مفهوم الدولة عند إميل دوركايم
أحمد أغبال
تصور دوركايم للسياسة
ليست السياسة، في نظر إميل دوركايم، واقعا قائما بذاته في استقلال عن المجتمع، بل هي من صميم التمثلات الجمعية. ومما يدل على ذلك، في نظره، أن الاشتراكية بوصفها تيارا من التيارات السياسية المعاصرة، إنما هي واقعة من وقائع الرأي العام أو شكلا من أشكال الفعل الإنساني الذي يرمي إلى تحقيق مثل أعلى يتمحور حول قيم العدالة الاجتماعية والمساواة. إنها بهذا المعنى تصور سياسي لما ينبغي أن يكون عليه الواقع، أو حلم من أحلام الروح الجمعية. إنها بعبارة أخرى شكل من أشكال التمثلات الجمعية.
إن التصورات السياسية هي من جملة التمثلات الجمعية، تشترك معها في بعض الخصائص، وتتميز عنها بخصائص أخرى. تتميز التمثلات الجمعية بكونها ضرورية بحكم ارتباطها الوثيق بالمحيط الاجتماعي وبنيته الأساسية؛ فلا وجود لمجتمع بدون تمثلات مشتركة. وعلى الرغم من كونها شديدة الصلة بالواقع، فإنها تحتفظ لنفسها بنوع من الاستقلال. وتتميز أيضا بما تنطوي عليه من قوة الإكراه والإلزام. تنطبق هذه الخصائص على السياسية أيضا بوصفها واقعة من الوقائع الاجتماعية. ولذلك اعتبرت شكلا من أشكال التمثلات الجمعية. وبوصفها كذلك، فإنها لا تعدو أن تكون مجرد وهم من أوهام الضمير الجمعي.
يعتقد الناس ويتوهمون أن للحاكم قوة أو سلطة مطلقة، ويعتقد الحاكم أن للسلطة المركزية من القوة ما يجعل تأثيرها يسري في هيكل المجتمع بأسره. ويعتقد عامة الناس أن لبعض الأشخاص قدرة خارقة للعادة، ويضعون فيهم ثقتهم، ويقعون تحت تأثيرهم بسبب معتقداتهم. ذلك لأنهم يتصورون السلطة من خلال الأشخاص الذين يمثلونها ويجسدونها في ظروف تهيأت لهم فيها الفرصة للأخذ بزمام المبادرة. وبسبب نجاحهم النسبي في ظروف معينة، أضفت عليهم العامة هالة من القداسة، ونسبت إليهم القدرة على التأثير في مجريات الأحداث والقدرة على صنع التاريخ. وما هي في الحقيقة إلا تمثلات وأوهام. تبدو السياسة، من وجهة نظر دوركايم، على أنها جملة من التمثلات الناشئة عن التفاعل بين طرفي معادلة السلطة، وهما الحاكم والمحكوم. ينشأ هذا الوهم عن عدم قدرة الناس على فهم حقيقة الدولة بوصفها مجموعة متميزة من الموظفين في المقام الأول. ولما لم يفهموا هذه الحقيقة، حولوا الدولة في أذهانهم إلى كيان مفارق للمجتمع يتحكم في إرادتهم ويوجهها وفقا لغاياته الخاصة. ومع ذلك، يبقى هذا الوهم ضروريا لاشتغال المجتمع وتنظيمه. وليس العلم بقادر على تبديد هذا الوهم الضروري.
ومن هنا يمكن تعريف السياسة بأنها الوهم الذي يقوم عليه النظام الاجتماعي، إنها التمثلات التي تنظم المجتمع. يمكن القول بعبارة أخرى، إن السياسة هي تجسيد للتمثلات الجمعية في مرحلة من مراحل تطور المجتمع. ويلزم عن هذا القول إنه كلما تغيرت التمثلات الجمعية أدى ذلك إلى حدوث تغير في مؤسسات الدولة.
وإذا كانت السياسة من جملة التمثلات الجمعية، فإنها تتصف بمجموعة من الخصائص التي تنفرد بها وتميزها عن التمثلات الجمعية للمجتمع الكلي. تتميز التمثلات الجمعية، التي يطلق عليها دوركايم أحيانا "الحياة النفسية"للمجتمع الكلي، بكونها هلامية،غامضة وغير منظمة. تبدو الحياة النفسية للمجتمع كما لو كانت تلقائية، أوتوكاتيكية لاإرادية، ولا شعورية إلى هذا الحد أو ذاك. تنتقل عناصر الحياة النفسية الجماعية أو التمثلات الجمعية بين الأفراد الذين يشكلون الجماعة السياسية، وتنتشر في الأوساط التي تتولى مهمة إضفاء الطابع المؤسساتي على أنماط معينة من السلوك والتعامل. ومن خلال التفاعل بين المجتمع الكلي والدولة تتشكل حياة نفسية داخل مؤسسات الدولة. وتتميز الحياة النفسية التي تسكن الجهاز الحكومي بكونها عقلانية، منظمة، وعلى قدر كبير من الوعي. ذلك لأن أعضاء الحكومة لا يتخذون قراراتهم إلا من خلال سلسلة من النقشات والمداولات والتحليل والتمحيص. ومن خلال هذه العمليات تتشكل الحياة النفسية للدولة على أساس عقلاني. والفرق بينها وبين الحياة النفسية للمجتمع الكلي كالفرق بين وعي الفرد ولاشعوره. تشتغل الحياة النفسية للمجتمع بطريقة أوتوماتيكية لاإرادية ولاشعورية، تتحكم فيها التقاليد والأعراف؛ وأما الحياة النفسية للدولة فهي متعقلة، تفكر وتناقش وتتخذ القرارات عن وعي وروية. وفي ذلك يقول دوركايم: "إن التداول والتفكير خاصيتان من خصائص ما يجري داخل الجهاز الحكومي"[1].
ومع ذلك، فإن الحياة النفسية للمجتمع والحياة النفسية للدولة ترتبطان مع بعضهما البعض في علاقة لا تنفصم، وتتفاعلان بشكل يجعل كل واحدة منهما تغذي الأخرى، وتتبادلان التأثير فيما بينهما. إنهما في حوار لا ينقطع. في إطار عملية التفاعل المتبادل هذه، تبدو قرارات الدولة وأنشطتها كما لو كانت عبارة عن ردود أفعال إزاء توقعات المجتمع. فالحكومة تحاول أن تبدو كما لو كانت تستجيب من خلال قراراتها لمطالب المجتمع. وأما مطالب الأفراد المعزولين، فإن الدولة لا تعيرها أي اهتمام، ولا تهتم بها إلا إذا اتخذت شكلا منظما إلى هذا الحد أو ذاك.
وهكذا، فإن ما كان يبدو للوهلة الأولى على أنه العقل المدبر، أصبح الآن عقلا مشتركا يتخذ القرارات بناء على موازين القوى بين طرفي عملية التفاعل (المجتمع المدني والدولة). غير أن ذلك لا يلغي الدور المركزي للدولة فيما يتعلق بتدبير الشأن العام. ولكن هذا الدور لا يبرر انفراد الدولة بالقرار. وما أن تستفرد الدولة بالقرار حتى تجلب عليها غضب المجتمع. ذلك لأن قوة الدولة أو ضعفها إنما يتحددان وفقا لطبيعة التصورات المشتركة أو التمثلات الجمعية؛ وتتحدد هذه التمثلات بدورها من خلال عملية التفاعل بين المجتمع المدني والدولة. بل إن التفاعل بين الطرفين يجري في نطاق التمثلات الجمعية التي تضفي على البعد السياسي للمجتمع معناه ودلالته، وتجعل منه كيانا يشتغل بطريقة متميزة. وقد يؤدي التغير في التمثلات الجمعية أو الرأي العام إلى حدوث أزمة سياسية عميقة أو تغير جذري في نظام الحكم. وقد يحدث التغير عندما ينعدم التوافق بين ما يتوقع كل طرف من الطرف الآخر.
وإذا كان كل نشاط سياسي يتحدد بموازين القوى بين طرفي عمليتي التفاعل، فإن ذلك لا يلغي دور الدولة بوصفها الفاعل المحتكر لما يسميه ماكس فيبر بحق استعمال العنف المشروع. سوف نحاول فيما يلي بيان مصدر قوة الدولة وضعفها ومشروعيتها وفقا لنظرية دوركايم.
الوظائف الاجتماعية وبعدها السياسي حسب نظرية دوركايم
لنتذكر أن دوركايم قد جعل من الإكراه خاصية ملازمة لكل واقعة اجتماعية. في كتابه "حول التقسيم الاجتماعي للعمل" يطرح دوركايم المسألة المتعلقة بطبيعة الجريمة ووظيفة العقاب في المجتمع. عندما يرتكب فرد ما جريمة شنيعة في حي من أحياء المدينة، مثلا، يثير ذلك سخط السكان، ويفصحون عن مشاعر مشتركة إزاء ذلك الحدث المؤلم، ويتشكل موقف مشترك ومتميز، ويتخذ شكل شعور جمعي أو عمومي قائم بذاته في استقلال عن شعور كل فرد مأخوذ على حده؛ إنه "السخط العمومي" «la colère publique »، حسب تعبير دوركايم، ذلك الانفعال الجمعي الذي يمتزج فيه سخط الفرد بسخط غيره من أفراد المجموعة البشرية التي ينتمي إليها ليشكل قوة تتجاوزهم جميعا وتفرض عليهم منطقها الجمعي المتميز. إنها التمثلات الجمعية في حالة غليان. نجد مثل هذه الانفعالات الجمعية عند الحشود. وقد يتحول الأفراد الوديعون ذووا المزاج الهادئ المسالم إلى قوة عنيفة عندما يجتمعون، فيخضعون في سلوكهم لمنطق دينامية الجماعة، ويتحولون بالتالي إلى قوة عنيفة. هكذا يؤدي التفاعل بين الأفراد إلى تشكل تمثلات جديدة تتمتع بقوة خاصة مستقلة عن كل فرد مأخوذ على حدة، ولا يجد الفرد مناصا من الخضوع لها. والنتيجة هي أنه لا وجود للفرد المستقل بذاته تماما عن الحياة النفسية للجماعة، ولا يمكنه الإفلات تماما من قبضة التمثلات الجمعية. إن هذه التمثلات هي القوة الأساسية التي تأجج انفعالات الفرد وتخرجه من ذاته، وتجعله تابعا للجماعة، خاضعا لنفوذها وإكراهاتها. إن قوة التمثلات الجمعية هي العامل الأساسي الذي يفسر، في نظر دوركايم، ظواهر الجريمة والعقاب في المجتمع. إن الجريمة، من وجهة النظر هذه، هي الفعل الذي يلحق الأذى بما يسمى "الضمير الجمعي". يتمثل هذا الأخير في "رد الفعل الانفعالي الذي يتحقق بدرجات متفاوتة [حسب خطورة الفعل المرتكب] والذي يمارسه المجتمع بواسطة كيان مؤسساتي على الأفراد الذين قاموا بخرق بعض قواعد السلوك"[2]. وينشأ رد الفعل هذا عن وجود تصور جماعي لما هو مشروع ومباح. وفي غياب هذا التصور لن يكون للعقاب معنى.
إن العقاب القانوني هو المؤشر الدال على ظواهر الجريمة المعترف بها على مستوى المجتمع الكلي؛ ويمثل تحليل دوركايم لهذا النوع من العقاب خطوة حاسمة في اتجاه بناء السياسة كموضوع لعلم الاجتماع. ويؤكد هذا التحليل الدور السياسي الذي تلعبه التمثلات الجمعية من حيث أنها تمتلك من قوة الإكراه ما يلزم الأفراد، في الفترات العادية على الأقل، على الامتثال والخضوع للنظام العام، وتصب جام غضبها على كل سلوك منحرف، وتنزل العقوبة على مرتكبه. ولما كانت التمثلات الجمعية هي الأساس الذي تقوم عليه التنشئة الاجتماعية التي تفرض من خلالها على الطفل قواعد المجتمع ومعاييره، وتجعله منه كائنا يخضع للنظام الاجتماعي القائم، أمكن القول بأنها مصدر كل إكراه سواء اتخذ شكلا اجتماعيا أو سياسيا. ومن الوظائف التي تضطلع بها التمثلات الجمعية أيضا أنها تحدد المقدار الكافي من الامتثال الضروري لقيام المجتمع والحفاظ على توازنه. في المجتمعات المتطورة، تنتظم هذه التمثلات في إطار أجهزة ومؤسسات من أجل أداء هذه الوظائف بأكبر ما يمكن من الفعالية. ومما يترتب عن ذلك أن السلطة هي من صميم الآليات التي يستعملها المجتمع لمراقبة ذاته. ينتج كل مجتمع، مهما كان مستوى تطوره، معايير وقواعد وآليات لمراقبة مدى احترام الأفراد لتلك القواعد. وهذا ما عبر عنه دوركايم في كتابه "الانتحار" بقوله: "المجتمع سلطة تنظم الأفراد"[3]. في كتابه "الأشكال الأولية للحياة الدينية" قدم لنا دوركايم شرحا وافيا للدور الذي تلعبه التمثلات الجمعية في الحفاظ على النظام. يقول بالحرف الواحد:
«Les manières d’agir auxquelles la société est assez fortement attachée pour les imposer à ses membres, se trouve, par cela même marquées du signe distinctif qui provoque le respect. Parce qu’elles sont élaborées en commun, la vivacité avec laquelle elles sont pensées par chaque esprit particulier retentit dans tous les autre et réciproquement. Les représentations qui les expriment en chacun de nous, ont donc une intensité à laquelle des états de conscience purement privés ne sauraient atteindre: car elles sont fortes des innombrables représentations individuelles qui ont servi à former chacune d’elles. C’est la société qui parle par la bouche de ceux qui les affirment en notre présence : c’est elle que nous entendons en les entendant et la voix de tous a un accent que ne saurait avoir celle d’un seul. La violence même avec laquelle la société réagit par voie de blâme ou bien de répression matérielle, contre les tentatives de dissidence, en manifestant avec éclat l’ardeur de la conviction commune, contribue à en renforcer l’empire»[4]
وما يستفاد من هذا القول أن لكل مجتمع معتقدات مشتركة، ويعمل كل شيء فيه على دعم نفوذ هذه المعتقدات التي تدعمها عمليات التفاعل الاجتماعي وتزيدها قوة. ومن المفارقات أن كل محاولة للمساس بها وخرقها تزيد من قوتها بسبب ردود الفعل التي تولدها. وهكذا يساهم الرأي المشترك أو العمومي في الحفاظ على النظام القائم واستمراره، بحيث يمكن القول بأن أصل النظام هو الرأي العام، وأن وظيفة الرأي العام هي الحفاظ على النظام.
ينطبق هذا التحليل أيضا على المجتمعات التي تتوفر على جهاز الدولة. في كتابه "حول التقسيم الاجتماعي للعمل" انكب دوركايم على دراسة وظائف الدولة ودورها في الحياة السياسية من خلال تحليل وظيفة العقوبة القانونية. وتبين له أن للدولة وظيفتان أساسيتان: تتجلى إحداهما من خلال الحياة النفسية للدولة التي تعكس الحياة النفسية للمجتمع الكلي. والمقصود بذلك أن وظيفة الدولة تكمن في إعادة صياغة ما تنطوي عليه المشاعر الجماعية بشكل ضمني من أوامر ونواهي صياغة شكلية، وينظمها حسب أهميتها بشكل عقلاني ومتراتب، مما يجعل العقوبة تتناسب مع خطورة الانحراف. ويكون من نتائج ذلك ازدياد ولاء الأفراد للدولة عندما تكون عادلة في تطبيعها للقانون مراعية لمدى تناسب العقوبات مع درجة خطورة الانحراف عن القواعد والمعايير التي يفرضها الضمير الجمعي. يبدو وكأن المجتمع يضع مشاعره الجماعية بين يدي الدولة ويفوض لها حق ترجمتها إلى قوانين والسهر على تنفيذ مقتضياتها نيابة عنه. وبذلك تضطلع الدولة بحق ممارسة العنف المشروع: تعاقب، وتسجن، وتقتل من خلال تطبيق أحكام الإعدام. وهكذا اكتسبت الدولة وظيفة القمع الاجتماعي إلى جانب وظيفتها التأسيسية المتمثلة في ترجمة ما تنطوي عليه التمثلات الجمعية من قواعد ومعايير إلى قوانين وأحكام.
لقد تشكلت سلطة الدولة كنتيجة للعمليات التنظيمية التي كانت الجماعات البشرية في حاجة إليها كلما ازدادت كثافتها السكانية، وكلما ازداد تعقيدها بسبب التقسيم الاجتماعي للعمل. والحقيقة أن كل جماعة بشرية مهما كان مستوى تطورها تتوفر على نظم للضبط تكون في البداية محايثة لكينونتها وغير متميزة عن المجتمع الكلي. إن رئيس القبيلة أو شيخها في المجتمعات البدائية لا يوجد بينه وبين من يخضعون لسلطته فرق كبير، فهو يوجد على مسافة قريبة منهم. ومع تفكك النظام القبلي، وازدياد عدد السكان ظهر الميل إلى تمركز السلطة في إطار تنظيمي متميز عن المجتمع الكلي. ومع ظهور الدولة، اتسع مفهوم السياسة ليشمل إلى جانب التمثلات الجمعية الدولة وموظفيها، ونظم الحكم كالنظام الملكي، والأرستقراطي، والديمقراطي، وكذا الفئات التي تدعم نظام الحكم القائم والفئات التي تعارضه. ويمثل البعد التنظيمي في السياسة الجوانب المتعلقة بالمؤسسات والتشريعات أو ما يسميه دوركايم نمط الوجود السياسي manière d’être في مقابل أسلوب العمل السياسي manière de faire. يعكس هذا التمييز بين مستوى الوجود ومستوى الفعل تصور دوركايم لمستويات النظام الاجتماعي الذي ميز فيه بين المستوى المادي (الأساس المادي للمجتمع) ومستوى البنيات الشكلية (القوانين والتشريعات) والمستوى اللامادي (التمثلات الجمعية).
ويكتسي الميل إلى إضفاء الطابع الشكلي على آليات الضبط المرتبطة بالضمير الجمعي أهمية بالغة في تفسير دوركايم لنشوء المؤسسات السياسية كما سبقت الإشارة إلى ذلك. لقد أصبحت القوانين التي تحدد ما يجب وما لا يجب فعله تتمتع بوجود فعلي أشبه ما يكون بالأساس المادي للمجتمع عندما اتخذت طابعا شكليا صريحا، تفرض وجودها على الأفراد بنفس القوة التي تفرض القوى المادية نفسها عليهم. ولكنها قابلة للتطور والتغير: فما كان محظورا في الماضي قد يصبح مباحا في فترة لاحقة، وما كان يعتبر جريمة شنيعة قد يصبح مجرد جنحة صغيرة. ونظرا لكونها قابلة للتغير فإنها اقرب ما تكون إلى التمثلات الجمعية التي تخضع بدورها للتطور والتغير. وهكذا أدرج دوركايم البنيات الشكلية (القوانين المنظمة للعلاقات الاجتماعية) ضمن تصوره للنظام الاجتماعي الذي تحتل فيه مرتبة وسيطة تقع بين الأساس المادي للمجتمع وبنائه الفوقي المتمثل في التمثلات الجمعية. يطلق دوركايم على البنيات الشكلية اسم التنظيمات أو المؤسسات؛ يقول بهذا الصدد:
"هناك كلمة تعبر بشكل جيد عن هذا النمط من الوجود المتميز جدا، وهي كلمة مؤسسة. وفي الواقع، يمكننا، دون أن نشوه مدلول هذه العبارة، أن نطلق اسم مؤسسة على جميع المعتقدات وجميع أنماط السلوك التي قامت الجماعة بمأسستها"[5]
ولذلك تعتبر الدولة في نظر دوركايم مؤسسة سياسية بامتياز. وقد فرضت هذه المؤسسة نفسها عندما بلغ المجتمع درجة من التطور والتعقيد فقدت معها آليات الضبط التقليدية فعاليتها. يقول دوركايم: "إنه بمجرد أن بلغت المجتمعات السياسية درجة معينة من التعقيد، لم يعد بإمكانها أن تشتغل بشكل جماعي [لأداء وظيفة الضبط الاجتماعي] إلا من خلال تدخل الدولة"([6]). وفيما يلي عرض مفصل حول تصور دوركايم للدولة ومؤسساتها بناء على ما ورد من تحليلات في المقالة التي اقتبس منها هذا الاستشهاد.
مفهوم الدولة عند دوركايم
يرى دوركايم أن مفهوم الدولة هو من جملة المفاهيم الفضفاضة التي كثيرا ما تستعمل من غير أن يتم تحديد مضمونها بدقة. فهو يستعمل تارة للدلالة على المجتمع السياسي في كليته، ويستعمل تارة أخرى للدلالة على جزء معين من ذلك المجتمع. وحتى في الحالة التي يستعمل فيها بالمعنى الثاني فإن حدوده قد تتسع لتشمل العديد من المؤسسات دون تمييز. فقد يشمل مفهوم الدولة الكنيسة، والجيش، والجامعة وغيرها من المؤسسات العمومية التي تندرج في تكوين الدولة. ولكن تصور الدولة على هذا النحو قد يؤدي إلى الخلط بين نوعين مختلفين من التنظيمات وهما مؤسسات القضاء والجيش والجامعة من جهة، ومؤسسة الدولة بمعناها المتميز، من جهة أخرى. ولذلك لزم التفريق في نظره بين هيئات المهندسين والأساتذة والقضاة وبين مجلس الحكومة، والمؤسسة التشريعية، والوزارات، ومجلس الوزراء والمصالح التابعة لهذه الهيئات الحكومية. ويخلص دوركايم إلى حصر مفهوم الدولة في الهيئات الاجتماعية التي يحق لها التكلم باسم المجتمع الكلي. فعندما تتخذ الحكومة قرارا، أو يصوت البرلمان على قانون، فإن المجتمع كله يكون معنيا بالقرارات والقوانين الصادرة عن مختلف أجهزة الدولة، بمعنى أن هذه القرارات والقوانين تكون ملزمة للجميع. وأما المصالح الإدارية فإنها عبارة عن أجهزة وهيئات ثانوية تقع تحت سلطة الدولة؛ وبالتالي فإنها ليست جزءا من كيانها الذي يتميز عنها بطبيعة الوظائف التي يؤديها. ومن هنا يمكن القول بأن مفهوم الدولة مرادف لمفهوم المجتمع السياسي. ذلك أنه عندما يبلغ المجتمع السياسي درجة معينة من التعقيد يصبح عاجزا عن مزاولة نشاطه التنظيمي، ولا يستطيع بالتالي أداء وظيفته إلا من خلال جهاز الدولة التي تتكفل نيابة عنه بوظيفة الضبط الاجتماعي.
وتكمن وظيفة الدولة، حسب دوركايم، في إحلال التفكير العقلاني في المجتمع وتنظيمه بطريقة عقلانية. وتزداد أهمية التفكير العقلاني في المجتمع كلما نمت الدولة وتطورت. وليس يعني ذلك أن الدولة هي السبب في وجود الروح الجماعية وانتشارها في الجسم الاجتماعي، ذلك لأن التاريخ يشهد على وجود مجتمعات سياسية بدون دولة. إن ما يجعل التماسك الاجتماعي ممكنا هي المعتقدات المشتركة التي تحرك الأفراد بشكل غامض ولاشعوري تقريبا، وتجعل منهم كتلة واحدة هي عبارة عن حشد دائم يتحرك بطريقة غير واعية تماما، تحركه قوة انفعالية غالبا ما تقع خارج دائرة الوعي الفردي مما قد يجعل من الحشد قوة عنيفة ومدمرة. ويرجع السبب في ذلك إلى عدم توفر الحشد على مركز يستقبل تلك القوى العمياء ويتفكر فيها ويعقلنها قبل أن تقدم على فعل غير محسوب العواقب. وهنا بالضبط يكمن دور الدولة المتمثل في التحكم العقلاني في انفعالات المجتمع.
تكمن وظيفة الدولة، إذن، في توجيه الضمير الجمعي في الاتجاه الصحيح. لأن غياب مركز القرار العقلاني قد يؤدي إلى تصريف القوة الانفعالية المرتبطة بالضمير الجمعي أو الحشد بشكل عشوائي مدمر بسبب طبيعتها غير العقلانية. وقد يحصل ذلك عندما ينشب خلاف في المجتمع ويكون جهاز الدولة ضعيفا غير قادر على معالجة أسباب الخلاف بطريقة عقلانية، مما قد يؤدي إلى نشوب حرب أهلية تأتي على الأخضر واليابس. أما إذا كانت الدولة قوية وعقلانية، فإنها ستطرح القضايا الخلافية على طاولة التداول والنقاش، وتتخذ القرار المناسب الذي يرضي الجميع. تلك هي وظيفة الدولة ومبرر وجودها في المجتمعات المعقدة. إن ما يسمح للدولة بالاضطلاع بهذه المهمة هو موقعها المركزي الذي تتقاطع عنده كل المصالح ويجعل منها كيانا محايدا بالنظر إلى كل طرف من الأطراف المتنافسة في المجتمع. ونظرا لموقعها المركزي والمحايد في المجتمع تستطيع الدولة أن تدرك مدى تعقد الوضعيات التي تنشأ عن التفاعل بين مختلف التوجهات الاجتماعية، وتستحضر في معالجتها للقضايا الخلافية ما غاب عن إدراك كل طرف من الأطراف المتنافسة. وبذلك يمكنها الوصول إلى حلول مرضية ما كان من الممكن أن تخطر ببال القوى المتصارعة.
إن الدولة بهذا المعنى هي العقل المدبر؛ إنها العقل وقد حل محل القوة الانفعالية الغامضة. وهذا ما يفسر طبيعة الدساتير التي تتشكل الدولة على أساسها والتي تكمن وظيفتها في إحلال منطق التداول العقلاني والمعقول محل السلوك الانفعالي الأحادي الجانب. وهذا ما يفسر ظهور مجالس الحكومة إلى جانب الحاكم الذي يمثل الدولة. تكمن وظيفة هذه المجالس في التداول حول مختلف المشاريع المقترحة قبل تنفيذها. ولتكون هذه المشاريع مقبولة في المجتمع، كان لابد أن تضم المجالس ممثلين عن مختلف التوجهات الموجودة في المجتمع، بحيث يمكن لمختلف المشاعر الهلامية الغامضة التي يزخر بها المجتمع أن تفصح عن نفسها داخل المجالس الحكومية.
ويميز دوركايم في أنشطة الدولة بين نوعين: نشاط موجه نحو الخارج وآخر موجه نحو الداخل. يتميز النشاط الأول بكونه عنيف وعدواني، ويتميز الثاني بكونه مسالم وأخلاقي. هذا من حيث المبدأ. ولكن الأهمية التي يكتسيها هذا النشاط أو ذاك اختلفت باختلاف المراحل التاريخية التي مرت بها المجتمعات البشرية. في المراحل السابقة من تاريخ المجتمعات البشرية، كانت الغلبة للنشاط الموجه نحو الخارج على حساب النشاط الموجه نحو الداخل. كان الشغل الشاغل للدولة إلى عهد قريب هو توسيع نطاق حدودها لتضم أراضي جديدة وتبسط نفوذها على سكانها بالقوة. وكان الحاكم هو القائد الأعلى للجيش المهووس بالغزو، وكان الجيش هو وسيلته الأساسية في الحكم ما دام اهتمامه كله منصبا على الغزو. ويرى دوركايم أن الدافع إلى الغزو لم يكن ذا صلة بالمشكلات الاقتصادية التي يتخبط فيها البلد، بل كان يرتبط في المقام الأول بتصور الحكام للدولة. كانوا ينظرون إلى الدولة على أنها كيان واقعي قائم بذاته، موجود كشيء في ذاته، لا بوصفها أداة في خدمة المواطنين من أجل تحقيق العدالة، والتنسيق بين الأنشطة الاجتماعية، وتدبير الشأن العام بما يضمن التقدم والرفاهية للسكان. وبدل أن تكون الدولة وسيلة في خدمة المجتمع تحولت إلى غاية تستقطب جهود الأفراد وتسخر كل إرادة لدعمها وتقويتها أكثر فأكثر، حتى تحولت إلى قوة مستبدة تقهر إرادة المجتمع.
وعندما تأخذ الدولة طابعا عسكريا واستبداديا، تنشغل بالحروب، ولا تولي أهمية كبيرة للوظيفة المتجهة نحو الداخل والمتمثلة في تدبير الحياة الخلقية للمجتمع في اتجاه تحقيق مزيد من الرفاهية والعدالة. وعندما تكون الأولوية في الدولة للوظيفة المتجهة نحو الخارج يتم اختزال القانون إلى ما ترغب فيه الدولة وترتضيه بمعزل عن إرادة المجتمع. ويرى دوركايم أنه كلما تقدم المجتمع ازدادت أهمية الوظيفة المتجهة نحو الداخل على حساب الوظيفة المتجهة نحو الخارج. فبينما كان النشاط العسكري هو النشاط المهيمن في سلوك الدولة خلال المراحل السابقة، أصبحت الأنشطة القانونية والتنظيمية تحتل مكان الصدارة في المراحل اللاحقة، حتى إن الحروب أصبحت تمثل حالات استثنائية، بينما كان الاهتمام بالأنشطة القانونية والتنظيمية في الماضي هو الذي يمثل الحالة الاستثنائية. هكذا يتصور دوركايم تطور الدولة. يتجلى هذا التطور في تزايد حجم التشريعات والقوانين الجديدة. ذلك لأن تطور المجتمع، وازدياد درجة تعقيده بسبب التقسيم الاجتماعي للعمل الذي يفرز باستمرار نظما وظواهر جديدة، يستلزم سن قوانين جديدة. يتجلى ذلك من خلال التطور الهائل الذي عرفته الترسانة القانونية. فقد شمل التطور والتغير قانون الأحوال الشخصية، وقانون التجارة والصناعة، وقانون العقود والالتزامات وما إلى ذلك من القوانين التي تنظم مختلف مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، والتي لم يسبق للكثير منها أن وجدت من قبل.
وخلاصة القول: إنه كلما تطور المجتمع وخطى خطوة إلى الأمام إلا وتطورت معه مؤسسات الدولة، وازدادت حقوق المواطنين، واتخذت العلاقات الاجتماعية طابعا أكثر عدالة. ولقد أصبحت العدالة تحتل مكانة مرموقة في المجتمعات الحديثة، وأصبح مقياس تقدمها مرتبطا بمدى احترام حقوق الفرد؛ لأن العدالة هي، قبل كل شيء، إعطاء الفرد الحقوق التي يضمنها له القانون. والملاحظ، حسب دوركايم، أن حقوق الفرد قد ازدادت في المجتمعات الحديث واتخذت طابعا اجتماعيا، حتى إن الفرد أصبح قيمة في ذاته، يحاط بهالة من القداسة، يقول دوركايم:
"فبينما لم تكن للشخص أية قيمة في البداية، أصبح اليوم الكائن المقدس بامتياز، يُحدث كل طعن في شرفه نفس الأثر الذي يحدثه الطعن في الآلهة لدى المؤمنين بها في الأديان البدائية"([7])
وأما ضامن هذه الحقوق فهي الدولة التي نظر إليها دوركايم على أنها "الهيئة المدنية للعدالة" «organe civil de la justice» . وأما ما يبرر ضرورة قيام الدولة بهذا الدور فهو أن المجتمع ينطوي على قدر كبير من التفاوت بين الأفراد والطبقات والفئات فيما يتعلق بامتلاك وسائل القوة والنفوذ الاقتصادية منها والاجتماعية والثقافية وما إلى ذلك. ولكي لا يطغى البعض على البعض الآخر ويهضم حقوقه، يحتاج المجتمع إلى هيئة محايدة ومستقلة ومتعالية عن المصالح الفردية والفئوية والطبقية، قادرة على فهم ضروريات العيش المشترك. وتقتضي العدالة أن تعمل الدولة على الحد من مطامع كل من يريد استغلال مقومات العيش المشترك من أجل تحقيق مصالحه الأنانية على حساب المصلحة العامة ومصالح غيره من المواطنين. ومن هنا تأتي الوظيفة الأخلاقية للدولة حسب دوركايم. ولكن ذلك لا يعني، في نظره، أن تنفرد الدولة بالقرار، وتفعل ما تشاء دون أخذ بعين الاعتبار توجهات الرأي العام. هذا مع العلم أن قوة الدولة مستمدة من قوة الضمير الجمعي، إنها القوة "المحايثة للضمير المشترك" حسب تعبيره[8] ولذلك لزم إخضاعها لمراقبة القوى الثانوية التي تخضع لنفوذها، وإلا تحولت إلى دولة استبدادية ذات سلطة مطلقة لا حدود لها؛ وبدل أن تكون أداة لتحقيق المساواة والعدالة بين المواطنين تصبح غاية في حد ذاتها. ويكون من نتائج ذلك فقدان الثقة في مؤسسات الدولة مما قد يؤدي إلى نزع المشروعية عنها. ذلك لأن سلطة الدولة إنما نشأت كرد فعل إزاء توقعات الضمير الجمعي بوصفها سلطة مُفوَّضة تعبر عن إرادة الروح الجماعية. ولذلك يتوقع أن تسحب منها إذا استبدت برأيها ونصبت نفسها بوصفها قوة قائمة بذاتها.
[1] Emile Durkheim (1969). Leçons de sociologie :physique des mœurs et du droit. Paris : PUF. Coll : Bibliothèque de la philosophie contemporaine, p. 96.
[2] Emile Durkheim(1963). Les règles de la méthode sociologique. Paris : PUF. Coll : Bibliothèque de la philosophie contemporaine, p. 64.
[3] Emile Durkheim (1967). Le suicide. Paris : PUF. Coll : Bibliothèque de la philosophie contemporaine, p. 264.
[4] Emile Durkheim (1968). Les formes élémentaires de la vie religieuse. Paris : PUF. Coll : Bibliothèque de la philosophie contemporaine, p. 297.
[5] Emile Durkheim (1963). Les règles de la méthode sociologique, op. cit. p. XXIL.
[6] Emile Durkheim. L’Etat. Texte extrait de la Revue philosophique, n° 148, 1958. Publication posthume d’un cours datant de 1900-1905. Edition électronique, p. 4 http://classiques.uqac.ca/classiques/Durkheim_emile/textes_3/textes_3_6/durkheim_Etat.pdf
[7] Emile Durkheim. L’Etat. Op. cit. p. 7.
[8] Emile Durkheim (1967). De la division sociale du travail. Paris : PUF. Coll : Bibliothèque de la philosophie contemporaine, p. 51.