وجد، يكون من طبيعة مشابهة له، أو أرقى منه"(ص. 50-51)

يتبين من هذا النص أن الكائنات الطبيعية تختلف عن بعضها البعض من حيث مراتبها في الوجود ودرجات تطورها أو كمالها باختلاف عدد القوى النفسية التي تنطوي عليها. فالنبات ينطوي على قوة واحدة هي القوة الغاذية، ويتمتع الحيوان بالقوة الغاذية التي للنبات وبقوة الإدراك الحسي التي لا توجد عند النبات. ويشك أرسطو في أن تكون للحيوان قوة المخيلة، وإن كان يرجح أن يكون لها تخيل حسي، وأما التخيل المقترن بالروية فهو من اختصاص الحيوان العاقل. وأما الإنسان، فإنه يشتمل على هذه القوى كلها ويزيد عليها. ولذلك يعتبر أرقى الكائنات الطبيعية جميعا. بحيث يمكن القول: إن من يتمتع بالقدرة على التفكير العقلي، يتمتع أيضا بالقدرة على الإدراك الحسي وقوة الخيال، وكل من عنده قوة الإدراك الحسي، تكون عنده بالضرورة القوة الغاذية. والعكس غير صحيح، بمعنى أن وجود القوة الغاذية لا يستلزم بالضرورة وجود قوة الحس، كما أن هذه الأخيرة لا تستدعي بالضرورة وجود القوة العقلية. ولما كان الإدراك الحسي يحتاج في وجوده إلى القوة الغاذية، جعل أرسطو من القوة الغاذية موضوعا لعلم النفس، مثلها في ذلك مثل قوة الحس وقوة المخيلة وقوة التفكير العقلي والرغبات وغيرها من الانفعالات الأخرى. تبين الخطاطة التالية مراتب الكائنات الطبيعية كما يتصورها أرسطو.

أحوال النفس وملكاتها لدى مختلف الكائنات الحية

 ----------------------copie-1.JPG

يمكن القول في ضوء ما سبق إن ميدأ الحياة الأول يكمن في القوة الغاذية. وعلى هذا عرف أرسطو الحياة بأنها التغذي والنمو والنقصان بالذات. و"بناء على هذا المبدإ، إذن، يقول أرسطو، توجد الحياة في جميع الكائنات الحية"(ص. 46) سواء تعلق الأمر بالنبات أو الحيوان. ولذلك اعتبرها أرسطو "أول قوى النفس وأعمها"(ص. 53) ورأى أنها تؤدي وظيفتين: التغذي والتوالد. وتكتسي وظيفة التوالد أهمية قصوى لدى جميع الكائنات الحية، "لأن أقرب الوظائف من الطبيعة لكل كائن حي كامل ليس بناقص...هو أن يخلق كائنا آخر شبيها به...بحيث يشارك في الأزلي والإلهي بحسب طاقته. لأن هذا هو موضوع النزوع لجميع الكائنات، وغاية نشاطها الطبيعي"(ص. 56-57)

وأما بخصوص الحيوان، فإن الأساس الذي يقوم عليه تكوين فهو الإحساس. يشترك الإنسان مع النبات في القوى الغاذية، وترتبط عنده هذه الأخيرة بالقوة الحساسة، بينما توجد القوة الغاذية عند النبات في استقلال عن للقوة الحساسة أو مفارقة لها. ويعتبر اللمس، في نظر أرسطو، أول قوى الحس في الحيوان. وأما الإنسان، فإن مبدأ وجوده كإنسان، فهو العقل. وأما النفس، فهي ما به تؤدي الكائنات الحية وظائفها (التغذي، والإحساس، والتفكير...).

وإذا كان الإدراك الحسي هو ما يميز الحيوان عن النبات، فإن ملكة الحس لا يكون لها وجود عنده إلا بالقوة؛ ولا تنتقل إلى الوجود بالفعل إلا بعد أن تنفعل بالمحسوس الذي يكون له وجود بالفعل. فالرؤية لا تتحقق إلا إذا كان هناك موضوع قابل للإبصار، أي له خصائص تجعله قادرا على التأثير في حاسة البصر، وينقل إليها صورته؛ فهو بلغة عصرنا هذا يلعب دور المنبه، وهو ما عبر عنه أرسطو بقوله: "..إلا أن ملكة الحس هي بالقوة، كما أن المحسوس هو بالفعل.. فهي تنفعل إذن من حيث إنها ليست شبيهة، حتى إذا انفعلت أصبحت شبيهة بالمحسوس، واتصفت بوصفه"(ص. 63) لا يتحقق الإدراك الحسي إذن ما لم تتوفر جملة من الشروط: فلا يمكن لكائن أن يدرك موضوعا ما إلا إذا (1) كان ذلك الكائن يتمتع بالقدرة على الانفعال بالموضوع، بمعنى أن تكون له القدرة على استقبال الصورة المحسوسة لذلك الموضوع (2) وكان الموضوع مهيأ لأحداث فعل أو تأثير في الإحساس، فيمده بصورته (3) والنتيجة هي أن قوة الحس عند الكائن تتوحد مع صورة الموضوع المُدْرَك وتنتقل إلى الوجود بالفعل. يسري هذا القانون على الإدراك العقلي أيضا. فالذات العارفة تحتاج لكي تتعقل موضوعا ما إلى (1) أن تكون لها القدرة على استقبال الصورة المعقولة للموضوع (2) وأن يكون الموضوع مهيأ لإمداد الملكات العقلية للذات العارفة بالصور التي تحتاج إليها (3) ويكون من نتائج ذلك أن بنية العقل الفردي تتوحد مع بنية الصور العقلية. يتحقق الإدراك الحسي، إذن، عندما تتشكل بنية ملكة الحس وفقا لبنية المحسوس أو صورته. وكذلك تتحقق المعرفة العقلية عندما تتخذ بنية العقل شكل بنية الموضوع، أي عندما تتوحد بنية الذات العارفة مع بنية موضوع المعرفة، وهو ما عبر عنه أرسطو بقوله: "والعلم من أحد الوجوه هو وموضوعه شيء واحد، كما أن الإحساس والمحسوس شيء واحد"(ص. 119) ويعود ليوضح بأن الأمر إنما يتعلق بصور الموضوعات لا بالموضوعات ذاتها، يقول:

"العلم والإحساس ينقسمان، إذن، بحسب موضوعاتهما، فالعلم بالقوة والإحساس بالقوة يقابلان الأشياء بالقوة، والعلم بالفعل والإحساس بالفعل يقابلان الأشياء بالفعل. وفي النفس قوة الحس وقوة العقل هما بالقوة نفس موضوعيهما، أحدهما المعقول بالقوة، والآخر المحسوس بالقوة. فبالضرورة كانت هذه القوى هي نفس موضوعاتها، أو على الأقل نفس صورها. أما أن تكون نفس موضوعاتها، فليس هذا ممكنا، لأنه ليس الحجر هو الموجود في النفس بل صورته"(ص. 120)

وفي سياق تحليله لملكات النفس، انتهى أرسطو إلى وجود تلازم وارتباط بين بعض الملكات. ومن أمثلة ذلك قوله أن ملكة الحس تنشأ معها دائما ملكة أخرى وهي المخيلة؛ بحيث يمكن القول: إنه كلما كانت القوة الحساسة إلا ووجدت معها قوة المخيلة. هناك، إذن، علاقة ارتباط بين الإحساس والتخيل. وكذلك توجد علاقة ارتباط بين التخيل والنزوع والشوق. يقول بهذا الصدد::

"وإذا كان في كل جزء الإحساس ففيه أيضا التخيل، والنزوع. لأنه إذا وجد الإحساس، وجد كذلك الألم واللذة. وإذا وجد الألم واللذة، فهناك بالضرورة الشوق"(ص. 47)

ويقول في مكان آخر.

"وليس في النبات إلا القوة الغاذية فقط؛ وفي بعض الكائنات هذه القوة، وكذلك قوة الحس؛ وإذا كانت عندها قوة الحس فعندها كذلك القوة النزوعية، لأن النزوع يشمل الشوق، والغضب، والإرادة. ولكن الحيوانات عندها جميعا إحدى الحواس على الأقل، نعني اللمس. وحيث يوجد الإحساس يوجد كذلك اللذة والألم. وإذا وجدت هذه الأحوال في كائن وجد عنده الشوق، إذ أن الشوق هو طلب المُلِذ" (ص. 50)

نظر أرسطو إلى المخيلة بوصفها ملكة تابعة لملكات أخرى، فهي تقع تحت تأثير ملكة الحس عند الحيوان والإنسان معا، وترتبط بالروية والملكات العقلية عند الإنسان وحده.

لم يكتف أرسطو برصد أحوال النفس لدى مختلف الكائنات الحية وبيان كيفية تدرجها ومراتبها وعلاقات بعضها ببعض، بل تجاوز ذلك في الفصول الأخيرة من كتاب "النفس" إلى البحث في الأسباب الكامنة خلف سلوك الكائن الحي من أجل الوقوف على المبدأ المحرك الذي يدفعه نحو تحقيق أهدافه التي قد يعيها أو لا يعيها. وساقه البحث والتقصي إلى التمييز في النفس بين نوعين من القوى: "قوة الحكم، وهي وظيفة التفكير والإحساس، ثم قوة التحريك بحسب الحركة المكانية" (ص. 121) وراح يبحث في أجزاء النفس التي لا حصر لها عنده () عن الجزء الذي يلعب دور المبدأ المحرك؛ واستبعد أن يكون هو القوة الغاذية، على اعتبار أن كل سلوك يهدف دائما إلى تحقيق غاية، هذا بالإضافة إلى أن كل حركة أو سلوك "يصحبها إما تخيل إما نزوع، لأن الحيوان ما لم يشتق إلى شيء أو يهرب منه فلا يتحرك إلا بالقسر"(ص.122) وكذلك استبعد أن يكون لقوة الحس علاقة مباشرة بالمبدأ المحرك. وكذلك العقل النظري، فإنه لا يمكن أن يكون علة الحركة، واستدل على ذلك بقوله:

"ذلك أن العقل النظري لا يعقل شيئا له بالعمل علاقة، ولا يحكم فيما يجب تجنبه وطلبه، على حين أن حركة التقدم تصدر دائما عن كائن يتجنب أو يطلب شيئا. وحتى إذا فعل العقل شيئا من هذا الجنس فإنه لا يأمر بطلبه أو بتجنبه: مثال ذالك أنه كثيرا ما يعقل شيئا مخيفا..دون أن يأمر بالهرب"(ص. 123)

وخلص في النهاية إلى القول بوجود قوتين محركتين وهما: النزوع أو الرغبة والعقل العملي. وعرف العقل العملي بأنه "العقل الذي يستدل لبلوغ غرض"(ص.122). وكذلك الحال بالنسبة للرغبة، فهي دائما متجهة نحو شيء ما، وبتعبير أرسطو، فإن "كل نزوع فهو من أجل غاية، لأن موضوع النزوع هو مبدأ العقل العملي"(ص. 124). إن ما يجعل من الرغبة والعقل العملي قوة محركة هو نزوعهما إلى غرض مطلوب؛ بحيث يمكن القول في النهاية بأن القوة المحركة تكمن أولا وقبل كل شيء في الغاية أو الغرض المطلوب. فالهدف الذي يتشبث به الكائن، أو لنقل موضوع رغبته، هو الذي بلعب دور الحافز أو القوة الدافعة في السلوك. "ولذلك، يقول أرسطو، فإن المطلوب هو دائما ما يحرك" (ص. 124)، سواء كان مطلوبا من جهة العقل أو من جهة الخيال، وفي كلتا الحالتين، فإن القوة المحركة هي القوة النزوعية أو قوة الرغبة والشوق. وإذا كان العقل لا يحرك بدون نزوع، فإن النزوع المختص به يكمن في الروية، ومعناها طلب الحق والصواب. فعندما يتحرك المرء عن تفكير وروية، فإنه يضرب لكل شيء حسابا. "أما النزوع فعلى العكس، فيمكن أن يحرك بدون أي استدلال، لأن الشوق ضرب من النزوع" (ص. 124). على هذا يمكن للرغبة أن تتعارض مع العقل، وينشأ صراع بينهما، وهو ما يسمى بلغة علم النفس المعاصر الصراع النفسي، والصراع بين الأنا والهو. كان أرسطو على وعي تام بهذا النوع من الصراع، وعبر عنه بعبارات ومفاهيم لا تختلف في شكلها ومضمونها عن المقولات والمفاهيم التي تقوم عليها نظرية التحليل النفسي، يقول بالحرف الواحد:

"فمن الواضح إذن أن ما يحرك هي قوة النفس التي تسمى بالنزوع. أما أولئك الذين يقسمون النفس أجزاء فإن فعلوا ذلك بحسب قواها ينتج عن ذلك عدد كبير من الأجزاء: غاذية، وعاقلة، ومروية، وأخرى نزوعية أيضا. هذه تختلف فيما بينها أكثر مما تختلف الشهوانية والغضبية – وحيث تتولد ضروب من النزوع يضاد بعضها بعضا، وهذا ما يحصل إذا تعارض العقل والشهوات (ولا يحصل هذا إلا في الكائنات التي تدرك الزمن؛ ذلك أن العقل يأمر بالمقاومة بالنظر إلى المستقبل، على حين أن الشهوة لا تتحرك إلا بحسب الحاضر، لأن اللذة الحاضرة تظهر على أنها لذيذة على الإطلاق، وخيرة على الإطلاق، لأننا لا نبصر المستقبل) فيترتب على ذلك أن المبدأ المحرك يجب أن يكون واحدا بالنوع" (ص. 125).

وإذا كان أرسطو قد انتبه إلى الصراع بين قوى الهو والأنا، فإنه أشار في هذا النص أيضا إشارة واضحة إلى وجود ما يسمى اليوم في لغة التحليل النفسي بمبدأ اللذة ومبدأ الواقع. إن القول بأن "الشهوة لا تتحرك إلا بحسب الحاضر" يضاهي ما ذهب إليه فرويد في حديثه عن الطاقة الليبيدية وقوى الهو العمياء التي تدفع الفرد إلى إشباع نزواته هنا والآن بغض النظر عن متطلبات الواقع وما يمكن أن يترتب عنها في المستقبل؛ ومعنى ذلك أن الهو لا يخضع إلا لمبدأ واحد وهو مبدأ اللذة، وعلى الظرف النقيض تقع الأنا التي لا تخضع في الغالب إلا لمبدأ الواقع.

Partager cet article
Repost0
15 novembre 2011 2 15 /11 /novembre /2011 19:14

علم النفس الأرسطي: الذاكرة والتذكر

أحمد أغبال

يرى أرسطو أن الذاكرة هي جزء من ملكة الإدراك الحسي: إنها الآلية التي تتولى مهمة فحص ومعالجة التجارب الحسية السابقة. وأما التجارب الحسية التي تقع في الزمن الحاضر فإنها تقع خارج دائرة نفوذ الذاكرة، ولا تشملها هذه الأخيرة إلا بعد أن تصبح في خبر كان. ولذلك تقترن الذاكرة في نظرية أرسطو بمفهوم الزمن. ويترتب عن ذلك أن الذاكرة لا تكون إلا عند الحيوانات التي تدرك الزمن؛ وهي عند هذه الحيوانات جزء لا يتجزأ من الملكة التي تمكنها من إدراك الموضوعات الخارجية، أي ملكة الإدراك الحسي.  ومن هنا استخلص أرسطو الفكرة التالية: إن المبدأ الذي ترتكز عليه الذاكرة في تعاملها مع أي موضوع مهما كان نوعه هو مبدأ حسي. وحتى عندما يتعلق الأمر بالأفكار المجردة فإن الذاكرة لا تتعامل معها إلا من خلال بعض الانطباعات أو الصور الحسية. ولما كانت الذاكرة مرتبطة بملكة الحس، وكانت هذه الملكة مشتركة بين الإنسان والحيوان، كان لابد أن توجد الذاكرة عندهما معا. ولو كانت الذاكرة جزءا من ملكة العقل، لاستحال وجودها عند الحيوان. ومع ذلك، فإن الذاكرة لا توجد عند جميع أنواع الحيوانات، ولا ينعم بها إلا الحيوان الذي يدرك الزمن.

وأما موطن الذاكرة في النفس فهو المحل الذي تنشأ فيه صور الخيال، لأن الموضوعات التي تعالجها الذاكرة تنتمي كلها إلى عالم الخيال الذي تصنعه قوة المخيلة. والسؤال الأساسي الذي كان أرسطو يروم الجواب عليه هو: كيف يمكن تذكر ما ليس حاضرا حين يكون الحاضر الوحيد هو ما عرض للنفس من تحول ويكون الموضوع غائبا ؟ يقول أرسطو في جوابه على هذا السؤال:

"من البديهي الاعتقاد بأن الانطباع الذي ينشأ عن الإحساس في النفس وفي ذلك الجزء من الجسد الذي يدرك الإحساس أشبه ما يكون بنوع من الرسم، وبأن إدراك ذلك الانطباع هو الذي يمثل بالضبط ما يسمى بالذاكرة. إن الحركة التي تحدث حينئذ تطبع في النفس صورا حسية شبيهة بالخاتم المطبوع على قطعة من الشمع"[1]

 ثم تساءل بعد ذلك ما إذا كنا لا نتذكر غير الصور الحسية المطبوعة في النفس، أم أننا نتذكر الموضوعات الخارجية التي خلفت تلك الانطباعات في النفس. فإذا كان الانطباع الحسي وحده هو ما يمكن للذاكرة أن تسترجعه، فلن يكون باستطاعتنا أن نتذكر الموضوع الغائب. أما إذا كان بوسع الذاكرة أن تسترجع ذلك الموضوع، فكيف يمكن الانتقال من الانطباع الذي نحس به إلى الموضوع الغائب الذي لا نحس به ؟ وبعبارة أخرى: إذا سلما بوجود ما يشبه الطابع المرسوم في النفس، وكنا لا نحس إلا بوجود ذلك الطابع المرسوم بداخلنا، فيكيف يحصل أن نتذكر، مع ذلك، شيئا آخر هو الموضوع الغائب الذي لم يعد في متناول الحواس ؟

للإجابة على هذا السؤال، انطلق أرسطو من إجراء مقارنة بين الصورة المرسومة على لوحة والانطباع الحسي أو الصورة الحسية المرسومة في النفس. فالحيوان المرسوم على لوحة يمثل الحيوان ونسخة الحيوان في نفس الوقت؛ إن الرسم هو هو نفسه، إنه شيء واحد، ومع ذلك فإنه يمثل شيئين مختلفين: الكائن ونسخته. من البديهي أن كينونة النسخة تختلف اختلافا جوهريا عن كينونة الكائن. ومع ذلك، يمكن أن نتمثل الرسم على أنه حيوان أو على أنه نسخة الحيوان. ينطبق هذا أيضا على الصور الحسية المطبوعة في النفس. وهكذا، فعندما نتأمل الصورة الحسية، تبدو كما لو كانت شيئا قائما بذاته، مع أنها صورة لشيء آخر، أو صورة تحيل على موضوع خارجي. فإذا نظرنا إلى الصور الحسية كما هي في ذاتها، بدت على أنها تمثلات ذهنية، أو صور خالصة، وإذا نظرنا إليها في علاقتها بالموضوعات الخارجية، بدت على أنها نسخ أو ذكريات. 

ومن ثمة، كان بإمكان الذات المفكرة أن تنظر إلى ما تختزنه الذاكرة من صور إما بوصفها كيانات قائمة بذاتها أو بوصفها نسخا لكيانات أخرى غيرها. ونظرا لإمكانية التعامل مع تلك الصور بهذه الطريقة أو تلك، فقد يحدث أن يخلط الفرد بين الصور الحسية التي تشكلت في الزمن الحاضر وبين الذكريات: فقد يجد بعض الأشخاص صعوبة في التمييز بين الانطباعات الحسية الراهنة - التي تشكلت في الزمن الحاضر- وبين الصور المسترجعة التي تشكلت في الماضي؛ وقد يحصل العكس، فيأخذ المرء صور الماضي (الذكريات) على أنها انطباعات حسية آنية. وهذا ما يحصل لمن يوجد في ما يشبه حالة الوجد أو الجنون، فينظر إلى صور الخيال على أنها وقائع حقيقية، وكذلك قد ينظر إلى ما ليس بنسخة على أنه نسخة حقيقية.

ولكي لا تشتبه علينا الأمور، اقترح أرسطو القيام بتمارين لدعم نشاط الذاكرة وزيادة الوعي بالقواعد المتحكمة في كيفية اشتغالها وفي مقدمتها القاعدة التي مفادها أن التمثلات الذهنية ليست كيانات قائمة بذاتها، بل هي نسخ لموضوعات خارجية. ومن هنا خلص أرسطو إلى تعريف الذاكرة بقوله:

"وباختصار، يمكن أن نعرف الذاكرة، إذن، على أنها إدراك للصورة التي خلفها الموضوع في النفس بوصفها نسخة للموضوع الذي تمثل صورته؛ وأما المبدأ الذي يستند عليه هذا الإدراك فهو مبدأ الحس ذاته الذي يمدنا بمفهوم الزمن"[2]

إن الذاكرة هي إدراك الصور الحسية التي تشكلت في الماضي. فلا وجود للذاكرة ما لم توجد ملكة الحس التي ينشأ عنها مفهوم الزمن، ولا يتحقق فعل التذكر إلا من خلال الوعي بالزمن. ومعنى ذلك أن الذاكرة، في نظر أرسطو، لا توجد إلا عند الحيوان الذي يدرك الزمن. وكما أن الذاكرة تحتاج في اشتغالها لمفهوم الزمن، كذلك يرتبط التفكير عند أرسطو بهذا المفهوم. لا يتحقق فعل التفكير إلا من خلال الاشتغال على مضمون محدد استنادا إلى مفهوم الزمن. يشترط التفكير في نظرية أرسطو توفر مفهوم المضمون ومفهوم الزمن. ولما كان مفهوم الزمن صادرا عن ملكة الحس، وكان التفكير محتاجا لمفهوم الزمن، لزم أن ينطلق التفكير من المعطى الحسي الذي يمثل المضمون الواقعي للفكر. ومن هنا تتبين لنا الطبيعة الأمبريقية للمذهب الأرسطي: إن للمعرفة النظرية، من وجهة النظر الأرسطية، أساس إمبريقي، وهو المعطى الذي توفره ملكة الحس. ولما كان للذاكرة والتفكير أساس مشترك، وهو مبدأ الحس، وكانت الذاكرة هي إدراك الصور الحسية، فإن تذكر الأفكار يحتاج بدوره إلى استحضار الصور الحسية. إن تذكر العناصر النظرية المجردة يمر عبر تذكر أساسها الأمبريقي المتمثل في الانطباعات أو الصور الحسية. لأن الذاكرة لا تدرك، من حيث المبدأ، إلا الصور الحسية وحدها؛ وهذا ما يفسر وجودها عند كل من الحيوان والإنسان في نظر أرسطو. إلا أنها لا توجد لدى جميع أصناف الحيوانات دون استثناء، بل يقتصر وجودها على الأنواع التي تدرك منها الزمن. ولو كانت الذاكرة آلية من آليات البعد العقلي للنفس لتعذر وجودها لدى الحيوان.

تساءل أرسطو عن الجزء الذي تحتله الذاكرة من النفس، وبدا له أنها تحتل نفس الموقع الذي تصدر عنه المخيلة، بدليل أن موضوعات الذاكرة (الصور الحسية) هي العناصر نفسها التي تشتمل عليها المخيلة.

وإذا كان الإنسان يشترك في الذاكرة مع الحيوانات التي تدرك الزمن، فإنه يتميز عنها بالقدرة على التذكر. ويرجع السبب في اختصاص الإنسان بالتذكر إلى كونه الكائن الطبيعي الوحيد الذي يمتلك الإرادة والقدرة على الاستدلال العقلي؛ هذا مع العلم أن التذكر نفسه هو في نظر أرسطو، ضرب من ضروب الاستدلال. لأن استرجاع الوقائع البعيدة يفترض وجود نوع من الترابط المنطقي بين الذكريات؛ وبفضل هذا الترابط تستدعي الذكرى القريبة أو المسترجعة الذكرى التي سبقتها، وهكذا دواليك إلى أن يصل الشخص إلى أبعد الذكريات. ولا يمكن القيام بهذه العملية إلا إذا توفرت الإرادة. والنتيجة هي أن الاستدلال يحتاج إلى الإرادة والقدرة على بذل المجهود في البحث والتقصي. يقول أرسطو:

"ولا يمكن أن يقوم بهذا المجهود إلا الحيوان الذي حبته الطبيعة بقوة الإرادة، وهذه الإرادة بدورها هي نوع من الاستدلال والقياس"[3]

ويفترض أرسطو وجود علاقة بين القدرة على التذكر والبعد الفيزيولوجي للإنسان. إن التذكر في نظره هو بحث تقوم به النفس العاقلة في الصور التي تنتجها الأعضاء الحسية. وأما دليله على ذلك فهو أن الشخص الذي يعجز عن تذكر بعض الأشياء كثيرا ما يصاب بنوع من الاضطراب: تستحوذ عليه الرغبة في التذكر، ويبذل قصارى الجهد في البحث دون أن يصل إلى أية نتيجة. بحيث يمكن القول إن شدة الرغبة في التذكر لدى بعض الأفراد تولد لديهم العجز عن التذكر. وهذه سمة من السمات التي تميز الأشخاص الذين يعانون من القلق.

وبناء على ما سبق يمكن اعتبار أرسطو المؤسس الأول للمذهب الترابطي في علم النفس. ويرجع له الفضل في الكشف عن القوانين الأساسية للترابط وهي: التجاور في الزمان أو المكان، والتشابه بين الأحداث والتناقش بينها. فالوقائع المتجاورة يستدعي بعضها بعضا، والشبيه يذكرنا بشبيهه، والنقيض بنقيضه. وهذه المبادئ نفسها هي التي تقوم عليها المدرسة الترابطية الحديثة في مجال علم النفس.



[1] ARISTOTE. Opuscule. Traité de la mémoire et de la réminiscence. Traduction française :  
   Barthélémy Saint-Hilaire. http://remacle.org/bloodwolf/philosophes/Aristote/memoire.htm

[2]  نفس المصدر السابق

[3]  نفس المصدر السابق

Partager cet article
Repost0
29 mai 2011 7 29 /05 /mai /2011 19:22

الليبيرالية السياسية ومبادئها الأخلاقية

مدخل إلى فلسفة جون راولز

أحمد أغبال

في عام 1958 نشر جون راولز مقالة مطولة بـ"المجلة الفلسفية" تحت عنوان: "العدالة كإنصاف" رسم فيها الخطوط العريضة لمشروعه الفكري الذي أخذ صورته الكاملة وغير النهائية في كتابه "نظرية العدالة"[1] الصادر عام 1971 والذي أعاد نشره بعد مراجعته عام 1975. نقرأ في مستهل المقالة السابقة الذكر ما يلي:

"يبدو للوهلة الأولى أن مفهومي العدالة والإنصاف يدلان على نفس الشيء، وأنه ليس هناك ما يدعو إلى التمييز بينهما. أعتقد أن هذا التصور خاطئ. أريد أن أبين في هذه المقالة بأن الفكرة الأساسية التي ينطوي عليها مفهوم العدالة هي الإنصاف؛ وأود أن أقدم تحليلا لمفهوم العدالة من وجهة النظر هذه. ولبيان موطن القوة في هذا المطلب والتحليل الذي يرتكز عليه، سأحاول البرهنة على أن هذا الجانب من العدالة هو ما لم تستطع النزعة النفعية في شكلها الكلاسيكي بيانه، وهو، في المقابل، ما تعبر عنه فكرة العقد الاجتماعي حتى وإن كان ذالك بطريقة مضللة"([2])

تلخص هذه الفقرة مشروع راولز الفلسفي وتصوره لأسس العدالة ومبادئها، وتبين مدى تميزه عن مذاهب الفلاسفة السابقين من رواد المذهب النفعي من أمثال دافيد هيوم وجون ستوارت مل وجرمي بنتام، ورواد نظرية العقد الاجتماعي من أمثال روسو وهوبز وجون لوك وكانط. يرتكز تصور راولز للعدالة على مجموعة من المصادرات الأساسية التي اهتدى إليها بضرب من الحدس العقلي باعتبارها بديهية بذاتها لا تقبل البرهان ولا يمكن البرهنة عليها. وقبل أن نستعرض تصوره للعدالة نرى من الضروري التعريف بمنهجيته وطريقته المتميزة في بناء نظريته.

1.    منهجية راولز وفرضية الوضعية الأصلية

يصنف جون راولز نفسه ضمن المذهب الليبرالي الذي سعى منذ بداية نشأته إلى توفير إطار نظري لحقوق الإنسان، ولكنه أراد أن يجد لنفسه موقعا خاصا داخل هذا المذهب يميزه عن غيره من المفكرين الذين ينضوون تحت لوائه؛ فاختار طريقة في التفكير جعلته ينظر إلى قضايا العدالة وحقوق الإنسان من موقع يقع خارج الأطر والمرجعيات الفلسفية. فإذا كانت الفلسفة الليبرالية وغيرها من المذاهب الفلسفية الأخرى تنطلق في تحديدها لما ينبغي أن يكون عليه النظام الاجتماعي والسياسي من تصور معين للعالم وللطبيعة الإنسانية، فإن راولز ألقى بمصادراتها الفلسفية جانبا، وراح يبحث عن مصادرات بديلة انطلاقا من أرضية سياسية.

وهكذا، فإذا كانت الفلسفة الليبرالية قد لجأت إلى المقاربة الميتافيزيقية في تناولها لموضوعاتها، وانطلقت من تصور معين للطبيعة الإنسانية، ثم استنبطت منه جملة من المبادئ والقيم والمثل العليا التي ينبغي الالتزام بها لتحقيق السعادة في هذا العالم والخلاص في العالم الأخروي، فإن راولز اختار مقاربة سياسية تقوم على ما يسميه مبدأ تعليق الشرط الإبستملوجي. يقضي هذا المبدأ بضرورة اتخاذ موقف الحياد إزاء القضايا المتعلقة بالطبيعة الإنسانية، والإمساك عن ادعاء الحقيقة فيما يتعلق بأسس النظام الديمقراطي ومبادئ العدالة. وعلى هذا أصبحت الفلسفة السياسية عنده تسعى إلى بيان طبيعة النظم الاجتماعية الحديثة بغض النظر عما إذا كانت المبادئ التي تقوم عليها منسجمة مع معايير الحقيقة الفلسفية أو الميتافيزيقية. ومعنى ذلك أن نظرية الليبرالية السياسية كما يتصورها راولز لا تنطلق من أي تصور فلسفي لحقيقة الواقع والطبيعة الإنسانية، ولا تحتاج بالتالي إلى أي مبرر إبستملوجي لدعم المصادرات الأساسية التي يتأسس عليها النظام الديمقراطي العادل. وذهب راولز في تصوره لليبرالية السياسية إلى حد إقامة نوع من التفرقة بين النظرية السياسية وفلسفة الأخلاق، وهو ما عبر عنه بقوله: "إن القضايا المتعلقة بالعدالة الأساسية يمكن دعمها إلى أقصى حد ممكن استنادا إلى القيم السياسية وحدها"[3]؛ وهذا ما يميز موقفه من الأنظمة الليبرالية عن باقي المواقف التي تندرج ضمن الفلسفة الليبرالية.

تنطلق المقاربة السياسية لراولز من الاعتراف بواقع الثقافة الديمقراطية وصلاحيتها بوصفها القاسم المشترك بين مختلف مكونات المجتمعات الغربية الحديثة. وأما ما يميز البلدان الغربية، في نظره، فهو الإجماع الحاصل بين جميع المواطنين حول المبادئ الأساسية التي تقوم عليها الثقافة السياسية السائدة؛ ومع الإقرار بواقع هذه الثقافة، يحاول كل مواطن أن يجد لمبادئها مبررات في المذهب الذي يعتنقه كلما دعت الضرورة إلى ذلك. إن الليبرالية السياسية ، كما يتصورها راولز، لا تنطلق من الحقائق الأخلاقية العامة، بل من معطيات الثقافة المشتركة، طالما ظلت هذه الثقافة بميزاتها الإيجابية قابلة للتطور باستمرار؛ وكذلك فإن هذه الليبرالية لا تدعي لنفسها امتلاك الحقيقة فيما يتعلق بموضوع العدالة، كما أنها لا تحتكم إلى أية نظرية فلسفية بعينها للتحقق من صحة المبادئ التي صدرت عنها ثقافة المجتمع، وإنما تترك أمر ذلك كله للمواطنين الذين يتعين عليهم أن يقرروا كل على انفراد كيفية ارتباط القيم السياسية بقيم مذاهبهم العامة. يقول راولز بهذا الصدد:

"يرجع الأصل في هذا الموقف إلى الأفكار الأساسية التي تقوم عليها الثقافة السياسية العمومية، وإلى مبادئ وتصورات العقل العملي الذي يشترك فيه المواطنون. ولذلك [...] يتوقع أن يكون المواطنون قادرين على قبول مبادئه وتصوراته إلى جانب مذاهبهم الشاملة المعقولة. حينئذ يمكن للتصور السياسي للعدالة أن يصبح محل إجماع"([4]) 

هنا يكمن المضمون الحقيقي لمفهوم الليبرالية السياسية كما يتصورها راولز. يدل هذا المفهوم على الميل المتزايد إلى تحرير القيم السياسية من التبعية للمذاهب والتيارات الفلسفية دون أن يؤدي ذلك إلى إلغاء التعددية المذهبية، بل يترك لكل مذهب حرية "تحديد كيفية ارتباط فكرته عن المعقول بتصوره للحقيقة"([5]) ومما يترتب عن استعمال مفهوم الليبرالية السياسية على المستوى المنهجي، أن الباحث يكون ملزما بمراعاة مبدأ تعليق الشرط الإبستملوجي في الدراسات السياسية حتى لا ينزلق إلى براثن النزعة الدوغمائية الوثوقية، والنظرة الشمولية، والصراعات العقائدية. وفيما يتعلق بالممارسة السياسية، فإن قبول التصور السياسي البنائي كبديل للتصور البنائي الميتافيزيقي هو الكفيل بتحقيق المثل الأعلى للمواطنة الديمقراطية الذي ينحل فيه الخلاف المذهبي وفقا لمبادئ العقل العمومي، وبذلك يضمن للمجتمع  نوعا من التوازن والاستقرار.

ويعتبر مفهوم "الإجماع بالتقاطع"، وهو الإجماع الناتج عن التقاطعات بين مختلف "المذاهب المعقولة"، أحد المفاهيم الأساسية التي تقوم عليها نظرية الليبرالية السياسية. يعكس هذا المفهوم واقع الثقافة السياسية المشتركة بين أفراد المجتمع على اختلاف توجهاتهم المذهبية والفكرية؛ وتكمن أهميته في قدرته على الاستجابة لمطلب التعددية ومطلب الاستقرار. وتهدف الليبرالية السياسية من خلال تحقيق هذا النوع من الإجماع إلى بيان وترسيخ المبادئ والقيم الأساسية الكامنة خلف نظرة المجتمع الديمقراطي إلى العدالة، هذا مع العلم بأن القيم والمبادئ المشار إليها لا توجد خارج حقل الثقافة السياسية المشتركة. يقول راولز بهذا الصدد:

"سنبدأ، إذن، بإلقاء نظرة على الثقافة العمومية نفسها باعتبارها المخزون المشترك الذي يتضمن الأفكار والمبادئ الأساسية المعترف بها ضمنيا. ونأمل في صياغة هذه الأفكار والمبادئ بشكل واضح بحيث يمكن التأليف بينها في إطار تصور سياسي للعدالة يتناسب مع معتقداتنا الأكثر رسوخا"([6])  

إن الاعتراف الضمني بمبادئ الثقافة السياسية المشتركة هو ما يجعل الليبرالية السياسية ممكنة، ويسمح بانتشار مشاعر الثقة بين الأفراد والمؤسسات؛ ومن هنا جاء مفهوم "الثقة المعقولة"  الذي يعتبر أحد المفاهيم الأساسية في الجهاز الإبستملوجي الذي تقوم عليه المقاربة السياسية لراولز. ولقد جاء هذا المفهوم في نظرية العدالة كإنصاف كبديل لمفهوم "الحقيقة". وما يبرر هذا التوجه ثلاثة أمور: أولها أن نظرية العدالة كإنصاف تطرح نفسها بوصفها  التعبير الصحيح والمناسب عن قيم الثقافة السياسية المشتركة؛ وثانيها أنه بإمكان كل مذهب من المذاهب الشاملة المعقولة أن يجد لنفسه سندا أو مبررا في هذه الثقافة؛ وثالثها أن مفهوم "الحقيقة" لا يتناسب مع مبدأ التعددية، ولا يصلح كمعيار للحكم على المواقف الأخلاقية والسياسية.

ولهذه الاعتبارات كلها كان لابد من استبدال مفهوم "الحقيقة" بمفهوم "الثقة المعقولة". وأما ما يبرر هذا التوجه فهو الاعتقاد بأن مفهوم "الثقة المعقولة" يؤدي في مجال الأخلاق والسياسة نفس الوظيفة التي يؤديها مفهوم الحقيقة في المجال المعرفي. ويعتبر مفهوم "الثقة المعقولة" في التقاليد الفلسفية التي ترجع أصولها إلى كانط الدعامة الأساسية التي ترتكز عليها الأفكار والمقولات الأخلاقية؛ وهذا بالضبط هو ما يؤهله لأداء وظيفته على المستوى السياسي مثلما يؤدي مفهوم "الحقيقة" وظيفته على المستوى المعرفي. ومن وظائفه الأساسية التقريب بين المذاهب المعقولة المتنافسة، وضمان إمكانية التوافق بينها، ومن ثمة إمكانية تنظيم المجتمع بشكل جيد ومعقول. وهكذا، فإن الاعتراف الضمني بمبادئ الثقافة السياسية المشتركة يستدعي الثقة في المؤسسات الأساسية من جهة، والتحفظ في ادعاء الحقيقة من جهة أخرى، وبذلك يفسح المجال لليبرالية السياسية، ويتيح الفرصة لقيام إجماع بالتقاطع.

وأما ما يجعل التوافق بين مختلف المذاهب ممكنا رغم اختلاف تصوراتها للحقيقة فهو اعترافها بوجود ثقافة سياسية مشتركة؛ وهذا الاعتراف هو الذي يضفي صفة المعقولية على المذاهب المتنافسة وعلى مواقفها المتضاربة. وبحكم مرجعيتها الثقافية المشتركة تصبح الثقة بين المذاهب المتنافسة أمرا ممكنا ومعقولا.   

ولكن، ما هو المضمون الدلالي لمفهوم الثقة المعقولة ؟ يدل هذا المفهوم، في المقام الأول، على الإيمان بإمكانية قيام الليبرالية السياسية التي تضمن إمكانية قيام نظام دستوري عادل. وتعتبر الثقة المعقولة في فلسفة راولز الشرط الضروري الذي لا غنى عنه لتحقيق الليبرالية السياسية التي تتيح الفرصة للتعاقد والإجماع بالتقاطع بين المذاهب المتنافسة في المجتمعات ذات التقاليد الديمقراطية التي يحكمها مبدأ التعددية المعقولة. تمثل الثقة المعقولة من وجهة النظر هذه حجر الزاوية في الليبرالية السياسية، وتعبر- على المستوى العملي- عن الرغبة في التوفيق بين المذاهب المتنافسة التي يدعي كل واحد منها امتلاك نوع من الحقيقة، والتأليف بينها في إطار ما يسميه راولز بـ"المجتمع المنظم بشكل جيد".

ويعتبر مفهوم "المجتمع المنظم بشكل جيد" أحد المفاهيم الأساسية في النظرية السياسية لراولز. يدل هذا المفهوم على النظام الاجتماعي المنظم وفقا للتصور السياسي للعدالة، وهو النظام الذي تحكمه مؤسسات تخضع في سيرها لقواعد يعترف بها جميع المواطنين ويعملون بها في الحقل العمومي. ولا يتحقق هذا النظام في صورته المثلى إلا إذا توافرت الشروط التالية:

ضرورة أن يقبل كل فرد تصورا معينا للعدالة ومبادئها، وأن يكون على علم بأن الأفراد الآخرين يقبلونها مثلما يقبلها هو؛

ضرورة أن تستجيب بنية المجتمع الأساسية أو المؤسسات الأساسية التي يتألف منها النظام الاجتماعي لهذه المبادئ، وأن يكون هناك ما يبرر بشكل معقول اعتقاد الناس بأن هذه المؤسسات تحقق لهم العدالة بالفعل؛

ضرورة أن يكون التصور العمومي للعدالة مبنيا على أساس الاعتقاد المعقول بأنه تصور منبثق عن مناهج البحث المعترف بها؛

ضرورة أن ينظر الأفراد إلى أنفسهم على أنهم متساوون في الحرية ولهم نفس الشخصية الأخلاقية التي تبعث فيهم الإحساس بالعدالة في بعدها السياسي بالخصوص؛

ضرورة أن يكون للأفراد تصور للخير، يجعلون منه هدفهم الأساسي، ويتيح لهم إمكانية المطالبة بحقوقهم المشروعة في إطار مؤسساتهم؛

ضرورة أن يكون لهم الحق، وأن ينظروا إلى أنفسهم على أن لهم الحق، في نيل ما يستحقونه من الاحترام والتقدير من خلال تمكينهم من المساهمة في تحديد المبادئ التي تنظم البنية الأساسية للمجتمع؛

ضرورة أن تشتغل المؤسسات الأساسية بطريقة تولد الإحساس بالعدالة في نفوس الناس من أجل إرساء دعائم الاستقرار في المجتمع.

وخلاصة القول: إن المجتمع المنظم بشكل جيد هو ذلك النظام الاجتماعي الذي بلغ درجة كافية من الاكتفاء الذاتي؛ وهو المجتمع الذي تتوافر فيه شروط التعاون المنصف بين المواطنين المعقولين والعقلانيين الذين يعتبرون أنفسهم أحرارا متساوين، لهم تصور مشترك للعدالة، ويعترفون جميعا بمبادئها الأساسية، ويعلم كل واحد منهم بأن الآخرين يعترفون مثله بتلك المبادئ.   

ولتحديد مبادئ العدالة التي يجب أن تخضع لها أنشطة المؤسسات الاجتماعية والسياسية في المجتمع المنظم بشكل جيد، اعتمد راولز على مقاربة بنائية متميزة تنطلق من الربط بين تصور معين للشخص وبين المبادئ الأولية للعدالة. ففيما يتعلق بمفهوم الشخص، اعتمد راولز في بنائه على مبدأ الأمر المطلق الذي وجده عند كانط، ونظر إلى هذا المبدأ بوصفه أحد المكونات الأساسية التي تندرج في تكوين فكرة الشخص. ويدل مفهوم الشخص عنده على كل كائن يتمتع بحرية الإرادة والاختيار، ويتمتع بالقدرة على التصرف بطريقة عقلانية ومعقولة في نفس الوقت؛ ويعتبر جميع الأشخاص متساوين بالنظر إلى هذه الصفات. إن وجود الشخص بهذا المعنى هو ما يجعل الأخلاق ممكنة، لأن المبادئ الأخلاقية لا تفرض على الناس قهرا؛ ولا يمكن الحديث عن الأخلاق ما لم تتح لجميع الأفراد حرية اختيار بعض المبادئ بطريقة عقلانية ليصنعوا منها القانون الأخلاقي الذي ينظم علاقاتهم ومعاملاتهم في إطار الجماعة التي ينتمون إليها والتي يمكن وصفها بالتالي بأنها جماعة أخلاقية.

يتبين في ضوء هذا التحليل أن مبادئ الأخلاق والعدالة هي قبل كل شيء نتاج الاختيارات العقلانية والقرارات التي يتخذها أشخاص يتمتعون بحرية الإرادة والاستقلال من أجل تنظيم علاقات بعضهم ببعض. ومعنى ذلك أن مبادئ الأخلاق والعدالة لا توجد في استقلال عن تصورنا للشخص، وأن نظامها يقوم بالأساس على مبدأ الاستقلال الشخصي الذي يتحكم في ذلك التصور؛ ويفهم من ذلك أيضا أن مبادئ العدالة ليست من جملة الأشياء التي توجد هناك في العالم الخارجي، ولا يمكن بالتالي اكتشافها مثلما تكتشف الكواكب في الفضاء، بل هي عبارة عن أبنية عقلية يشيدها أشخاص عقلانيون يتمتعون بحرية الإرادة والاستقلال.

لا يمكن القول، إذن، بوجود منظومات أخلاقية قائمة بذاتها في استقلال عن الملكات الذاتية للإنسان، لأن كل ادعاء من هذا القبيل يتنافى مع مبادئ الاستقلال وحرية الإرادة والاختيار. فإذا كان لابد من الاعتراف بوجود منظومات أخلاقية، فإن هذه المنظومات لا توجد في استقلال عن تصوراتنا لما ينبغي أن يكون عليه الواقع الإنساني، إنها عبارة عن أبنية ذات صلة وثيقة بالخصائص الجوهرية للأشخاص الذين يشيدونها. هذه هي الفكرة الأساسية التي تنطوي عليها المقاربة البنائية لراولز، والتي يمكن اعتبارها أيضا منهجية للتعاقد. تنطلق هذه المقاربة في سعيها لاستنباط مبادئ العدالة والتعاون من فرضية "الوضعية الأصلية" التي تشبه إلى حد ما فرضية "حالة الطبيعة" التي نجدها عند كل من روسو وهوبز وجون لوك. وقد استعملت فرضية حالة الطبيعة في مجال الأنثربولوجيا السياسية بصفة خاصة لتشكيل فكرة عن الطبيعة الإنسانية، ومعرفة كيف كانت قبل ظهور المجتمع المنظم وتأسيس الدولة بمؤسساتها وقوانينها؛ وتكمن أهمية هذه الفرضية من الناحية المنهجية في أنها تساعد على تلمس الأسباب التي دفعت الناس إلى تشييد مجتمعات منظمة، ومعرفة المبادئ التي اختاروها في المرحلة قبل-السياسية لتنظيم علاقاتهم في إطار الدولة التي سيؤسسونها.

2.    فرضية الوضعية الأصلية

إن الوضعية الأصلية كما يتصورها راولز هي وضعية مفترضة تضم مجموعة من الأفراد اجتمعوا للتداول في مشروع بناء مجتمع عادل؛ ويهدف برنامج العمل الذي اجتمعوا عليه إلى صياغة تصور للعدالة كإنصاف يقوم على مجموعة من المبادئ التي يجب أن تخضع لها البنيات الأساسية للمجتمع. وأما الطريقة المثلى التي تفرض نفسها على المفكرين في هذه الحالة فهي الطريقة البنائية، ذلك لأن المجتمع لا يتوفر على تصور مكتمل للعدالة، ولا على أي تصور للخير متفق عليه؛ هذا بالإضافة إلى أن مبادئ العدالة لا توجد في الواقع كموضوع مفارق من الموضوعات التي يبحث فيها العقل النظري، ولا يتطلب الأمر بالتالي معرفتها مثلما تعرف الموضوعات الخارجية؛ إن ما ينبغي القيام به في الوضعية الأصلية هو صياغة تلك المبادئ صياغة عقلية في ضوء فكرة العدالة كإنصاف باعتبارها مقولة من المقولات المتأصلة في العقل العملي. ولما كانت مبادئ العدالة تقع خارج دائرة اهتمام العقل النظري، فإنها لا تحتاج في قبولها إلى برهان يستند على معايير الحقيقة بالمعنى الفلسفي أو الميتافيزيقي، ما دامت تستمد قيمتها من ذاتها بوصفها جزءا من العقل العملي. وأما وظيفة هذا العقل فهي على حد تعبير راولز "إنتاج موضوعات مطابقة لتصورنا لتلك الموضوعات، كتصورنا مثلا للنظام الدستوري العادل  الذي يُطرح بوصفه هدفا للنشاط السياسي"([7]). وهذا هو ما يميز العقل العملي عن العقل النظري الذي يسعى إلى معرفة الموضوعات المعطاة في الواقع.

وتشتغل المقاربة البنائية السياسية وفقا لتصور معين للعلاقة بين العقل العملي والتصور السياسي الديمقراطي للشخص والمجتمع وللدور الذي تلعبه مبادئ العدالة في الفضاء العمومي. وتستمد هذه المقاربة تصورها للشخص من ثقافة المجتمع الديمقراطي الليبرالي؛ فهو إذن تصور سياسي ، يتحدد فيه مفهوم الشخص بوصفه المواطن الذي يعيش في كنف النظام الديمقراطي الليبرالي. ولما كانت فكرة الشخص بهذا المعنى مبثوثة في الثقافة الديمقراطية الليبرالية في شكل مصادرة ضمنية أساسية، فإن دور المقاربة البنائية ينحصر في الإفصاح عنها وبلورتها في ضوء مقتضيات العقل العملي؛ ومن هنا اكتسب مفهوم الشخص دلالة سياسية وأخلاقية في فلسفة راولز، حيث أصبح يشير إلى الفرد المؤهل لأن يكون مواطنا، أي عضوا اجتماعيا يسعى باستمرار إلى التعاون بشكل كلي ومستمر مع المواطنين الآخرين.

تنظر الثقافة الديمقراطية الليبرالية إلى الشخص بوصفه مواطنا حرا يتساوى مع الأشخاص الآخرين في مقومات المواطنة بالمعنى المتعارف عليه في ظل الثقافة الديمقراطية الليبرالية. وما يجعل من الحرية والمساواة أمرا من الأمور الممكنة هو الاعتقاد بأن كل شخص ينطوي في ذاته على قوتين أساسيتين من القوى الأخلاقية المتوحدة مع العقل، وهما: القدرة على الإحساس بالعدالة من جهة، والقدرة على تشكيل تصور للخير والسعي إلى تحقيقه، من جهة أخرى. إن القدرة على الإحساس بالعدالة والقدرة على تشكيل تصور للخير هو ما يجعل الشخص حرا؛ وبفضل هذه الحرية التي يشترك فيها جميع المواطنين أمكن لكل شخص أن ينظر إلى نفسه على أنه مساو لأي شخص آخر وأن يطالب بحقوقه. ولكن فكرة المساواة لا تكتسب مضمونها الاجتماعي الفعلي إلا إذا بلغت القوى الأخلاقية المشار إليها درجة من النمو تسمح بظهور وتقوية روح التعاون بين المواطنين على خلفية الإجماع التوافقي بين المذاهب المتنافسة التي تختلف تصوراتها للحقيقة والخير.

ومن هذا المنطلق يتعين على الأشخاص، باعتبارهم مواطنين متساوين في الحرية والحقوق، أن يختاروا في الوضعية الأصلية المفترضة مبادئ العدالة التي يجب أن تتأسس عليها البنيات الأساسية للمجتمع وأن تنظم العلاقات بين المواطنين في المجتمع الديمقراطي الليبرالي. ينبغي، إذن، من حيث المبدأ، أن يقبل الأشخاص العقلانيون، الذين يرغبون في ضمان تحقيق مصالحهم، مبادئ العدالة في الوضعية الأصلية التي هي وضعية مساواة، وأن يعملوا على تطبيقها في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية؛ هذا ما يجعل من فرضية الوضعية الأصلية وسيلة منهجية لحل المشكلات الأساسية التي تواجه المجتمعات البشرية، كمشكلة التعايش الاجتماعي والاستقرار. ويعتبر قبول الناس لمبادئ العدالة الحل العقلاني الناجع لهذه المشكلات؛ يقول راولز بهذا الخصوص:

"بالنظر إلى ظروف مختلف الأطراف، ومعرفتهم، ومعتقداتهم، ومصالحهم، فإن قبول هذه المبادئ هو أحسن طريقة لضمان تحقيق أهداف كل شخص مقارنة بالبدائل المتاحة"([8])

وينبغي تطبيق هذه المبادئ في مجالين أساسيين من مجالات الحياة الاجتماعية وهما: المجال السياسي والحقوقي، والمجال الاجتماعي- الاقتصادي، فمن جهة "يجب أن تتحكم في عملية تخويل الحقوق وفرض الواجبات"، ويجب من جهة أخرى أن "تنظم عملية توزيع العوائد والفوائد الاجتماعية والاقتصادية"([9]). وحدد راولز للمجتمعين في الوضعية الأصلية شروطا، أولها أن يكون كل شخص منهم عقلانيا يسعى إلى ما فيه خير أولئك الذين يمثلهم، وذلك بأن يوفر لهم الوسائل التي تمكنهم من تشكيل تصوراتهم الخاصة للخير وتحقيقه؛ وتقتضي العقلانية الاعتراف بأن لكل شخص مصالحه الخاصة، وبأن له الحق في مراجعة تصوره للخير في ضوء المذهب الذي يعتنقه باعتباره شخصا يتمتع بحرية الإرادة والاختيار؛ ويشترط في المتعاقدين أيضا ألا يكونوا على بينة من أحوال الفاعلين الاجتماعيين الذين يمثلونهم، وألا يكونوا على علم بطبيعة مؤسساتهم الاجتماعية؛ إن المعرفة بهذه الأمور محظورة في الوضعية الأصلية. ومن هنا جاء مفهوم "ستار الجهل"، وهو الشرط الثاني الذي يجب أن تستوفيه الوضعية الأصلية، ومعناه أن يقف المجتمعون فيها خلف حجاب يحول دون معرفة كل ما له علاقة بخصائص الأفراد الذين يمثلونهم كالسن والجنس وانتماءاتهم الطبقية والمهنية والدينية والمذهبية والعرقية، وتصوراتهم للخير، وما إلى ذلك. إن هذا الجهل المنهجي هو ما يجعل من الوضعية الأصلية وضعية مساواة شبيهة بحالة الطبيعة التي تمثل الإطار المرجعي الافتراضي بالنسبة لنظريات العقد الاجتماعي الكلاسيكية، يقول راولز:

"إن وضعية المساواة الأصلية تضاهي حالة الطبيعة في نظرية العقد الاجتماعي التقليدية. وليس يُنظر بطبيعة الحال إلى هذه الوضعية الأصلية على أنها واقعة تاريخية فعلية أو شرط أولي لقيام الثقافة. ينبغي أن تُفهم بوصفها وضعية افتراضية خالصة حُدِّدَتْ خصائصها بطريقة تفضي إلى تصور معين للعدالة. ومن بين أهم خصائص هذه الوضعية أن أحدا لا يعرف مكانته في المجتمع أو موقعه الطبقي ووضعيته الاجتماعية، ولا يعرف أي أحد نصيبه من التوزيع الطبيعي للقدرات والمهارات كمستوى ذكائه وقوته وما شابه ذلك؛ بل إنني سأذهب إلى حد التسليم بأن أي طرف من الأطراف المعنية لا يعرف تصوره للخير ولا نوازعه النفسية؛ وبذلك يتم اختيار مبادئ العدالة خلف ستار من الجهل. هذا ما يضمن التكافؤ بين الأفراد، بحيث لا يكون هناك من هو في وضعية مواتية أو من هو في وضعية غير مواتية لاختيار المبادئ بناء على حصيلة الحظ الطبيعي أو العوارض الاجتماعية. وبما أن الجميع يوجد في وضعية واحدة لا تسمح لأي أحد أن يضع المبادئ التي تخدم وضعيته الخاصة، فإن مبادئ العدالة ستأتي نتيجة تعاقد منصف. وهكذا، فنظرا لظروف الوضعية الأصلية، وبحكم التماثل الموجود بين علاقات كل فرد مع غيره، فإن الوضعية الأولية ستكون بالضرورة منصفة لجميع الأفراد بوصفهم أشخاصا أخلاقيين، أي كائنات عقلانية ذات أهداف خاصة، لا مانع عندي من التسليم بأنها مؤهلة للإحساس بالعدالة. يمكن القول بأن الوضعية الأصلية هي الوضع الأولي القائم والمناسب الذي يجعل الاتفاقيات الأساسية التي تبرم فيه منصفة للجميع. وهذا ما يفسر خاصية اسم "العدالة كإنصاف"، فهو يعبر عن فكرة مؤداها أن مبادئ العدالة هي تلك المبادئ التي تم الاتفاق حولها في وضعية أولية اتسمت بالإنصاف. ولا يعني الاسم [المشار إليه] أن لمفهوم العدالة ومفهوم الإنصاف معنى واحدا، مثلما أن عبارة "الشعر كمجاز" لا تعني أن للشعر والمجاز نفس الدلالة"([10]) 

لقد تشكلت الوضعية الأصلية بوصفها وضعية مساواة على خلفية الاعتراف بالتعددية المذهبية والاختلاف داخل الأنظمة الديمقراطية الليبرالية، ولكن قواعد اللعبة فيها وضعت بطريقة تفضي إلى تشكيل تصور للعدالة كإنصاف يكون الهدف منه هو ضمان التعاون والاستقرار في المجتمع من خلال توفير أساس فلسفي وأخلاقي لمؤسساتها يرتكز على تصور معين للحرية والمساواة. ومع ذلك، فإن مفهوم العدالة كإنصاف لم يأت كنتيجة منطقية لفرضية الوضعية الأصلية وقواعدها الشكلية فحسب، بل تبلور أيضا في ضوء بعض الأفكار المتضمنة في الثقافة السياسية الديمقراطية سواء أكانت صريحة أو مضمرة في شكل مصادرات ضمنية؛ ومن أبرز الأفكار التي وظفها راولز في بناء تصوره للعدالة كإنصاف: (1) فكرة أن المجتمع السياسي الديمقراطي هو نظام منصف يقوم على التعاون المستمر عبر الأجيال، يُنظر فيه إلى الأشخاص المتعاونين على أنهم مواطنون أحرار ومتساوون يؤمنون بالتعاون مع بعضهم البعض على مدى الحياة؛ (2) فكرة "المجتمع المنظم بطريقة جيدة"، ومعناه المجتمع المنظم وفقا لمبادئ العدالة كإنصاف.

تعتبر هذه الأفكار بمثابة المصادرات الضمنية الأساسية التي تقوم عليها الثقافة السياسية التي تكيف سلوك الفاعلين وتحدد مواقفهم واتجاهاتهم في الأنظمة الديمقراطية؛ يقول راولز في شرحه لهذه الأفكار:

"...نعتبر هذه الأفكار الحدسية الأساسية من الأفكار العادية المألوفة في الثقافة السياسية العمومية للمجتمع الديمقراطي. ومع أن هذه الأفكار لا تصاغ دائما بشكل صريح ولا تُحَدَّدُ معانيها دائما بما يكفي من الوضوح، فإنه من الممكن أن تلعب مع ذلك دورا أساسيا في الفكر السياسي للمجتمع، وفي الكيفية التي تُؤَوَّلُ بها مؤسساته في أعمال المحاكم والنصوص التاريخية أو غيرها من النصوص التي ينظر إليها على أنها مفعمة بالمعاني ذات القابلية العالية للاستمرار على المدى البعيد"([11]) 

يمكن القول في ضوء ما سبق: إن ما يحدد طبيعة المجتمع الديمقراطي هي نظرة الناس إليه، تلك النظرة التلقائية الشائعة التي تجعل منه نظام تعاون اجتماعي منصف. والدليل على ذلك في نظر راولز هو أن المواطنين لا ينظرون - وهم في خضم الجدل العمومي حول مسألة الحقوق السياسية - إلى نظامهم الاجتماعي على أنه نظام طبيعي قائم بذاته، أو على أنه نظام هرمي يخضع في تراتبيته لمنظومة القيم والمعايير الأرستقراطية، ولا يصنفونه ضمن الأنظمة التي تستمد مشروعيتها من المذاهب الدينية، بل يعتبرونه نظاما ديمقراطيا يقوم على أساس مبدأ التعاون. وليس المراد بالتعاون هنا التنسيق بين مختلف الأنشطة تنفيذا لقرارات تصدر عن سلطة عليا، بل المقصود به ثلاثة أمور وهي:

أن يتفق المتعاونون على القواعد والإجراءات التي ينبغي عليهم مراعاتها في تصرفاتهم ومعاملاتهم، وأن يعلنوا اعترافهم بها للعموم؛

أن تكون اتفاقيات التعاون منصفة، وأن يقبلها كل مشارك فيها. ويعتبر قبول الفرد لبنود الاتفاقية وشروطها أمرا معقولا عندما يقبلها الآخرون، مما يدل على أن فكرة التعاون الاجتماعي تستلزم العمل وفقا لمبدأ التبادلية ؛

ويشمل مفهوم التعاون الاجتماعي أيضا فكرة المصلحة الفردية الخاصة بوصفها مصلحة عقلانية. تدل هذه الفكرة على ما يمكن للفرد الملتزم بالتعاون أن يقدمه للآخرين انطلاقا من تصوره الخاص للخير ولما فيه مصلحته الشخصية.

وفي هذا الإطار، سيقوم المتعاقدون في الوضعية الأصلية، وهم خلف ستار من الجهل،  باختيار مبادئ العدالة السياسية التي تضمن لهم إمكانية التعاون المستمر والاستقرار في مجتمع يقوم على التعددية المذهبية والعقائدية. ولما كان الأمر يتعلق بالاختيار لا بالتفاوض، فإنه يتعين على المجتمعين في الوضعية الأصلية أن يتخذوا قراراتهم في ضوء نظرية الاختيار العقلاني أو ما يعرف أيضا بنظرية اتخاذ القرار؛ ولكن الوضعية التي سيتخذون فيها قراراتهم استثنائية بكل المقاييس: فهي وضعية يكتنفها الغموض وعدم اليقين المرتبطين بالإكراهات التي يفرضها ستار الجهل. ومن هنا يطرح السؤال: ما هو القرار العقلاني الذي يفرض نفسه على الشركاء بوصفهم أشخاصا عقلانيين ومعقولين؟ وإذا نظرنا إلى الإنسان بوصفه كائنا عقلانيا يسعى على الدوام إلى تحقيق مصلحته الخاصة، فما هي مبادئ العدالة التي يكون من المعقول أن يختارها وهو في وضعية تتميز بشح المعلومات وعدم اليقين ؟

يرى راولز بأن القرار العقلاني المناسب في وضعية عدم اليقين هو القرار الذي يُتخذ في ضوء مبدأ الماكسمين(*)، ومعناه الرفع من الحد الأدنى إلى حده الأقصى. وهذا مثال يوضح المبدأ المشار إليه، قدمه راولز نفسه في كتابه نظرية العدالة (1971, p. 156-154) لبيان منطق الربح والخسارة في وضعية خالية من الاستراتيجيات المتنافسة، حيث يكون الفرد في حاجة إلى مورد لا ينافسه عليه غيره؛ وأما التحدي الوحيد الذي يواجهه في هذه الحالة فهو الاختيار بين بدائل في وضعيات محفوفة بالمخاطر يكون احتمال الربح  والخسارة في كل واحدة منها متفاوتا. في هذه الظروف يتأثر الربح بالقرار المتخذ في علاقته بالوضعية وفقا للمعادلة التالية:

g = f(d, c)

(g) = الربح

(d) = نوعية القرار

(c) = نوعية الظروف

تدل هذه المعادلة على أن الربح  يتحدد بنوعية القرار ونوعية الظروف. فإذا كان عليه أن يختار بين ثلاث قرارات في ثلاث وضعيات نحصل على الجدول التالي الذي يمثل منطق الربح والخسارة، وتدل فيه الأرقام على آلاف الدراهم

Maximin principal

تقتضي العقلانية اختيار القرار الثالث، لأن أسوأ ما يمكن أن يحصل عليه في هذه الحالة هو خمسة آلاف درهم، وهي نتيجة أفضل بكثير من النتائج السلبية المترتبة عن القرارين الآخرين. ولهذا فإن اختيار القرار الثالث يمكن من تحقيق الحد الأقصى من الربح في ظروف لا تسمح عادة إلا بتحقيق الحد الأدنى من الربح. تكمن أهمية مبدأ الماكسمين في كونه يوجهنا نحو البديل الذي يمثل أهون ضرر على الإطلاق.  

وعندما يتعلق الأمر باختيار المبادئ التي تنظم البنيات الأساسية للمجتمع تصبح المسألة أكثر خطورة، وخاصة عندما يقف الشخص خلف ستار من الجهل، لا يعرف إن كان فقيرا أو غنيا، ذكرا أو أنثى، أبيضا أو أسودا، مسلما أو يهوديا أو مسيحيا أو بوذيا... حينئذ يكون من باب أولى أن يختار المبادئ التي تضمن الحد الأقصى من الخيرات لمن لا تسمح لهم الظروف عادة إلا بنيل الحد الأدنى منها؛ حتى إذا وجد نفسه في النهاية فقيرا يكون المجتمع المنظم بشكل جيد قد ضمن له الحقوق الأساسية التي تمكنه من العيش الكريم في مجتمع يتميز بالاختلاف والتعددية، وتتوزع فيه المواقع تحت تأثير عوارض الزمن. ولا يتخذ مثل هذا القرار العادل إلا الشخص العقلاني والمعقول. ولعل ما يدفع الشخص الأخلاقي إلى اختيار المبادئ التنظيمية العادلة على هدى مبدأ الماكسمين، إيمانه بالمبادئ التالية التي لابد من مراعاتها خلال عملية اتخاذ القرار:   

•    اللامساواة غير مقبولة أخلاقيا، ولا يجوز السماح بها ما لم يكن هناك مبرر معقول؛  

•    لا يجوز لأحد أن يأخذ أكثر مما يستحق بدعوى أنه يحتل موقعا من المواقع التي تحكمت في توزيعها عوارض الزمن؛    

•    لا يمكن القضاء على التعددية العقائدية إلا باستعمال سلطة الدولة، وهذا يعني القضاء على الحريات المدنية. 

وخلاصة القول، إن كون المرء معقولا هو ما يجعله مؤهلا للتعامل مع الوضعيات المحفوفة بالمخاطر وعدم اليقين، ومع المفارقات الأخلاقية العويصة، ويؤهله بالتالي للتعاقد مع الآخرين. ويلعب مبدأ المعقول كذلك دورا بالغ الأهمية في بناء الحقل العمومي كما سنبين لاحقا.

ولابد من الإشارة هنا إلى أن راولز كان يعتبر نظريته في الأخلاق جزءا لا يتجزأ من نظرية الاختيار العقلاني؛ وكان قد نحا هذا المنحى في كتاب "نظرية العدالة" الصادر عام 1971، إلا أنه عدل عن هذه الفكرة في مؤلفاته المتأخرة وخاصة في كتاب "العدالة كإنصاف". كان الهدف من وراء تأليف هذا الكتاب هو مراجعة نظرية العدالة، وإضفاء مزيد من التماسك والانسجام عليها، وتصحيح بعض الأفكار من خلال إدراج متغير الحس الخلقي في معادلة سلوك الشخص الأناني العقلاني، كما سنبين ذلك تفصيلا في الجزء المخصص للسيكولوجية الأخلاقية لدى راولز.

3.    بناء الحقل العمومي

يعتبر بناء الحق العمومي ، في نظر راولز، الشرط الضروري الذي لا غنى عنه لبناء "المجتمع المنظم بشكل جيد"، تنفيذا لبنود اتفاقية التعاون الاجتماعي المنصف التي أسفرت عنها المداولات بين المتعاقدين في الوضعية الأصلية. ويتحقق شرط "العمومية" عبر ثلاث مراحل:

1.     يتحقق المستوى الأول من العمومية عندما تقتضي مصلحة جميع مكونات المجتمع قبول مبادئ العدالة التي وضعت من أجل تنظيم البنيات الأساسية للمجتمع، وعندما يعلم كل طرف بأن باقي الأطراف قد قبلوا تلك المبادئ وفقا لما يقتضيه مبدأ التماثلية. هذا فضلا عن ضرورة الاعتراف، على المستوى العمومي، بشرط الوعي المتبادل بقبول مبادئ العدالة، ومعنى ذلك أن يحصل الاعتراف العمومي بالمبدأ القائل إن قبول أي طرف لمبادئ العدالة يشترط أن يقبلها الأطراف الآخرون. ويتحقق المستوى الأول من العمومية، بالإضافة إلى ما سبق، عندما يتوفر لدى المواطنين ما يبر اعترافهم بعدالة المؤسسات الناشئة عن البنية الأساسية للمجتمع. وأما ما يبرر هذا الاعتراف فهي المعتقدات المشتركة التي أثبتت مناهج البحث وطرق الاستدلال المستعملة في معالجة القضايا المتعلقة بالعدالة السياسية وجودها في المجتمع وجودا فعليا. وهذا يقودنا فورا إلى الحديث عن مقومات المستوى الثاني من العمومية.

2.      وفيما يتعلق بالمستوى الثاني تأتي المعتقدات العامة التي تجعل المواطنين على استعداد لقبول مبادئ العدالة في مقدمة الشروط الضرورية لبناء الحقل العمومي. وتشمل هذه المعتقدات، إلى جانب تصورات الناس للطبيعة الإنسانية، المعتقدات المتعلقة بكيفية اشتغال المؤسسات الاجتماعية والسياسية وغيرها من المعتقدات التي لها علاقة بالعدالة السياسية. تمثل هذه المعتقدات والتصورات المرجعية المشتركة الضرورية لبناء مجتمع متماسك ومنظم تنظيما محكما.

3.     وأما المستوى الثالث من الحقل العمومي فيشمل المسوغات التي يحتاج إليها المجتمع من أجل تبرير التصور العمومي للعدالة. ويشترط لتحقيق المرحلة الثالثة من بناء الحقل العمومي أن تكون هذه المسوغات منتشرة على نطاق واسع بحيث يكون بوسع الجميع الاطلاع عليها والإلمام بها، وأن يستخدموها بكيفية فعالة للدفاع عن حقوقهم المشروعة في ضوء التصور السياسي للعدالة كإنصاف. يتوقف بناء الحقل العمومي، إذن، على مدى شيوع آليات التسويغ التي تدعم فكرة العدالة كإنصاف وانتشارها حتى تصبح جزءا لا يتجزأ من الثقافة العمومية، تحظى بحضور قوي في الممارسات السياسية والتشريعية وفي التقاليد الثقافية والفكرية المتعلقة بكيفية تفسير فكرة العدالة كإنصاف وتأويلها.

وخلاصة القول، إن المجتمع بوصفه نظام تعاون منصف لا يستقيم بناؤه بأي حال من الأحوال مع غياب شرط العمومية. إن بناء مجتمع كهذا لا يحصل بشكل عفوي انطلاقا من الأوهام الموروثة والمعتقدات الزائفة، بل يتحقق كتجسيد للوعي المشترك بمبادئه وآلياته. يتشكل هذا الوعي من خلال المناظرات المفتوحة التي تتناول مبررات وجود المؤسسات الاجتماعية والتي تجري وقائعها في الساحة العمومية على مرأى ومسمع من الجميع، يدلي كل طرف من أطراف الحوار برأيه في القضايا الأساسية، ويكشف عما يبرر مواقفه إزاءها وما يجعله يعتقد بجدوى تصوراته وسلوكياته. وتكمن أهمية النقاش العمومي الصريح حول أسس النظام الاجتماعي والسياسي في كونه يعزز مشاعر الثقة والتفاهم بين المواطنين وخاصة فيما يتعلق بقضايا الشأن العام.

والحقيقة أن الناس لا يميلون بشكل تلقائي إلى التصريح بما يعتمل في نفوسهم من مشاعر ومعتقدات وآراء ومواقف مما له علاقة بالنظام السياسي؛ فإن هم راودتهم شكوك حول طبيعة نظامهم السياسي، وأحسوا بأن المناخ العمومي غير سليم أو موبوء، مالوا بطبيعة الحال إلى استخدام الإستراتيجيات الدفاعية التي تقوم على التقية والتستر من أجل الحفاظ على البقاء. وتتبدد مشاعر الخوف والحذر عندما تشتغل المؤسسات وفقا لمبادئ العدالة؛ حينئذ فقط يمكن أن تنكشف وقائع الحياة السياسية وآليات اشتغالها بحيث لا يعود فيها أي شيء مما يحتاج المواطنون إلى التستر عليه أو تحقيقه عبر الآليات الماكرة للأيديولوجية الزائفة وأساليب التحايل والخداع. ويذهب راولز في تعليقه على هذه الظواهر إلى حد القول: إنه حتى في حال وجود بعض المبادئ التي يستلزم تطبيقها التستر عليها أو على الوقائع التي انبثقت منها والتي تبرر اللجوء إليها، فإن مبدأ العدالة السياسية يقتضي تركها واستبعادها؛ لأن العمل بمثل هذه المبادئ سيؤدي حتما إلى انتشار الوعي المزيف، من جهة، وإلى الحيلولة دون تنامي الحس الخلقي والإحساس بالعدالة، من جهة أخرى؛ ومعنى ذلك أيضا أنه لا مكان في "المجتمع المنظم بشكل جيد" للمبادئ المضمرة عن قصد، كما أنه لا مكان في بنيته الأساسية لما من شأنه أن يساعد على تنامي الوعي المزيف وانتشاره. ومن هنا تأتي أهمية إرساء دعائم الحقل العمومي كخطوة حاسمة في اتجاه بناء النظام الاجتماعي والسياسي على أساس من الوضوح والشفافية.

عندما يتحقق الإجماع حول أسس النظام الاجتماعي والسياسي، ويتم تشييد الحقل العمومي على أساس من الشفافية والوضوح يتنامى الوعي السياسي لدى المواطنين أكثر فأكثر تحت تأثير البنيات الأساسية للمجتمع التي تم إرساؤها، ويكونون على وعي بتأثيرها في مزاجهم العام وفي تصوراتهم وأهدافهم ونظرتهم إلى أنفسهم بوصفهم مواطنين أحرارا متساوين. ويكون من نتائج ذلك تنامي الإحساس بالعدالة، والإيمان بإمكانية تحقيق مزيد من الحرية بوصفهم أشخاصا يتمتعون بالاستقلال التام على المستوى السياسي.

وبعد أن استعرضنا الشروط التي يتطلبها بناء الحقل العمومي حسب نظرية راولز، سنحاول الآن بيان المنطق الذي يتحكم في عملية بناء هذا الحقل والإجراءات التي انبثق عنها التصور السياسي للعدالة. يرتبط هذا المنطق بالمقاربة البنائية التي تنطلق من فرضية الوضعية الأصلية من أجل تحديد مبادئ العدالة التي يمثل الإجماع حولها الخطوة الأولى في اتجاه بناء الحقل العمومي. تنطلق عملية البناء، إذن، من تحديد مبادئ العدالة التي يراد منها إرساء البنية الأساسية للمجتمع؛ ومن هنا يطرح السؤال: ما هي منهجية بناء الحقل العمومي؟ يتطلب الجواب على هذا السؤال التعريف بطرق التفكير والاستدلال التي تفرض نفسها على المتعاقدين الذين عهد إليهم بتمثيل مصالح المواطنين، في إطار الوضعية الأصلية، على اختلاف انتماءاتهم الدينية والمذهبية.

سبقت الإشارة إلى أن ما يميز الوضعية الأصلية هو أن القرارات تتخذ فيها خلف ستار من الجهل. ولما كان التفكير في هذه الوضعية خاضعا للإكراهات التي يفرضها ستار الجهل، لزم أن يتحلى كل شخص فيها بفضيلة التواضع عندما ينطلق في التفكير والاستدلال. والمقصود بالتواضع هنا الاعتراف بصعوبة إصدار الأحكام، وتعليق الشرط الإبستمولوجي، والإمساك، بالتالي، عن السعي إلى الحقائق ذات الصلاحية الكونية بالمعنى الإبستملوجي للعبارة. وهكذا، فإن طريقة التفكير التي يسمح يها ستار الجهل هي طريقة متميزة؛ وأما ما يميزها فهو الانطلاق من المعتقدات المشتركة بين أفراد المجتمع ومن المصادرات الضمنية أو الصريحة التي تقوم عليها الثقافة العمومية دونما حاجة لإخضاعها لأي معيار إبستملوجي من معايير الحقيقة؛ وهذا هو ما يسمى بتعليق الشرط الإبستملوجي في نظرية راولز. 

إن ما يبرر الأخذ بأسلوب التفكير المتحرر من الضوابط الإبستملوجية الشكلية في إطار الوضعية الأصلية، في نظر راولز، هو أنه أسلوب لا يستند في أحكامه على معيار مستقل سابق على الإجراءات العملية التي تفضي إلى تلك الأحكام؛ ذلك لأن اللجوء إلى المعايير المسبقة أو المعطاة سلفا يتنافى مع مبادئ الاستقلال وحرية الإرادة والاختيار. وهكذا، فإن ما يحدد طبيعة العدالة في إطار هذه النظرية هي نتيجة الإجراءات العملية المتبعة مهما كان نوعها. يطلق راولز على هذا النوع من العدالة اسم "العدالة الإجرائية الخالصة" التي يضعها في مقابل "العدالة الإجرائية الصحيحة" التي تنطلق في بلورة أحكامها من مبادئ ومعايير معطاة سلفا.

ولما تقرر أن تكون العدالة الإجرائية هي الشكل المناسب لتنظيم العلاقات في الوضعية الأصلية، لزم أن يكون الشركاء المتعاقدون فيها أشخاصا يتمتعون بالاستقلال العقلي الذي يمكنهم من اتخاذ القرارات بحرية، بعيدا عن الإكراهات الخارجية والقوانين الإلهية. وأما ما يضمن عدالة القرارات المتخذة في سياق الوضعية الأصلية أمران: أولهما بنية المواقع الموزعة وفقا لمبدأ التماثلية؛ وثانيهما ستار الجهل الذي يمكن من تجاوز نزعة التمركز حول الذات، وضمان شرط الموضوعية في اتخاذ القرار، ويبطل بذلك أسباب التعصب والحسابات الضيقة وما ينشأ عنها من حساسيات. في ظل هذه الشروط فقط يمكن للمتعاقدين في الوضعية الأصلية وللمواطنين في الحقل العمومي بوصفهم جميعا أشخاصا يتمتعون بالاستقلال العقلي التوصل إلى اتفاقيات تعاون اجتماعي منصف في ضوء ما يعتبره كل واحد منهم شرطا ضروريا لتحقيق تصوره للخير ومصلحته الأكثر سموا.

تمثل اتفاقية التعاون الاجتماعي المنصف التي يُفترض أن يتم التوصل إليها في الوضعية الأصلية وفي المجتمع الليبرالي الديمقراطي جزءا من إستراتيجية شمولية ترمي إلى إعادة بناء النظام الاجتماعي على أسس تمكن من تحقيق المصالح الأكثر سموا للمواطنين باعتبارهم أشخاصا يتمتعون بالاستقلال العقلي. ترتكز هذه الفكرة على مصادرة أساسية مفادها أن مبدأ الاستقلال العقلي هو الذي يحدد غايات المجتمع وطبيعة المصالح الأكثر سموا. وتجدر الإشارة هنا إلى أن غايات النظام الاجتماعي في فلسفة راولز مشتقة من تصوره للشخص. وكذلك يمثل مفهوم الشخص المستقل من الناحية العقلية الأساس النظري الذي اشتقت منه مقولة المصالح الأكثر سموا. والمقصود بالمصالح الأكثر سموا تلك المصالح التي لا يمكن تحقيقها إلا من خلال تنظيم المجتمع بطريقة تمكن من تفعيل وتنمية الملكتين الأخلاقيتين اللتين تؤهلان المواطنين لأن يصبحوا أحرارا متساوين، قادرين على التعاون فيما بينهم على مدى الحياة، وهاتان الملكتان هما: الإحساس بالعدالة، من جهة، والقدرة على تشكيل تصور للخير وتحقيقه، من جهة أخرى.

تكتسي هذه الفكرة أهمية بالغة في فلسفة راولز، فهي تكشف، عن منظومته القيمية التي يحتل فيها التعاون، الذي يندرج ضمن المصالح الأكثر سموا، مكانة الصدارة مقارنة مع المصالح الفيزيولوجية والمادية؛ هذا من جهة، وتكشف من جهة أخرى، عن تصوره للعلاقة بين الفرد والنظام الاجتماعي: إنها علاقة تفاعل متبادل بين المكونات الذاتية للشخص والهيكل البيذاتي للنظام الاجتماعي. ومن مظاهر هذه العلاقة أنه عندما ينظر المواطنون إلى أنفسهم على أنهم أحرار متساوون يدركون أنه من مصلحتهم أن يتم تنظيم المجتمع الذي يعيشون فيه على النحو الذي يمكن من تنمية القدرات الأخلاقية لكل فرد والارتقاء به إلى مستوى الشخص المؤهل للتعاون مع الأشخاص الآخرين على مدى الحياة. هنا وعلى وجه التحديد تكمن المصلحة العليا للمواطنين بوصفهم أشخاصا يتمتعون بالاستقلال العقلي.

وليس الاستقلال العقلي في نظر راولز سوى مظهر من مظاهر الحرية الفردية، وهذا ما يجعله مختلفا عن "الاستقلال التام" بالمعنى السياسي للعبارة. ولابد من التذكير في هذا السياق بأن مفهوم "الاستقلال العقلي" في فلسفة راولز لا يحيل على كائنات واقعية أو تاريخية، وإنما هو جزء من إجراءات العقل النظري أو عنصر من عناصر التجربة النظرية التي ترمي إلى إعادة بناء المجتمع وتنظيمه على أسس معقولة. ومن ثمة، فإن مفهوم الشخص المستقل إنما يشير في دلالته الأصلية عند راولز إلى كائنات مفترضة تم خلقها من أجل تفعيل الوضعية الأصلية. ومما يدل على ذلك قوله، في معرض حديثه عن الاستقلال العقلي، إنه "اصطناعي وليس سياسيا"، لارتباطه بوضعية مفترضة يكون فيها المتعاقدون غير خاضعين لأية سلطة خارجية، وعلى مسافة من المذاهب الدينية والفلسفية والأخلاقية الموجودة في محيطهم الثقافي.

ذلك أنه لو ظل كل طرف من أطراف المعاهدة متشبثا بمذهبه العقائدي أو الفكري خلال المداولات وعمليات اتخاذ القرار بشأن مبادئ العدالة التي ستنظم البنية الأساسية للمجتمع؛ ولو أن كل واحد منهم أراد أن يختار من مبادئ العادلة ما ينسجم فقط مع معايير مذهبه لما اتفقوا على شيء ذي بال، ولظلت غايتهم محصورة ضمن حدودها الدنيا المتمثلة في ضمان تلبية الحاجات الفيزيولوجية للمواطنين. وفي مثل هذه الظروف، تظل الحتمية البيولوجية هي سيدة الموقف عبر تعاقب الأجيال. ولتجاوز هذه الحتمية جعل راولز من ستار الجهل القاعدة التي تنظم المداولات بين المتعاقدين في الوضعية الأصلية، وتجعل من هؤلاء شركاء بدل أن يكونوا فرقاء. تكمن وظيفة هذه القاعدة، إذن، في الارتقاء بالشركاء إلى مستوى الأشخاص الذين يتمتعون بالاستقلال العقلي، وتجعلهم بذلك قادرين على اتخاذ القرارات بعيدا عن أية ضغوط خارجية؛ وعندما يتحررون من كافة الإكراهات الخارجية يظل هناك إكراه واحد لا مناص لهم من الامتثال له، وهو الإكراه الذي تفرضه قاعدة ستار الجهل. إن الالتزام بهذه القاعدة هو الذي يجعل المتعاقدين قادرين على تمثل المصالح الأكثر سموا للمواطنين، وعلى اختيار مبادئ العدالة الكفيلة بتحقيقها.

وخلاصة القول: إنه من مصلحة الجميع أن يتنامى الإحساس بالعدالة في المجتمع. وليس هناك من سبيل لتحقيق هذه المصلحة الجوهرية سوى إعادة تنظيم المجتمع وحقله العمومي على أسس عقلانية ومعقولة وبكيفية خلاقة: والمقصود بذلك تنظيم البنيات الأساسية للمجتمع بحيث تخلق ديناميتها المستمرة مناخا يساعد على تنمية روح المواطنة التي تتجلى من خلال القدرة على التعاقد والالتزام بالعقود المبرمة، والقدرة على فهم وتطبيق مبادئ العدالة التي حصل عليها الإجماع. ولكن، كيف يمكن تحقيق المصالح الأكثر سموا؟ هل يتأتى ذلك بمعزل عن تحقيق المصالح المادية والفيزيولوجية ؟

تجدر الإشارة بهذا الصدد إلى أن راولز لا يفصل بين ما يسميه "الخيرات الأولية" والمصالح الأكثر سموا؛ فهو يرى أن توفير الخيرات الأولية خطوة ضرورية في اتجاه تحقيق المصالح الأكثر سموا؛ بل إنه جعل من توفر الخيرات الأولية المعيار الأساسي لاختيار مبادئ العدالة في إطار الوضعية الأصلية. ومعنى ذلك أن المبادئ الصالحة لتنظيم المجتمع بشكل جيد هي تلك التي تضمن إمكانية توفير الخيرات الأولية كمرحلة ضرورية لتحقيق الغايات القصوى للنظام الاجتماعي. وتشمل الخيرات الأولية: الحقوق الاقتصادية والسياسية والحريات الأساسية والشروط الاجتماعية للاعتبار الذاتي. وتعتبر هذه الخيرات من جملة الوسائل الضرورية لتحقيق المصالح الأكثر سموا؛ فعلى ضوئها ينتقي المتعاقدون في الوضعية الأصلية تلك المبادئ التنظيمية التي تمكن من تفعيل الملكات الأخلاقية والارتقاء بها إلى أعلى المراتب في سلم النمو. وهذا يقودنا للحديث، بطبيعة الحال، عن السيكولوجية الأخلاقية التي رسم راولز معالمها الكبرى في مؤلفه المشهور "نظرية العدالة".

 



([1])John Rawls (1971). A theory of justice. Oxford University Press.

([2]) John Rawls (1958). Justice as fairness.  Philosophical Review Vol. LXVII. 1958

([3])  John Rawls (1993). Libéralisme politique. Traduit de l’américain par Catherine Audard. Paris : PUF. p. 138

([4])  John Rawls (1993). LP. p. 132.

([5] ) John Rawls (1993). LP. p. 128.

([6])John Rawls (1993). LP. p. 8

([7]) John Rawls (1993). Libéralisme politique. p. 127.

([8])  John Rawls (1971), A Theory of Justice. p. 119

([9]) John Rawls (1971), A Theory of Justice.. p. 61.

([10]) John Rawls (1971), A Theory of Justice. p. 12.

([11]) John Rawls (2003). La justice comme équité : Une reformulation de la théorie de la justice. Traduit de                 l’anglais par Bertrand Guillaume. Paris : Editions de la Découverte, p. 23

 

(*) كلمة الماكسمين maximin كلمة مركبة تجمع بين كلمة maximum الحد الأقصى،  وكلمة minimum الحد الأدنى؛ وأما صيغتها التحليلية فهي.maximum minimirom .

([12]) John Rawls (2003). La justice comme équité : Une reformulation de la théorie de la justice. Traduit de  

      l’anglais par Bertrand Guillaum. Paris : Editions de la Découverte, p. 11

([13]) John Rawls (2003). La justice comme équité. p. 265.

([14]) John Rawls (2003). Ibid

([15]) W. M. Sibley. The Rational Versus the Reasonable. The Philosophical Review, Vol. 62, No. 4 (Oct., 1953),  

      pp. 554-560

([16]) John Rawls (1993). Libéralisme politique. p. 76,  note n° 1.

 ([17]) إمانويل كانت (2002). تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق. ترجمة د. عبد الغفار مكاوي. كولونيا – ألمانيا.، ص. 81.

([18]) إمانويل كانت، نفس المرجع السابق ونفس الصفحة.

([19]) نفس المرجع السابق، ص. 140.

([20])نفس المرجع السابق، ص. 82.

([21]) نفس المرجع السابق، ص. 120.

([22]) نفس المرجع السابق، ص. 142..

([23]) John Rawls (1996). Libéralisme politique p. 78

([24]) Ibid. p. 79

([25]) Ibid. p. 79

([26]) John Rawls (2001). La justice comme équité. p. 25. 

([27])John Rawls (1996). Libéralisme politique. أنظر بهذا الخصوص ص. 83 وما يليها

Partager cet article
Repost0
28 mai 2011 6 28 /05 /mai /2011 19:36

الليبيرالية السياسية ومبادئها الأخلاقية

مدخل إلى فلسفة جون راولز

تابع

أحمد أغبال

 .

موضوع علم النفس الخلقي وغايته في فلسفة جون راولز

من المفترض أن تكون للمواطنين الذين يقبلون إكراهات العقل العمومي عن طيب خاطر، ولا يمانعون في الخضوع للسلطة المعقولة، سمات مخصوصة. وإذا تقرر هذا، لزم أن تصبح سمات هؤلاء المواطنين موضوعا لعلم خاص، تتعدى تحليلاته المستوى الوظيفي إلى البحث في المبادئ والقوانين الكامنة خلف تشكل وتنامي روح المواطنة بأبعادها النفسية والخلقية، وهذا العلم هو علم النفس الخلقي الذي هو علم السلوك المعقول؛ وربما أصبح الانشغال بهذا الموضوع شرطا لتأسيس كل علم من العلوم الإنسانية مهما كان نوعه. يقول راولز بهذا الصدد:

"ولعل أبرز خاصية من الخصائص المميزة لهذه القوانين (أو الميول) هو أن صياغتها تحيل على المحيط المؤسساتي بوصفه عادلا...وباعتباره معروفا لدى العموم بوصفه كذلك. إن لتصور العدالة، إذن، مكانته بين مبادئ علم النفس الأخلاقي. وهكذا، فإن تصور العدالة على أي نحو من الأنحاء يدخل في تفسير ما يقابله من المشاعر؛ فالفرضيات المتعلقة بالعمليات النفسية توظف المفاهيم الأخلاقية سواء اعتبرت هذه المفاهيم جزءا من النظرية السيكولوجية أم لم تعتبرها كذلك"([1])  

ليس هناك إذن ما يمكن أن يحول دون توظيف المفاهيم الأخلاقية في الدراسات الاجتماعية والنفسية، بل إن إقصاءها يعتبر، برأي راولز، خطأ فادحا؛ وحجته في ذلك أن المشاعر الأخلاقية محايثة لبنية الطبيعة الإنسانية، شديدة الصلة بميلها الفطري للاجتماع والمعاشرة؛ وبالتالي، فإن استبعادها وعدم أخذها بعين الاعتبار في الدراسات التي تتناول المواقف والاتجاهات يعني بتر موضوع الدراسة وتفكيكه. إن ما يريد التأكيد عليه هو أن العنصر الأخلاقي يندرج على نحو من الأنحاء ضمن التكوين المميز للطبيعة السيكولوجية للإنسان، وسواء تعلق الأمر بمضمونها أو بسياقها الاجتماعي والمؤسساتي. ولكن، كيف تتحدد العلاقة بين البعد الأخلاقي للإنسان وطبيعته النفسية منظورا إليها من زاوية علم النفس؟

يقدم راولز الجواب على هذا السؤال في كتابه "الليبرالية السياسية"، أورده في الجزء الثامن من المحاضرة الثانية تحت عنوان مثير: "السيكولوجيا الأخلاقية: فلسفية لا سيكولوجية". يقول في مستهل هذه الدراسة موضحا تصوره للسيكولوجيا الأخلاقية:

".. وأؤكد على أنها سيكولوجيا أخلاقية مستمدة من التصور السياسي للعدالة كإنصاف. وهذه السيكولوجيا لم تنبثق من العلم المختص في دراسة الطبيعة الإنسانية، بل صدرت عن هيكل المفاهيم والمبادئ المستخدمة للتعبير عن تصور سياسي للشخص ومثل أعلى للمواطنة"([2])  

يستمد علم النفس الأخلاقي، حسب نظرية راولز، مبادئه من هيكل نظري معياري، وتكمن وظيفته عنده في بناء تصور سياسي للشخص يساعد على تحقيق مثل أعلى للمواطنة. وإذا كانت هذه السيكولوجيا لا تنحدر من صلب العلوم التي تهتم بدراسة الطبيعة الإنسانية، فإنها تولي مع ذلك أهمية خاصة للتأثيرات المحتملة للعوامل المرتبطة بالطبيعة الإنسانية في التصورات والتوجهات الأخلاقية للمواطنين. يقول راولز:

"إن الطبيعة الإنسانية وسيكولوجيتها الطبيعية مرنتان إلى حد الإباحية: بإمكانهما أن تضعا حدودا لتصوراتنا للشخص وللمثل العليا للمواطنة القابلة للبقاء والاستمرار، وللسيكولوجيات الأخلاقية التي تدعمها، ولكنها لا تستطيع أن تملي علينا تلك التي يتوجب علينا الأخذ بها"([3])

يفهم من هذا القول أن الطبيعة الإنسانية، بحكم نوازعها الفطرية الإباحية، لا تنطوي في ذاتها على السبب الكافي لبروز المشاعر الأخلاقية ونموها. ولكن هذا النقص لا يبرر إسقاطها من المعادلة الأخلاقية، ما دامت تؤثر في تلك المشاعر بشكل من الأشكال من خلال رسم الحدود لحقل الممكنات.  وعلى هذا يرى راولز بأن المثل العليا للمواطنة تستلزم توفر تصور للطبيعة الإنسانية ونظرية اجتماعية من أجل تحديد تصور للشخص المعقول يتناسب مع ما تسمح به الوقائع العامة المتصلة بالطبيعة الإنسانية، من جهة، وبالمجتمع من جهة أخرى. وفي غياب هذا الشرط، يكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تحقيق التصور السياسي للعدالة والمثل الأعلى للمواطنة. يتعلق الأمر بالبحث في شروط بناء نظام سياسي يكون من المعقول جدا أن يُتوقع من المواطنين قبول سلطته والانقياد لقراراته، والانخراط في التعاون مع بعضهم البعض على مدى الحياة.

ومن هنا تأتي أهمية علم النفس الأخلاقي بوصفه الوسيلة التي تمكن من بلورة وتحقيق تصور سياسي لمفهوم الشخص ومثل أعلى للمواطنة يكونان على قدر كبير من الانسجام مع الطبيعة الإنسانية في سياقها الاجتماعي. تلك هي مقاصد هذا العلم، وأما موضوعه فيتمحور حول الإحساس بالعدالة والمشاعر الأخلاقية، ويشمل البنيات الاجتماعية والسياسية التي تكيف سيرورتها النمائية. ولقد خصص راولز لهذا الموضوع فصلا كاملا في كتابه "نظرية العدالة" تحت عنوان "الإحساس بالعدالة" ، وقدم فيه وصفا تحليليا وافيا للإحساس بالعدالة وما يرتبط به من مشاعر أخلاقية، وبين كيفية تشكل ونمو القدرات الأخلاقية للمواطن المعقول، والمراحل التي تمر بها خلال سيرورتها النمائية، والقوانين التي تقف خلف هذه العمليات. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الإحساس بالعدالة بمثل، في إطار هذه النظرية، أرقى مرتبة من مراتب النمو الأخلاقي؛ وحدده كما يلي:  

"إن الإحساس بالعدالة هو، قبل كل شيء، استعداد ثابت للأخذ بوجهة النظر الأخلاقية والعمل بمقتضياتها بقدر ما تحددها مبادئ العدالة على الأقل"([4])

يستفاد من هذا التعريف أن السيكولوجية الأخلاقية تتشكل وتنمو في انسجام مع مبدأ العدالة كإنصاف. إن دراسة النمو الخلقي، من وجهة النظر هذه، هي قبل كل شيء دراسة كيفية تشكل ونمو الإحساس بالعدالة وما يرتبط به من مشاعر أخلاقية. هذا هو الموضوع الأثير لعلم النفس الأخلاقي كما يتصوره راولز. وسوف نقدم فيما يلي عرضا سريعا لمراحل النمو الخلقي كما يتصورها راولز.

1.3.    مراحل النمو الخلقي حسب نظرية راولز

ينطلق راولز في دراسته لمراحل النمو الخلقي من التسليم بالقضية التالية: يحتاج النمو الخلقي لكي يتحقق إلى تنظيم المجتمع بشكل جيد، وكذلك فإن الإحساس بالعدالة هو الكفيل بإعادة التوازن لهذا المجتمع وضمان استقراره كلما تعرض لشتى أنواع الاختلالات والهزات. ويمر الإحساس بالعدالة خلال سيرورته النمائية بثلاث مراحل لها علاقة بمراحل العمر في حدود معينة، من جهة، ومراحل اندماج الفرد في المجتمع، من جهة أخرى؛ ويأتي هذا النمو كاستجابة للميل الطبيعي في الإنسان إلى التعامل بالمثل وفقا لمبدأ التبادلية. وهذه المراحل هي:

أخلاق السلطة

أخلاق التشارك

أخلاق المبادئ

أولا - أخلاق السلطة: وهي أخلاق مرحلة الطفولة. تتشكل، بطبيعة الحال، تحت تأثير سلطة الوالدين داخل الأسرة التي تندرج ضمن البنيات الأساسية للمجتمع. يحتل الطفل في بنية السلطة خلال هذه المرحلة موقعا لا يؤهله لتقدير مدى صلاحية القواعد والأوامر الصادرة عن مراكز السلطة والقرار، خاصة وأن مداركه العقلية لا زالت في مراحل نموها الأولى، ولذلك يفتقر إلى القدرة على التسويغ والحجاج والإقناع، ولا يستطيع مقاومة الأوامر والنواهي التي يفرضها عليه والداه. وإذا كانت الأسرة مؤسسة من مؤسسات المجتمع المنظم بشكل جيد، فإنه من الفروض أن نسلم بصلاحية القواعد والتوجيهات الأسرية ومعقوليتها. ولكن الطفل لا ينظر إلى الأمور من هذه الزاوية لاعتبارات لها علاقة بميوله الفطرية، ومن أهمها:

          أنه يميل بالفطرة وبشكل عقلاني إلى تحقيق رغباته الذاتية أو ما يسميه راولز "المصلحة الذاتية العقلانية"؛

          ولا يمتلك القدرة على إدراك وفهم نوايا الوالدين ومقاصدهما، ولا القدرة على تقدير مدى أهمية الأوامر والنواهي؛

          وكذلك تعوزه القدرة على التسويغ، فهو لا يستسيغ مطلب الخضوع لسلطة الوالدين ولا يمتلك القدرة على إيجاد مبرر مقبول لمطلب الامتثال والخضوع لها؛ ولا يستطيع، في نفس الوقت، وضعها موضع شك وتساؤل ونقد استنادا إلى مبرر مقبول؛

         ولا يميل بالفطرة إلى حب الوالدين.

والنتيجة المحتومة هي أنه لا يوجد لدى الطفل ميل فطري للامتثال للسلطة. ومن هنا يطرح السؤال: كيف يمكن ترويضه لقبول سلطة الوالدين وتأهيله لقبول قرارات السلطة السياسية في المراحل اللاحقة من العمر؟

يحصل التحول في هذا الاتجاه بفضل القانون السيكولوجي الأول الذي يمكن صياغته على النحو التالي: إذا أحب الوالدان طفلهما، تولد حب الوالدين في نفسه كرد فعل، فيبادلهما حبا بحب؛ وكلما زاد حب الوالدين لطفلهما، زاد حبه لهما. وتتجلى محبة الوالدين للطفل من خلال مجموعة من السلوكات التي تكشف له عن  نواياهما الواضحة للعناية به، ومن أهما:

        مساعدته على تحقيق مصالحه الذاتية العقلانية؛

         دعمهم لشعوره بالاعتبار الذاتي، وتأكيد تصوره لذاته وتثمينه؛

         مساعدته على تحقيق رغبته في الاستقلال وتحمل المسؤولية.

وبفضل هذه السلوكات تتشكل مشاعر وعواطف جديدة لدى الطفل. فعندما يتأكد من حب والديه له من خلال التجربة الحية التي تنكشف فيها النوايا الواضحة للعناية به، يطمئن على نفسه ليقينه أن أولئك الذين يمثلون السلطة في محيطه لا يكنون له المحبة لانضباطه، بل يحبونه لكونه شخصا جديرا بالاحترام، يستمد قيمته من ذاته، ويكون مجرد حضوره أو وجوده في البيت مصدرا للبهجة والمسرة.. وعندما ترتبط محبة الوالدين بالخبرة الحية للطفل بوصفها محبة خالصة غير مشروطة، تزداد ثقته بنفسه، فيتولد لديه الشعور بالاعتبار الذاتي ويتنامى؛ وعن هذا الشعور ينشأ حبه لوالديه، ويطرح نفسه كرغبة في إسعادهما من خلال الإذعان لأوامرهما ونواهيهما. ومن ثمة، تتشكل المشاعر الأخلاقية كنتيجة للقانون السيكولوجي الأول. فإذا كان الطفل يحب والديه، ويضع ثقته فيهما، وحصل أن انساق مع المغريات وخرق بعض القواعد فإنه لابد وأن ينتابه شعور بالذنب؛ وبلعب هذا الشعور دور القوة الدافعة للاعتراف بالخطأ.

وخلاصة القول، إن الشعور بالذنب هو شعور أخلاقي، ينبثق عن التفاعلات الإيجابية التي يحكمها القانون السيكولوجي الأول. وعليه، فإن أي خرق للقواعد لا يصاحبه شعور بالذنب لهو الدليل القاطع على انعدام مشاعر المحبة والثقة في العلاقات الأسرية. ومن هنا يلزم التمييز بين الشعور بالذنب والخوف من العقاب. فعندما يكون الجو الأسري خاليا من مشاعر المحبة والثقة، يكون الشعور المهيمن على الأطفال هو الخوف من العقاب.

ثانيا - أخلاق التشارك: إذا كانت أخلاق السلطة تتأسس على القواعد والتوجيهات (الأوامر والنواهي) التي يتوجب على الفرد الامتثال لها، فإن أخلاق التشارك تشمل المعايير الأخلاقية والنماذج المثلى المرتبطة بمواقع الأفراد وأدوارهم في المنظمات الاجتماعية. تُطبع هذه المعايير والقيم في نفوس الأفراد بواسطة مجموعة من الإجراءات والإشارات التي تصدر عن مراكز السلطة والقرار في المنظمات (الأسرة، المدرسة..) أو عن مجموعات العمل التي ينتمون إليها، والتي تدل على الاستحسان أو الاستهجان.

تتشكل أخلاق التشارك تدريجيا كلما تقدم المرء في السن، وانتقل من موقع اجتماعي إلى آخر، ومن دور إلى آخر. وكلما تغير الدور والموقع، اضطر الفرد إلى اكتساب معايير وقيم جديدة، فيتمثلها ثم يستبطنها، وتطرح نفسها في شكل نماذج مثلى لما ينبغي أن يكون عليه صاحب الدور أو الموقع الجديد، بحيث يمكن الحديث عن التلميذ النموذجي، والأستاذ النموذجي، والزوج النموذجي، الخ. ومع مرور الزمن، يكتسب القدرة على فهم النماذج الجديدة وتفسيرها في ضوء أهداف المنظمة أو المؤسسة أو الجمعية التي ينتمي إليها، وعندئذ يتاح له تشكيل تصور واضح، إلى هذا الحد أو ذاك، عن نظام التعاون الشمولي الذي يحدد طبيعة المنظمة ووظائفها وأهدافها وغاياتها. ولما كان الفرد ينتمي في نفس الوقت إلى العديد من المؤسسات والتنظيمات، كان لابد أن يكتسب أنواعا عديدة من النماذج المثلى التي تتناسب مع مختلف المواقع والأدوار، وأن يجمع بينها في إطار توليفة واحدة.

ولما كانت أخلاق التشارك تجمع في توليفة واحدة بين نماذج مثلى تتنوع بتنوع الانتماءات الاجتماعية للفرد، فإن اكتسابها يستلزم تنمية مجموعة من القدرات الخاصة، وفي مقدمتها القدرة على فك طوق التمركز حول الذات، والنظر إلى الأشياء من منظورات الآخرين الذين يحتلون مواقع مختلفة في المنظمات. عندما يكتسب المرء هذه القدرات يكون قادرا على إدراك الروابط التي تجمع بين النماذج المثلى في إطار نظام تعاون واحد. ولكن اكتساب هذه القدرات يستلزم تنمية القدرة على إدراك نوايا الآخرين ودوافعهم ومشاعرهم ومقاصدهم. ويجب التذكير هنا بأن ما يميز البنية المعرفية للطفل، مقارنة بالبنية المعرفية للراشد، هو انعدام أو ضعف القدرة على إدراك النوايا والمشاعر والمقاصد؛ وهذا ما يفسر عجز الطفل على رؤية الأشياء من منظورات متعددة.

إن القدرات المذكورة مجتمعة هي التي تجعل من أفراد المجتمع مواطنين مؤهلين للانخراط في نظم التعاون. ينبغي أن يكون الفاعلون في المنظمات أو المؤسسات الاجتماعية على علم بأن أية قضية أو مشكلة تبدو مختلفة لمن ينظرون إليها من مواقع مختلفة، وأن يعلموا بأن للفاعلين الذين يحتلون مواقع مختلفة في تلك المنظمات دوافع وأهداف واستراتيجيات مختلفة، وأن يكتسبوا القدرة على اكتشافها وتقييمها من خلال فحص خطابهم وسلوكهم، كل ذلك من أجل العثور على نقط ارتكاز إستراتيجية للتشارك والتعاون.

تلك إذن هي متطلبات المرحلة الثانية من مراحل النمو الخلقي. فعندما يكتسب الفرد القدرة على إدراك نوايا ومشاعر زملائه في العمل، وتتشكل الروابط العاطفية بينهم بحكم القانون السيكولوجي الأول؛ وعندما يفصح زملاؤه عن نية واضحة في العمل وفقا لما يقتضيه الواجب، تظهر مشاعر الصداقة والثقة المتبادلة، وتنمو باستمرار في مناخ سليم ومحفز على العمل. وهذا هو القانون السيكولوجي الثاني. يمكن صياغة هذا القانون في عبارة أخرى:عندما يلج شخص حقلا من حقول العمل، ويشعر بأن أعضاء التنظيم الجديد يمارسون نشاطهم بحماس، ويدرك نواياهم الواضحة لأداء واجباتهم على أحسن وجه، وعندما يظهرون له ولاءهم للمنظمة، ويعلنون اعترافهم بأن المبادئ التي يقوم عليها التنظيم عادلة ومنصفة، ويتأكد من أن ما يراه ويسمعه صحيح، ومن أن ما يحركهم هي الإرادة الصالحة الخيرة، تنبعث مشاعر الثقة في نفسه والرغبة في التماهي بهم، فيندمج في مجموعة العمل اندماجا كليا، فتتآلف القلوب، وتتوطد أواصر الصداقة بينه وبين أعضاء التنظيم، وتقوى وشائج المحبة والثقة المتبادلة بينهم. وهذا ما يجعله يستبطن المعايير والمثل العليا المرتبطة بموقعه الجديد في نظام التعاون. وعندما تتقوى الروابط بين أعضاء مجموعة العمل، تزداد الرغبة في التعاون والتشارك؛ ويشعر الفرد بالذنب عندما يقوم بتقييم عمله ويدرك أنه قصر في أداء واجباته.

ولعل أهم ما يميز أخلاق التشارك هو أن الدوافع إلى إتقان العمل والتعاون مع الآخرين هي بواعث نفسية، وفي مقدمتها الرغبة في التماهي مع الزملاء الجادين في العمل والرغبة في نيل رضاهم. فإذا كان الفرد يعمل كل ما بوسعه لأداء وظيفته على أحسن وجه، فإنما يسعى من وراء ذلك إلى خلق انطباعات طيبة في نفوس الآخرين عن ذاته من أجل الحصول على مفعول رجعي إيجابي وإشارات تنم على الاستحسان؛ والقصد من ذلك كله يكمن في نيل رضاهم. وعلى هذه الخلفية تتشكل المشاعر الأخلاقية المصاحبة لعملية اكتساب النماذج المثلى المرتبطة بالمواقع والأدوار في المنظمات الاجتماعية تحت تأثير القانون السيكولوجي الثاني. ويرى راولز أن:

”غياب هذه الميول [المشاعر الأخلاقية كشعور بالذنب] يدل على غياب روابط الصداقة والثقة المتبادلة“ إن الشخص الذي ينقصه الشعور بالذنب لا يحس بالعبء الملقى على كاهل الآخرين، ولا يصاب بالحرج والانزعاج إزاء شعورهم بالخيبة من نكثه للعهد وخرقه للثقة الموضوعة فيه"[5]

يفرض القانون السيكولوجي الثاني نفسه بطريقة لا تختلف عن طريقة اشتغال القانون السيكولوجي الأول؛ فكما أن روابط المحبة تنشأ عن القانون الأول داخل الأسرة خلال المرحلة النمائية الأولى (أخلاق السلطة)، كذلك تتشكل روابط الصداقة ومشاعر الثقة في المنظمات والمؤسسات الاجتماعية عن القانون الثاني خلال المرحلة النمائية الثانية. يخضع النمو الخلقي، إذن، لقوانين سيكولوجية أشبه ما تكون بالقوانين الطبيعية، عنها تنشأ المشاعر الأخلاقية، وهي التي تتحكم في نموها وتطورها. تتجلى هذه المشاعر بطرق مختلفة، وتفصح عن نفسها من خلال الاعتراف الصريح بالخطأ وخرق القواعد والمعايير، والرغبة الملحة في تصحيح الحيف أو الأذى الذي لحق بالآخرين من جراء ذلك.

وهكذا تطرح الآلية الأخلاقية نفسها كبديل عن أساليب الزجر والعقاب التي تولد مشاعر الخوف والحذر؛ ومن حسناتها أيضا أنها تزيد من قدرة الفرد على التحكم في الذات، وضبط النفس، وتجنب الوقوع في حومة الغضب والاستياء. ويدل غياب المشاعر الأخلاقية في حياة العمل داخل المنظمات على تفكك الروابط الاجتماعية الأساسية وانتفاء مشاعر المحبة والصداقة والثقة التي يقوم عليها نظام المجتمع بوصفه نظام تعاون منصف. ويعتبر فقدان الحس الخلقي وتفكك الروابط الاجتماعية في المنظمات ضربا من ضروب الاستلاب الذي يسميه إميل دوركايم بالأنوميا، ويسمى في علم النفس الاجتماعي الأنجلوسكسوني بفقدان المعايير؛ وتسمى المنظمات التي تعاني من هذه الأعراض المرضية بالمنظمات الأنيمية.

ثالثا: أخلاق المبادئ: إذا كانت السمات المميزة للشخص الذي ولج مرحلة أخلاق التشارك تتلخص في نيته الواضحة للعمل وفقا للمعايير والمثل العليا المرتبطة بموقعه في المنظمة أو المؤسسة الاجتماعية التي يشتغل فيها، فإن ما يميز الشخص الذي بلغ المرحلة الثالثة هو إيمانه العميق بمبادئ العدالة الأكثر سموا وإنصافا. فإذا كان الشخص في مرحلة أخلاق التشارك يرغب في أن يصير أستاذا نموذجيا، فإنه أصبح الآن يرغب في أن يكون عادلا..يقول راولز:

”إن فكرة الفعل العادل والعمل على تطوير المؤسسات العادلة، أصبح لها عنده [في المرحلة الثالثة] جاذبية شبيهة بجاذبية النماذج المثلى..“([6])

ولهذه المرحلة قانون سيكولوجي خاص بها، نصوغه على النحو التالي: عندما تتشكل مشاعر المحبة والصداقة والثقة المتبادلة بفعل القانون الأول والقانون الثاني، يظهر الميل إلى الاعتراف بعدالة المؤسسات، ولا يتحقق ذلك ما لم يشعر العاملون فيها بأن جميع الأفراد والمجموعات يستفيدون من مواردها بشكل منصف، وينتج من ذلك إحساس بالعدالة، ويطرح نفسه كآلية من آليات الضبط الاجتماعي التي تلعب دورا أساسيا في الحفاظ على توازن المجتمع واستقراره من خلال تقوية الروابط الاجتماعية. يقول راولز عن هذا: ”بدون إحساس مشترك بالعدالة لن يكون لروابط الحياة المدنية وجود“([7]). ويفصح الإحساس بالعدالة عن نفسه بطريقتين:

-         يتجلى في المقام الأول من خلال الاعتراف بالمؤسسات العادلة وقبول سلطتها. ولا يظهر الأفراد ولاءهم لها، ولا ينقادون طواعية لقراراتها ما لم يتيقنوا من أنها تخدم مصالح الجميع؛ وإن هي بدت لهم عادلة منصفة للجميع، تراهم يبذلون كل ما بوسعهم للحفاظ على نظامها واستقرارها كرد فعل إيجابي تلقائي، ويشعر الفرد بالذنب كلما أخل بواجباته والتزاماته إزاءها.

-         ويتجلى الإحساس بالعدالة أيضا من خلال الرغبة في العمل من أجل بناء المؤسسات العادلة أو إصلاح المؤسسات القائمة، والرغبة في توسيع مجال تطبيق مبادئ العدالة. ويشعر الشخص بالذنب كلما تصرف بطريقة مناقضة لإحساسه بالعدالة.

يتبين من خلال عرض مراحل النمو الخلقي الثلاث بأن السيرورة النمائية تجري في كل مرحلة وفقا لمبدأ التبادلية المتأصل في الطبيعة الإنسانية. ففي المرحلة الأولى، تنبثق مشاعر المحبة في وجدان الطفل إن شعر بأنه محبوب، فيبادل والديه حبا بحب، وعندما يصبح شابا، ويلتحق بمؤسسات اجتماعية أخرى، تبدأ المرحلة النمائية الثانية، فتتشكل مشاعر الصداقة والثقة والمسؤولية إذا تعامل معه أعضاء المظمة وفقا لهذه القيم؛ وعندما ينضج ويصبح راشدا، يستبطن قيم العدالة إن هو أحس بأن المواطنين يتعاملون معه في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية وفقا لقواعد الاحترام المتبادل ومبدأ الإنصاف. وهذا يدل على أن النمو الخلقي يتحقق من خلال عمليات التفاعل العاطفية-الوجدانية؛ فإذا كانت هذه العمليات تجري وفقا لمبدأ التبادلية، أدى ذلك إلى تنامي الإحساس بالعدالة.

ويرى راولز أن أهم ما يميز كل مرحلة من المراحل النمائية عن غيرها هو نوعية الرغبات التي يصبو الفرد إلى تحقيقها. ومن هذه الوجهة، فإن النمو الخلقي هو عملية الانتقال من نوع معين من الرغبات إلى نوع آخر، كما هو مبين في الخطاطة التالية:

 

Rawls

ويتخذ الشعور بالذنب في كل مرحلة دلالة خاصة: فهو يرتبط في المرحلة الأولى بعدم الامتثال لسلطة الوالدين وخرق قواعد السلوك. فبما أن قدرة الطفل على إدراك النوايا والمقاصد وفهم المثل العليا وغيرها من المجردات ضعيفة جدا أو منعدمة في هذه المرحلة من العمر، فإنه من المنطقي أن لا يكون للشعور بالذنب المترتب عن الإخلال بالمبدأ وجود في تجاربه الشعورية.

ويرتبط الشعور بالذنب في المرحلة الثانية بعمليات التفاعل بين أعضاء مجموعة العمل. تتشكل المشاعر الأخلاقية في هذه المرحلة حول روابط الصداقة والثقة التي تنسج مع بعض الشخصيات النموذجية، ويكون الدافع إلى السلوك الأخلاقي في هذه الحالة هو الرغبة في نيل رضا تلك الشخصيات وتقديرهم. وهنا يتخذ الشعور بالذنب دلالة خاصة تنم عن الخجل أمام الآخرين والخوف من فقدان تقديرهم له، ومن ثمة فقدان الاعتبار الذاتي.

ويتخذ الشعور بالذنب في المرحلة الثالثة دلالة خاصة تنم عن توبيخ الضمير كنتيجة لعدم الوفاء للمبدأ. والأصل في ذلك هو أن المبدأ الذي تقوم عليه الأخلاق في هذه المرحلة لا يحسب حسابا للعوائد الذاتية أو العرضية؛ فهي تنبني على تصور للحق يتجاوز الرغبات الذاتية كالرغبة في تحقيق الرفاهية ورغد العيش والرغبة في نيل رضا الآخرين وتقديرهم. ففي هذه المرحلة يصبح الحس الخلقي مستقلا عن العوارض كما هو الحال في الوضعية الأصلية التي وصفناها.

إن ما يميز الشخص الذي بلغ أرقى المراتب في سلم النمو الخلقي هو إحساسه القوي بالحق والعدالة وقدرته الكبيرة على التحكم في الذات وحبه للإنسانية جمعاء، وإن كانت هذه الخصلة الأخيرة نافلة وزائدة على المطلوب. وتشمل الأخلاق، لدى الشخص الذي يؤمن بمبدأ العدالة ويهتدي به في حياته العملية، الفضائل المرتبطة بأخلاق السلطة وأخلاق التشارك. وما يميز هذا الشخص، بالإضافة إلى ما سبق ذكره، هو القدرة على إدراك العلاقات بين القواعد والمعايير والنماذج المثلى والمبادئ التي تشكلت خلال المراحل النمائية الثلاث، وتنظيمها وفقا لمبدأ عام في إطار نسق متكامل. يمكن القول بعبارة واحدة: إن ما يميز الشخص في المرحلة الثالثة من النمو الخلقي هي قدرته على إدراك المبدأ المنظم للأخلاق، وهو مبدأ العدالة. وهذا ما يجعله قادرا على ترتيب الفضائل حسب الأولوية في إطار خطة شمولية.

خاتمة

وفي ختام هذه الدراسة نود التأكيد على القضية التالية: يمثل الإحساس بالعدالة آلية من آليات بناء المجتمع المنظم بشكل جيد، وهو في نفس الوقت حصيلة هذا البناء. ويمكن القول بعبارة أخرى: إن الإحساس بالعدالة هو روح المواطنة كما تتحدد في إطار الليبرالية السياسية؛ وهو من حيث ارتباطه بنظرية العدالة كإنصاف، وسيلة لبناء وتنظيم المؤسسات الاجتماعية وغايتها في نفس الوقت بوصفه مصلحة من مصالح المواطنين الأكثر سموا؛ وكذلك يفرض نفسه بوصفه الحل المناسب لمسألة الاستقرار. يفهم من ذلك أن الأنظمة السياسية المبنية على أساس مبدأ العدالة كإنصاف هي أكثر الأنظمة استقرارا؛ وأن كل استقرار مفروض بالقوة هو استقرار الرعب، يظل هشا ومؤقتا. إن الاستقرار الحقيقي الدائم هو الاستقرار الذي ينشأ عن دعم المواطنين للنظام السياسي، لا خوفا من تعرضهم للقمع في حال عدم امتثالهم للقوانين، بل لكونهم يجدون في ذلك تحقيقا لمصالحهم الأكثر سموا.

نخلص من ذلك إلى النتيجة المحتومة التالية: إنه بقدر ما تدعم المؤسسات إحساس الأفراد بالعدالة، بقدر ما يدعم هذا الإحساس تلك المؤسسات. ومن هنا تأتي أهمية علم النفس الأخلاقي بوصفه الوسيلة الضرورية لتربية المواطنين وتأهيلهم للعيش في المجتمع المنظم بشكل جيد والانخراط في التعاون مع بعضهم البعض على مدى الحياة. وما يجعل هذا العلم قادرا على أداء هذه الوظيفة كونه ينطلق من تصور للعدالة ينسجم مع الطبيعة الإنسانية والمصالح الخاصة بالمواطنين كأفراد يسعى كل واحد منهم إلى تحقيق الخير كما يصوره، آخذا بعين الاعتبار المصلحة العامة للمجتمع بوصفها حصيلة تقاطع المصالح الخاصة. وهذا ما يجعل الليبرالية السياسية التي تقوم على التعددية المعقولة واقعا ممكنا، وسيتحقق بفضل المواطنين العقلانيين المعقولين، الذين يتوفرون على القدرات الأخلاقية الأساسية (القدرة على تشكيل تصور للخير، والقدرة على الإحساس بالعدالة).

ويجب التأكيد في النهاية على أن للإحساس بالعدالة في نظرية الأخلاق عند جون راولز بعد سيكولوجي، وأنه من الممكن فهمه فهما سيكولوجيا؛ وبسبب ذلك لم يعد للمبدأ الأخلاقي الكانطي الترنسندنتالي أو اللاشخصي فيها مكان يذكر. لقد أصبحت الأخلاق في إطار هذه النظرية أكثر ارتباطا بالخبرة الحية للشخص وأكثر التصاقا بواقعه الاجتماعي. ولعل أهم ما جاءت به نظرية العدالة كإنصاف هو نظرتها إلى الأخلاق بوصفها مجموعة من القدرات التي يمكن اكتسابها وتنميتها بواسطة الأساليب المناسبة في التربية والتعليم وفي تدبير وتنظيم مختلف أنواع المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

يفتح هذا الطرح أبواب الأمل أمام المجتمعات التي وجدت صعوبة في بلورة إستراتيجيات للتنمية البشرية وتنفيذه



([1]) John Rawls (1971) A theory of justice. p. 430.

([2])  John Rawls (1996). Libéralisme politique. p. 120.

([3]) Ibid

([4]) John Rawls (1971). A theory of justice,  Oxford University Press, p. 491.

[5] John Rawls (1971). Theory of justice, p. 471.

[6] John Rawls (1971). Theory of justice, p. 473.

[7] John Rawls (1971). Theory of justice,  p. 476.

Partager cet article
Repost0
26 mai 2011 4 26 /05 /mai /2011 15:35

حول بعض المقاربات في مجال تدبير المؤسسات التعليمية

من نموذج العلاقات الإنسانية إلى نموذج الموارد البشرية

ونموذج الظروف المتغيرة 

أحمد أغبال

 

1-نموذج العلاقات الإنسانية وحدوده

يمثل التواصل نقطة تركيز استراتيجية في نموذج العلاقات الإنسانية باعتباره أحد مصادر الطاقة التي تحرك المنظمة بكاملها. يأتي هذا العامل في مقدمة سلسلة من التفاعلات التي تحدد مستوى الأداء من جهة، ومدى جودة المعلومات ودقتها ونوعية القرار من جهة أخرى.

اتجاه العلاقات السببية في نموذج العلاقات الإنسانية

  Sans-titre-copie-2.JPG

يرتكز هذا النموذج على المصادرات التالية:

  يعتقد جميع أعضاء المنظمة أن جميع شركائهم وزملائهم في العمل هم أفراد نشيطون، يمتلكون القدرة والوعي، وهم على درجة كبيرة من التعقيد.

 يستطيع قادة المنظمات أن يخلقوا مناخا يبعث على الثقة المتبادلة والاحترام المتبادل، وآليات تواصل مفتوح يعزز الشعور بالحرية لدى الأفراد.

  إن مشاعر الرضا، عن العمل الناتجة عن التواصل الفعلي بين الأفراد، على اختلاف مواقعهم في المنظمة، تؤدي إلى مضاعفة المجهود في العمل، وإلى ارتفاع مستوى أداء الفرد ومردودية المنظمة.

  يمكن لأعضاء المنظمة أن يجعلوا من السلطة موردا مشتركا، ويمكن بلورة القرار الفعال من خلال المشاركة في عملية اتخاذ القرارات.

يتعين على القادة إذا أرادوا لمنظماتهم أن تشتغل بطريقة فعالة أن يعملوا على إرساء نظم للتواصل تقوم على مبدأ الاعتبار ومبدأ الانفتاح في العلاقات بين الرؤساء والمرؤوسين. يساعد هذا النوع من التواصل على خلق مناخ تنظيمي يدعم العلاقات البيشخصية، ويقوي الحوافز والولاء التنظيمي والانخراط في العمل، ويجعل من العمل نشاطا يلبي حاجات الأفراد وحاجات المنظمة على حد سواء.

يطمح هذا النموذج إلى إضفاء مسحة إنسانية على العلاقات بين العاملين في المنظمات على اختلاف مواقعهم. ولذلك يجب التعامل معه كنموذج أمثل لما ينبغي أن تكون عليه تلك العلاقات. إن طبيعته المثالية تجعله صعب التنفيذ في الواقع. والمقصود بالطبيعة المثالية لنموذج العلاقات الإنسانية هو أنه بني على أساس مبادئ مستمدة من الفلسفة ومن التجارب المخبرية التي أجريت في مجالات علم النفس وعلم الاجتماع، والتي قام بها أكاديميون لا علاقة لهم في الغالب بعالم المال والأعمال. ومن الانتقادات التي تعرض لها المثل الأعلى لنموذج العلاقات الإنسانية أيضا ما ذهب إليه Strauss، الذي يعتبر من أشهر نقاد هذه النظرية، أنه بني على مصادرات حول السلوك البشري والحوافز لها علاقة بقيم العدالة والمساواة التي كان لها مؤيدون كثيرون في الساحة الأكاديمية. تنسجم هذه المصادرات، في نظره، مع قيم الأكاديميين، ولكنها لا تنسجم مع قيم العمال ولا مع واقع المنظمات. إن الأكاديميين في رأيه، يغالون في تقدير أهمية الرضا عن العمل والحاجات العليا (كالاعتبار الذاتي مثلا) لدى الموظفين والعاملين في المنظمات، ويقللون في المقابل من أهمية الراتب والعوائد المادية. ومما يأخذ عليهم أيضا عدم اهتمامهم بدراسة العوامل التي تجعل من الصعب تطبيق نموذج العلاقات الإنسانية. يلخص شارلز كونراد Conrad الانتقادات الموجهة إلى نموذج العلاقات الإنسانية في المؤلف المشار إليه أسفله[1]. وفيه يبين أيضا حدود هذا النموذج النظري على مستوى التنفيذ. وفيما يلي عرض مركز لأهم العوامل التي لا تساعد على تطبيقه في نظر كونراد.

 -1-1حدود التواصل:

إن لأسلوب القيادة المنفتح (الذي يراعي مشاعر العاملين في المنظمات ويتعامل معهم وفقا لمبدأ الاعتبار) آثار جانبية سلبية تتمثل في تراخي نظم الضبط وكثرة الحديث بين العاملين أثناء العمل، مما يؤثر سلبا في المردودية. ويكون من نتائج ذلك أن القادة يجدون أنفسهم مضطرين إلى تقوية آليات الضبط .

دلت الدراسات التي أجريت في أعقاب التجارب التي قام بها باحثوا مؤسسة هاوثرن Howtherne على أن مثل هذه الإجراءات تكون غير فعالة في ظل العمل بأسلوب القيادة المنفتح. لقد كان من نتائج تجربة هاوثرن أن ساد الاعتقاد بأن التواصل المنفتح هو العامل الأساسي الذي يفسر ارتفاع مردودية العمل. ولكن باحثين آخرين قاموا بإعادة تحليل معطيات تجربة هاوثرن بواسطة تقنيات إحصائية لم تكن متوفرة لدى الباحثين الذين قاموا بهذه التجربة، وتوصلوا إلى أن التأثير الإيجابي لأسلوب القيادة المنفتح لا يظهر إلا عندما يقترن بعوامل أخرى ترتبط بنظم الضبط ونظام الحوافز المادية، وذلك عندما يكون الهدف هو نشر الشعور بالرضا عن العمل. وخلص الباحثون إلى القول بوجود عوامل تحد من تأثير التواصل وأسلوب القيادة المنفتح.

ومن بين العوامل التي تحد من تأثير عمليات التواصل في المنظمات يمكن أن نذكر بعض الخصائص الفردية والعلاقات البيشخصية. ينطلق نقاد نظرية العلاقات الإنسانية من مصادرة مفادها أن الناس لا يرغبون، على العموم، في الانفتاح على الآخرين والتعبير عن مشاعرهم ومواقفهم بشكل صريح. فهم يفضلون التواصل المنغلق على التواصل المنفتح، ويميلون إلى إضمار بعض المعلومات التي يعتبرونها شخصية للغاية. يسعى كل فرد ، بطبيعة الحال، إلى الحفاظ عن صورة لائقة عن ذاته وعن صورته الاجتماعية. فهو يخشى أن تستعمل المعلومات التي يدلي بها ضده في محيط يتميز بالمنافسة الشديدة على الموارد المتناقصة. وهكذا فإن الانفتاح يعني تعريض النفس للمخاطر المرتبطة بالعلاقات البيشخصية. هذا بالإضافة إلى أن الأفراد الذين يحتلون المواقع العليا في المنظمة يعلمون أن المعلومات هي مصدر مهم من مصادر السلطة، ولذلك يتحكمون فيها ويستعملونها لتقوية سلطتهم، ولا يصدرون منها إلا ما يدعم موقعهم. إن دينامية التفاعل في المنظمات تجعل الانفتاح أمرا عسيرا.

 -1-2حدود المشاركة في اتخاذ القرارات

ينطلق نقاد نظرة العلاقات الإنسانية من مصادرة مفادها أن الناس لا يرغبون في المشاركة في اتخاذ القرارات، لأن المشاركة في السلطة تؤدي إلى تحمل مزيد من المسؤوليات عن العمل. ويقدمون كمثال نموذجي على ذلك رفض العمال في يوغوسلافيا الاشتراكية المشاركة في اتخاذ القرارات. يبدو أن المشاركة لا تجذب العمال عندما يغلب عليهم الاعتقاد بأنها لن تعود عليهم بأية عوائد معنوية. وأما المصادرة الأساسية التي تنبني عليها فلسفة المشاركة لدى المدافعين عن نموذج العلاقات الإنسانية فهي أن جميع الناس لهم حاجات عليا (كالحاجة إلى الاعتبار الذاتي وإثبات وتحقيق الذات) وأنهم يرغبون في أن يكون لهم شعور بالرضا عن العمل حتى لا يشعروا أنهم يقومون بالعمل مكرهين.  ولكن خصومهم يرون أن هذه المصادرة غير صحيحة بالكامل.  ويبررون موقفهم بكون بعض الناس لا يرغبون في المشاركة في اتخاذ القرارات إما بسبب عمليات التثاقف، أو بسبب غنى الحياة والأنشطة التي يتعاطون لها خارج ميدان العمل، أو بسبب ما يحققونه من إنجازات شخصية، أو بسبب اعتقادهم أن تأثيرهم في عملية اتخاذ القرار سيكون ضعيفا أو منعدما. يبدو أنهم لا يرغبون في المشاركة عندما يشعرون أن العوائد المعنوية التي يجنونها من الأنشطة الجانبية تفوق بكثير ما يجنون من المشاركة في اتخاذ القرارات داخل المنظمة. وإذا أجبر مثل هؤلاء الأشخاص على المشاركة في عملية اتخذ القرار فإنها ستؤدي إلى استلابهم وإلى انخفاض درجة الرضا عن العمل والمردودية.

 تسعى استراتيجية المشاركة في السلطة إلى رفع مستوى الروح المعنوية للعاملين في المنظمات من جهة، وغلى تحسين نوعية القرار أو جعله قابلا للتنفيذ من جهة أخرى. إن تحقيق الهدف الأول يشترط مشاركة كل فرد في عملية اتخاذ القرارات. وإذا علمنا أن مشاعر الاستقلال والاعتبار الذاتي ، التي صنفها ماصلو Maslow ضمن الحاجات العليا، تنشأ عن فعل التواصل، أي عن عملية إرسال وتلقي المعلومات التي تنم عن تقدير الآخرين لآراء الفرد وأفكاره وضرورة أخذها بعين الاعتبار، أمكننا أن ندرك العلاقة المفترضة بين عملية اتخاذ القرار، التي تتحقق وفقا لمبدأ التواصل المفتوح، وبين الروح المعنوية. تساهم المشاركة في رفع مستوى الروح المعنوية عندما تكون فرص مشاركة الأفراد متكافئة ومتساوية إلى حد ما. وإذا كان الأفراد متساوون في الخبرات وفي كمية المعلومات التي لها علاقة بالمشكلة المطروحة فإن المشاركة تؤدي إلى تحسين نوعية القرارات.

وإذا كان التفاوت في الخبرات بين الأفراد كبيرا فإن تحسين نوعية القرار يشترط أن تكون مساهمة ذوي الخبرات العالية في عملية اتخاذ القرار أكبر من مساهمة ذوي الخبرات القليلة. وسيؤدي شعور الفئة الثانية بضعف مشاركتها في اتخاذ القرار إلى استلاب أفرادها. ذلك لأن ضعف المشاركة لا يؤدي إلى تلبية الحاجات العليا للفرد وخاصة ما تعلق منها بالاعتبار الذاتي. وسيكون من نتائج ذلك في المستقبل انخفاض درجة الرضا عن المشاركة ودرجة الانخراط فيها. وأما إذا كانت مشاركة ذوي الخبرات القليلة قوية، فإن ذلك سيؤدي إلى استلاب ذوي الخبرات العالية وهروبهم النفسي من عالم المجموعة لعدم قابليته للاستفادة من خبراتهم. ويكون من نتائج ذلك أيضا فقدان الشعور بالاستقلال، والاعتبار الذاتي، وفقدان القدرة على التأثير المرتبطة بسلطة الخبير.

وقد تؤدي المشاركة على المدى البعيد إلى رفع مستوى الخبرة لدى الأفراد العاديين والارتقاء بهم إلى مستوى الخبراء. ولكنها ستؤدي بذوي الخبرات العالية إلى الشعور بالإحباط والاستلاب على المدى البعيد.

وقد تؤدي استراتيجية المشاركة إلى خلق الاستلاب لدى أفرد فئة أخرى لاعتبارات مغايرة. ولعل أخطر أنواع الاستلاب هو ذلك الذي يتعرض له ذووا الخبرات العالية ممن يحتلون المواقع العليا في المنظمة. إن الأفراد الذين يحتلون مناصب المسؤولية والإشراف والمراقبة في المنظمات الحديثة إنما اختاروا هذه المهنة بحثا عن مزيد من السلطة. لهم شغف كبير إلى السلطة، ويجدون متعة في ممارسة سلطتهم على الآخرين في المنظمة، وغالبا ما يستعملونها لصالحهم. إن هذه الممارسات تدعم صورة الفرد عن نفسه من خلال مقارنة مكانته وراتبه مع مكانة غيره من العاملين في المنظمة ورواتبهم.  وتتحدد الصورة الذاتية لذوي المواقع العليا بمقدار ما لديهم من سلطة. تعني المشاركة في اتخاذ القرارات بالنسبة إليهم تقليص المسافة الفاصلة بينهم وبين المرؤوسين والحد، بالتالي، من سلطتهم. وهو ما من شأنه أن يلحق الضرر بالصورة الذاتية والاعتبار الذاتي لدى الأفراد الذين يحتلون المواقع العليا في المنظمة. إن استراتيجية المشاركة تهدد الحاجات العليا لذوي الواقع العليا ولذلك نجدهم يميلون على العموم إلى مقاومة سياسة المشاركة، ويلجئون عند تنفيذها إلى عرقلة عملية اتخاذ القرارات أو إلى التحايل على المشاركين لجمع المعلومات وتوظيفها وفقا لسياستهم الخاصة.

لقد انتبه الباحثون الذين يدافعون عن نموذج العلاقات الإنسانية إلى أن التغيير عندما يفرض نفسه يهدد مصالح بعض الفئات في المنظمة فتلجأ إلى تحوير المعلومات للحفاظ على مكانتهم المتميزة في المنظمة. واستعمل النقاد هذه الفكرة ضد أصحابها، وذهبوا إلى أن امتلاك بعض المعارف السرية يعني امتلاك السلطة أو تدعيمها. يقوم ذووا المواقع العليا في المنظمة، عندما تفرض عليهم مشاركة المرؤوسين في اتخاذ القرارات، بتحوير وتحريف المعلومات في محاولة للدفع بالمجموعة إلى اتخاذ من النوع الرديء، وعندما ينجحون في الدفع بالمجموعة إلى اتخاذ تلك القرارات يبدون تحفظهم عليها لما قد يترتب عنها من نتائج وخيمة، استنبطوها في ضوء المعلومات السرية التي يتوفرون عليها. وعندما تصدق نبوءتهم تزداد قيمتهم في نظر المرؤوسين لاعتقادهم أنهم يمتلكون خبرات وكفاءات عالية جدا، ويزداد احتمال تحكمهم في عملية اتخاذ القرارات في المستقبل. وبهذه الطريقة يوظفون المشاركة لتقوية سلطتهم ونفوذهم وتوسيع الهوة بينهم وبين المرؤوسين.

ولا يقفون عند هذا الحد، فقد يستخدمون آلية التواصل المنفتح كوسيلة أخرى لتقوية سلطتهم. دلت الدراسات والبحوث على وجود فروق جوهرية في القدرة على التواصل والتأثير بين ذوي المواقع العليا وذوي المواقع الدنيا في المنظمات. وتبين أن ذوي المواقع العليا يتمتعون بقدرة كبيرة على التواصل تتجلى من خلال القدرة على الإقناع والحجاج، والقدرة على فهم وتأويل خطاب الغير، والقدرة على الاستجابة له بطريقة مناسبة. وعندما يشارك ذووا المواقع الدنيا في اتخاذ القرارات يسهل عليهم التأثير فيهم واستمالتهم وتغيير آرائهم وموقفهم واتجاهاتهم. وتساعدهم مواقعهم الشكلية في المنظمة على ممارسة تأثيرهم والتحكم في عملية اتخاذ القرار.

2- نموذج الموارد البشرية

نموذج الموارد البشرية أفرزته تجارب رجال الأعمال ومدراء الشركات. وقد جاء كرد فعل ضد نموذج العلاقات الإنسانية، وربما جاء ليصححه فقط.  يبدو أن نموذج الموارد البشرية هو الصيغة المعدلة لنموذج العلاقات الإنسانية الذي تم تجريده من روحه المثالية وتطبيقه بطريقة واقعية. فهو لا يعارض ما يدعو إليه نموذج العلاقات الإنسانية: المشاركة في اتخاذ القرارات، إقامة نظم للتواصل المنفتح، خلق مناخ تنظيمي محفز، الخ. ومع ذلك نجده يتبنى بعض المصادرات التي تتعارض مع فلسفة المشاركة كما يفهمها المدافعون عن نموذج العلاقات الإنسانية. ولعل من أبرز هذه المصادرات ما يلي:

  يصعب على ذوي المراتب الدنيا في المنظمة إصدار أحكام سديدة.

  إن قدرتهم على تحمل المسؤولية ضعيفة نسبيا.

أن قدرتهم على التحكم في الذات ضعيفة نسبيا، ولذلك لا يوفقون في الغالب في اتخاذا القرار السديد.

 ولا يعملون بجد عندما يتمتعون بدرجة عالية من الاستقلا 

ومع ذلك نجدهم يظهرون نوعا من التأييد لنموذج العلاقات الإنسانية، ويدافعون عن فكرة التواصل المنفتح، ويبررون موقفهم الإيجابي منه بكونه يساعد على تقوية الروح المعنوية وروح التعاون لدى العاملين في المنظمات. غير أن الصيغة المعدلة التي يعملون بها لا تراعي المبادئ والقيم الإنسانية التي تمثل جوهر نموذج العلاقات الإنسانية. إن طريقتهم الانتقائية في التعامل مع نموذج العلاقات الإنسانية لدليل على مدى صعوبة تطبيق نموذج العلاقات الإنسانية. يركز النموذج المعدل، الذي أطلقوا عليه نموذج الموارد البشرية أو نموذج التدبيرmanagerial model، على العناصر التالية[2]:

       أداء المنظمة وأداء الفرد

  بنية تنظيمية تسمح بالمشاركة في اتخاذ القرارات

  توظيف المهارات والقدرات الفردية إلى أقصى حد ممكن لإنجاز المهام.

  التواصل المنفتح على المستويين الشكلي وغير الشكلي.

  صياغة الأهداف على مستوى مراكز القرار العليا وإعطاء الحرية والاستقلال للأفراد على مستوى التنفيذ لاختيار الوسائل المناسبة لتحقيق الأهداف المسطرة.

 إقامة نظام للمكافآت المادية والمعنوية مرتبط بالأداء

                                     شبكة التدبير التي صممها بليك وماوتن[3]

Grille.JPG

 

يولي هذا النموذج أهمية بالغة للعلاقات البيشخصية والتواصل المنفتح من جهة، ولقضايا الإنتاج والمردوية من جهة أخرى (أداء المنظمة، المراقبة والضبط). فهو يدعو إلى ضرورة الأخذ بعين الاعتبار حاجات الفرد وحاجات المنظمة على حد سواء. ويشترط لتحقيق هذا المطلب المزدوجأن تكون  للقائد قدرة كبيرة على التواصل، مثله في ذلك مثل نموذج العلاقات الإنسانية، إلا انه يختلف عنه في ما لا يقل عن ثلاث نقط أساسية. يكمن الفرق الأول بينهما في كون نموذج العلاقات الإنسانية يقلل من أهمية ودور البنية التنظيمية بينما يجعلها نموذج الموارد البشرية في مقدمة اهتماماته. يؤكد هذا الأخير على ضرورة تغيير البنية التنظيمية لجعلها أكثر تلاؤما مع نظم التواصل الجديدة التي تمكن الأفراد من توظيف قدراتهم ومهاراتهم واستثمارها إلى أقصى حد ممكن. ويكمن الفرق الثاني بينهما في أن نموذج العلاقات الإنسانية يضع مسالة التواصل ومسألة الضبط  وإصدار التعليمات على قدم المساواة في اهتماماته بقضايا الأداء الوظيفي للمنظمات المدرسية، بينما يركز نموذج الموارد البشرية أكثر على قضايا السلطة وإصدار التعليمات. وأما الفرق الثالث بينهما فيكمن في درجة تركيز كل واحد منهما على المسألة المتعلقة بتنوع المهام وإغنائها job enrichment . تأتي هذه المسألة في مقدمة اهتمامات نموذج الموارد البشرية الذي لا يفصل بينها وبين مسألة التواصل بين الرؤساء والمرؤوسين والقضايا المتعلقة بتغيير البنية التنظيمية. يري كل من ماصلو Mslow  وهرزبورغ Herzberg أن العمل الروتيني يحول دون تلبية الحاجات العليا للفرد. ومع ذلك فإن نموذج العلاقات الإنسانية يولي أهمية أقل لمسألة إغناء المهام. يعتقد المدافعون عن نموذج الموارد البشرية أن إغناء المهام يبعث روح التحدي في نفوس العاملين في المنظمات، ويدفعهم إلى تطوير قدراتهم ومهاراتهم. وعندما يدرج هدف الإغناء في استراتيجية المنظمة تصبح المنظمة في حاجة أكثر إلى إقامة قنوات للتواصل الفعلي بين مختلف مكوناتها. ذلك لأن التواصل المنفتح يصبح ضرورة ملحة عندما تشرع المنظمة في تنفيذ خطة إغناء المهام، لأن تعقد المهام وتنوعها يجعل الفرد في حاجة إلى المفعول الرجعي feedback أو المعلومات التي تخبره بمدى إتقانه لعمله. ويتطلب الإغناء، بالإضافة إلى شبكة التواصل المنفتح وجود مناخ تنظيمي محفز لتيسير سريان المعلومات في المنظمة على المستويين العمودي  والأفقي.

3- نموذج الظروف المتغيرة contingency model

ترجع أصول نموذج الظروف المتغيرة إلى النظرية النسقية (السيبرنتيقية) التي بلورها أشبائ َAshby  (1956)، وله علاقة، أيضا، بالنظرية الوظيفية المطبقة في المنظمات الصناعية. فقد صنفه بيرو Perrow ضمن النماذج الفيبرية الجديدة لكونه لم يتخل عن المبادئ العقلانية التي يرتكز عليها النموذج البيروقراطي الذي وضعه ماكس فيبر، وإنما حاول تطويرها من خلال ربطها بسياق المنظمة لكي لا تظل مجردة وعامة[4] . إن أهم ما يطرحه نموذج الظروف المتغيرة هو أن أنماط التنظيم الشكلية (درجة تمركز القرار، ومستوى التخصص، ونظم الضبط، ودرجة الاستقلال وهامش حرية التصرف المتاح للذين يتولون تدبير شؤون المنظمة ودرجة خضوعهم للقوانين المعمول بها في المنظمة) لا يمكن فهمها فهما سليما ما لم ينظر إليها على أنها شكل من أشكال الاستجابات الوظيفية للتحديات التي يطرحها عدم اليقين والتباين الملاحظ في علاقة المهام التنظيمية بالمحيط.

ينطلق هذا النموذج من الأطروحة التي تقول أنه عندما يكون المحيط في حالة استقرار نسبي يكون من السهل التنبؤ بالوقائع التي يحتمل أن تظهر فيه. وفي هذه الحالة يكون النموذج البيروقراطي الكلاسيكي هو الشكل التنظيمي الملائم. ولكن ما يميز محيط المنظمات في الوقت الراهن هو غموض الآفاق وعدم اليقين بسب ارتباط حقوله بعضها ببعض، وتزايد وتيرة التغير وكثرة الاضطراب فيه. إن التغير السريع يولد الشعور بعدم اليقين. وفي هذه الحالة تكون الاستراتيجية الملائمة لمواجهة تحديات المحيط هي تلك التي ترتكز على مبدأ تفويض السلطة للأخصائيين والخبراء، ومبدأ المشاركة في التدبير ولامركزية القرار في كل ما يتعلق بآليات التحكم والتنسيق بين الأدوار والمهام وبين مختلف المستويات التنظيمية.

لقد جاء نموذج الزروف المتغيرة، في سياق يتميز بالتحولات السريعة، كرد فعل ضد النموذج البيروقراطي الكلاسيكي ونموذج العلاقات الإنسانية. وهكذا، فإذا كان النموذج الكلاسيكي يجعل من البيروقراطية الأسلوب الوحيد الممكن في التنظيم والتدبير، وإذا كان نموذج العلاقات الإنسانية من جهته يبحث عن أنسب طريقة للتحكم في آليات اشتغال مجموعة العمل، فإن نموذج الظروف المتغيرة يسعى إلى بلورة مقاربة مرنة مرتبطة بالسياق context-dependent approach . يمكن القول بعبارة أخرى إنه يسعى إلى الكشف عن العلاقة بين مختلف مكونات المنظمة ومحيطها الخارجي، في محاولة لاستنباط بعض المبادئ النظرية القابلة للتجريب والتي يمكن استخدامها لرسم الخطط المتعلقة بإنجاز المهام الفردية من جهة، ولبلورة شبكة العلاقات بين المهام والعناصر التكنولوجية ووحدات العمل من جهة أخرى. يحاول هذا النموذج أن يحيط بمختلف المتغيرات التي لها علاقة مباشرة بدائرة الشغل في أية منظمة مهما كان نوعها. وفيما يلي قائمة بأهم هذه المتغيرات:

  ارتباط المهام بعضها ببعض.

  درجة الغموض وعدم اليقين المرتبطين بالجانب التكنولوجي في المنظمة.

  وتيرة التغير المحتمل في المجال التكنولوجي.

  درجة التنسيق بين مختلف المهام والمستويات التنظيمية.

 تفويض السلطة ودرجة اللامركزية في علاقتهما بما يتطلبه إنجاز المهام.

  حجم المنظمة ومقدار الإجراءات والعمليات التنظيمية.

  العلاقة بين المنظمة ومحيطها الخارجي

3-1- نظم التحكم والتدبير في محيط يكتنفه الغموض وعدم اليقين

يميز الباحثون، الذين ينظرون إلى المنظمات في ضوء علاقتها بالسياق، بين ثلاثة أنواع من المحيط التنظيمي، وذلك حسب درجة الاستقرار ووتيرة التغير، ودرجة الارتباط بين الدوائر والمجالات التي تندرج في تكوين المحيط، وهي[5] :

§  المحيط "الهادئ العشوائي" placid random ، وهو أكثر أنواع المحيط بساطة.. تكون الوظائف التي تؤديها المنظمات الموجودة فيه منفصلة بعضها عن بعض، لا تربط بينها أية علاقة.

§  المحيط "الهادئ المتجمع"placid clustered  ، وفيه تكون بنية المنظمة من النوع "الميكانيكي" الذي تمثل البيروقراطية الكلاسيكية نموذجها الأمثل.

§  المحيط "المضطرب التفاعلي" disturbed reactive ، وهو أكثر أنواع المحيط تعقيدا، وفيه تكون بنية المنظمة بنية متعددة المراكز، تتمتع فيها مختلف الوحدات التي تتألف منها بدرجة عالية من الاستقلال، وتعتمد على أسلوب التدبير العضوي.

وعلى هذا الأساس يميزون في أساليب التدبير بين نوعين يتلاءم كل واحد منها مع سياق معين. هناك، من جهة، أسلوب التدبير "الميكانيكي"mecanistic type of management ، وهو الأسلوب الذي يتناسب، في نظرهم، مع متطلبات المنظمة التي توجد في السياق الذي يتميز بنوع من الاستقرار والثبات النسبي. وهناك، من جهة أخرى، أسلوب التدبير "العضوي" organic type of management، وهو الأسلوب الأكثر تلاؤما مع متطلبات المنظمة التي توجد في محيط يتميز بالتغير السريع وعدم اليقين[6]. لا يختلف الأسلوب الأول عن الأسلوب البيروقراطي التقليدي الذي يحدد الأدوار بدقة متناهية، ويفرض احترام مبدأ التراتب والتواصل العمودي. وأما أسلوب التدبير العضوي فإنه يشتغل وفقا لمبادئ المنطق الضبابي fuzzy logic ، يحدد الأدوار بطريقة مرنة وفضفاضة، ويركز على التواصل الأفقي، ولامركزية القرار، وتوزيع السلطة.

تدل العديد من الدراسات والبحوث الميدانية على أن المنظمات التي توجد في محيط مضطرب وغير مستقر تميل أكثر إلى استخدام نمط التدبير العضوي، بينما تميل المنظمات التي توجد في محيط هادئ ومستقر نسبيا إلى استخدام نمط التدبير الميكانيكي. نستنتج من ذلك أن استقرار المحيط يساعد على تشكل البنيات البيروقراطية ويدعمها. هذا قانون عام، يمكن صياغته على النحو التالي: كلما كانت درجة استقرار المحيط مرتفعة مالت المنظمات أكثر إلى الأسلوب البيروقراطي في التنظيم ونمط التدبير الميكانيكي. يمكن القول بعبارة أخرى إن الاستقرار ينتج البيروقراطية، أو أن البيروقراطية هي وليدة المحيط الهادئ. مما يدل على مدى أهمية الدور الذي يلعبه المحيط في تحديد البنية التنظيمية. وأما العوامل الأساسية التي تتدخل في تحديدها فهي:

درجة استقرار المحيط

وتيرة التغير في المحيط الخارجي للمنظمة

درجة عدم اليقين

درجة الغموض والالتباس

 مدى الارتباط بين مختلف دوائر المحيط وتداخلها.

يتبين من هذا التحليل أن نموذج الظروف المتغيرة يركز على العلاقة بين طبيعة البنية التنظيمية وأنماط التدبير ودرجة تعقد المحيط. وفي إطار هذه الشبكة من العلاقات، يولي قدرا كبيرا من الأهمية لمسألة العلاقة بين خصائص البنيات التنظيمية وأنواع التكنولوجية المستعملة.

3-2-العلاقة بين خصائص البنية التنظيمية وأنماط التكنولوجيأ المدرسية

يحيل مفهوم التكنولوجيا، كما يتصورها دعاة نموذج الظروف المتغيرة، إلى فكرتين مترابطتين: تتعلق الأولى منها بسير العمل workflow في المنظمة، والثانية بالوعي بالعلاقة بين السبب والنتيجة خلال فترة إنجاز المهام الوظيفية. إن التمييز بين مستوى الفعل ومستوى الوعي كالتمييز بين الهاردوور والسوفتوور في لغة المعلوميات[7]. يرى لورتي Lortie أنه إذا كان من الممكن وصف التيكنولوجيا المدرسية بالمعنى الأول، فإنه من الصعب الحديث عن التكنولوجيا المدرسية بالمعنى الثاني. يرجع السبب في ذلك إلى أن "المعرفة بالتكنولوجيا المدرسية تعاني من ضعف معرفتنا بالسلوك البشري وعدم توفرنا على بيداغوجيا علمية"[8]. ولكنه وجد في تصنيف تومبسن Thompson ما يساعده على تسليط بعض الضوء على التكنولوجيا المدرسية. يميز تومبسن Thompson بين ثلاثة أنواع من التكنولوجيا[9] ، وهي:

§  "التكنولوجيا التي تلعب دور الوسيط"، وهي التي يستعملها الناس لتلبية حاجاتهم، وتعتبر من أكثر أنواع التكنولوجيا بساطة.

§  "تكنولوجيا الارتباط البعيد المدى" long-linked technology ، تاخذ شكل خطة تتجلى من خلال "إنجاز المهام على مراحل وفقا لترتيب معين".

§  "التكنولوكيا الكثيفة" intensive technology ، وهي لا تستند في إنجاز المهام على معيار كوني أو شمولي، بل تركز على ما يتطلبه إنجاز مشروع يراعي خصوصية الفرد.

يرى لورتي Lortie أن التكنولوجيا المدرسية غالبا ما تكون من النوع الثاني، وأحيانا تكون من النوع الثالث. إن النمط التكنولوجي الثاني الذي يقوم على توحيد المعايير والمقاييس، ويحدد مراحل أداء المهام هو النمط التقليدي السائد. ولكن هناك دلائل تشير إلى وجود ميل إلى الانتقال من النمط الثاني إلى النمط الثالث، كاللجوء إلى أساليب التدريس الخاصة ببعض الفئات، وإلى البرامج التي تتلاءم مع حاجات بعض الأفراد دون غيرهم. هناك ضغوط خارجية ومتطلبات داخلية تدعم الميل إلى الانتقال إلى نمط التكنولوجيا الكثيفة. لقد أصبحت المنظمة المدرسية بحكم انفتاحها المتزايد على المحيط أكثر تعقيدا مما كانت عليه في السابق. وفي هذا السياق كان لابد من أن تتراجع التكنولوجيا البعيدة المدى لتفسح المجال للتكنولوجيا الكثيفة التي تراعي الفروق الفردية وتتعامل مع الحالات الخاصة. يمكن القول في ضوء ما سبق، إن ميل المنظمات المدرسية إلى التنظيم ذي البنية العضوية يرافقه الميل إلى استخدام التكنولوجيا الكثيفة. يتجلى ذلك من خلال تزايد الاهتمام بالتدبير العضوي للمؤسسات التعليمية، وابتكار آليات جديدة للتنسيق بين المهام من خلال تبني مبدأ العمل الجماعي، وإنشاء فرق التدريس team teaching ، وتشجيع العمل بروح الفريق.

ينسجم هذا التوجه مع ما يدعو إليه نموذج الظروف المتغيرة. فهو يؤكد على أهمية التواصل بين الفاعلين التربويين باعتباره العامل الأساسي الذي يحدد شكل التنظيم المدرسي، ويدعم برامج تنمية التنظيم في أفق الانتقال من التنظيم الميكانيكي/البيروقراطي إلى التنظيم العضوي. يعرف فرينش French وبيل Bell تنمية التنظيم organzation development بأنها "المجهود المبذول على المدى البعيد لتطوير قدرة المنظمة على حل المشكلات وقدرتها على تجديد آلياتها، وذلك من خلال نشر ثقافة تنظيمية تقوم على أساس مبدأ المشاركة في التدبير "[10]. تهدف حركة تنمية التنظيم المدرسي إلى تشكيل تصور إيجابي لدى المدرسين عن المؤسسة التعليمية باعتبارها نظاما موجها نحو تحقيق هدف ينسجم مع تطلعاتهم المهنية، ورغبتهم في تحقيق الذات، وتحسين نوعية الحياة ونوعية التواصل فيها. مما يدل على أن الهدف الأساسي لهذه الحركة هو الحد من ظواهر الاستلاب في أوساط المدرسين ضمن استراتيجيتها الشاملة لتغيير الثقافة التنظيمية.

تقوم استراتيجية التغيير في إطار حركة تنمية التنظيم المدرسي على الاعتقاد بعدم قابلية النظم التي تتميز بدرجة عالية من التعقيد للتغير بطريقة ميكانيكية تحت تأثير القوى الخارجية أو القرارات الإدارية. إن تفعيل برامج التغيير يتوقف على مدى قدرة القادة على كسب الولاء لجهود الإصلاح، وخلق تجاوب استراتيجي مع التغيير. من خلال توسيع ودعم شبكة التواصل بين مختلف الفاعلين في ميدان التربية والتعليم، وتكثيف عمليات التفاعل البيشخصية.

يبدو، في ضوء التحليل السابق، أن دعاة تنمية التنظيم لا يولون قدرا كبيرا من الأهمية للبنية الشكلية. ولا يتعاملون مع البنية التنظيمية باعتبارها كيانا نهائيا ومسلما به. إن البنية التنظيمية لا تتمتع في نظرهم إلا بوجود مؤقت، لأنها ضاربة الجذور في الواقع الذاتي للأفراد، ترتبط ارتباطا وثيقا بتوجهاتهم. ولذلك يأخذ التدخل لإحداث التغيير شكل عملية من عمليات العلاج النفسي التي تجعل من كسر العلبة السوداء في نظم التواصل الخطوة الأولى في اتجاه التغيير. ويصبح الهدف في هذه الحالة هو بعث روح التعاون في نفوس الأفراد، والقضاء على العزلة والانطواء والانغلاق على النفس. ومن هنا يبرز التقويم باعتباره آلية من الآليات المهمة التي تؤهل الأفراد لقبول التغيير الذي يشمل واقعهم الذاتي (العلاقات البيذاتية، والانفتاح، والرغبة في التعاون الخ..)، وتؤهلهم أيضا لقبول ثقافة الإجماع من خلال نشر المواقف والاتجاهات الإيجابية نحوه. وتجدر الإشارة، بهذا الصدد، إلى أن الإجماع يعتبر من بين الأهداف الأساسية التي تسعى إليها حركة تنمية التنظيم المدرسي.

يتبين مما سبق أن نموذج الظروف المتغيرة يستعمل كوسيلة لإحداث التغيير في المنظمات المدرسية أكثر مما يستعمل كوسيلة للتحليل. وتبين أن استراتيجيته في التغيير تعتمد على بنية تنظيمية ترتكز على مبادئ المشاركة والتعاون التي يفرضها التنوع المتزايد في مدخلات الأنظمة التعليمية، كما تفرضها التغيرات السريعة التي يشهدها المحيط الخارجي. وتعتمد هذه الاستراتيجية في قيادة التغيير على أسلوب التدبير العضوي الذي يشرك مختلف الفاعلين التربويين في عمليات الإشراف ومراقبة سير الأعمال، وفي عملية اتخاذ القرارات. وأما الهدف من هذه الإجراءات كلها فهو الزيادة في فعالية المنظمة المدرسية. وتتجلى درجة الفعالية في معدلات الإهدار، والتغيب، والجنوح، وفي مستوى أداء التلاميذ، ونوعية حصيلة التعلم.

3-3-نتائج بعض البحوث الميدانية  

لعل من أبرز البحوث الميدانية التي أجريت في ضوء نموذج الظروف المتغيرة هي تلك التي سعت إلى اختبار الفرضية التكنولوجية (فرضية العلاقة بين خصائص البنية التنظيمية ومستوى التطور التكنولوجي). ركزت هذه البحوث على ثلاثة عناصر من بين العناصر التكنولوجية الجديدة التي أدرجت في عملية التعليم، وهي: الفضاء المفتوح، فرق التدريس team teaching ، وأساليب التدريس والتعلم التي تتعامل مع الحالات الخاصة، وتأخذ بعين الاعتبار الفروق الفردية. أجريت هذه البحوث في الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا وبريطاني، وأستراليا، ونيوزيلندة، وهي البلدان التي استعملت هذه التكنولوجيا على نطاق واسع في التعليم الابتدائي بالخصوص. لجأت هذه البلدان منذ فترة الستينات من القرن الماضي إلى التصميم المفتوح للبنايات المدرسية (البنيان غير المطوق بالحواجز) لاعتبارات اقتصادية. جاءت تقنية البنيان المفتوح كبديل لتصاميم الحجرات المتمايزة المنغلقة الموروثة عن القرن التاسع عشر، والتي استمر العمل بها طيلة القرن العشرين في معظم البلدان. انتشر استعمال التصميم الجديدة بسرعة في العديد من الدول المتقدمة، وارتفع عدد المدارس ذات البنيان المفتوح لتصل نسبتها إلى أكثر من 50 % في وقت وجيز[11].

ومن بين النتائج الأولية التي توصل إليها الباحثون الذين اهتموا بدراسة تأثير التصميم الجديد في سلوك الفاعلين التربويين وجود علاقة بين متغير البنيان المفتوح وعلاقة التبعية المتبادلة بين المدرسين. عبر كوهن Cohen عن هذه المسألة بقوله إن »العمل في الفضاء المفتوح يضطر المدرسين إلى التعاون فيما بينهم بشكل من الأشكال، كالتعاون مثلا من أجل برمجة الأنشطة الهادئة والأنشطة الصاخبة، واستعمال موارد مشتركة « [12]. إلا أن بعض الدراسات الميدانية التي تناولت مسألة العلاقة بين الفضاء المفتوح والسلوك المتوقع أخفقت في إثبات وجود علاقة ارتباط جوهرية أو علاقة سببية بين المتغيرين، حيث تبين أن »سلوك المدرسين لم يستجب لتوقعات المصممين «[13]. وخلص الباحثون إلى القول إن الفضاء المفتوح ييسر عمليات التفاعل الأكثر تطورا بين المدرسين كالعمل بروح الفريق مثلا، ولكنه لا يضمنها.

والملاحظ أن تطبيق تصميم البنيان المفتوح رافقه العمل بتقنية فريق التدريس Team teaching في المدارس الجديدة. يأخذ العمل بهذه التقنية أشكالا عديدة كالتخطيط الجماعي، والتقييم الجماعي للدروس المنجزة، وعلاقة التبعية المتبادلة بين أعضاء هيئة التدريس. عرف شابلين Shaplin تقنية التدريس بروح الفريق بأنها» شكل من أشكال تنظيم التدريس الذي يشمل المدرسين والتلاميذ الموكولين إليهم، تسند فيه المسؤولية لمدرسين اثنين أو أكثر، يشتغلون معا على أجزاء مهمة من برنامج التدريس الخاص بمجموعة معينة من التلاميذ«  [14] . وعلق تيلر Tyler ،الذي أورد هذا التعريف في المؤلف المشار إليه، بقوله: إذا كان كل أسلوب من أساليب التدريس يستلزم توفر الحد الأدنى من التعاون بين المدرسين، فإن أسلوب فرق التدريس يتطلب نوعا مختلفا من تنظيم العمل، وهو التنظيم الذي يرتكز فيه التنسيق بين المهام على مبدأ التبادلية reciprocity  وعلاقة التماثل symmitrical relatioship بين أعضاء هيئة التدريس. ويرى لورتي Lortie أن وظيفة بنية التنسيق هذه تنسجم مع التكنولوجيا الكثيفة أكثر مما تنسجم مع تكنولوجيا الارتباط البعيد المدى التي تخضع فيها مختلف الإجراءات والعمليات لمنطق التسلسل [15] . وعندما انتشرت المدارس ذات الفضاء المفتوح على نطاق واسع في الدول المتقدمة بدا أسلوب التدريس التقليدي يتراجع بشكل ملحوظ، منذ بداية السبعينات من القرن الماضي، ليحل محله أسلوب التدريس بروح الفريق. انتبه الباحثون إلى هذا التطور، وانكبوا على دراسة العلاقة بين العامل التكنولوجي، وتنظيم العمل، وآليات التدبير في المنظمات المدرسية.

تركز اهتمام الباحثين في مجال التعليم الثانوي في الولايات المتحدة الأمريكية على دراسة العلاقة بين العناصر التكنولوجية والبنية التنظيمية التي تقوم على مبادئ التعاون والمشاركة، والتي ظهرت في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية كاستجابة لتنوع مدخلات الأنظمة التعليمية من جهة، وللتغيرات السريعة التي طالت النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من جهة أخرى. وفي هذا الإطار توصل Derrant Gabarro إلى وجود علاقة ارتباط مهمة بين بنية التدبير العضوي orgganic management structure ، التي تتجلى من خلال تقاسم أدوار المراقبة والإشراف، والعمل بالفرق ذات الوظائف المتداخلة والمتقاطعة، والمشاركة في اتخاذ القرارات، وبين فعالية المنظمة التي تدل عليها مؤشرات الإهدار، والتغيب، والجنوح، الخ. وتوصل روتر Rutter ومجموعته إلى نتائج مماثلة، حيث أكدوا على وجود علاقة جوهرية بين المتغيرات البنيوية والمؤشرات السابقة الذكر. ولعل من بين أهم النتائج التي انتهوا إليها أن التعاون بين المدرسين هو العامل الأكثر تأثيرا في فعالية المنظمات المدرسية. كتب فريق البحث يقول بهذا الصدد: » إن ما يثير الانتباه هو أن المدرس في المدارس الأقل نجاحا غالبا ما يترك وهو يهيأ دروسه ويخطط لعمله وحيدا، ولا يتلقى من زملائه ذوي التجربة الطويلة إلا قدرا قليلا من التوجيه والإشراف. وكذلك تكون درجة التنسيق مع غيره من المدرسين، لضمان التماسك بين الدروس التي يتم تلقينها في مختلف المستويات، ضعيفا جدا « [16] . وتوصلت دراسة أخرى[17] إلى أن تصورات التلاميذ لعمليات التفاعل بين المدرسين تؤثر بشكل قوي في سلوكهم، وتحدد بالتالي مستوى الأداء عندهم.

 وكشفت البحوث التي أجريت في ميدان التعليم الابتدائي عن وجود علاقة بين التنظيم المدرسي وأسلوب العمل بروح الفريق في مجال التدريس.  حيث تبين أن أسلوب التدريس الجديد أدى إلى انتقال مركز الثقل في نظم المراقبة الخاصة ببرامج التدريس من رئيس المؤسسة إلى فرق التدريس، كما أنه أدى إلى التقليل من عزلة المدرسين، وإلى ازدياد درجة الانفتاح والشفافية في عمليات التفاعل بينهم، وارتفاع مستوى رضاهم عن العمل وشعورهم بالاستقلال، وذلك على الرغم من أن العلاقة بين الفضاء المفتوح وعمليات التفاعل بين المدرسين ظلت ضعيفة على العموم. يمكن القول، بصفة عامة، إن تطوير طرق العمل وتكنولوجيا التدريس في المدارس المصممة بشكل مفتوح ساعدت على تنامي الحركة المهنية للمدرسين، والتخلص من سلبيات الهيكل البيروقراطي، وعلى إرساء بنية تنظيمية على أساس مبادئ اللامركزية وتفويض السلطة والمشاركة في اتخاذ القرارات.

تؤيد هذه النتائج أطروحة نموذج الظروف المتغيرة التي تقول إن تنامي التكنولوجيا الكثيفة في ميدان التعليم يرافقه تغير في أنماط التنظيم والتنسيق بين المهام، وفي نظم المراقبة والإشراف على سير العمل. وهكذا، فعندما يجد المدرسون أنفسهم في فضاء مفتوح تكون الظروف قد تهيأت لإزالة الحواجز التي تفصل بعضهم عن بعض، وبعث روح التعاون في نفوسهم، وتنمية القدرة على العمل بروح الفريق. ويكون من نتائج ذلك ازدياد الميل إلى ارتباط المهام بعضها ببعض ارتباطا عضويا. وعندما يحصل الوعي بالارتباط العضوي بين المهام يكون من السهل على المدرس قبول التقويم الجماعي لأنشطة التدريس.[18] . وتجدر الإشارة إلى أن التقويم الجماعي هو آلية من آليات التحكم الأكثر فعالية بالمقارنة مع آليات الضبط والتحكم التقليدية لأنه يفترض الاعتراف بالمسؤولية عن نتائج العمل. إن التقويم الجماعي هو أسلوب التحكم من الداخل في سير العمل. ولذلك يمكن اعتباره العنصر الأساسي الذي يميز أسلوب التدبير العضوي عن أسلوب التدبير البيروقراطي الميكانيكي.  

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



[1]    Conrad,C.(1985). Strategic organizational communication. Culture, situation and adaptation,New York, Chicago, Holt : Rinehart and Winston.

[2] Blake, R. and Mouton, J.S. (1976).  « When scholarship fails.Research suffers », Administrative

   Science Quarterly, no. 21, pp. 93-96.

[3] Conrad, C. (1985). Strategic organizational communication : culture, situation and adaptation, New

  York, Chicago : Rinehart and Winston.

[4] Perrow, C.(1973). Complex organizations : a critical essay  Glenview, Scott, Foresman.

[5] Tyler, W.(1988). School organisation, New York, Croom Helm , p. 69.

 

[6] Clegg, S. And Dunkerley, D.(1980). Organisation, class and control, London, Routledge and Kegan

   Paul

[7]Lortie, D.C.(1977).  « Two anomalies and three perspectives :some observations on school

  organization », in R.G.Corwin and R.A Edelfelt (eds).Perspectives on organization : the school as an

  organization, AACTE/ATE , Washington, DC.

[8] Lortie, D.C. op. cit. p. 35.

[9] Thompson, J.G.(1987).organizations in action, New York, McGraw-Hill.

[10] French,W.L. and Bell, C.H (1973). Organization development : behavioral science interventions for

    organization improvement. New Gersey, Printice Hall, Englwood Ccliffs, p. 13

[11] Bennett, N. and Hayland, T. (1979). « Open plan – open education », British Educational Research

    Journal, vol. 5, pp. 159-166.

[12] Cohen, E.G.(1981). « Sociology looks at team teaching », in A. Kerckhoff and R.G. Corwin (eds).

    Research in sociology and socialization : research in educational organizations, Greenwich, Conn.,

    Jai, Vol. 2, p. 164.

[13] Bennett, N. and Hayland, T. (1979). Op. cit. p. 164.

[14] Tyler, W.(1988). School organisation, op.cit., p. 75-76.

[15] Lortie, D.C.(1975). The schoolteacherM a sociological study, Chicago: University of Chicago Press

[16] Rutter, M , Maugham,B ,Mortimore, P, Ouston, J. and Smith, A.(1979). Fifteen thousand hours :

    secondary schools and their effect on children, London, Open Books, p. 136.

[17] َAinley, J. Reed, R. and Miller, H.(1987).School organization and the quality of schooling : a study of     Victorian government scondary schools. ACER, Research Monograph, no 29, Melbourne.

[18] Cohen, E.G.(1981). « Sociology looks at team teaching »,  op. cit.

Partager cet article
Repost0
23 mai 2011 1 23 /05 /mai /2011 20:38

الدورالقيادي في الأنظمة التعليمية أمام تحديات التكيف

 

أحمد أغبال

مع انتقال العالم من عصر الآلة إلى عصر المعلومات والعولمة، ودخوله مرحلة التغيرات السريعة وجدت الأنظمة التعليمة نفسهاث تغيير جذري في بيتها، وآليات اشتغالها، وفلسفتها وبرامجها من أجل التكيف مع البيئة الجديدة. وتأتي القيادة في مقدمة العناصر التنظيمية التي يجب أن يشملها التغيير الذي تفرضه التحديات البيئية. ذلك لأن تنفيذ برامج الإصلاح والتغيير يتطلب البدء بإرساء آلية للتحكم في عملية التغيير وقيادتها وتوجيهيا. ولما كانت ألأنماط القيادية التقليدية التي تبلورت في مراحل الاستقرار البيئي غير مؤهلة لقيادة التغيير بات من اللازم إعادة تحديد أهم خصائص القيادة لجعلها قادرة على مواجهة تحديات التكيف من خلال اكتساب القدرة على إعداد الموارد البشرية ل مضطرة لإحدااستقبالها والتعامل معها واستيعابها.

يهدف هذا العرض إلى بيان أهمية الدور القيادي في مرحلة التغيرات السريعة التي يشهدها العالم، وتحديد الموضوعات التي يجب أن تتركز عليها البحوث المستقبلية في هذا المجال. ولتحقيق هذا الهدف سنحاول في البداية التعرف على طبيعة التغير واتجاهه من أجل استنباط الاستراتيجيات القيادية الممكنة لمواجهة تحديات التكيف.

1- مفهوم التغير

انشغل علماء الاجتماع الأوائل وفلاسفة القرن التاسع عشر (هيجل، ماركس، كونت، الخ) بسيرورة المجتمعات والتنبؤ باتجاه التاريخ. وأما اليوم، فقد أصبح طموح العلماء متواضعا للغاية، إذ لم يعد أحد منهم يهتم بقضايا التغير الاجتماعي على المدى البعيد. لقد أصبح التحليل السوسيولوجي لدينامية المجتمع محصورا في الكشف عن منطق التغير في نظم التفاعل التي يمكن للباحث أن يحيط بها في حدود الإمكانيات المتوفرة له. وأما المنهجية المعتمدة فإنها ترتكز على مصادرة أساسية مفادها أن فهم التغير الاجتماعي يستلزم الرجوع إلى العناصر الأولى التي يتألف منها نظام التفاعل (الفاعلون الاجتماعيون). ويكون الهدف هو صياغة نموذج نظري لتفسير كيفية حدوث التغير في مجال معين من مجالات النشاط الاجتماعي. ومن أمثلة ذلك النموذج الذي صاغه عالم الاجتماع السويدي هاغرستراند Hagerstrand في دراسته للتغير الحاصل في نظام الإنتاج الزراعي على إثر إدخال تقنية جديدة وإشاعتها بين المزارعين. تتبع الباحث الكيفية التي انتشرت بها التقنية الجديدة، واختزلها في نموذج يرتكز على المبادئ التالية(أنظر بهذا الصدد:  Boudon 1997, pp. 167-168) :

  • انطلق مسلسل التغيير عندما استعمل أحد المزارعين التقنية الجديدة؛
  • يجتمع الفاعلون الاجتماعيون (المزارعون) في لقاءات ثنائية؛
  • للفاعلين استعدادات متباينة لقبول التقنية الجديدة، تتوزع بطريقة يفترض أن يكون الباحث على علم بها؛
  • يزداد احتمال ميل الفاعلين إلى قبول التقنية الجديدة كلما ازداد عدد اللقاءات التي يمارس فيها نوع من التأثير الإيجابي؛ 
  • تختلف درجة احتمال حصول اللقاء بين الأفراد، وتتحدد بالمسافة التي تفصل بعضهم عن البعض الآخر والتي يفترض أن يكون الباحث على علم بمقاديرها.

تصف هذه المصادرات سلوك الفاعلين الاجتماعيين على المستوى الميكروسكوبي، وتكمن أهميتها في كونها تساعد الباحث على استنباط منطق التغير في نظم التفاعل المخصوصة، وتعطينا فكرة عن التحليل السوسيولوجي المعاصر لعملية التغير الاجتماعي. يخضع هذا التحليل للمبادئ التالية :

  • تحليل الظواهر التي تقع على مستوى نظام التفاعل في مجال معين؛
  • يتم التعامل مع الظواهر الناشئة باعتبارها ظواهر مترتبة عن سلوك الفاعلين في النظام؛
  • ولكن الظواهر الملاحظة على مستوى النظام الكلي لا علاقة لها بإرادة الفاعلين ومقاصدهم. لذلك يمكن القول عنها بأنها ظواهر ناشئة (عن التفاعل)؛
  • يأخذ سلوك الأفراد شكل فعل موجه ضمنيا نحو غاية معينة؛
  • يندرج هذا الفعل ضمن ما يسمى بنظرية الفعل المعقد.

يفترض في ضوء هذا التحليل أن تكون للفرد قصدية. فهو يجد نفسه أمام اختيار الأخذ بالتقنية الجديدة أو عدم الأخذ بها، وعليه أن يتخذ القرار المناسب. يختلف هذا القرار عن القرار العقلاني الذي يتخذه الشخص المستنير الذي يضرب لكل شيء حسابا. إن الفرد في سياق هذا التحليل ليس متيقنا من أنه سيجني ربحا من التقنية الجديدة. ولذلك يتخذ القرار في ضوء التفاعل مع الآخرين. فبما أنه لا يستطيع أن يبني قراره على أساس موضوعي، يلجأ إلى التشاور مع من يثق بهم من الفاعلين الاجتماعيين. هذا مع العلم أن الأفراد يتحركون في وضعيات تختلف فيها المتغيرات التي تؤثر في تقديراتهم لتكاليف التقنية الجديدة وعوائدها. وكذلك تختلف الاستراتيجيات المعتمدة للحصول على المعلومات الضرورية لاتخاذ القرار المناسب. وتعتبر الثقة والاستشارة إحدى هذه الاستراتيجيات. ولكن هذه الاستراتيجية لا تعصم من الوقوع في الخطأ. فقد تفضي الاستشارة إلى نتائج متناقضة، وقد تتعارض مع التقاليد الموروثة التي تتمتع بقوة الإقناع بسبب قدرتها على الاستمرار والثبات والصمود في وجه التقلبات الظرفية لأمد بعيد (Boudon, 1997).

من وراء هذا التحليل تتراءى الصورة المعقدة للفاعل الاجتماعي. تتداخل في تكوين هذه الصورة عناصر ذاتية(الوعي والإرادة والقصدية) ومتغيرات الوضعية التي تخرج عن سيطرة الفرد. ولذلك تنشأ الظواهر الجمعية عن التفاعل بين الأفراد. حيث يجد الفرد نفسه مضطرا إلى التفاعل مع غيره. وعن هذا التفاعل تنشأ الظواهر التي تتجاوز الأفراد. يمكن القول بناء على ذلك إن فهم سلوك الفاعل الاجتماعي يستلزم اللجوء إلى نظرية للفعل تأخذ بعين الاعتبار الطبيعة المعقدة لهذا الفعل الذي يختلف عن السلوك العقلاني للنموذج المثالي للفاعل الاقتصادي homo_oeconomicus. إن الفعل الاقتصادي يميل على العموم إلى أن يكون فعلا عقلانيا. وأما سلوك الفاعل الاجتماعي فإنه غالبا ما تتداخل فيه العناصر العقلانية مع العناصر غير العقلانية. فقد يكون هذا الفعل عقلانيا على المدى القريب، وغير عقلاني على المدى البعيد، وقد تترتب عنه نتائج عكسية غير متوقعه.

نخلص من ذلك كله إلى القول إن آليات التغير في نظم التفاعل تقع على مستوى العلاقات البيشخصية. وبالتالي فإن إحداث التغيير في نظام معين، كنظام التعليم مثلا، يتطلب إرساء آليات للتأثير الشخصي. وتعتبر القيادة إحدى أبرز هذه الآليات. لا يحدث التغيير في نظم التفاعل بمجرد أن توضع التصاميم والخطط العقلانية ويعمد إلى تنفيذها بالاعتماد على الوسائل التقنية وحدها. ذلك لأن هذه النظم غالبا ما يمتزج فيها العقلاني باللاعقلاني. وعندما يتم التركيز على الجانب العقلاني، من غير أن يأخذ البعد العاطفي-الوجداني بعين الاعتبار، تظهر المقاومة، وتتصلب المواقف والاتجاهات السلبية نحو الإصلاح والتغيير.

1-1- مقاومة التغيير

هناك تصور شائع عن المدرسين بأنهم قوة محافظة تقاوم التغيير. والمقصود بالمقاومة رفض الانخراط في مسلسل التغيير. تولد المقاومة ردود فعل لدى دعاة الإصلاح والتغيير تتمثل في اتهام المدرسين بالتقاعس، والتكاسل، والاسترخاء، والتعلل، وفقدان القدرة على الإبداع والتجديد، وانعدام النظرة الواقعية إلى الأمور. ويتهمهم المدرسون من جهتهم بالسلطوية، والتعالي، والانفراد بالقرار. وهكذا يحتد الصراع بين الطرفين، ويتعثر الإصلاح. ولذلك كان من المفيد التعرف على الأسباب الكامنة خلف مقاومة التغيير.

يرى واطسون (Watson, 1969) أن» كل القوى التي تساهم في المحافظة على الثبات في الشخصية أو في النظام الاجتماعي تعتبر من جملة القوى التي تقاوم التغيير... إن الميل إلى الإنجاز وتحقيق الأهداف، والميل إلى المحافظة على الوجود، والعودة إلى التوازن هي ميول محبذة، لأنها تمكن من استمرار الهوية ، والأفعال السديدة، والحضارة والثقافة  « (ص 488). إن المقاومة، من وجهة النظر هذه، هي مقاومة للتغير في حد ذاته من أجل الحفاظ على التوازن. إن الخوف من فقدان التوازن هو سبب المقاومة العميق. ولذلك كان التغيير في نظر واطسون شيئا غير مرغوب فيه أصلا.

وعلى العكس من ذلك، يرى افريد (Fried, 1980) أن التغيير ليس ممكنا فحسب، ولكنه مطلوب وضروري أيضا، لأنه ينعش تجاربنا العاطفية-الوجدانية والمعرفية، ويثير خيالنا، ويمدنا بالطاقة التي تحرك تجاربنا الشعورية للخروج من الرتابة. »إن غياب التغيير، في نظره، يجعلنا نشعر وكأننا نموت موتا بطيئا« ( ص 15-16).

وهنا يطرح السؤال: هل يقاوم الناس التغيير أم يطلبونه ؟ وهل هناك إمكانية التوفيق بين الموقفين ؟ بإمكاننا أن نصل إلى حل معقول للإشكالية المطروحة إذا نحن قمنا بإعادة تحديدها باعتبارها مسألة تنطوي على مفارقة لا على تناقض. يبدو في ضوء هذا التحديد أن الناس يسلكون وفقا لهذا الموقف أو ذاك حسب ما تمليه عليهم الملابسات الظرفية. فقد يسعون إلى التغيير بعزم شديد، وقد يقاومونه بقوة. وربما تزامنت الرغبة في التغيير مع مشاعر القلق والإحجام.

فإذا كان المدرسون يقاومون التغيير في حد ذاته، مثلهم في ذلك مثل أية فئة اجتماعية أخرى، فإنهم يقاومونه أيضا تجنبا للخسارة المتوقعة التي قد يتسبب فيها. والواقع أنه غالبا ما تكون المقاومة مجرد رد فعل ضد الخسارة المتوقعة. ذلك لأن دعاة التغيير يطالبون المدرسين بالإقلاع عن عاداتهم وأساليبهم المعهودة في العمل، وتغيير أدوارهم وتصوراتهم لقضايا التربية والتعليم التي تنسجم مع تمثلهم القيم المهنية. وإذا كانوا يعترفون بأهمية وجدوى الأساليب الجديدة، فإن ما لا يستسيغونه هو أن يتم إدراجهم في قائمة الأشياء المستهدفة في استراتيجية التغيير. يدل ذلك على أن معايير العمل لا تنسجم دائما مع التجارب الشعورية للأفراد. وبسبب وجود الفجوة بين المعايير والتجارب الشعورية يميل الأفراد إلى التكتم على مشاعرهم. فقد يظهر الفرد ولاءه للمهنة في الوقت الذي يعيش فيه تجربة شعورية خاصة لا تنسجم في توجهاتها مع معايير العمل، وتتحول هذه المعايير، وربما القيم المهنية كلها، إلى قوة تكبت التجارب الشعورية، فيمسك الفرد عن التعبير عن مشاعره، ويتعذر التواصل بينه وبين غيره. وهكذا يتحول البعد العقلاني في نظام التفاعل إلى قوة خفية تعيق مجهود الإصلاح والتغيير. وأما محرك هذه العملية فهو الخوف من الخسارة المتوقعة التي تهدد الاعتبار الذاتي للفرد وصورته عن ذاته.

والواقع أن التغيير قد يجلب الفوائد مثلما يجلب الخسارة. ولا يهمنا هنا ما إذا كان مفيدا بالنسبة لفئة معينة ومضرا بمصالح فئة أخرى طالما اقتصر الحديث على أفراد فئة متجانسة، وهي فئة المدرسين. ومع أن التغيير يحمل في طياته الإيجابي والسلبي، فإن دعاة الإصلاح لا يبشرون إلا بالربح، وهو ما من شأنه أن يولد مشاعر الحذر في نفوس المدرسين الذين قد لا يرون فيه إلا الخسارة. وأما الخسارة التي ترعب المدرسين فهي، في نفس الوقت، خسارة واقعية ومتخيلة. ينطبق هذا الحكم على الربح المتوقع أيضا. ولا يمكن الحسم فيما إذا كانت هذه الأمور واقعية أو خيالية ما لم ينخرط المدرسون في تجربة التغيير. إن تصورهم للخسارة لا يستند، في الواقع، إلى أي معيار موضوعي لتقدير حجمها وآثارها السلبية على الحياة المهنية والشخصية. فمن خلال معايشة التجربة يستطيعون تحديد قيمة الخسارة بالمقارنة مع قيمة العوائد الإيجابية. وربما بدت لهم أقل بكثير مما كانوا يتوقعون. ويدركون بالتالي أن مخاوفهم، وإن كانت مبررة، فإنها كانت تتجاوز الحدود المعقولة.

إن ما يجب على دعاة التغيير أن ينتبهوا إليه هو أن توقع الخسارة، وما يرتبط بها من مشاعر الخوف، هو من التجارب الشعورية التي يجب تفهمها. إننا نخاف أن نفقد ما ينبني عليه توازننا واعتبارنا الذاتي. إن فقدان شيء عزيز علينا يولد في نفوسنا مشاعر الأسى، والحزن، والكرب، والغيظ، والإثم، والخزي، والعار. ومما يترتب عن هذه المشاعر الميل إلى جلد الذات وجلد الغير. ومن ثمة ينشأ الميل إلى الشكوى. وسرعان ما تتحول الشكوى إلى اتهام غير معقلن، ثم يتحول الاتهام إلى نقد معقلن في محاولة لإعادة التوازن إلى الذات. النقد، في هذه الحالة، وسيلة لإثبات الوجود واستعادة الاعتبار الذاتي. إن مشاعر الحزن والأسى جراح عميقة، والنقد بهذا المعنى بلسم لمداواتها، إنه جزء لا يتجزأ من التجارب الشعورية المرتبطة بعملية التغيير. ولذلك يجب تفهم هذا النقد، وإقامة قنوات للتواصل مع الفاعلين التربويين المتخوفين من التغيير. وهو ما يتطلب وضع استراتيجية واضحة للتواصل يكون هدفها هو حصر المخاوف ضمن حدود معقولة. يمكن تحقيق هذا الهدف من خلال إقامة حوار مفتوح تتاح فيه الفرص للأفراد للتعبير عن انشغالاتهم ومخاوفهم من خلال إثارة النقاش حول حسابات الربح والخسارة.

والملاحظ أن استراتيجيات التواصل التي يضعها المسئولون في الأنظمة التعليمية، باعتبارها جزءا من آلية تدبير الإصلاح، غالبا ما يكون هدفها هو التوعية بقضايا الإصلاح الذي يتعاملون معه بشكل مجرد دون التعرض لامتداداته على مستوى التجارب الشعورية للفاعلين التربويين المعنيين بالإصلاح. هكذا نجد المسئولين في النظام التعليمي المغربي، مثلا، ينظمون الحملات "التحسيسية" التي أطلقوا عليها اسم "منتديات الإصلاح" ليجعلوا منها مناسبة لإلقاء خطب لا تخلوا من النرجسية، تناقلها مختلف وسائل الإعلام، ومع ذلك لم تصل أصداؤها إلا إلى فئة قليلة من الفاعلين التربويين. نظمت هذه المنتديات وفقا لبرنامج أعد سلفا في الإدارة المركزية، يهدف إلى "التذكير" بأهداف الإصلاح، و"التعريف بالإنجازات"، وكذا "التعريف بآفاق النظام التعليمي"، الخ، حسب ما ورد في وثيقة نشرتها وزارة التربية الوطنية والشباب. وعندما يرد الحديث عن العوائق يكتفي الخطاب الرسمي المتداول في إطار استراتيجية التواصل البيروقراطية باستعراض بعض الإكراهات الموضوعية كالنقص في الموارد المالية والبشرية وفي البنية التحتية والتجهيزات وغير ذلك من المعيقات التي لا علاقة لها بشكل مباشر بنظم التفاعل في المؤسسات التعليمية. ويكتفي الخطاب الرسمي بالتعبير عن الأسف من »  تأخر إدماج الفاعلين التربويين والشركاء الاجتماعيين في المساهمة في تفعيل مقتضيات الإصلاح وتحقيق أهدافه « و »تردد مشاركة بعض الأطراف والفاعلين التربويين، ممن يمتلكون مهارات وكفاءات تربوية قيمة«    [1]. يتجلى ذلك أيضا من خلال ما عبرت عنه اللجنة الخاصة بالتربية والتكوين حين لاحظت  »أن العناية الخاصة التي حظيت بها الأوضاع المادية والاجتماعية لأسرة التعليم لم يرافقها انخراط قوي لأعضائها في تفعيل جوانب الإصلاح المرتبطة بمهامهم «   [2]. إنه الشعور بالخيبة.

ومن هنا يطرح السؤال: كيف يمكن قيادة التغيير من اجل إقناع المترددين وتبديد مخاوفهم ؟ يتعلق الأمر هنا بمسألة تدبير الموارد البشرية في المنظمات التعليمية خلال مراحل الإصلاح والتغيير. وتجدر الإشارة بهذا الصدد إلى أنه لا يوجد نوع واحد من التغيير (أنظر على سبيل المثال: (Rechard and Prichard, 1992 ;Nadler and Tushman, 1995 ; Quinn, 1996 ; Boudon, 1997). والملاحظ أن المنظمات التعليمية عبر العالم تميل إلى هذا النوع  أو ذاك من أنواع التغيير. ويترتب عن ذلك ميلها إلى استخدام هذا النوع أو ذاك من أساليب التدبير التي تتناسب مع متطلبات التغيير المراد إحداثه. فقد تكون خطط التغيير من نوع الخطط القريبة المدى أو من نوع الخطط البعيدة المدى. كما أنها قد تختلف من حيث درجة العمق والاستمرارية أو القطيعة مع الماضي. وكذلك تشتد المقاومة أو تخف حسب نوع التغير المراد إحداثه. وقبل ان تطرق لمسألة قيادة التغيير سوف نستعرض في البداية أواع التغيير.

1-2- أنواع التغيير

يميز الباحثون في هذا الإطار بين نوعين أساسين من التغير: التغير التدريجي incremental change  والتغير العميق deep change. يتحقق النوع الأول وفقا لاستراتيجية متسلسلة الخطوات، كل خطوة فيها هي عبارة عن تعديل محدود يدعم الخطوة السابقة ويكملها، حيث يفترض أن يؤدي كل تعديل جديد إلى تحسين أداء المنظمة بشكل تدريجي. يرى روبرت كوين أن هذا النوع من التغيير »غالبا ما يكون محدود المدى، قابلا للارتداد... وناذرا ما يتسبب في اضطراب الأنماط المعهودة، فهو امتداد للماضي«  (Quinn, 1996, p.3). يمكن القول بعبارة أخرى إنه تغير طبيعي، أو لنقل إنه جزء من آلية اشتغال المنظمة، لأنه يساعدها على الاشتغال بطريقة هادئة وفعالة. ومن التعديلات التي يمكن إحداثها فيما يتعلق بآلية اشتغال المنظمات المدرسية يمكن أن نذكر على سبيل المثال ابتكار طرق جديدة للدفع بآباء التلاميذ إلى الاهتمام أكثر بدراسة أبنائهم، وتحسين عمليات التفاعل بين المدرسين، وتقوية روح التعاون بينهم، ومساعدتهم على الحصول على معلومات وافية عن التلاميذ لتحسين عملية التفاعل معهم. يتحقق ذلك من خلال تنظيم ندوات تجمع المدرسين من مختلف التخصصات يكون هدفها بلورة تصور مشترك حول مختلف القضايا المرتبطة بعمليات التعليم والتعلم. إن التعديلات التي يتم إحداثها على مستوى عمليات التفاعل لا تؤدي إلى حدوث نقلة جوهرية في طريقة اشتغال المنظمة المدرسية، وإن كانت تساعد على تحسين أدائها نسبيا. يشمل التغيير المتدرج الحلول "الترقيعية" التي تستهدف  »رفع درجة التلاؤم والانسجام بين مختلف العناصر التي تتكون منها المنظمة «  (Nadler and Tushman, 1995, p. 22).

ومع أن التغيير المتدرج يؤثر بشكل من الأشكال في العلاقات وعمليات التفاعل بين الأفراد إلا أنه يختلف اختلافا جوهريا عن التغيير العميق الذي يحدث قطيعة مع الماضي. ذلك لأن التغيير العميق يحدث نقلة جوهرية في طريقة اشتغال المنظمة من خلال تغيير هويتها أو نظامها. إنه تغيير عسير وصعب، لآن تكاليفه بالنسبة للأفراد تكون باهظة للغاية. يقول روبرت كوين بهذا الصدد:  »يختلف التغيير العميق عن التغيير المتدرج من حيث انه يستلزم طرقا جديدة في التفكير والسلوك. فهو يشمل مجالا واسعا، ويحدث قطيعة مع الماضي، وليس قابلا للارتداد. إن المجهود المبذول لإحداث التغيير العميق يلحق الأذى بأنماط الفعل المعهودة، ويتطلب المجازفة وقبول المخاطر «  (Quinn, 1996,p. 3).

ذلك لأن برامج التغيير العميق تنفذ وفقا لمقاربة تقوم على معايير جديدة، وتستهدف إعادة هيكلة النظام التعليمي بناء على مصادرات ومبادئ جديدة. ومما يترتب عن تطبيق هذه المقاربة تغيير المنهاج وطرق العمل، وإعادة توزيع الموارد، وخلق نظام لجمع ومعالجة البيانات، إلى غير ذلك من الإجراءات التي تحدث قطيعة مع النظام السابق، والتي تؤدي إلى تغيير أنماط التفكير والسلوك لدى الفاعلين التربويين. حيث يجد المدرسون أنفسهم مضطرين لتغيير أساليبهم في التدريس والتقويم، ويجد التلاميذ أنفسهم في وضعية تغيرت فيها طبيعة العمل المدرسي والمهارات المطلوبة، ونوعية الأداء المرغوب فيه، ومقدار المسئولية الملقاة على عاتقهم. ويضطر الآباء، من جهتهم، إلى التكيف مع الوضعية الدراسية الجديدة لأبنائهم. تستدعي المقاربة الجديدة إعادة النظر في علاقة المدرسة بمحيطها، ونشر الوعي لدى أفراد المجتمع المحلي بالتغير الحاصل في طريقة اشتغال المؤسسات التعليمية لجعلهم أكثر قابلية لفهم آثار التغيير على أبنائهم، ومعرفة ما يتوقع منهم القيام به إزاءهم في ضوء متطلبات التغيير. وهكذا يتسع مجال التغيير ليشمل الأبعاد الداخلية والخارجية للعملية التعليمية-التعلمية.

والملاحظ أن الناس لا يرغبون دائما في التغيير الجذري العميق. ولكن قانون التكيف يفرض هذا النوع من التغيير. لقد أدت الثورات التيكنولوجية المعاصرة إلى إحداث تغير جذري في المحيط الخارجي للمنظمات المدرسية. يتجلى ذلك بالخصوص في التغيير الحاصل في بنية سوق الشغل وفي البنية الاقتصادية على العموم. حيث أصبحت عروض العمل الروتيني، الذي يتطلب إنجازه مهارات معرفية بسيطة، في تناقص مستمر. وفي المقابل ازداد الطلب على القوى النشيطة ذات المهارات المعرفية العالية، البالغة التعقيد. ولذلك لزم أن تعمل الأنظمة التعليمية على مواكبة هذه التحولات، وأن تجعل من القدرات المعرفية العالية والكفاءات التي ازداد عليها الطلب هدفها الأساسي. ومن هنا ظهرت الحاجة إلى تغيير المنهاج والبرامج، وأساليب التدبير والتدريس والتعلم، ونظم التقويم. لقد أصبحت الحاجة إلى التكيف مع الظروف المتقلبة تستلزم تغيير الباراديغم التربوي. والمفصود بذلك تغيير المصادرات، والأهداف، وأنماط السلوك والتدبير والتنظيم، ومجالات التركيز الاستراتيجية. إن التغير الحاصل على مستوى بنية المحيط الخارجي يستلزم إحداث تغيير بنيوي عميق في المنظمات المدرسية لتتمكن من تحقيق وظيفة التكيف الخارجي من أجل الحفاظ على البقاء. والحقيقة أن هذا النوع من التغيير عسير ومؤلم. إن تحديات التكيف، كما يقول هايفز ولوري  »هي مشكلات شمولية ليست لها حلول جاهزة «  .(Heifetz and Laurie, 1997, p. 124) إن معالجة هذه المشكلات تحتاج إلى وضع معايير تنظيمية جديدة، وإرساء نظم للدعم من أجل إحداث التغير المطلوب والتحكم فيه. إن التغير الحاصل في المحيط يستدعي بالضرورة إحداث تغيير مناسب على مستوى منظومة القيم والمعتقدات التي تقوم عليها تصوراتنا للتعليم والتعلم. والمقصود بذلك تغيير الثقافة التنظيمية والثقافة المدرسية تغييرا جذريا. ولا يتحقق ذلك إلا من خلال إرساء آليات جديدة لقيادة التغيير.

2- الدور القيادي

إن تحديات التكيف تستدعي ابتكار طرق جديدة لمعالجة المشكلات المطروحة في عالم يتميز بالتغيرات السريعة وعدم اليقين والغموض. ويعتبر مجال القيادة هو المجال الأول الذي يحتاج إلى طرق جديدة للتعامل مع المشكلات. ومعنى ذلك أنه يجب البدء بتغيير نمط القيادة نظرا لأهمية الدور القيادي في المنظمات المدرسية وغيرها من المنظمات الأخرى. إن مساعدة المنظمة المدرسية على التكيف الخارجي في عالم متقلب، تتوقف على مدى قدرة القيادات على اكتساب مهارات وقدرات جديدة تؤهلهم لاستيعاب التحديات البيئية والتعامل معها بشكل واقعي في ضوء متطلبات الدور القيادي، لما له من تأثير عميق وبعيد المدى في مجال الأداء الوظيفي للمنظمات. وقبل التطرق للقضايا المتعلقة بقيادة التغيير، نود في البداية التعرف على الأدوار المتوقعة لقيادات المنظمات في مواجهتها للتحديات البيئية.

2-1- القيادة التقليدية

لقد اعتاد الناس على الربط بين القيادة والسلطة الشكلية. وأفرز هذا التصور الأحادي الجانب أسطورة القائد-البطل، وذلك على الرغم من أن السلطة الشكلية لا تؤهل الفرد بالضرورة إلى اكتساب القدرة على التأثير. ومع افتراض وجود قائد يجمع بين السلطة الشكلية والسلطة الكاريزمية فإنه من المستبعد أن يحرك عملية التغيير ويتحكم فيها بمفرده في عصر لم يعد فيه مكان لفكرة البطولة. ولذلك دعا العديد من الباحثين إلى ضرورة التخلي عن فكرة القائد-البطل والأخذ بنظرة القيادة ذات القاعدة العريضة، على اعتبار أن هذا النمط القيادي جزء لا يتجزأ من آلية التحكم في عملية التغيير في المنظمات المدرسية بالخصوص.

تنسجم فكرة القائد-البطل أو نظرية الرجل العظيم مع نظرية السمات التي تربط القيادة بشخصية القائد. ترتبط القيادة، من وجهة النظر هذه، ببعض السمات الفطرية التي تتحول في ظروف معينة إلى مهارات قيادية. ومن هذه السمات الذكاء، وروح المبادرة، والبادرة، والحزم، والطموح، وقوة الإرادة، والاتزان الانفعالي، والثقة بالنفس، والميل إلى المخالطة الاجتماعية والمشاركة الوجدانية، على غير ذلك من السمات التي يمكن اختزالها في مفهوم النضج الشخصي. وأما المهارات التي يتعين على القائد اكتسابها فهي :

 

  • القدرة على اتخاذ القرارات وإصدار الأوامر؛
  • القدرة على إدارة الاجتماعات وتنظيم النقاش وتوجيهه؛
  • القدرة على الإقناع والتأثير، وتتطلب نوعا من الذكاء الاجتماعي، والاتزان الانفعالي، وضبط النفس، والقدرة على تفهم مشاعر الأفراد مع الحزم عند الضرورة؛
  • القدرة على حل المشكلات، وتتطلب توفر القائد على قدر مهم من الذكاء؛
  • القدرة على تنظيم المهام، وإدارة العمل، وتحديد الأهداف وتوجيه الجهود نحو تحقيقها؛
  • القدرة على التنبؤ بالمشكلات قبل وقوعها والعمل على تفاديها؛
  • الاستعداد للقاء أفراد المجموعة متى رغبوا في ذلك، ومناقشة ما يطرحونه من القضايا التي تشغل بالهم.

وأما الدوافع التي تحرك هذا النوع من النشاط القيادي فهي الرغبة في إثبات الذات، ونيل تقدير الجماعة، إلى جانب الرغبة في تحقيق أهداف المجموعة والرغبة في الارتقاء عبر مراتب السلطة.

ولقد أدت المغالاة في تقدير أهمية السمات الفطرية في بروز الدور القيادي لبعض الأفراد إلى تشكل الصورة المثالية للقيادة، والبحث، في ضوء هذه الصورة، عن الأشخاص الموهوبين، أولئك الأبطال الذين يتوقع منهم أن ينقذوا الناس، ويقودونهم نحو الخلاص. وعندما يرحل البطل، تعود الأوضاع إلى سابق عهدها، ويحصل الارتباك والاضطراب في حياة المجموعة إلى حين عودة "المهدي المنتظر". تتغذى هذه النظرة الرومانسية إلى القيادة من الثقافة السائدة الضاربة الجذور في وجدان الفرد والجماعة.

لا بد من إحداث قطيعة مع هذا التصور الرومانسي الذي لم يعد يتلاءم مع متطلبات الاستجابة للتحديات البيئية. يقول هايفتز ولوري (Heifetz and Laurie, 1997, p. 124) :

 » لإحداث التغيير، يتعين على هيئة الإدارة أن تضع حدا لنمطها السلوكي المعهود، وذلك بأن تطرح فكرة القيادة في شكل حلول. ومع أن هذا التوجه طبيعي للغاية... فإن موقع المسئولية، فيما يتعلق بحل المشكلات المرتبطة بتحديات التكيف التي تواجه الشركات، يجب أن ينتقل إلى مجموعات العمل. إن الحلول المتعلقة بتحديات التكيف لا تنبثق عن الطاقم الإداري وحده، بل عن الذكاء الجماعي للموظفين في جميع المستويات، والذين هم في حاجة إلى أن يكون كل واحد منهم موردا بالنسبة لغيره مهما كان موقعه، يتعلم منه طريقته في الوصول إلى الحلول « 

وخلاصة القول، إن إرادة التغيير، عندما تقتصر على شخص واحد أو عدد قليل من الأشخاص، يزداد احتمال الاصطدام بينها وبين إرادة العاملين في المنظمة للحفاظ على أنماطهم السلوكية وعاداتهم في العمل.

2-2- القيادة في عصر التحولات السريعة

لقد اعتادت القيادات الإدارية في مجتمعنا لفترة طويلة على ممارسة وظائفها في بيئة هادئة نسبيا. ومع تزايد وتيرة التغير في المحيط الخارجي للمنظمات المدرسية، مالت الكفاءة الإدارية للقيادات إلى الانخفاض. هذا بالإضافة إلى أن القيادات الإدارية لم يكونوا قد استشعروا الحاجة من قبل إلى اكتساب وتطوير المهارات والقدرات الضرورية لقيادة التغيير. وظلوا يمارسون أدوارهم الإدارية في نطاق محدود (تنفيذ المذكرات والتعليمات، برمجة الأعمال، مراقبة سير العمل، الخ)، ولا يتقاسمون أدوارهم مع غيرهم. وشاع نمط القيادة الفردي

ومع دخول العالم مرحلة التغيرات السريعة، ظهرت الحاجة إلى دمقرطة القيادة. ومعنى ذلك انه لا ينبغي أن تظل المهارات القيادية حكرا على القيادات الإدارية وحدها، بل يجب إشاعتها بين الفاعلين التربويين (المدرسون، التلاميذ، الآباء...). ذلك لأن تحديات التكيف تفرض على الجميع الانخراط في مسلسل الإصلاح والتغيير. ولا يتأتى ذلك إلا من خلال تجاوز نمط القيادة الفردي، وتوسيع تصورنا للقيادة ليشمل الفاعلين الذين يحتلون مختلف المواقع في المنظمة. لآن التغيير لا يتحقق بمجرد إصدار المذكرات والتعليمات، ولأنه عملية معقدة تشمل العديد من عناصر النظام التعليمي التي لا يمكن للقيادة الفردية أن تستوعبها مهما كانت عظمة القائد.

 

يرى نادلر وتوشمان (Nadler and Tushman, 1995) أن المهارات القيادية المطلوبة لمواجهة التحديات البيئية وتيسير عملية التغيير الجذري في مختلف أنواع المنظمات تختلف اختلافا جوهريا عن المهارات المستعملة لقيادة التغيير التدريجي. هذا مع العلم أن النمط القيادي للمنظمات المدرسية له خصوصيته التي تميزه عن الأنماط المعمول بها في غيرها من المنظمات الأخرى كالمنظمة العسكرية، والصناعية، الخ. ذلك لأن »  كل ما يحدث في المؤسسة التعليمية يكتسي دلالات أخلاقية قد لا تتناسب في الواقع مع طبيعة المؤسسات الأخرى في مجتمعنا «  (Sergiovanni, 1996). ومع ذلك، يقول سرجيوفاني ظل الباحثون في حقول التربية والتعليم يستعيرون أفكارهم من نظريات القيادة التي تبلورت في عالم الأعمال وإدارة المقاولات. إن مثل هذه النظريات لا تخدم، في نظره، الأهداف الحقيقية للأنظمة التعليمية، ولن تساعد على تحسين نوعية التعليم والتعلم. ومما يترتب عن ذلك ضرورة الاعتراف بخصوصية المنظمات المدرسية، ومن ثمة صياغة نظرية للقيادة تتناسب مع طبيعتها وأهدافها في زمن التغيرات السريعة.

يظهر من خلال مراجعة الأدبيات التي تناولت موضوع القيادة في السنوات الأخيرة، ان تطوير نظرية القيادة الملائمة للتحكم في عملية التغيير يستلزم الاستجابة للشروط التالية :

  • الاعتراف بأن مفهوم القيادة يختلف عن مفاهيم الإدارة والتدبير والتسيير؛
  • ضرورة التخلي عن فكرة القائد-البطل hero-leader؛
  • تطوير نموذج القيادة ذات القاعدة العريضة؛
  • تشجيع المبادرات الفردية؛
  • تطير قدرة المنظمة على التعلم؛
  • اكتساب القدرة على إقامة مسافة بين الأنا وبين ما يجري في حقل الممارسة العملية.

تشير هذه القضايا إلى القدرات والمهارات التي تندرج في تكوين قيادة التغيير. تختلف هذه المهارات عن تلك التي نجدها لدى قيادات المنظمات في مراحل الاستقرار النسبي. ومن أبرز الخصائص التي تميز قيادة التغيير، في نظر سيرجيوفاني (Sergiovanni, 1995) ارتكازها على مبدأ تفويض السلطة. وقد جاء هذا المبدأ كبديل لمفهوم "القيادة القوية" التي لا تستجيب لمتطلبات تنفيذ خطط التغيير. تكمن أهمية مبدأ تفويض السلطة في كونه يعزز روح المسئولية لدى الفاعلين، ويدعم التزامهم بخدمة المجتمع الذي أوكل إليهم مهمة السهر على تربية وتعليم أبنائه. ويتجلى الوعي بهذه المهمة من خلال القدرة على اتخاذ القرارات التي تراعي الجوانب الإيجابية في تقاليد المجتمع وأعرافه، وتأخذ بعين الاعتبار الوقائع الراهنة، وتنظر إليها من زوايا مختلفة، وتعمل على نشر الوعي بشروط استمرار الحياة بالنسبة للأجيال القادمة. تتلخص هذه المهمة في جعل المنظمة قادرة على التكيف والاستمرار، وخدمة أهداف تتجاوز أهداف الفرد.

تلك، إذن، هي المهام المنوطة بقيادة التغيير. تشمل ممارسة هذا النوع من الإشراف العناية بالموارد البشرية، وخلق مناخ تنظيمي داعم ومحفز، يساعد على تقوية الروح المعنوية للعاملين في المنظمة، والمحافظة على صحتهم النفسية، والارتقاء بالمهنة من خلال تطوير قيمها وترسيخها في نفوس الأفراد، والارتقاء بالقيمة الاجتماعية للفرد، وتعزيز صورته عن ذاته واعتباره الذاتي وثقته بنفسه وبقدراته الذاتية. ولتحقيق هذه الأهداف لزم أن يتوفر القائد على مهارات تتجاوز المهارات الإدارية التي تركز على الأداء، والنتائج، وحل المشكلات، والتأثير في القرارات المتخذة على مستوى قاعدة الهرم (Quinn, 1996). إن المدير الذي يظل منشغلا بتدبير الأنشطة اليومية وما يرتبط بها من مشكلات لا يستطيع قيادة التغيير، وضمان انخراط الفاعلين التربويين في مسلسل الإصلاح. إن قيادة التغيير تحتاج إلى قدرات تتجاوز المهارات التقنية المرتبطة بعملية التدبير الإداري الروتينية.

إن قيادة التغيير تستلزم مشاركة الجميع في عملية اتخاذ القرارات، وتشكيل مجموعات لتدبير في مختلف مجالات الحياة المدرسية، وإكسابها القدرات والمهارات القيادية، وتخويلها صلاحية اتخاذ القرارات التنفيذية. وهكذا يتسع مجال القيادة ليشمل مختلف المستويات التنظيمية، بحيث يمكن لفكرة الإصلاح أن تسري في الهيكل التنظيمي من القمة إلى القاعدة، وتصبح استراتيجية التغيير متضمنة في المستويات العليا والدنيا من الهرم، قادرة على التكيف مع الخصوصيات المحلية. ذلك لأن تفعيل برامج الإصلاح والتغيير لا يقتصر على القيادات الإدارية، ولا يتحقق بإصدار التعليمات أو بالخطب الرنانة، ولكنه يتوقف بالأساس على كسب الولاء لجهود الإصلاح، وخلق تجاوب استراتيجي مع التغيير من خلال توسيع قاعدة القيادة والمشاركة الفعلية في اتخاذ القرارات، وتوسيع شبكة التواصل على المستويين الأفقي والعمودي، وتكثيف عمليات التفاعل بين الفاعلين التربويين وبين مختلف دوائر النشاط في المنظمة، وتشجيع البحث، وجمع المعلومات حول الحالة الصحية للمنظمة وتيسير سريانها في الجسم التنظيمي وعملية استثمارها. من شأن هذه الإجراءات أن تساعد المنظمة المدرسية على اكتساب الوعي بالذات، والقدرة على التحكم في آليات اشتغالها، ومن ثمة تصبح الثقافة المدرسية مؤهلة للتغير الذي تفرضه التحديات البيئية.

تشمل قيادة التغيير، في نظر سينج (Senge, 1990)، ثلاثة أنواع من القادة: القادة المحليون، والقادة الذين يحتلون المواقع القيادية في شبكة العلاقات الاجتماعية، وقادة التنفيذ. يتألف الصنف الأول من الأفراد الذين يتحملون مسئولية تحقيق الأهداف التنظيمية على المستوى المحلي بحكم موقعهم في بنية السلطة الشكلية. وإليهم ترجع مهمة اختبار الأفكار الجديدة، وتقدير مدى قابلية المدرسين للانخراط في عملية التغيير. وقد يشمل هذا النوع من القيادة المدرسين الذين يشاركون القادة الرسميين في أداء بعض الأدوار كتنظيم النقاش في الاجتماعات، وتأطير البحوث والدراسات/ وجمع البيانات المتعلقة بأنشطة المجموعات. ويشمل الصنف الثاني الأفراد المتشبعون بالأفكار الجديدة ممن ليست لهم أية سلطة شكلية، ويعملون على نشر أفكارهم في النسيج الاجتماعي للمنظمة. ونظرا لعدم توفرهم على السلطة الشكلية يكونون أكثر قدرة على التأثير والإقناع، وأكثر فعالية ونشاطا، حيث نجدهم يتحركون بحرية عبر شبكة واسعة من العلاقات. وبفضل هذه الخصائص يجلبون التأييد لجهود الإصلاح، ويساهمون بشكل فعال في خلق التحالفات وعقد الشراكات. ويشمل الصنف الثالث الأفراد الذين لا يساهمون بشكل مباشر في مردودية العمل كالنظار والحراس العامون، ولكنهم يتحملون مسئولية الأداء الوظيفي للمنظمة ككل (Senge, 1999). يعتمد هؤلاء الأفراد في أداء أدوارهم القيادية على القادة المحليين وقادة الشبكة الاجتماعية، ويساعدون بدورهم هؤلاء القادة على تحقيق أهدافهم. مما يدل على أن الأدوار القيادية مهما كان مصدرها مترابطة يكمل بعضها بعضا على النحو الذي يمكن من تنفيذ خطة التغيير.

وخلاصة القول، إن تحديات التكيف تفرض علينا استبدال القيادة التي تقوم بوظائف الفرد بالقيادة التي تقوم بوظائف المجموعة. يساعد هذا النمط القيادي على تحريك الجماعة، وتقوية التواصل بين أعضائها، وتكثيف عمليات التفاعل، وحفظ تماسك المجموعة في عالم مضطرب.

ولكن القول بالقيادة الجماعية لا يعني قطع الطريق أمام المبادرات الفردية، وذوبان الفرد في الجماعة، وانمحاء الهوية الفردية، وإشهار مبدأ الإجماع لتكميم أفواه المنتقدين. إن القيادة الجماعية تقوم على أساس التفاعل التلقائي الحر بين الأفراد، والاعتراف بالخصوصيات والفروق الفردية، وتستمد قوتها وغنى أفكارها من الأفراد الذين يحتلون مواقع مختلفة، وينظرون إلى مجريات الأحداث من زوايا نظر متنوعة، وتؤمن بأن تحديد المشكلات الحقيقية والأفكار والحلول الناجعة قد تأتي من حيث لا تحتسب. ولذلك يجب أن تعمل قيادة التغيير باستمرار على تشجيع المبادرات الفردية لكي تتحول المنظمة من كونها جهازا يشتغل بطريقة آلية إلى منظمة معرفية تمتلك القدرة على التعلم، والابتكار، والوعي بالذات.

تكمن إحدى الوظائف الأساسية لقيادة التغيير في تحويل المنظمة المدرسية إلى منظمة معرفية قادرة على التعلم Learning organization. إن تحقيق هذه الوظيفة هو الذي يؤهل المنظمة للتكيف من خلال إكسابها القدرة على جمع ومعالجة المعلومات واستعمالها لتحقيق أهدافها في عالم متقلب. ولا يتحقق ذلك إلا من خلال تحويل كل وضعية وكل فرد إلى مصدر من مصادر التعلم. يتجلى ذلك، على المستوى العملي، من خلال تشكيل فرق للبحث تتناول بالدراسة والتحليل العمل المدرسي، ونتائج التقويم، وأساليب التدريس، من أجل تقليص الفروق في الأداء بين فئات التلاميذ. وقد يتسع البحث ليشمل الثقافة المدرسية بما تنطوي عليه من مصادرات، ومعتقدات، وأنماط السلوك والتفاعل. ويكون الهدف خلق مناخ تنظيمي محفز. إن خلق مثل هذا المناخ سيعزز الشعور بالأمن لدى الأفراد في ظروف يكتنفها الغموض وعدم اليقين.

يستلزم بناء المنظمة المعرفية تغيير الثقافة المدرسية من خلال الوعي بمصادراتها الضمنية وقيمها ومعتقداتها التي توجد خارج دائرة الوعي. وهي مهمة يتطلب تحقيقها توفر القادة على قدرات ومهارات كتلك التي نجدها عند علماء الاجتماع والأنثربولوجيا. وتأتي في مقدمتها القدرة على إقامة مسافة بين الأنا والعالم الذي توجد فيه. إن تورط القائد في تجربة العمل اليومي يحجب عنه رؤية العديد من الظواهر، ويحول دون مساءلة الذات، ولا يرى من المحيط إلا ما يرغب في رؤيته، ولا يرى إلا الشجرة التي تخفي الغابة. وحتى يتسنى له توسيع مجال إدراكه واكتساب النظرة العميقة يتعين عليه أن ينسحب من حين لآخر، على المستوى الوجودي، من العالم الذي يعيش فيه، وينفلت من إشراطاته، ليتمكن من رؤيته كما لو كان ينظر إليه من أعلى شرفة تطل عليه. (Heifetz and laurie, 1997). والمقصود بذلك هو أن يكتسب القدرة على الملاحظة الخارجية الموضوعية لما يجري بالفعل في محيط العمل لا لما يرغب في أن يتحقق فيه، حتى لا يظل حبيس النظام، متمركزا على الذات، غارقا في ذاتيته، لا يرى العالم إلا بلونها. تساعده النظرة من أعلى الشرفة على الوعي بالذات وبآليات اشتغال المجموعة. أن الوعي بهذه الأشياء هو الشرط الأول الضروري لوضع استراتيجية للتواصل من أجل الدفع بعملية التغيير وإذلال العقبات والمعيقات التي تعترض سبيلها.

المراجع

1- Boudon, R. (1997). La logique du social, Paris : Hachette Littéraire.

-1Heifetz, R. A. (1994). Leadership without easy answers. Cambridge, MA: Belknap        Press.

--2Heifetz, R. A., & Laurie, D. L. (1997). The work of leadership. Harvard Business Re

    view,75(1), 124–134.

 -3Hoyle, J. R., English, F. W., & Steffy, B. E. (1998). Skills for successful 21st century  

    school leaders: Standards for peak performers. Arlington, VA: American  

    Association of School Administrators.

-4 Lambert, L. (1998). Building leadership capacity in schools. Alexandria, VA:

    Association for Supervision and Curriculum Development.

 -5 Nadler, D. A., & Tushman, M. L. (1995). Types of organizational change: From

     incremental improvement to discontinuous transformation. In D. A. Nadler, R. B.  

     Shaw, A. E. Walton, & Associates, Discontinuous change: Leading organizational  

     transformation (pp. 15–34). San Francisco: Jossey-Bass.

 -6Quinn, R. E. (1996). Deep change. San Francisco: Jossey-Bass.

 -7Roberts, C. (1999). Conscious oversight: A discipline of organizational stewardship.

    In P.Senge, A. Kleiner, C. Roberts, R. Ross, G. Roth, & B. Smith, The dance of       

    change: The challenges of sustaining momentum in learning organizations (pp. 545–

    553). New York: Doubleday.

 

-8 Senge, P. (1999). The leadership of profound change: Toward an ecology of

    leadership. In P. Senge, A. Kleiner, C. Roberts, R. Ross, G. Roth, & B. Smith, The

    dance of change: The challenges of sustaining momentum in learning organizations

    (pp. 10–21). New York: Doubleday.

 -9Sergiovanni, T. J. (1996). Leadership for the schoolhouse: How is it different? Why

    is it important? San Francisco: Jossey-Bass.



[1]  وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي، قطاع التربية الوطنية، مديرية الاستراتيجية والإحصاء والتخطيط    

   (2004)، مغرب التربية. التقرير العام حول منتديات الإصلاح.

[2]  اللجنة الخاصة بالتربية والتكوين التقرير السنوي حول إصلاح نظام التربية والتكوين، 2003، ص 24

Partager cet article
Repost0
4 février 2011 5 04 /02 /février /2011 12:30

جذور الشر

مقاربة نفسية-اجتماعية

أحمد أغبال

استهل جان جاك روسو كتابه المشهور إميل بجملة تلخص فلسفته كلها: ''ليس في ما يخرج من يد الخالق إلا الخير، ويفسد كل شيء بين أيدي البشر". وما أراد قوله هو أن مصدر الشر يكمن في المجتمع, ينطوي هذا القول على شيء من الصواب، وتزداد قيمته عندما يتم نزع طابع التعميم عن مضمونه من خلال وضعه في سياق معين. يمكن لبنية المجتمع المنظم بشكل سيء أن تولد مشاعر الحقد والكراهية والبغضاء في النفوس، وأن تتسبب في انتشار الفساد على مختلف المستويات والأصعدة، وتؤدي آليات البنية المختلة إلى إعادة إنتاج الثقافة الفاسدة والمفسدة عبر الأجيال. سنحاول فيما يلي بيان الآليات التي نقف خلف النوازع الشريرة والخيرة للبشر من منظور علم النفس.

تنطلق هذه الدراسة من الفرضية التالية: الشر إمكانية تنبثق عن نمط من أنماط نمو الشخصية مرتبط بالتنشئة الاجتماعية غير السليمة في الأسر المختلة. يتعرض الأفراد في المجتمع المنظم بشكل سيء لتنشئة اجتماعية غير سليمة تتسبب في بزوغ مشاعر القرف والضغينة وانتشارها على نطاق واسع. ويميل النزوع إلى الشر في ظل المناخ الأسري السلبي إلى الترسخ في النفوس ليصبح جزءا لا يتجزأ من استعدادات الشخصية، ثم يأخذ بعد ذلك أبعادا اجتماعية وسياسية من خلال عمليات التفاعل الاجتماعي,

ولفهم هذه الظاهرة، سوف نعتمد على نموذج نظري صاغه مايكل دانيالز([1]) Maekel Daniels ؛ ينبني هذا النموذج على محورين: (1) التعاطف empathy في مقابل التمركز حول الذاتegocentrism ؛ (2) النزوع إلى أعمال البر والإحسانbenevolence  في مقابل النزوع إلى الإساءة والإذايةmalevolence . يهدف النموذج المقترح إلى تقديم جواب على السؤال التالي: ما الذي يجعل الناس قادرين على فعل الشر؟ ويرتكز على مصادرة أساسية مفادها أن وجود كل من الخير والشر يأتي كنتيجة لتشكل الضمير الأخلاقي لدى الفرد والقدرة على إصدار الأحكام الأخلاقية.

ويفترض النموذج المقترح، على خلاف ما ذهب إليه مفكرو ما بعد الحداثة ممن يعتقدون بنسبية الأخلاق، أن الأحكام الأخلاقية المتعلقة بقضايا الخير والشر هي أحكام ذات صلاحية كونية ما دام كل حكم يقوم على تقديرات عقلانية لما هو خير أو شر. وأما ما يبرر هذا القول فهو الإيمان بأن جودة الحياة تستلزم توفر بعض الضروريات كالمأكل والمسكن، والأمن المالي، والعيش في مجتمع عادل ومستقر، والحاجة إلى المحبة والاحترام، والقدرة على تفعيل المهارات الذاتية، وضمان الحياة الكريمة، وما إلى ذلك. وأما مفهوم الشر فهو يدل على كل ما ينغص حياة البشر ويحول دون إمكانية العيش بشكل طبيعي كالأمراض، والموت المفاجئ أو غير الطبيعي، والخوف، والاكتئاب، والفقر المدقع، والعنف، والتهميش.

وإنه لمن المهم التمييز بين تلك الخيرات أو الحاجات الكونية البسيطة وبين الخيرات النسبية المتعلقة بفرد بعينه أو بجماعة بشرية بعينها بما في ذلك الحاجات التي تقرها أيديولوجية معينة. تشمل الحاجات النسبية الثروة المادية، والشهرة، وصفاء العرق، والامتثالية، والتقوى الدينية، الخ. إن معظم الشرور، التي ما فتئت تعاني منها الإنسانية منذ أمد بعيد، تنشأ عن الرغبة في نشر الحاجات النسبية والأيديولوجية وفرضها في المجتمع على حساب الخيرات الكونية.

وكثيرا ما تأتي المصائب من جهة الطبيعة: فقد تنجم عن الزلازل والأوبئة أو عن الحيوانات المفترسة. إلا أن الشر الذي تتسبب فيه الطبيعة ليست له دلالة أخلاقية، لأن الطبيعة في ذاتها ليست خيرة ولا شريرة، وإنما هي موجودة فحسب؛ فهي محايدة من الناحية الأخلاقية وإن كانت بعض المذاهب الدينية تعتبرها عقابا إلهيا على الفساد الأخلاقي والمس بالمقدسات الدينية. والحقيقة أن الشر إنما يتحدد من حيث أنه ضرر غير مستحق يلحقه شخص بشخص آخر.

يمكن الاعتراض على هذا التحديد بالقول إن الضرر الذي يلحق بشخص ما يمكن أن لا يكون مستحقا ولا مبررا. يمكن مواجهة هذا النقد من منطلق أن الواجب الأخلاقي يلزمنا بحماية المجتمع وضمان سلامة وأمن المواطنين ورفاهيتهم. ولكي يكون تحييد القاتل المتسلسل فعلا أخلاقيا فلا يجب أن يكون الإقدام عليه بدافع الرغبة في الانتقام منه، وإلا فلن يكون هناك فرق بين دوافع القاضي ودوافع المجرم، حيث يصبح الجميع خاضعا لنفس النوازع الشريرة. ولذلك لزم أن تكون وظيفة الحد الأدنى للعقوبة المبررة التي يستحقها المجرم هي الحيلولة دون حدوث شر أكبر غير مبرر. وبناء عليه، فإن العقاب المعقول هو العقاب الذي يتناسب مع الفعل المقترف من حيث قدرته على إيقاف تسلسل الأحداث الرهيبة.

إلا أن التعريف السابق للشر بالمعنى الأخلاقي للكلمة بوصفه الأذى غير المبرر وغير المستحق الذي يلحقه الفرد بغيره يظل ناقصا ما لم يشمل نية الإقدام على الفعل. فقد حصل الاتفاق على أن الفعل لا يعتبر شريرا أو خيرا إلا إذا أقدم المرء عليه عن طواعية واختيار. والملاحظ أن معظم الأفعال الشريرة الجارية في الحياة اليومية هي من نوع الأفعال غير الإرادية؛ ولذلك كان من اللازم إضافة تمييز آخر إلى جانب التمييز السابق بين الشر المبرر (العقاب) والشر غير المبرر، وهو التمييز بين أفعال الشر القصدية وغير القصدية. يرتبط الشر غير المقصود بالسمات المؤذية لنمط من الشخصية ونوازعها الفاسدة كالأنانية، والحسد، والغيرة، والخذلان، والوحشية، والبخل وما إلى ذلك من الصفات المذمومة. إن الأفراد الذين اكتسبوا هذه السمات الضارة لا يلحقون الأذى بالغير عن قصد وإصرار، وإنما يتصرفون بشكل تلقائي وفقا لطبيعة مزاجهم.

باللجوء إلى التمييز بين الشر الإرادي والشر غير الإرادي يكون التحليل قد انتقل من المجال السوسيولوجي إلى المجال السيكولوجي؛ وتكون الأسئلة المطروحة حينئذ هي: ما الذي يدفع الناس إلى القيام بالأفعال الشريرة ؟ هل النزوع إلى الشر فطري أم مكتسب ؟ كيف يتشكل المزاج الأخلاقي ؟ وما الذي يجعل بعض الناس قادرين على اقتراف أفظع الجرائم ؟

يرى علماء النفس أن الطفل لا يكون قادرا على إتيان أفعال الخير أو الشر إلا بعد أن تشكل الأنا وينمو الوعي بالذات لديه؛ وطالما لم يكن للأنا عنده معنى ظلت أفعاله محايدة من الناحية الأخلاقية، لا تقبل إصدار أي حكم أخلاقي بشأنها، بحيث يمكن القول إن للطفل طبيعة، ولكنه لا يمتلك مزاجا أخلاقيا. إن الخير والشر هما من الإمكانيات التي تنطوي عليها طبيعة الطفل؛ ومع تنامي الوعي بالذات تنتقل من الإمكان إلى الفعل، وتفصح عن نفسها في شكل سمات المزاج الثابتة نسبيا. حينئذ فقط يمكن القول عن الشخص بأنه فاضل أو رذيل، ويصبح الخير أو الشر وظيفة من وظائف الأنا. ويتوقف تشكل هذه الوظائف ونموها على طبيعة التنشئة الاجتماعية التي خضع لها الطفل، فقد تكون من النوع الذي يساعد على تنامي هذه السمة أو تلك أو من النوع الذي يحول دون ذلك.

وكما هو الحال بالنسبة إلى للطبيعة الإنسانية، فإن اللاشعور محايد من الناحية الأخلاقية، بمعنى أنه ليس خيرا بذاته ولا شريرا. لاشك أن في الإنسان نزوع إلى العدوان، لكن هذا النزوع محايد أخلاقيا كما هو الشأن لدى الحيوان؛ ذلك لأنه من الممكن تسخير غريزة العدوان لتحقيق أهداف خيرة أو شريرة، ولا يمكن إدانتها إدانة أخلاقية إلا إذا اختار المرء استعمالها عن وعي أو عندما تفرض نفسها بوصفها سمة من سمات المزاج التي تتسبب في إلحاق الأذى غير المبرر بالآخرين، وسواء حصل ذلك بشكل إرادي أو غير إرادي. لقد كان فرويد Freud على صواب، إلى حد ما، حين افترض وجود غريزة الدمار أو 'الطاناطوس')[2]( thanatos؛ ولكنه كان على خطأ حين قال بأن الطاناطوس هو الشر الملازم للطبيعة الإنسانية. وكان من الأجدر به أن يقول إن الاستعدادات الفطرية لفعل الشر أو الخير تنجم عن الطريقة التي تمت بها برمجة الإنسان لكي يتشكل وعيه بذاته وتبرز سمات المزاج لديه وتنمو.

وعلى خلاف ما ذهب إليه فرويد، جاء Jung بتصور جديد للاشعور يمكن من فهم كيفية نمو سمات الشخصية بشكل أفضل. فهو يرى أن اللاشعور يمكن أن يكون خطيرا للغاية، ولكنه ليس قبيحا في ذاته. ومع ذلك، يعتقد يونغ بأن اللاشعور ينطوي على عنصر يقف خلف معظم الشرور الموجودة في هذا العالم: يتعلق الأمر بما يسميه 'الظل'، والمقصود به تلك المنطقة المظلمة من الجزء الواعي في الشخصية. يدل مفهوم الظل عنده على الصفات الشخصية التي يرفض الأنا قبولها ويعمل جاهدا على كبتها. فعندما يقمع الفرد البعض من ميوله ورغباته، يحبسها الأنا في اللاشعور باعتبارها أسرارا مخجلة ومذلة. يستهلك هذا النوع من القمع الذاتي كمية هائلة من الطاقة النفسية، ويتسبب الإنهاك العاطفي-الوجداني للفرد في الكثير من الأذى والمتاعب. وكذلك يمكن أن يتسبب القمع في الكثير من المعاناة إذا شملت منطقة الظل بعض الصفات الإيجابية التي لم تجد الطريق للإفصاح عن نفسها كالقدرة على التعبير عن مشاعر المسرة والمحبة والقدرة على التفكير والإبداع)[3](.

إلا أن أكثر أنواع الشر خطورة هي تلك التي ترتبط بالإسقاط بوصفه آلية دفاعية. فخلال عملية الإسقاط يتم استبعاد الخصائص المرفوضة التي تشكل منطقة الظل خارج دائرة الأنا وإلحاقها بالغير. وهكذا يسقط الأنا مشاعر الحقد والغيرة والأنانية على شخص ليجعل منه عدوه اللدود. تتحقق عملية الإسقاط هذه بطريقة لاشعورية وتؤدي على الفور إلى العصف بالقيمة الأخلاقية للشخص البريء المستهدف، ومن ثمة، يستباح كل شيء لديه، حيث يعتقد صاحب النزعة الإسقاطية بأن الضحية تستحق الأذى الذي تتعرض له والشر الذي يصيبها. ويمكن أن يأخذ هذا العدوان شكل عنف رمزي أو جسدي يتدرج من التعذيب إلى التصفية العرقية مرورا بالاغتيال والقتل.

ويلعب الظل في نظر يونغ دور التعويض ودور المكمل بالنسبة للشخص: فإذا نظر المرء إلى نفسه على أنه شخص 'جيد'، اعتبر الظل شريرا؛ وإذا تم إسقاط هذا الظل الشرير على الآخرين اعتبروا أعداء، ويتم تبرير الأذى الذي يلحقهم من جراء ذلك تبريرا واعيا؛ حيث يقوم الأنا بتأويل الشر الذي يلحق بهم بطريقة ماكرة ليقنع نفسه بأنهم يستحقون ما يتعرضون له من مصائب. وبهذه الطريقة يصبح الشر بوصفه الأذى غير المستحق خيرا، أي عقابا مستحقا. وهذا ما يجعل الإسقاط بوصفه آلية دفاعية ينتج خطابا أخلاقيا مزدوجا.

وتجدر الإشارة إلى أن أطروحة يونغ التي تقول بأن الظل مصدر أساسي من مصادر الشر لا تتنافى مع الأطروحة القائلة بأن القدرة على فعل الشر تنمو بموازاة عملية تشكل وتنامي الوعي بالذات لدى الفرد. ذلك لأن الظل نفسه هو نتاج تشكل وتنامي البعد الواعي من الشخصية؛ فهو يمثل، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، صفات الشخصية التي لا يقبل الفرد حضورها على مستوى الوعي. ولما كان الوعي يتضايق من استقرارها فيه، يعمل الأنا على كبتها وحبسها في غياهب اللاشعور حيث تأخذ شكل نظام هولامي من الظلال المخيمة على جزء كبير من وجوده.

وإلى جانب الإسقاط غير الواعي للظل بوصفه مصدر الشر، يكتسب الفرد من خلال التنشئة الاجتماعية غير السليمة في الأسر المختلة شخصية تتسم ببعض الصفات الشريرة. ومن هنا يمكن القول بأن السبب الرئيسي للشر يكمن، أولا وقبل كل شيء، في نظام الأنا المكتسب، لا في منطقة الظل. يمكن القول بعبارة أخرى، إن الفرد يميل، في ظل ظروف معينة، إلى إضفاء معنى خاص على ذاته، وإلى تشكيل البنية الواعية من شخصيته بشكل غير سليم وفاسد؛ وتنشأ عن هذه العمليات سمات المزاج المضرة به وبغيره. كيف يحصل ذلك إذن ؟

يكمن الجواب، بكل بساطة، في أن نمو الشخصية هو نتاج التنشئة الاجتماعية والتثاقف: فمن خلال التنشئة الاجتماعية يستبطن الطفل عناصر الثقافة التي تميز المحيط الذي يعيش فيه (أنماط السلوك، النظرة إلى العالم، القيم والمعايير، التوقعات، البنيات اللغوية والأيديولوجية، الخ) مما يؤدي إلى تشكل شخصيته وصورته عن ذاته. وإذا كانت العناصر الثقافية المستبطنة من النوع الفاسد، فإنه من المحتمل جدا أن تكون سمات المزاج المترتبة عنها لدى الطفل من النوع الذي يحث على فعل الشر. فإذا تلقى الطفل تنشئته داخل أسرة مختلة ومفككة الأوصال أو في بيئة اجتماعية تكاد تكون فيها ظواهر الحقد والجشع والأنانية والعنف أمورا طبيعية يشجع عليها المجتمع، حيث يسمح الناس لأنفسهم بالتعبير عن مواقف عنصرية أو جنسانية، فإنه يتوقع أن يبني هذا الطفل نسقه الذاتي وفقا لهذه الصفات الضارة ويعمل على نشرها وإعادة إنتاجها. وسيكون الأنا الذي تشكل على هذا النحو قادرا على فعل الشر بشكل تلقائي وطبيعي مثلما يستنشق المرء الهواء: فهو لا يفعل إلا ما اعتاد الناس إتيانه. وعندما يصبح أبا أو معلما أو قائدا، فإنه سيشارك في عملية إعادة إنتاج نسق الثقافة الفاسدة الشريرة.

وإذا كانت التنشئة الاجتماعية الفاسدة تفرض نفسها بوصفها النموذج المعترف به على صعيد المجتمع، فإن ذلك لا يعني أنها قدر محتوم لا يمكن تفاديه؛ وإنما يرجع السبب في ذلك إلى وقوع اختلال في نظام التواصل الذي تكمن وظيفته في نقل مشاعر التعاطف empathy. إن الاضطراب الذي يصيب عمليات التفاعل العاطفي-الوجداني تكون له عواقب وخيمة على السيرورة النمائية لدى الطفل. وأما ما يدل على غياب التعاطف في الأسرة، مثلا، فهو سوء معاملة الأطفال وإهمالهم. يصاب الطفل في هذه الظروف بصدمة قوية، ويميل من جراء ذلك إلى تشكيل صورة مزيفة عن ذاته ويشيد ما يمكن تسميته بالأنا المغلوطة؛ وتكون وظيفة الأنا المزيفة هي الحفاظ على البقاء في عالم يبدو للطفل خطيرا: فلكي يتمكن الطفل من التكيف مع قيم وآراء الآباء وأنماطهم السلوكية الخالية من روح التعاطف، يلجأ إلى الاستراتيجيات الدفاعية من أجل الحفاظ على البقاء، ويبني نسقه الذاتي المزيف.

ومن جهة أخرى، يؤدي فشل الآباء في التفاعل العاطفي مع أبنائهم إلى معاملتهم كما لو كانوا مجرد موضوعات أو مادة خام يمكنهم صياغتها وفقا لقيمهم ومعتقداتهم الخاصة ليجعلوا منهم صورة طبق الأصل لما كانت عليه طفولتهم البائسة المعذبة؛ ولا يتعاملون معهم البتة بوصفهم أشخاصا يتمتعون بنوع من الاستقلال الذاتي، ولا يولون أية أهمية لاحتياجاتهم الخاصة.

يصبح حب الوالدين لأبنائهم في السياق الخالي من روح التعاطف حبا مشروطا: فلكي يحظى الطفل بحب الوالدين له واعترافهما به يلزمه أن يستجيب لتوقعاتهما. ومع مرور الوقت يكتسب الطفل أساليب التعلم والتفكير التي تمكنه من انتزاع ما يحتاج إليه من والديه، وينتهي به الأمر إلى استبطان الشروط التي يفرضانها عليه؛ وبإدماجه لهذه الشروط ضمن نسقه الذاتي، تميل هذه الأخيرة إلى التحقق في شكل سمات الشخصية التي لا تطمح إلى ما هو أكثر من الحفاظ على البقاء. ولتفادي هذا المصير المأساوي، يتعين أن يكون حب الآباء لأبنائهم حبا غير مشروط وأن يكون اعترافهم بهم غير مشروط أيضا، وهذا ما يطلق عليه روجرز Rogers اسم 'الاعتبار الإيجابي غير المشروط'. وبالتالي، فإنه لا يمكن للطفل أن يشيد نسقه الذاتي الحقيقي إلا إذا كان المناخ الاجتماعي الذي يعيش فيه مفعما بمشاعر التعاطف.

تنشأ سمات الشخصية الشريرة، حسب نموذج مايكل دانيلز السالف الذكر، عن الفشل في إقامة علاقة تواصل عاطفية وجدانية مع الطفل، بحيث يمكن القول إن مصدر الشر، بالمعنى الأخلاقي للكلمة، يكمن في التعامل مع البشر كما لو كانوا أشياء، أي دون أخذ بعين الاعتبار حاجاتهم وما يجلب لهم الشعور بالسعادة. ويتوقع، عند غياب الاعتبار الإيجابي غير المشروط، أن يتملك الشر مزاج الناس ليصبح عندهم شيئا عاديا ومألوفا لا يبعث فعله على شيء من الندم.

يرتكز النموذج النظري المشار إليه على التمييز بين التعاطف  empathyونزعة التمركز حول الذات egocentrism، من جهة، وبين النزعة إلى الإساءة والإذاية malevolence والنزعة إلى البر والإحسان benevolence، من جهة أخرى. يتجلى التعاطف من خلال القدرة على تفهم تجارب الغير وحاجاته؛ وهو عكس ما نجده في حالة التمركز حول الذات أو ما يسمى أيضا بالنرجسية، التي ينصب فيها اهتمام الفرد على تجاربه الخاصة، ولا ينشغل إلا بحاجاته الأنانية. وأما ما يميز الفرد الميال إلى البر والإحسان فهو إرادته الخيرة التي تلعب عنده دور القوة الدافعة في كل ما يقدم عليه من أفعال، وذلك على خلاف من ينزع إلى فعل الشر بحكم إرادته الخبيثة التي تدفعه إلى الاعتداء على الآخرين والإساءة إليهم، وتجعله يشعر بالمتعة حين يراهم يتألمون.

ويفترض النموذج السيكولوجي لأصل الفضيلة والشر أن الأفراد يكونون على درجات متفاوتة من التعاطف ومن التمركز حول الذات؛ وكذلك تتفاوت درجات النزوع إلى البر والإحسان أو إلى الإساءة والإذاية. ويفترض كذلك أن البعد المتعلق بالتعاطف/التمركز مستقل نسبيا عن البعد المتعلق بالنزوع إلى الإحسان/الإساءة. وتمثل مختلف أنواع التوليفات بدرجاتها المتفاوتة (التعاطف/التمركز، الإحسان/الإساءة) الأصل فيما يتوفر عليه الفرد من إمكانيات واستعدادات للنزوع إلى الإحسان للغير أو الإساءة إليه. من المحتمل، إذن، أن تكون الغلبة للخير بالمعنى الأخلاقي في محيط تنتشر فيه مشاعر التعاطف والنزوع إلى البر والإحسان؛ ويتجلى الخير بالمعنى المشار إليه من خلال المشاركة العاطفية sympathy، والرحمة، والاهتمام بالآخرين، وتفهم حاجاتهم، والعناية بهم. وأما إذا كانت الغلبة في المحيط الاجتماعي لنوازع العدوان والتمركز حول الذات، فإنه من المحتمل أن يستشري فيه الشر والفساد على جميع الأصعدة والمستويات، ويتجلى ذلك من خلال الإهمال، والكراهية، ومشاعر العدوان، والإساءة إلى الآخرين.

هناك أنواع أخرى من الشر تنشأ عن التوليف بين نزعة التمركز حول الذات والنزوع إلى الإحسان، أو بين التعاطف والنزوع إلى الإساءة. لنعتبر مثال الأم المماثلة للدجاجة الحاضنة لأطفالها، المغالية في الاهتمام بشؤونهم الخاصة إلى درجة يفقدون معها روح المبادرة والاستقلال الذاتي. إن هذه الأم تسيء إلى أبنائها عن غير قصد: إن ما يحركها هي الإرادة الطيبة وحسن المقاصد، ولكن الإفراط في العناية بشؤونهم، والاهتمام بكل شاذة وفادة في حياتهم اليومية يؤدي بها إلى خنقهم وتجريدهم من مقومات الهوية الشخصية. إن مشكلة ما يسمى بالأم المماثلة للدجاجة الحاضنة هو أنها تسقط حاجاتها الخاصة على فضاء العلاقات البيشخصية الذي تتواجد فيه مع أطفالها، ويذهبون ضحية حبها التملكي. ولذلك يصدق عليها المثل القائل "ومن الحب ما قتل'. إن هذا النوع من الإسقاط النرجسي يؤثر تأثيرا سلبيا على نمو شخصية الطفل لأنه لا يمت إلى فعل التعاطف بأية صلة تذكر. هناك إذن نوع من الشر المرتبط بنوع من التفهم الذي يبديه الشخص لبعض المظاهر المتعلقة بتجربة الغير، إلا أن هذا التفهم يجري على نحو يسئ إلى الغير إما بسبب الحسد أو الرغبة غير الواعية في رؤية الآخرين وهم يتعذبون. فقد تبين من خلال الدراسات التي تناولت تجربة السادية، أن الشخص ذي النزعة السادية لا يجد المتعة في آلام الآخرين إلا عندما يصبح قادرا على التعاطف معهم في محنتهم.

ويدل التحليل السيكولوجي لمصادر الخير والشر على أن الشر ليس ظاهرة من الظواهر الشيطانية التي تستحوذ على النفس البشرية بطريقة تستعصي على الفهم، بل هو جزء من صميم الوضعية البشرية. يفرض الشر نفسه في شكل نسق من التفاعلات التي يتحكم فيها الظل المخيم على جزء كبير من عوالمنا الداخلية والذي يتغذى على المفعول الرجعي المنبعث من التفاعلات التي يحدثها. ينشأ الشر عن قدرة الإنسان على الوعي بذاته، وقدرته على تشكيل هويته الشخصية بالطريقة التي تمكنه من التكيف مع محيطه الاجتماعي. يولد الإنسان بطبيعة لا هي بالخيرة ولا بالشريرة، فإن كان المجتمع منظما بشكل سيء واستشرى فيه الفساد، أفسد أبناءه؛ وإن كان منظما بشكل جيد وعادل أنتج مواطنين صالحين يحبون الخير لغيرهم مثلما يحبونه لأنفسهم. وإذا كان الشر ينشأ عن الوعي بالذات، فإن هذا الوعي يمكن الإنسان أيضا من تقليص دائرة الشر، وذلك من خلال تحرير الفرد من نزعة التمركز حول الذات، ومن ثمة تمكينه من توسيع مجال التعاطف الاجتماعي وخلق المناخ الذي يشجع على أعمال البر والإحسان.

يبرز التعاطف كلما تراجعت نزعة التمركز حول الذات. لا يمكن للمرء أن يتفهم تجارب الآخرين وحاجاتهم ما لم يكتسب القدرة على التموقع خارج المنظور المتمركز حل الذات. ويمكن لدائرة التعاطف أن تتسع أو تضيق حسب طبيعة القيم التي نشأ عليها الفرد: فمن الأفراد من يكتفي بالتعاطف مع أفراد أسرته، ومنهم من يعطف بالإضافة إلى ذلك على أفراد الجماعة الإتنية أو الجماعة المذهبية أو الدينية التي ينتمي إليها، ومنهم من يشمل بعطفه الإنسانية جمعاء والكائنات الطبيعية كلها.

وخلاصة القول، إنه كلما اتسعت دائرة التعاطف والإحسان إلا وضعفت قوى الظل المخيم على نفوس البشر، ويعود ذلك كله بالخير والمنفعة على الإنسانية والطبيعة على حد سواء.

  

   

 



([1]) Maekel Daniels (2005). Shadow, self, spirit. Essay in transpersonal  psychology. Imprint Academic.

([2]) Sigmund Freud (1920). Au-delà du principe du plaisir. Traduction de l’Allemand par le Dr. S. Jankélévitch. 

   Version numérique produite par Gemma Paquet, bénévole :  

http://classiques.uqac.ca/classiques/freud_sigmund/essais_de_psychanalyse/Essai_1_au_dela/Au_dela_principe_plaisir.pdf  

([3]) Carl Gustav Jung (1977). Two essays in analytical psychology. Tra,slated by R.F.C.Hull. Princeton University 

   Press.

 

Partager cet article
Repost0
26 novembre 2009 4 26 /11 /novembre /2009 14:08

تأثير خطاب الأزمة على الروح المعنوية للمتعلمين

أحمد أغبال

(نص المداخلة التي ألقيتها في الندوة التي نظمتها "جمعية بلا حدود" بمدينة مكناس)

من الصعب تحديد مفهوم الأزمة. هناك تضارب في تصورات الباحثين والخبراء لما يوصف بحالة الأزمة. ويرجع السبب في ذلك إلى اختلاف المقاربات التي ينطلقون منها لتحليل أسبابها وآلياتها، وتشخيص أعراضها، وبيان النتائج المترتبة عنها. وعندما يتخطى الحديث عن الأزمة حدود دائرة الخبراء والأكاديميين والمعنيين المباشرين بها (رجال المال والأعمال ومؤسسة الدولة) لينتقل إلى العموم في شكل خطاب أيديولوجي تكون للأزمة تداعيات غير متوقعة على المستوى السيكولوجي لدى الجمهور. ويشكل الناس عنها تصورات خاصة بهم، وتكون لهذه التصورات آثار سلبية وأحيانا مدمرة على علاقتهم بالمؤسسات التي يتعاملون معها. تسعى هذه المداخلة إلى تسليط الضوء على النتائج المترتبة عن "خطاب الأزمة" العالمية الراهنة في ما يتعلق بعلاقة مختلف مكونات المجتمع بالنظام التعليمي. تتلخص المداخلة في الإجابة على السؤالين التاليين:

-         ما هي الكفايات المطلوبة في عصر المعلومات والعولمة الذي يتميز بالتغيرات السريعة والغموض وعدم اليقين ؟

-         ما هي العوائق التي تحول دون اكتساب هذه الكفايات في سياق ما بات يعرف بالأزمة العالمية التي ليست في جزء منها سوى التعبير الصارخ عن خصائص عصر المعلومات والعولمة السابقة الذكر؟  

 

1.    تعريف مفهوم الأزمة

اسمحوا لي أن أبدأ بتحديد الدلالة اللغوية لكلمة "أزمة" التي تستعمل الآن في اللغة العربية كترجمة لكلمة "crise" الفرنسية أو "crisis" الإنجليزية. يرجع أصل هذه الكلمة في اللغات اللاتينية إلى كلمة "krisis" التي كانت تستعمل في اللغة اليونانية القديمة للإشارة إلى مرحلة جديدة من مراحل تطور وضعية ما يكون فيها من الضروري اتخاذ القرار المناسب للمرحلة الجديدة. تحيل الكلمة الأصلية (krisis) في اللغات اللاتينية على فكرة التطور أو التغير، وفكرة اتخاذ القرار المناسب لكل مرحلة مراحل التطور أو التغير؛ وهذا شيء مهم للغاية من حيث أن لهذه الدلالة قيمة منهجية كبيرة، كما سيتبين لنا ذلك بعد قليل.

ولكلمة "أزمة" في اللغة العربية، حسب تعريف ابن منظور لها في قاموسه "لسان العرب"، معنى خاصا له علاقة بمشاعر القوم إزاء عوادي الدهر والتقلبات المناخية في المناطق الصحراوية. نقرأ في "لسان العرب" ما يلي:

"والأَزْمُ: الجَدْبُ والمَحْل".

وقال ابن سيده: "الأَزْمة الشدّة والقَحْط، وجمعها إِزَمٌ"  

ويقال أيضا "الأَزْبَةُ"، وهي مرادف "الأَزْمةِ"، "وهي الشّدَّةُ، وأَصابتنا أَزْبَةٌ وآزِبةٌ أَي شدَّة"

"ويقال: نزلتْ بهم أَزامِ وأَزُومٌ أَي شدَّة. والمُتَأَزِّمُ: المُتَأَلِّم لأَزْمةِ الزمان؛ أَنشد عبد الرحمن عن عمه الأَصمعي في رجل خطَب إِليه ابنَته فردَّ الخاطِبَ: قالوا:

تَعَزَّ فَلَسْتَ نائِلَها،

حتى تَمَرَّ حَلاوَةُ التَّمْرِ

لَسْنا من المُتأَزِّمينَ، إِذا

فَرِحَ اللَّمُوسُ بثائبِ الفَقْرِ

أَي لَسْنا نُزَوِّجك هذه المرأَة حتى تَعود حَلاوةُ التَّمْر مَرارةً، وذلك ما لا يكون. والمُتَأَزِّمُ: المُتَأَلِّم لأَزْمةِ الزَّمان وشدَّتِه، واللَّمُوسُ: الذي في نَسَبه ضَعَةٌ، أَي أَن الضعيفَ النسَب يفْرَح بالسَّنة المُجْدبة ليُرْغَب إِليه في ماله فيَنْكِحَ أَشْراف نِسائهم لحاجَتهم إلى ماله".

وفي الحديث: اشْتَدِّي أَزْمَة تَنْفَرِجي، قال: الأَزْمَة السَّنة المُجْدِبة. يقال: ِإن الشدَّة إِذا تَتابَعت انفرجت وإِذا تَوالَتْ تَوَلَّت. وفي حديث مجاهد: أَن قُرَيْشاً أَصابَتْهم أَزْمةٌ شديدةٌ وكان أَبو طالب ذا عيالٍ. والأَوزامُ: السِّنُون الشدائد كالبَوازِم. وأَزَمَ عليهم العامُ والدهرُ َأْزِمُ أَزْماً وأُزُوماً: اشتدّ قَحْطُه، وقيل: اشتدَّ وقَلَّ خَيرُه؛ وسنة أَزْمَةٌ وأَزِمَةٌ وأَزُومٌ وآزِمةٌ؛ قال زهير: إِذا أَزَمَتْ بهم سَنةٌ أَزُوم"

تحيل كلمة "أزمة" في اللغة العربية إلى الحالة النفسية التي يوجد عليها الناس في مواجهتهم لظروف القحط في صحراء مترامية الأطراف. ولما كانت سنوات القحط تتكرر بكثرة وبنوع من الانتظام، اكتسبوا القدرة على الصبر والتحمل، وهو ما يشير إليه الحديث الذي نسبه ابن منظور إلى النبي (ص): "اشْتَدِّي أَزْمَة تَنْفَرِجي"، وكذا القول المأثور الذي أورده بعد ذلك: " ِإن الشدَّة إِذا تَتابَعت انفرجت وإِذا تَوالَتْ تَوَلَّت". وهو ما يدل على قدرة أهل الصحراء على التكيف مع ظروف الأزمة بالمعنى المشار إليه في هذا السياق.

ولدلالة الأزمة في اللغة العربية أهمية كبيرة من الناحية النظرية في ما يتعلق بفهم ردود الفعل العاطفية-الوجدانية إزاء ظروف الأزمة كما يتصورها الناس.

يمكن القول في ضوء ما سبق، إنه إذا كانت كلمة "أزمة" في اللغة اليونانية تحيل، في المقام الأول، إلى ما يجري في العالم الخارجي، فإنها تشير في دلالتها اللغوية العربية، قبل كل شيء، إلى ما يجري في العالم الداخلي. يمكن النظر إلى هاتين الدلالتين على أنهما متكاملتان، تساعدان معا على الإحاطة بمختلف ظواهر الأزمة وأبعادها في عالمنا المعاصر.

وأما فيما يتعلق بالدلالة الاصطلاحية لمفهوم الأزمة، فإنه يحيل، حسب تعريف إدغار موران، على الوضعية التي يكون فيها من المستحيل اتخاذ قرار ما)[1](. يصف هذا المفهوم الانقطاع الحاصل في تطور ظاهرة ما بحيث يصبح من الصعب اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، أي قبل أن تتفاقم الإختلالات الحاصلة في النظام.

2.   المقاربات النظرية للأزمة

هناك مقاربتان أساسيتان لتفسير ظواهر الأزمة، وهما: المقاربة الحدثانية التي تركز على أعراض الأزمة، وتنصب على تحليل طبيعة المعلومات ذات الصلة بالحدث العارض المتعلق بالأزمة وبنتائجه التي لم تعد تخفى على أحد، والمقاربة الإجرائية التي تضع الأزمة في سياقها المتعدد الأبعاد من أجل توفير المعلومات لمراكز القرار حول جذور الأزمة وديناميتها.

تنظر المقاربة الحدثانية إلى الأزمة على أنها حدث مفاجئ وصادم يكون من الصعب التمييز بينه وبين الحدث العارض الذي رافق بروزها والذي يتسبب في ظهور بعض الأعراض في زمان معين ومكان محدد. وما يميز الأزمة بهذا المعنى هو طابعها المفاجئ، وعشوائيتها، وخروجها عن دائرة الاحتمال والتوقع، وعدم اليقين، وشح المعلومات عنها. وبسبب هذه الخصائص يكون وقعها على النفس قويا، وتتسبب في التوتر والقلق والضغط النفسي والارتباك، مما يجعل اتخاذ القرار أمرا بالغ الصعوبة إن لم يكن مستحيلا. ولذلك يتم التركيز في تناولها على الأحداث العرضية التي تفجرها والأعراض المترتبة عنها.

وإذا كانت المقاربة الحدثانية تركز في تناولها للأزمة على الجوانب العرضية غير المتوقعة أو غير المحتملة الوقوع، فإن المقاربة الإجرائية تنطلق من رصد الإختلالات الوظيفية الخفية من أجل التكهن بالأزمة ومعالجتها قبل وقوعها. تنطلق هذه المقاربة من مصادرة مفادها أن كل نسق معرض للاختلال وفقا لقانون الأنثروبيا الذي يمثل النزعة التدميرية في مختلف أنواع النظم الاجتماعية والاقتصادية والطبيعية أو البيولوجية. يدل هذا القانون على أن الاختلال والقابلية للتعرض للمخاطر شيء طبيعي في كل نسق من الأنساق مهما كان نوعه. ولذلك فإن توقع الأسوأ يساعد على تفادي الصدمة ويزيد من قدرة الفاعلين على مواجهة التحديات، ويعزز قدرتهم على التحمل والصمود والتكيف مع الظروف المتقلبة مثلما هو الحال بالنسبة لسكان الصحراء.

تنظر المقاربة الإجرائية إلى النظم الاقتصادية الحديثة على أنها نظم بالغة التعقيد، معرضة بحكم درجة تعقدها العالية للمخاطر. تتألف هذه النظم من عدد لا حصر له من العناصر المتفاعلة فيما بينها. وبسبب الترابط العضوي التفاعلي بين هذه العناصر، فإن الاختلالات عندما تظهر يؤثر بعضها في بعض، مما يؤدي إلى تفاقمها وانتشار لهيبها بسرعة مذهلة ليشمل كل مناحي النسق. ومن خصائص النظم الحديثة أيضا الارتفاع المتزايد في وتيرة التغير، مما يتسبب في الغموض وعدم اليقين. ولذلك يفترض أن تكون أسباب الأزمة ملازمة للنظم الحديثة وإن كانت خفية وغامضة، ويتوقع أن تكون لها آثار مدمرة على المستويات التقنية والاجتماعية والنفسية؛ ويكون من اللازم أن يكتسب الإنسان الذي يعيش في كنف هذه الأنساق المعقدة الشديدة الحركية والتغير، المتسمة بالغموض وعدم اليقين، قدرة كبيرة على التكيف ومواجهة الصعوبات.

3.   الكفايات المطلوبة في عصر المعلومات والعولمة

التكيف، إذن، أو التهميش وتفكك الشخصية والروابط الاجتماعية. ومن هنا يبرز دور الأنظمة التعليمية في بناء الشخصية القادرة على التأقلم مع الظروف المتغيرة التي تتميز،  إضافة إلى ما ورد ذكره آنفا، بالمنافسة الشديدة بين الأفراد والمنظمات والدول. فما هي المهارات المطلوبة في زمن العولمة والتغيرات السريعة والغموض وعدم اليقين ؟

يمكن تقسيم هذه المهارات إلى ثلاثة أنواع، وهي المهارات المعرفية والمهارات فوق المعرفية، والمهارات البيشخصية أو الاجتماعية ذات الصلة الوثيقة بالمهارات فوق المعرفية.

تشمل المهارات المعرفية ما يعرف بالمهارات الأساسية كالقراءة والحساب، والمهارات العقلية كالقدرة على الحفظ والتذكر، والفهم، والتحليل، والتركيب، والحكم، والاستقراء، والاستنباط، والقدرة على حل المشكلات إلى غير ذلك من المهارات التي لم تعد تخفى على أحد. تندرج هذه المهارات ضمن ما يسمى بالجهاز المعرفي. ويشمل هذا الجهاز القدرة على جمع المعلومات، وتنظيمها، ومعالجتها، وتأويلها، وتقييمها، واستعمالها، وتبليغها للآخرين، وهو ما يتطلب استعمال أجهزة الكمبيوتر لمعالجة المعلومات، والقدرة على التعامل مع النظم التكنولوجية، وفهم النظم الاجتماعية وهياكلها التنظيمية.

يرى المختصون في مجال علم النفس المعرفي أن هذا الجهاز لا يشتغل من تلقاء نفسه، وإنما يخضع في اشتغاله لجهاز آخر يتحكم فيه، وهو الجهاز فوق-المعرفي. يتألف هذا الجهاز من مجموعة من العناصر الإبستيمية وغير الإبستيمية، كالقدرة على التخطيط وتحديد الأهداف والاستراتيجيات، والحوافز، والقدرة على ضبط النفس، والثقة في القدرات الذاتية أو الفعالية الذاتية، والاعتبار الذاتي، والقدرة على بذل المجهود، والقدرة على الصبر والتحمل ومواجهة الصعاب، وروح المسئولية، ومحاسبة النفس.

وأما المهارات البيشخصية فتشمل العمل بروح الفريق، ويتجلى ذلك من خلال القدرة على التعاون مع الآخرين لحل المشكلات، واتخاذ القرارات، وتحقيق الأهداف من خلال العمل الجماعي، والقدرة على تعليم المهارات الجديدة للآخرين وإرشادهم وتوجيههم، والقدرة على خدمة الآخرين، ويتطلب ذلك التوفر على المهارات القيادية، ومهارات التفاوض والإقناع، والقدرة على التعامل مع أشخاص ينتمون إلى مختلف الثقافات والبيئات الاجتماعية. تمثل هذه المهارات السياق الاجتماعي الذي يحدد المستوى الأمثل لنمو القدرات فوق-المعرفية، التي تحدد بدورها مستوى نمو القدرات المعرفية ودرجة فعاليتها في أداء وظائفها.

يتبين من هذا التحليل بأن العقل هو قبل كل شيء نتاج اجتماعي، ويتأثر سلبا أو إيجابا بما يجري في الواقع الاجتماعي-الثقافي.

دعونا الآن نتأمل في ضوء هذا التحليل الآثار المحتملة لـ"خطاب الأزمة" على الفاعلين في الأنظمة التعليمية. الملاحظ أن هذا الخطاب يميل إلى التركيز أكثر على الأعراض عندما يخرج إلى العموم من دوائره المغلقة، فيتحول على الفور إلى خطاب الرعب، ويزرع الخوف من المستقبل في نفوس المتعلمين والمعلمين على حد سواء، وتنتشر مشاعر التشاؤم واليأس على نطاق واسع، وتموت الحوافز المدرسية لفقدان الأمل في الارتقاء الاجتماعي الذي يجعل منه معظم الأفراد الغاية من دراستهم. ذلك لأن الغاية من الدراسة لدى الغالبية العظمى من المتعلمين لم تعد تتمثل في تحقيق الذات من خلال تنمية القدرات الذاتية، بل في الحصول على الوظيفة التي أصبحت محط منافسة قوية. يؤدي تنامي الاتجاهات السلبية تحت تأثير خطاب الأزمة إلى إضعاف القدرات فوق-المعرفية ومن ثمة كبح الجهاز المعرفي وتعطيل قدراته. وتكون النتائج بالنسبة لمن وضع هدف الدراسة خارج الذات عكسية؛ لأن القدرة على التكيف في زمن المعلومات والعولمة تتطلب توفر الفرد على قدرات عالية جدا.    



([1])  Morin, E. Pour une crisologie, Connexions, vol.25, p.149-163   

Partager cet article
Repost0
30 juin 2008 1 30 /06 /juin /2008 19:25

مهنة التدريس

في مواجهة التنظيم البيروقراطي للتعليم

أحمد أغبال

. 1. وضعية المدرس

إذا كان الباحثون في علوم التربية قد أولوا مكانة خاصة للمدرسين في بحوثهم، فإن اهتماماتهم انصب في معظم الأحيان على أدوارهم البيداغوجية والتربوية، وعلى مكانتهم في نظام التعليم باعتبارهم فاعلين تربويين. وإلى عهد قريب، ظلت نظرية الدور théorie des rôles المرتبطة بالنظرية الوظيفية توجه معظم البحوث التي تناولت المدرسين لما توفره من إمكانيات هائلة للقيام ببحوث ميدانية لسهولة أجرأة مفاهيمها(Grace, 1978) . ولا يختلف الأمر بالنسبة للاتجاهات النقدية في علم الاجتماع ممثلة ببرنشطاين وبورديو، والتي أولت عناية خاصة لعلاقات المدرسين بالطبقات الاجتماعية والدولة، وانشغلت بدراسة دورهم السياسي-الأيديولوجي باعتبارهم عناصر فعالة في عملية معاودة الإنتاج على الصعيدين الاجتماعي والثقافي. يبدو وكأن هؤلاء الباحثين يتعاملون مع المدرس كما لو كان مجرد آلة في الجهاز التعليمي مسخرة لخدمة أهداف هذا الجهاز لا غير، كما لو أنه كائن يعمل لتحقيق حاجات الآخرين دون أن تكون له هو مصلحة خاصة في العمل الذي يقوم به، أو حاجة يسعى ألى تلبيتها من خلال كدحه. ولذلك تم إغفال الواقع الوجودي للمدرس وتجربته الذاتية في العمل.

إن رجل التعليم هو مربي، هذا صحيح، ولكنه ليس مربيا على الطريقة المثالية السقراطية. كان سقراط يتسكع في شوارع أثينا وسخا عاري القدمين يعلم الحكمة للشباب ويوصيهم بالنظافة والأناقة، ولا يتقاضى أجرا على ذلك .(Encyclopédie de la Pléiade, 1974) ما هو مورد رزقه؟ وماذا كان يجني من عمله ؟ مورد رزقه أهملته ذاكرة المؤرخين، ربما لأن سقراط نفسه قلل من قيمته وتعالى عليه. وأما بخصوص المسألة الثانية، فلا شك أنه كان يجني المتعة في تبليغ الرسالة وتحقيق الذات. لم يشتغل سقراط في إطار مؤسساتي، ولكن في فضاء الأغورا، متحررا من ضغوط العمل والمراقبة المؤسساتية، فهو المشرع والمبرمج والمنفذ، تلك هي مقومات البطولة.

كان سقراط بطل زمانه الأكبر. كان يواجه مختلف القوى الاجتماعية مؤمنا بقدرته على التأثير فيها. لم يطمح إلى الارتقاء ماديا، ولكن إلى التسامي الروحي. فلو كان طموحه هو الترقية المادية وتسلق السلم الاجتماعي لكان حرمانه من مورد الرزق كافيا لعقابه وردعه، لذلك توجه العقاب إلى صد الروح عن تساميها بقتله.

رجل التعليم في زماننا كادح بالمعنى المعاصر لكلمة الكدح. إنه بروليتاري، بغض النظر عن طبيعة العمل الذي يقوم به والذي هو عمل فكري أو ثقافي .(Orga and Lawn, 1981) يشير  مفهوم البلترة عند أورغا إلى العملية التي تحصل عندما يفقد العامل القدرة على برمجة أعماله وعلى إنجازها، تتمثل تلك العملية أساسا في نقل مهاراته خارج ميدان العمل. يترتب عن هذه الوضعية تقلص دائرة استقلال المدرس الكادح، واشتداد المراقبة عليه، وتدني مهاراته، وتوتر علاقاته مع الإدارة. كانت هذه المشاكل تخص عمال المصانع في مرحلة أولى، ثم انتشرت بعد ذلك لتعم أوساط المدرسين وجميع ذوي الياقات البيضاء.

2. العمل والحاجات البشرية.

لقد اتجهت الأعمال في عصرنا الراهن نحو مزيد من التجانس، وبدأت تنمحي الفوارق بين العمل اليدوي والعمل الفكري. لذلك لزم أن ننظر إلى المدرس على أنه عامل بروليتاري قبل أن يكون مربيا، وظف لتربية الناشئة وفقا لبرامج وأهداف لم يخترها ولم يشارك في وضعها، وربما تعارضت مع ما يطمح إليه، وهو يتقاضى أجرا مقابل خدماته، وليست له سيطرة على الوضعية التعليمية التي تحكمها مبادئ بيروقراطية تخرج عن نطاق إرادته وتحكمه.إن ضغوط العمل التي تميل إلى سحق ذات المدرس الكادح، وفقدان القدرة على السيطرة على الأوضاع  هي الخصائص الأساسية التي يعبر عنها مفهوم البلترة، وهي التي تحدد حقيقة وجوده كمدرس. لذلك اعتبرت مسألة الشغل من القضايا الأساسية التي تهم جميع الكائنات البشرية، وأصبح مفهوم الشغل يحتل مكانة مركزية في جميع العلوم (Galtung ;1985). هذا ما عبر عنه الباحث رشارد براون بقوله أن أهم الأسئلة وأكثرها خصوبة في علم الاجتماع هو ذلك السؤال الذي نطرحه على الناس لمعرفة ماذا يعملون، لأنه يمكننا من معرفة حقيقة تجربتهم في الحياة ( أورد. (Burgess, 1986 وهذا ما ذهب إليه هوغس Hughes أيضا حين قال بأن مفهوم العمل هو مفتاح معرفة حياة الإنسان ووجوده الاجتماعي وهويته ( اورده هارتنت Hartnett (1982). وقد سبق لولر (Waller, 1932) أن طرح هذا السؤال بالنسبة للمدرسين قبل عدة عقود وصاغه على الشكل التالي : ماذا يصنع فعل التعليم بالمعلمين ؟ وما هي محددات مهنة التعليم ؟ غير أن الجواب عن هذا السؤال ظل عالقا زهاء نصف قرن، ولم يبدأ الاهتمام بشكل جدي بقضايا العمل التربوي ودلالاته بالنسبة للمدرسين، وضغوطه عليهم، وآثاره على نفسيتهم وروحهم المعنوية إلا في بداية السبعينيات. وتعتبر أعمال كيدي (Keddie, 1971). وأعمال شارب وغرين.(Sharp and Green, 1975) رائدة في هذا المجال. فقد حاولوا تسليط الضوء على الواقع الذاتي للمدرسين في علاقته بضغوط العمل في إطار وضعية محددة. ثم درس رنلد غراس بعد ذلك تأثير ظروف العمل على وعي المدرسين البريطانيين من منظور اجتماعي-تاريخي على إمتداد النصف الثاني من القرن التسع عشر والقرن العشرين (Grace, 1978).

وإذا كان المدرس من جملة الكادحين الذين يشتغلون في وضعيات وظروف قاهرة، فإنه إنسلن يتميز بما لديه من إرادة ونزوع إلى الحرية والاستقلال، وبما له من حاجات فيزيولوجية وسيكولوجية. لذلك، فإن أية نظرية في العمل لابد وأن تنطوي على تصور معين لدوافع الإنسان وحاجاته. ذلك لأن مفهوم الحاجة يساعد على فهم حقيقة وجوده الاجتماعي وواقعه الذاتي في تفاعله مع مختلف عوامل محيط العمل. وقد حاول بعض الباحثين المهتمين بدراسة ظاهرة الشغل في المنظمات الصناعية وغيرها بلورة نظرية عن الحاجات على أساس تصور معين لطبيعة الإنسان. ولعل من أشهر الإنجازات التي تحققت في هذا المجال تلك التي ترتبط بأسماء كل من أبرهام ماصلو (Maslow,1954) وفردريك هرزبرغ(Hertzberg,1966) وجوهان غالتونغ (Glatung,1985).

يرى ماصلو أن القوة الدافعة في العمل هي الرغبة في تلبية مجموعة من الحاجات. ولكن هذه الحاجات لا تفرض نفسها على الفرد دفعة واحدة وفي وقت واحد، بل تظهر الواحدة منها تلو الأخرى وفقا لمنطق الأوليات الذي يحكم تراتبها. وأول ما يظهر من الحاجات عند الفرد، في نظره، هي الحاجات الفيزيولوجية التي تفصح عن نفسها بواسطة الشعور بالجوع والعطش الخ. تليها الحاجة إلى الأمن، وهي تفصح عن نفسها من خلال الخوف من انقطاع الموارد التي تلبي الحاجات السابقة، ثم تأتي بعدها الحاجات الاجتماعية، وهي تتمثل في الرغبة في إقامة علاقات ذات معنى ودلالة مع الآخرين، وتليها الحاجة إلى الاعتبار الذاتي، ويقصد بها اعتبار الشخص لذاته وتقدير الآخرين له. وعندما تتحقق هذه الحاجات كلها يشعر الشخص بالرغبة في تحقيق الذات self actualization وهي اسمى الحاجات كلها على الإطلاق، وتتحقق عندما يشعر الشخص بأن ما يفعله يتطابق تماما مع ما ينوي ويقصد فعله. ويرى ماصلو أن الحاجات العليا لا يستشعرها المرء إلا إذا استطاع تحقيق ما دونها في الرتبة أو على الأقل تحقيقها بنسبة مهمة.

وأما هرزبورغ فإنه انطلق من نظرية ماصلو ليؤسس نظريته المشهورة باسم " نظرية الحوافز والوقاية الصحي"Motivator hygiene theory، ويميز فيها بين نوعين من الحاجات :

أ- الحاجات التي يتوقف إشباعها على ما يسميه هرزبرغ عوامل الوقاية الصحية hygiene factors  في محيط العمل. يتعلق الأمر بالحاجات الفيزيولوجية والاجتماعية والحاجة إلى الأمن. وأما عوامل الوقاية الصحية فيقصد بها سياسة المنظمة وإدارتها وأجهزة المراقبة والأجور والعلاقات البيشخصية وظروف العمل. يحول إشباع هذه الحاجات دون تولد الشعور بالأسى والألم، ولكنه لا يخلق الشعور بالمتعة والرضا. وأما عدم إشباعها فإنه يولد الألم والقلق والانزعاج والشعور بالحرمان وعدم الرضا.

ب- الحاجات التي ينم إشباعها عن ارتقاء الذات وتناميها  كالحاجة إلى اعتبار الذات والحاجة إلى تحقيقها، وهي ترتبط بالعوامل المحفزة motivator factors كالإنجاز والمسئولية والاعتراف بالإنجاز وتقديره وإمكانيات الترقية وطبيعة الشغل ذاته. عندما يتسنى للشخص إشباع هذه الحاجات فإنه يشعر بالمتعة والرضا والارتياح. ولكن عدم إشباعها لا يولد الشعور بالأسى والألم ولا بالحرمان وعدم الرضا.

تختلف العوامل التي تفسر ظاهرة الاستياء وعدم الرضا عن العمل، حسب هذه النظرية، عن العوامل المسئولة عن تنامي الشعور بالرضا عن العمل. ذلك لأن الرضا عن العمل يرتبط بعوامل الوقاية الصحية، فإن كان تقدير الفرد لهذه العوامل سلبيا فإنه سيكون عرضة لمشاعر الحرمان والإحباط وعدم الرضا عن العمل، وإذا كان تقديره لها إيجابيا أمكنه التخلص من هذه المشاعر. ولكن الاتجاه الإيجابي نحو عوامل الوقاية الصحية، وإن كانت تساعد على التخلص من مشاعر الحرمان والإحباط وعدم الرضا، فإنها مع ذلك لا تولد الشعور بالارتياح والرضا عن العمل.  وأما الرضا عن العمل فإنه يرتبط بالعوامل المحفزة:  فإن كانت نظرة الفرد إليها إيجابية، أدى ذلك إلى تنامي الشعور بالرضا عن العمل. وأما النظرة السلبية إليها فلا يعتبرها هرزبورغ كافية للإيقاع بالفرد في ورطة الشعور بالحرمان.

ولقد استعمل أرجرس Agiris نظرية ماصلو لتفسير ظاهرة الاستلاب وانسلاخ الفرد عن واقع العمل، وعزى ذلك إلى التعارض القائم بين خصائص المنظمة وحاجات الفرد السامية، من حيث أن المنظمة لا توفر للفرد الشروط الضرورية لإشباع الحاجة إلى اعتبار الذات وتحقيقها.

وعلى الرغم من أهمية نظرية ماصلو وخصوبتها المتجلية فيما استلهمته من أعمال، فإنها تعرضت لانتقادات عديدة؛ إلا أن هذه الانتقادات لا تقلل من قيمتها، بل تشهد على خصوبتها بطريقة أخرى. ذلك لأن النقد لم يؤد إلى أحداث قطيعة نهائية معها، بل ساعد على تطويرها من خلال تعديلها وإغنائها. ولعل أهم ما يؤخذ على ماصلو قوله إن الحاجات لا تظهر دفعة واحدة وفي وقت واحد؛ ونفى بعض الباحثين أن تكون متراتبة ومتفاوتة من حيث قيمتها وأهميتها بالنسبة لحياة الإنسان(Galtung, 1985)..

وإذا كانت بنية الحاجات قد أخذت شكلا هرميا في نظرية ماصلو فإن غالتونغ قدم لنا تصورا آخر عنها، وميز فبها بين مجموعتين وهما : الحاجات المادية أو الفيزويلوجية والحاجات اللامادية أو الروحية. وقسم كل مجموعة منهما إلى قسمين، وهي الحاجات التي يتوقف إشباعها على السلوك الفعلي للشخص العياني المحدد، والحاجات التي يتوقف إشباعها على الإمكانيات التي تتيحها طريقة اشتغال البنيات الاجتماعية. ويترتب عن هذا التقسيم وجود أربعة أنواع من الحاجات، نوردها في الخطاطة التالية مرفقة بنقائضها موضوعة بين قوسين.

أنواع الحاجات ونقائضها

 

الحاجات التي يتوقف أشبعها على نشاط الفرد

الحاجات التي يتوقف إشباعها على طريقة اشتغال البنيات

الحاجات المادية

ضمان العيش والبقاء

(العنف، الموت)

 

الرفاهية والرخاء

(الفقر، الموت)

الحاجات اللامادية

الحرية

(القمع)

إثبات الهوية

(الاستلاب)

                  المصدرGaltung، 1985، ص 131.

يقصد بالرفاهية والرخاء الحالة التي يكون عليها الإنسان عندما تتحقق له كل شروط العيش كالمأكل والملبس والمسكن والادخار والتعليم والصحة ووسائل النقل والاتصال؛ ويمتد بعضها إلى مشارف الحياة النفسية أو الروحية للإنسان. وما يميز الحاجات المادية هو كونها معرضة باستمرار للانتفاء، إما بسبب العنف المباشر المؤدي إلى الموت، وإما بسبب العنف غير المباشر المرتبط بطريقة اشتغال البنيات، والذي يؤدي عبر الفقر إلى الموت البطيء. وأما الحاجات اللامادية فإنها ملازمة لحياة الإنسان، ولا يتوقف طهورها على ولوج مرحلة الرفاهية والرخاء، بل ربما وجدت لدى الحيوان أيضا، ولعل ما يدل على ذلك هي حالة الاكتئاب التي تظهر على الحيوانات البرية التي تمضي حياتها في سجن الحدائق.

ولما كانت نظرية العمل تقتضي بالضرورة نظرية الحاجات لزم النظر إلى المدرس باعتباره إنسانا يسعى، قبل كل شيء، من خلال نشاطه المهني، إلى ضمان العيش والرخاء، يلازمه في ذلك طموح إلى الحرية ولاستقلال وإثبات الهوية. ولكن، ماذا لو أدت طريقة اشتغال بنيات المنظمة  التي يعمل فيها إلى سلب حريته وهويته ؟

 

Partager cet article
Repost0

Recherche

Archives

&Amp;#1593;&Amp;#1606;&Amp;#1575;&Amp;#1608;&Amp;#1610;&Amp;#1606; &Amp;#1575;&Amp;#1604;&Amp;#1605;&Amp;#1602;&Amp;#1575;&Amp;#1604;&Amp;#1575;&Amp;#1578;

دروس في الفلسفة

Liens