Overblog
Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
12 septembre 2006 2 12 /09 /septembre /2006 20:34
الميتافيزيقا الديكارتية
بين اللاهوت والنزعة الإنسية
أحمد أغبال
هل توجد قطيعة بين فلسفة ديكارت وفلسفة النهضة ؟ لازالت هذه المسألة محط خلاف بين الباحثين المختصين في دراسة التراث الديكارتي ومؤرخي الفلسفة إلى اليوم. يرى Henri Gouhier و Etienne Gilson أن ديكارت أحدث قطيعة مع فلسفة النهضة، وذهب Etienne Gilson إلى حد القول بأن ديكارت وضع حدا لمغامرات عصر النهضة، ووصفه Henri Gouhier بأنه يمثل نقيض النهضة "Anti-Renaissance"، واستدل على ذلك بما ورد في رسالة كتبها ديكارت إلى Beeckmann ندد فيها بالفلسفةالطبيعية لبعض الفلاسفة من المجددين في عصر النهضة. ومهما كان تأويل هذه الرسالة فإنه من الممكن مد الجسور بين فلسفة ديكارت والفلسفة الإنسية التي كانت قد بدأت تتشكل في فرنسا خلال عصر النهضة على يد كل من Sibiuda و Bovelles و Charronمن خلال مراجعة المشروع الفلسفي الديكارتي.
والحقيقة أن مشروع ديكارت الذي بلوره مند مارس 1636 والدي يهدف إلى تأسيس علم ذو صلاحية كونية قادر على الارتقاء بالطبيعة الإنسانية إلى أعلى درجات الكمال، هو امتداد لفلسفة النهضة التي كانت تسير في اتجاه الفصل بين الفلسفة واللاهوت والربط بين العلم والحكمة، والابتعاد عن اللاهوت السكولائي الذي جعل من الميتافيزيقا علما تأمليا لا تربطه أية صلة بالحكمة الإنسانية، وذلك على عكس ما نجده لدى أرسطو الذي استهل المقالة الأولى من الميتافيزيقا برسم صورة جميلة للحكيم. لقد جاء مشروع ديكارت كرد فعل ليس فقط ضد الفصل بين العلم والحكمة، بل جاء أيضا كرد فعل ضد الفصل بين الفلسفة الطبيعية والأخلاقية وبين الميتافيزيقا.
تعتبر مسالة العلاقة بين الفلسفة الأخلاقية والميتافيزيقا من المسائل الأساسية في الفلسفة الديكارتية. فقد كان مشروع ديكارت في ألأصل مشروعا للتركيب بين مختلف أبعاد الإنسان المعرفية والأخلاقية والوجودية. ولكنه اصطدم بعراقيل وصعوبات لها علاقة بالمناخ الثقافي العام ووضعية العلوم في زمانه، ولذلك جاءت مقالته في المنهج مقسمة على ثلاثة محاور أساسية وهي: قواعد المنهج، قواعد الأخلاق والتأملات أو الميتافيزيقا.. يمكن النظر إلى هذه المحاور على أنها مترابطة فيما بينها باعتبارها تمثل مختلف مجالات العلم الكوني الذي كان يطمح إلى تأسيسه، ومع أن ديكارت لم يعبر بشكل صريح عن العلاقة التي تربط المجالات الثلاث بعضها ببعض فإن هذه العلاقة موجودة بالفعل، وبإمكان الباحث أن يكشف عنها من خلال الوقوف على مقاصد الفيلسوف وتجربته في الحياة كما تتراءى من خلال كتاباته الفلسفية التي ليست غريبة عن فن السيرة الذهنية، ومن خلال الكشف عن المصادرات الأساسية التي يقوم عليها نسق تأملاته الميتافيزيقية.
يبدو من خلال قراءة "التأملات" أن هناك علاقة عضوية بين الميتافيزيقا وفلسفة الأخلاق لدى ديكارت. وتمثل فكرة الكمال الإنساني في اعتقادنا المبدأ المنظم الذي يربط مختلف مجالات الفلسفة الديكارتية بعضها ببعض.. نجد هذه الفكرة في كتاباته الأساسية وخاصة في التأملات الميتافيزيقة. يقول في نهاية التأملات الرابعة إن الله منحني الحرية لإصدار الحكم أو تعليقه عندما يتعلق الأمر بالأشياء التي لا توجد لدي عنها فكرة واضحة ومتميزة. وإذا كان من الممكن أن أخطأ، فإن السبب في ذلك يرجع إلى وجود نقص في يتعلق بسوء استعمال الإرادة والتسرع في إصدار الأحكام في القضايا التي لا زال يكتنفها الغموض في ذهني. وإذا كان الله لم يمنحني فضيلة العصمة التي يتوقف وجودها على المعرفة الواضحة المتميزة بكل الأمور التي يمكنني البت فيها،فإنه منحني على الأقل الوسيلة الأخرى المتمثلة في حرية الامتناع عن إصدار أي حكم على الأشياء التي لا أعرف حقيقتها معرفة يقينية. وهاهنا بالذات يكمن "الكمال الأساسي للإنسان" المتمثل في حرية الإرادة والاختيار.
وهكذا، فإن ما يعصم الإنسان من الوقوع في الزلل فهو حرية الإرادة والاختيار وحسن استعمالها. يشمل الكمال الإنساني بهذا المعنى القدرة على اكتساب المعرفة اليقينية وحسن استعمال الإرادة والحرية باعتباره أساس الأخلاق الفاضلة. ولذلك يمكن أن نجعل من فكرة الكمال الإنساني المبدأ الأساسي الأول الذي تقوم عليه كل من الفلسفة الميتافيزيقية والفلسفة الأخلاقية عند ديكارت. ومن هنا تتبين العلاقة بين الميتافيزيقا والأخلاق في الفلسفة الديكارتية، فهما مترابطان في الأصل، بمعنى أنهما بنيا على أساس واحد أو أن لهما جذر واحد، وهو الإيمان بقدرة الإنسان على الارتقاء في مراتب الكمال.
وترجع جذور فكرة الكمال الإنساني إلى ما قبل عصر النهضة، وتبلورت بشكل واضح في الساحة الثقافية الأوروبية من القرن الثالث عشر بعد أن تمت ترجمة شروح ابن رشد على طبيعيات أرسطو إلى اللغة اللاتينية. وارتبطت هذه الفكرة آنذاك بدراسة العلوم التأملية، حيث بدأ بعض المفكرين يميلون أكثر فأكثر إلى الاعتقاد بأن تحصيل هذه العلوم يساعد الإنسان على اكتساب مزيد من الكمال. ولكنها تعرضت لانتقادات رجال الدين الذين نددوا بها باعتبارها مناقضة لتعاليم الديانة المسيحية التي تقول بسقوط الإنسان إلى الدرك الأسفل وبالرحمة الإلهية، وذلك على اعتبار أن فكرة الكمال الإنساني تفترض إمكانية الخلاص خارج نطاق الدين. ورغم مقاومة رجال الدين لهذه الفكرة في العصر الوسيط المتأخر فإنها انتقلت إلى فلاسفة عصر النهضة، ولكنا تسببت لهم في الكثير من المتاعب. وإذا كان طوماس الإكويني قد أخذ بفكرة الكمال الإنساني، فإنه أكسبها مدلولا آخر ينسجم مع التعاليم الدينية: يكتسب الإنسان مزيدا من الكمال في نظره لا من خلال تحصيل العلوم التأملية ولكن من خلال تأمل الذات الإلهية، ولا ينال هذه النعمة إلا من كتبت لع السعادة في الحياة الأخرى. يدل ذلك على استحالة ارتقاء الإنسان المذنب إلى مراتب الكمال العليا في الحياة الدنيا. إن الإنسان في نظر رجال الدين عاجز عجزا راديكاليا عن معرفة أي شيء من الأمور المتعلقة بالذات الإلهية، وأصبحت له في اللاهوت المسيحي، على الأقل منذ Duns Scot، صورة المسافر الشقي البعيد كل البعد عن السعادة الأخروية، ولم يعد بوسعه وهو في رحلته الدنيوية إلا أن يطلب الرحمة الإلهية.  ولذلك حرّموا الأخذ بفكرة الكمال الإنساني. ولسوف يعاني ديكارت بدوره من هذا القرار الكنسي.
ولقد أدى قرار التحريم إلى تغييب الإنسان من حقل الممارسة الفكرية طوال فترة مديدة. ولكن بعض فلاسفة عصر النهضة ممن كانت لهم الشجاعة الكافية للأخذ بفكرة الكمال الإنساني، من أمثال Sibiuda و Bovelles و Charron، أعادوا إليه المكانة التي يستحقها في عالم الفكر، ومن ثمة انتقلت الفكرة إلى ديكارت لتأخذ أبعادا ودلالات جديدة، حيث جعل منها المبدأ الأساسي الذي تقوم عليه محاولته التركيبية، وهو ما يدل عليه حضورها القوي في القسم الرابع من تأملاته الميتافيزيقة.
ولعل ما صرف اهتمام الدارسين لفلسفة ديكارت بهذه الفكرة ومكانتها في نسق التأملات هو طغيان النظرة الأحادية الجانب إلى التراث الديكارتي، مما أدى في نظر بعض المحللين إلى هيمنة تأويل واحد في الفلسفة المعاصرة وهو تأويل هايدجر الذي اختزل الميتافيزيقا الديكارتية إلى مجرد كونها امتدادا للمذاهب اللاهوتية السكولائية، وما يدل على ذلك، في نظره، هو ارتكازها على فكرة تناهي الوجود الإنساني التي تنطوي على فكرة الخطيئة والذنب. ففي دراسته لمراحل تطور مفهوم الأنطلوجيا المتضمنة في أحد الدروس التي ألقاها عام 1927، ذكر هايدجر أن ديكارت أخد مفاهيمه الأنطلوجية الأساسية مباشرة عن سواريز وسكوت وطوماس الإكويني، دون أن يقدم أي دليل على ذلك، وأضاف إلى ذلك قوله إن الميتافيزيقا القروسطوية ليست شيئا آخر غير اللاهوت، ومن ثمة تم سحب هذا الحكم على الميتافيزيقا الديكارتية، وما زال يتردد صداه إلى البوم.
لاشك في أن الفلسفة الديكارتية لا تستبعد فكرة النتاهي، ولكن هذه الفكرة ليس لها معنى سلبيا في هذه الفلسفة، بمعنى أنها لا تلغي إمكانية بلوغ الإنسان أقصى درجات الكمال. إن الارتقاء في مراتب الكمال يتحقق بشكل تدريجي، ولكنه يسير في اتجاه اللامتناهي. وهذه الحركة اللامتناهية في اتجاه الكمال هي الدليل على أن الإنسان، في نظر ديكارت، لا يمكنه أن يكون لا متناهيا، لأن اللامتناهي لا ينقصه شيء، ولذلك لا يحتاج إلى الحركة والنمو والتطور. ولكن اللامتناهي الثابت الإيجابي ليس نقيضا من حيث إيجابيته للمتناهي المتحرك، فالنمو والارتقاء هو شيء إيجابي، إنه كمال إنساني. إن المتناهي في هذه الحالة إيجابي وليس سلبيا. وتكمن إيجابيته وكماله الأساسي في امتلاكه للإرادة والحرية. يتجلى ذلك بوضوح في التأملات الرابعة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. فالإنسان في نظر ديكارت حر في أن يختار تعليق الحكم كلما كانت المعرفة الواضحة المتميزة بحقيقة الأشياء التي يضطر إلى البت فيها غير متوفرة بعد. إن القدرة على تعليق الحكم تجعلنا أكثر كمالا رغم كوننا كائنات متناهية. هذه هي الأطروحة الأساسية المتضمنة في التأملات الرابعة.
Partager cet article
Repost0
12 septembre 2006 2 12 /09 /septembre /2006 17:39

توجيهات عامة لمراجعة الدروس

بعد مراجعتك للدروس قم بتحليل ومناقشة مضمون النصوص المدرجة فيها.
                   وهذه توجيهات تساعدك على مراجعة الدروس وتحليل النصوص:
 
1. توجيهات بخصوص كيفية مراجعة الدروس
 
 
تعريف اللغة
1-     عرف اللغة تعريف مركزا
2-     أوضح الفرق بين اللغة واللسان والكلام
3-     بيت العلاقات القائمة بيت اللغة واللسان والكلام
 
 
ماذا تستنتج ؟
 
 
 
لغة الإنسان ولغة الحيوان
هل اللغة خاصية إنسانية ؟
أوضح مختلف المواقف من المسألة المطروحة
 
الموقف الأول:....................
 
الموقف الثاني:.....................
 
الأدلة المؤيدة
1-.............
2-............
3-............
الخ............
الأدلة المعارضة
1-..............
2-................
3-................
الخ................
الأدلة المؤيدة
1-...............
2-...............
3-...............
الخ...............
الأدلة المعارضة
1-.................
2-.................
3-.................
الخ..................
أوضح أهمية كل موقف وحدوده
ماذا تستنتج ؟
ما رأيك ؟
 
 
 
 
 
اللغة والفكر
هل توجد علاقة بين اللغة والفكر ؟
أوضح مختلف المواقف من الإشكالية المطرحة
 
الموقف الأول:.....................
 
الموقف الثاني:....................
 
الأدلة المؤيدة
1-.............
2-............
3-............
الخ............
الأدلة المعارضة
1-.................
2-.................
3-.................
الخ................
الأدلة المؤيدة
1-...............
2-...............
3-...............
الخ...............
الأدلة المعارضة
1-.................
2-.................
3-.................
الخ.................
أوضح أهمية كل موقف وحدوده
ماذا تستنتج ؟
ما رأيك ؟
 
 
 
 
 
اللغة والواقع
إلى ماذا تشير الكلمات ؟ هل تشير إلى الواقع مباشرة أم أنها تشير إلى شيء آخر؟ عل العلاقة بين الكلمات والواقع علاقة ضرورية أم اعتباطية ؟ ما علاقة اللغة بالواقع ؟
 
 
الموقف الأول:................
 
الموقف الثاني:..............
 
الأدلة المؤيدة
1-.............
2-.............
3-.............
الخ............
الأدلة المعارضة
1-............
2-............
3-............
الخ............
الأدلة المؤيدة
1-.............
2-.............
3-............
الخ............
الأدلة المعارضة
1-............
2-............
3-............
الخ............
أوضح أهمية كل موقف وحدوده
ماذا تستنتج ؟
ما رأيك ؟
 
2. توجيهات عامة لتحليل النصوص:
·        اقرأ كل نص في ضوء الأسئلة التالية:
o       ماذا فعل الكاتب في هذا النص ؟ لا يتعلق الأمر هنا بماذا قال وعبر عنه كتابة، ولكن بالنشاط العقلي الذي قام به خلال عملية الكتابة. فلا يخل
-        إما أن يكون قد حلل فكرة أو نظرية أو ظاهرة الخ
-        وإما أن يكون قد قدم أطروحة وحاول البرهنة عليها،
-        وإما أن يكون قد طرح إشكالية وحاول الإجابة عنها،
-        وإما أن يكون قد انتقد نظرية أو واقعا أو سلوكا ما الخ
-        وإما أن يكون قد اكتفى بوصف طاهرة ما أو بالتعريف بنظرية ما، الح.
o       ماذا يريد الكاتب أن يقول ؟ ما هي مقاصده ؟ وما الرسالة التي يريد تبليغها للقارئ ؟
·        اقرأ النص بتمعن مرة أخرى. واعلم أن القراءة هي عملية انتقائية تميز بين ما هو أساسي (القضايا الكبرى وهي الصيغ التعبيرية التي تفصح عن الأفكار والمبادئ العامة كقولنا توجد علاقة كذا بين الطاهرة x والطاهرة y) وما هم ثانوي (الشرح، الأمثلة، الخ). حاول أن تستخرج القضايا الكبرى المتضمنة في النص، وحللها واستنبط كل ما يمكن استنباطه منها، ووضحها بأمثلة شخصية، وبين العلاقات القائمة بينها. ثم ناقشها. اشتغل وفقا للمنهجية المتضمنة في الجدول.
Partager cet article
Repost0
11 septembre 2006 1 11 /09 /septembre /2006 00:36

مسألة العلاقة بين اللغة والواقع

مسألة العلاقة بين اللغة والواقع

 ويقودنا منطق هذا التحليل بالضرورة إلى طرح قضية أخرى ذات صلة وثيقة بإشكالية العلاقة بين اللغة والفكر، يتعلق الأمر بمسألة العلاقة بين اللغة والواقع. لقد رأينا أن اللغة تعبر عن الفكر، وأن اللغة والفكر وجهان لعملة واحدة. بقي أن نعرف ما هي وظيفة الكلمات في اللغة، وإلى ماذا تشير وعلى ماذا تحيل. هل تشير إلى موضوعات العالم الخارجي أم إلى شيء آخر؟

 يتعلق الأمر هنا بالكلمات التي تستعمل للدلالة على بعض الموضوعات من نوع الأشجار والحجارة والأدوات...الخ، باستثناء أسماء الأعلام التي تشير إلى كائنات محددة ومتميزة، والأفعال التي تعبر عن السلوك - رغم أنه يمكننا أن ننظر إلى السلوك مثلما ننظر إلى الأشياء – وكذا الحروف والضمائر وأسماء الإشارة وما إلى ذلك. هناك اتجاه في الفلسفة يعرف بالاتجاه الاسمي يتبنى فكرة مفادها أن الكلمات تشير إلى الأشياء وأن لكل شيء في الواقع كلمة تقابله. تبدو هذه الفكرة بسيطة، إلا أنها مع ذلك تطرح إشكالية عويصة. فإذا تم التسليم بأن الكلمات تشير إلى الأشياء لزم التساؤل عما هو الجانب الذي تحيل عليه في تلك الأشياء. لأي شيء تشير كلمة "شجرة" مثلا، هل تشير إلى هذه الشجرة الماثلة أمامي، أم إلى جميع أنواع الأشجار؟ إن كلمة "شجرة" هي في الواقع مفهوم عام يشير إلى جميع أنواع الأشجار، ولا يشير فقط إلى هذه الشجرة المتفردة بخصائصها العيانية الملموسة. إن أسماء الأعلام هي التي تشير وحدها إلى الكائنات المتفردة. ولو كانت كل كلمة تشير إلى كائن مخصوص متفرد لكان عدد كلمات القاموس بقدر عدد الكائنات الموجودة في الطبيعة، ولكان من المستحيل الإحاطة بها. ومن هنا يتبين أن الكلمة مفهوم عام يعبر عن عدد لا حصر له من الكائنات التي تشترك في بعض الخصائص. ومن هنا تطرح مسألة المعايير المعتمدة لتصنيف الكائنات وتنظيم العالم واختزاله في عدد محدود من المقولات. فما هي معايير التصنيف ؟ وكيف يتم بناء المفاهيم ؟ وهل ينهج جميع الناس نفس الطريقة في تصنيف الكائنات وبناء المفاهيم ؟ ما هي المعايير المعتمدة لتسمية الأشياء ؟

 طرح أفلاطون هذه الإشكالية بطريقة غير مباشرة في محاورة كراتيل (انظر النص في الكتاب المدرسي) كما طرحها برجسون Bergson بشكل واضح في كتابه تحت عنوان الضحك Le rire.

 ففي محاورة كراتيل طرح أفلاطون المسألة المتعلقة بتسمية الأشياء وحاول الإجابة عنها بالاعتماد على الأسلوب السقراطي في الحوار الذي تقابلت فيه أطروحة كراتيل Cratyle مع أطروحة غريمه هيرموجينHermgène. تتمثل أطروحة كراتيل في وجود علاقة طبيعية بين الأسماء والأشياء. فالاسم في نظره تقليد صوتي للشيء الذي يشير إليه. إنه صورة صوتية تعيد إنتاج الشيء. هناك إذن تطابق أو تماثل طبيعي تام بين الاسم والشيء. وأما أطروحة هيرموجين فإنها لا تختلف عن أطروحة كراتيل إلا من حيث أنها تستبعد أن تكون العلاقة بين الاسم والشيء الذي يشير إليه طبيعية أو ضرورية. فهو يتفق معه في وجود تماثل بين الكلمة والشيء، ويختلف معه في كون العلاقة بينهما غير طبيعية أو ضرورية بل اعتباطية. إن الطبيعة لا تفرض الأسماء على الناس، ولكن الناس هم الذين يتواضعون عليها.

 ولما وصل الخلاف بينهما إلى حد القطيعة وعدم التفاهم طلبا من سقراط أن يحسم في المسألة المطروحة. ولكن سقراط تعامل معهما وفقا لاستراتيجية ذكية تهدف إلى العصف بمواطن الاتفاق بينهما لا إلى حسم الخلاف لصالح أحدهما. لقد كان هدفه هو دحض الرأي القائل بوجود تماثل بين الاسم وما يشير إليه. حاول في البداية أن يقنعهم بضرورة التمييز بين الأشياء كما هي في ذاتها أو كما هي من حيث جوهرها والأشياء كما تبدو لنا؛ بين الأشياء كما هي في الواقع في استقلال عن مداركنا، وبين تجلياتها أو مظاهرها التي ندركها بحواسنا. فالأشياء تبدو لنا غير ثابتة، متغيرة ونسبية في علاقة بعضها ببعض وفي علاقتها بذواتنا وبمداركنا الحسية. وأما الأشياء في ذاتها فهي ثابتة وغير نسبية لا بالنسبة لنا ولا بالنسبة لبعضها البعض. ذلك لأن الشيء في ذاته ليس محسوسا، إنه جوهر معقول، فكرة أو صورة. إن لكل شيء بعد جوهري وبعد عرضي. ويتميز الجوهر بكونه ثابت وذو طبيعة عقلية أو روحية، في حين أن العرض ثابت وله طبيعته مادية. وإذا صح أن الاسم يشير إلى الشيء، فلأي بعد منه يشير؟ هل يشير إلى بعده الجوهري أم إلى بعده العرضي؟

 وبناء على هذا التمييز اعترض سقراط على كل من أطروحة كراتيل وأطروحة هيرموجين. ففيما يتعلق بأطروحة كراتيل استخدم سقراط أطروحة هيرموجين لدحضها مؤكدا أن العلاقة بين الاسم والشيء ليست طبيعية أو ضرورية بل اعتباطية. وأما حجته في ذلك فهي اختلاف اسم الشيء الواحد من لغة إلى أخرى. إن الناس هم الذين يبتكرون الأسماء ويتواضعون عليها، وهو ما يفسر تنوع اللغات وتباينها. واستطرد قائلا إذا كان الاسم صورة صوتية للشيء وكان مماثلا له فإنه لن بعود اسما، سيصبح توأما أو ضعفا لذلك الشيء، ولن يماثل منه بالتالي إلا أعراضه لا جوهره. وما يدل على ذلك هي الأسماء التي استشهد بها كراتيل نفسه، وهي الأسماء التي تضاهي أصوات الأشياء التي تطلق عليها من مثل كلمة "مواء" في اللغة العربية التي لا تعدو أن تكون مجرد تقليد لصوت طبيعي هو صوت القط.

 وفي المقابل، استخدم سقراط أطروحة هيرموجين لدحض أطروحة كراتيل، وقال إنه إذا صح القول بأن الكلمات هي نتاج المواضعات فإنه من الخطأ أن يعتقد المرء أنها مماثلة للأشياء كما هي في ذاتها – أي لجوهرها – إن الأسماء المتواضع عليها لا تماثل إلا أعراض الأشياء التي تشير إليها. فهي تشير إلى مظاهر الأشياء لا إلى جواهرها. فإذا قلنا مثلا إن الشيء كبير أو صغير، فهو كبير أو صغير بالنسبة لنا نحن، وأما الشيء في ذاته فليس كبيرا ولا صغيرا. فالكبر أو الصغر ليس خاصية من الخصائص الجوهرية للشيء، إنه مظهر أو صفة نلحقها بالشيء. وهذا مثال يوضح هذه الفكرة، وهو المثال الذي قدمه ديكارت لبيان الفرق بين الجوهر والعرض. يمكن الفول عن حجر إنه ساخن، ولكن الحجر في ذاته ليس ساخنا. كل ما هناك هو أن حرارته تفوق حرارة الجسم الذي يلامسه. وهذا مثال آخر: الماء والبخار والجليد كلمات تبدو كما لو كانت تعبر عن ثلاثة أشياء مختلفة اختلافا جوهريا، ولكنها تعبر في الواقع عن شيء واحد يبدو في أشكال وحالات مختلفة. فالجوهر واحد ولكن مظاهره متعددة ومتنوعة. ذلك لأن الماء والبخار والجليد لهم نفس التركيب الكيماوي. ولذلك دعا سقراط إلى أن يكون المشرع، ويقصد به واضع الأسماء، هو الفيلسوف العالم بجواهر الأشياء، لا عامة الناس.

 وخلاصة القول إن سقراط، ومن خلاله أفلاطون، تعامل مع النزعة الاسمية بطريقة نقدية لبيان حدودها، ولكنه  لم يرفض المبدأ الذي تقوم عليه، وهو مبدأ التماثل بين الاسم والشيء. حيث اكتفى بالقول إن الاسم يمثل جوهر الشيء لا مظهره الخارجي. وحكم على الأسماء المتواضع عليها بأنها أسماء غير سليمة، وظل يحلم بالأسماء المناسبة الدقيقة في انتظار المشرع الحكيم ذي الرؤية السديدة العميقة.

 وكذلك اتخذ برجسون موقفا نقديا من النزعة الاسمية مثلما فعل سقراط وأفلاطون، وحاول الكشف عن عيوبها وبيان حدود اللغة بصفة عامة. وعبر عن موقفه تجاه النزعة الاسمية بقوله:

   "وجملة القول أننا لا نرى الأشياء كما هي، فنحن نكتفي في الغالب بقراءة التيكيتة étiquette الملصقة عليها. إن هذا الميل إلى الاكتفاء بقراءة التيكيتة، والذي يصدر عن الحاجة، يزداد قوة تحت تأثير اللغة. لأن الكلمات (باستثناء أسماء الأعلام) تشير جميعها إلى الأجناس والأنواع. فالكلمة التي لا تسجل من الشيء إلا مظهره المبتذل ووظيفته التي يشترك فيها مع غيره تتسرب بيننا وبين ذلك الشيء، وتحجب عنا شكله، هذا إن لم يكن ذلك الشكل قد توارى من قبل خلف الحاجات التي أدت إلى ابتكار تلك الكلمة.

 وليست الأشياء الخارجية وحدها هي التي تتوارى عنا خلف الكلمة، إن حالاتنا الشعورية تتوارى بدورها بكل ما تنطوي عليه من مشاعر حميمة وشخصية وتجارب نفسية أصيلة. فعندما تغمرنا مشاعر الحب أو الكراهية، وعندما نشعر بالفرح أو الحزن، فما الذي يصل إلى وعينا منها ؟ أهو شعورنا بأطيافه الدقيقة الهاربة المتعددة الألوان وبإيقاعاته العميقة المتكثرة التي تجعل منه شيئا خاصا بنا بشكل مطلق؟ فلو أنها كانت تصل إلى وعينا كما هي لكنا جميعا رومانسيين، ولكان الجميع شعراء وموسيقيين. لكننا لا ندرك من حالاتنا الشعورية في الغالب إلا امتداداتها الخارجية، ولا نستحضر منها في أذهاننا إلا مظهرها اللاشخصي [الذي لا يخص شخصنا بعينه]، ذلك المظهر الذي كان بإمكان اللغة أن تسجله وتحتفظ به بشكل نهائي طالما أنه يمثل تقريبا نفس المظهر الذي يتجلى في نفس الشروط لدى جميع الناس. وهكذا ينفلت منا التفرد ويبتعد إلى درجة يصبح معها كل فرد عاجزا عن الإمساك بتفرده [أي بما يجعل منه فردا فريدا متميزا].

 يتبين من هذا النص أن برجسون من أنصار النزعة الاسمية. فالكلمة في نظره تيكيتة تلصق على الشيء. ولكنه شبه الكلمات بحجاب شفاف يفصل بيننا وبين الأشياء الخارجية، كما يفصلنا باعتبارنا ذواتا واعية عن حياتنا الداخلية العاطفية، ويحول دون رؤيتها بوضوح. ذلك لأن الكلمة مفهوم عام، ونظرا لكونها كذلك فإنها تطمس الخصوصيات التي ينفرد بها الشيء الذي تشير إليه، وتخفي خصوصية حالاتنا الشعورية. فإذا كان أفلاطون لا يريد للكلمات أن تشير إلى مظاهر الأشياء، على غرار أستاذه سقراط، فإن برجسون لا يريد لها أن تخفي المظاهر بما تنطوي عليه من خصوصية. وإذا كان أفلاطون يرى أن معيار تصنيف الموجودات يكمن في الخصائص الجوهرية المشتركة، فإن برجسون يرى على العكس من ذلك أن معيار التمييز هو المنفعة في علاقتها بالحاجة. إن الكلمة، في نظره، تيكيتة نلصقها على الشيء بدافع الحاجة إليه. ومعنى ذلك أن الأشياء التي لا نحتاج إليها نعرض عن تسميتها. ولا تسمى الأشياء إلا في ضوء ما تحقق من منافع، ولذلك لا تعكس من الأشياء إلا ما له علاقة بحاجاتنا ومنفعتنا وأنشطتنا.

 تكمن المشكلة في نظر برجسون في كون الكلمة أكبر من الشيء الذي تشير إليه، ومعنى ذلك أنها على قدر كبير من العمومية بحيث تخفي خصوصية الشيء وتقضي على تفرده. ونظرا لعموميتها تعجز الكلمات أيضا عن الإحاطة بحالاتنا الشعورية وتطمس خصوصية تجاربنا النفسية. وبذلك تتبين لنا حدود اللغة الإنسانية عندما ننظر إليها في ضوء فلسفة برجسون.

 يتبين من هذا التحليل أن النزعة الاسمية الني تقوم على الاعتقاد بأن الكلمات تشير إلى الأشياء، كثيرا ما تعرضت للنقد حتى من طرف المنتمين إليها. وينصب النقد دائما على المعايير المستخدمة لتصنيف الموجودات وتسميتها (أفلاطون) وعلى قدرة الكلمات على التعبير عن الأشياء بدقة (برجسون). فما دلالة هذه الانتقادات ؟ إن ما يؤكد عليه النقاد على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم هو أن الكلمات لا تماثل الأشياء ولا تطابقها، سواء تعلق الأمر بالمجموعات المصنفة أو بالأشياء المتفردة. فالتصنيف المقام على مستوى اللغة لا يتطابق مع كيفية تقطيع الواقع. أن التصنيف اللغوي والتقطيع الواقعي يتعارضان مثلما يتعارض الجوهر والعرض في نظر أفلاطون ما دامت الكلمات المستعملة في اللغة المتداولة لا تعكس من الواقع إلا أعراضه. ويتعارضان في نظر برجسون مثلما يتعارض العام والخاص. وما يحاول النقد إظهاره والتنديد به في كلتا الحالتين هو الطابع الذاتي لتصنيف الأشياء. حيث يتم تصنيفها وتسميتها في ضوء ما يبدو لنا منها (أفلاطون) أو في ضوء منفعتنا وحاجاتنا (يرجسون). إن التسمية تقوم على أساس ذاتي ولذلك اعتبرت سيئة وغير لائقة.

 وهكذا، فإذا كانت التسمية ذاتية فإن معنى ذلك أن الكلمات لا تعبر عن الواقع بل عن تصورنا له. إن هذه النتيجة كافية لدحض أطروحة النزعة الاسمية. ومن هنا يطرح السؤال من جديد: لأي شيء تشير الكلمات ؟ هل تشير إلى الواقع أم إلى أفكارنا وتصوراتنا وتمثلنا لذلك الواقع ؟

لقد كان لروسو رأي خاص في هذه المسألة يستحق الإشارة إليه. تتمثل أطروحته في أن الكلمات لا تشير إلى الأشياء بل تعبر عن الأفكار العامة المجردة التي تتشكل في أذهاننا عن تلك الأشياء. ولإثبات هذه الأطروحة ميز روسو بين الفكرة والصورة المتخيلة. فالفكرة هي بناء عقلي مجرد لا تربطه أية علاقة مباشرة بالواقع، بينما الصورة من صنع الخيال، وللخيال علاقة بالواقع مرورا بالانطباعات الحسية، ومن ثمة ربط الفكرة بالكلمة، حيث جعل الكلمة تشير إلى الفكرة، وجعل الصورة المتخيلة تشير إلى شيء مخصوص. إن الكلمات لا تشير في نظره إلى الواقع، لا إلى أنواع الموجودات التي يزخر بها ولا إلى أجناسها وأنواعها، بل تشير إلى الأفكار العامة المجردة التي تعبر عن تمثلاتنا لها. فالكلمة تشير إلى الفكرة التي لدينا عن الشيء لا إلى الشيء ذاته. وبذلك جعل الفكرة تلعب دور الوسيط بين الكلمة والشيء. يمكن القول بعبارة أخرى إن الكلمة تعبر عن تعريفنا للشيء لا عن الشيء ذاته. والدليل على ذ

Partager cet article
Repost0
11 septembre 2006 1 11 /09 /septembre /2006 00:27

اللغة والفكر

إشكالية العلاقة بين اللغة والفكر

 هل توجد علاقة بين اللغة والفكر، أم أن كل واحد منهما يوجد في استقلال عن الآخر؟ تتعلق المسألة المطروحة بما إذا كانت اللغة ضرورية لتحقيق فعل التفكير، وبما إذا كان من الممكن أن يتحقق التفكير خارج إطار اللغة. يمكن صياغة هذه الإشكالية بطريقة أخرى من خلال التساؤل عما إذا كان الفكر كيانا قائما بذاته، أم أن وجوده ملازم لوجود اللغة. هل يفكر الفرد قبل أن يتكلم، أم أن التفكير في حد ذاته كلام صامت؟  

لنفترض أن الإنسان يفكر قبل أن نتكلم. ترتكز هذه الفرضية على مصادرة أساسية مفادها أن وجود الفكر سابق على وجود اللغة، وأن الفكر يستعمل اللغة للتعبير عن نفسه. ويلزم عن ذلك منطقيا أن الفكر هو الشرط الضروري لوجود اللغة وليس العكس.  وإذا ثبت أن وجود الفكر سابق على وجود اللغة صح القول أن الإنسان يفكر قبل أن يتكلم وأن اللغة وسيلة فقط للتعبير عن الأفكار وتبليغها للآخرين. هذا هو رأي ديكارت في المسألة المطروحة.

 والحقيقة أن التعبير عن شيء ما يقتضي التفكير فيه أولا. لا أحد يستطيع أن ينكر هذه الحقيقة، على اعتبار أن الفرد لا يفكر إلا في الموضوعات الحاضرة في ذهنه. هذا هو دليل ديكارت على أسبقية الفكر على اللغة، ويبدو منطقيا للغاية. إن ما نفكر فيه جيدا هو ما نعبر عنه بدقة، ولا يكون التعبير دقيقا إلا إذا كانت الأفكار واضحة ومتميزة. يبدو أن فعل التفكير منفصل عن فعل التعبير، وأن التفكير السليم هو الشرط الضروري للتعبير السليم. والنتيجة أن التفكير منفصل عن الكلام في نظر ديكارت.

 لهذه الأطروحة جوانب إيجابية تتعلق بوضعية اللغة ووضعية الفكر على حد سواء. فإذا كان الفكر سابقا على الكلام فإن وجوده مستقل عن وجود اللغة التي تعبر عنه. ويلزم عن ذلك أن للفكر بعدا كونيا يتجاوز اللغات المحلية، وأن عملية التفكير غير مشروطة بلغة المفكر. ومعنى ذلك أن عملية التفكير تخضع لقوانين كونية تتجاوز الحدود الثقافية واللغوية، وإلا لكان التفكير المنطقي، مثلا، مقصورا على قوم دون غيره من الأقوام الأخرى. وهكذا، فإذا تقرر أن اللغة لا دخل لها في تشكل الأفكار فإن الفكرة الواحدة يمكن أن تكتسب بعدا كونيا، وتنتقل من لغة إلى أخرى دون أن يلحقها أي تشويه. يمكن التعبير، إذن، عن نفس الفكرة بلغات متعددة دون أن يغير ذلك من طبيعتها شيئا. إن اختيار لغة التعبير لا يتحدد بطبيعة الفكرة التي نريد التعبير عنها ولكن بنوع الجمهور الذي نخاطبه. فإذا اخترنا اللغة العربية للتعبير عن أفكارنا فليس لأن اللغة العربية هي أكثر اللغات قدرة على التعبير عنها، بل لأن الذين نريد أن ننقل إليهم أفكارنا يتكلمون اللغة العربية.

 وإذا كان ديكارت يعتبر اللغة مجرد وسيلة للتعبير عن الأفكار فربما كان هدفه من وراء ذلك هو إبراز الدور الذي تلعبه باعتبارها وسيلة للتواصل بين الناس، وكأنه يريد أن يقول إن الميل إلى التعبير عن الأفكار يتحدد بالرغبة في التواصل مع الآخرين. ومما يترتب عن هذه الفكرة أن التعبير عن الأفكار ليس هدفا في حد ذلته. إن الغاية المطلوبة هي التواصل. بحيث يمكن القول إن اللغة قبل كل شيء أداة للتواصل. وهذا ما يؤكده علم اللسانيات المعاصر.

 إن الأطروحة التي تقول بأسبقية الفكر على اللغة تستلزم القول أيضا بأن عملية التفكير مستقلة عن عملية التعبير أو الكلام، وبأن الوظيفة الأساسية للغة هي التواصل. إن ما يبرر وجود اللغة في نظر ديكارت هو التعبير عن الفكر من أجل التواصل مع الآخرين. إن اللغة تحقق وظيفة اجتماعية بينما يظل التفكير عملية ذاتية، يحتاج إلى اللغة من أجل التموضع في العالم الخارجي. ومن هنا تأتي المشكلة التي تواجه هذه الأطروحة.

 إن القول بأن عمليات التفكير وتمثل الأشياء وبناء المفاهيم والاستدلال مستقلة عن فعل الكلام يعني أن عملية التفكير عملية تتم في صمت مطبق. يشك العديد من المفكرين في صحة هذه القضية، حيث تساءلوا عما إذا كان من الممكن تمثل الأفكار والمفاهيم والقيام بالاستدلال وإصدار الأحكام من غير أن يحتاج المرء في ذلك إلى الكلام. هل تتحقق تلك العمليات العقلية خارج إطار اللغة؟ وهل يمكن الحديث عن فكر خالص متحرر من قوالب اللغة؟

 لقد أدى الجدل حول هذه المسألة إلى بروز أطروحة جديدة في ميدان الفلسفة كانت لها امتدادات في ميدان علم اللسانيات المعاصر. ويعتبر هيجل واحدا من أبرز المفكرين والفلاسفة الذين عالجوا إشكالية العلاقة بين اللغة والفكر، وعبر عن موقفه منها بقوله

  1. إننا نفكر داخل اللغة. ولا يحصل لنا الوعي بأفكارنا المحددة الواقعية إلا عندما نمنحها شكلا موضوعيا ونفصلها بذلك عن حياتنا الداخلية، ونضفي عليها شكلا خارجيا، ولكن هذا الشكل ينطوي بدوره على خاصية من خصائص الأنشطة الذاتية الداخلية. […] وإنه لمن من العبث أيضا أن نعتبر احتياج الفكرة للكلمة عيبا أو نقصا فيها. يعتقد عادة، وهذا الاعتقاد وارد بالفعل، أن أكثر الأشياء سموا هي الأشياء التي يتعذر التعبير عنها. ولكن هذا الرأي سطحي ولا أساس له من الصحة. والواقع أن ما لا يمكن التعبير عنه هي الفكرة الغامضة، الفكرة التي لا زالت في طور الاختمار، والشيء الذي لا يصبح واضحا إلا بعد أن يجد الكلمة المناسبة [للإفصاح عن نفسه]. وبالتالي فإن الكلمة هي التي تمنح للفكرة وجودها الحقيقي الأكثر سموا

          لقد حاول هيجل في هذا النص إثبات الأطروحة التي تقول إن الإنسان يفكر داخل اللغة لا خارجها وأن فعل التفكير لا يتحقق في استقلال عن فعل الكلام أو تركيب الجمل. ويستدل على ذلك بقوله إن الفكرة لا تكتسب وجودها الفعلي إلا عندما تصاغ صياغة لغوية. إن الصياغة اللغوية هي ما يجعل الفكرة تتحقق بالفعل، وبذلك نتمكن من الوعي بها. يقوم دليله على التمييز بين العالم الداخلي والعالم الخارجي، بين الذاتية والموضوعية. فعندما تكون الفكرة في الداخل تكون غارقة في الذاتية باعتبارها جزءا من النشاط النفسي غير المعبر عنه، وبذلك تكون غامضة وغير محددة المعالم. وبالكلمة تنفصل عن الذاتية وتتحقق في الخارج، ونقول عنها إنها تموضعت، وأصبح لها وجود موضوعي، وغدت واضحة متميزة تفرض نفسها علينا مثل أي موضوع خارجي. ولا يجب أن نستنتج من التمييز بين الذاتي والموضوعي أن الفكر واللغة منفصلان عن بعضهما البعض انفصالا كليا. إن ما يجب أن فهمه من ذلك هو أن الأنشطة الذاتية لا تنتج أفكارا واضحة ومتميزة إلا عندما تصوغها في قالب لغوي ونموضعها. ومعنى ذلك أيضا أن الفكر بدون لغة يظل عبارة عن سدبم مبهم أو ركام من العناصر غير المتميزة. إن اللغة هي التي تجعل الأفكار واضحة ومتميزة، وتتيح لنا يذلك فرصة الوعي بها. فبدون لغة لا يمكن أن نعرف فيم نفكر عندما نفكر، إذ كيف يمكن أن يحصل لنا الوعي بأفكارنا إن لم نقم بصياغتها في قالب لغوي؟ إن فكرا بدون لغة هو فكر غير واع أو لنقل إنه جزء من اللاوعي.

     وربما اعترض البعض على هيجل بقولهم إن تموضع الفكرة في اللغة قد يفقدها شيئا من قيمتها. ويرد هيجل على هذا الاعتراض المفترض بقوله إنه لا يمكن لأحد أن يدعي امتلاك فكرة ما لم يقم بصياغتها في قالب لغوي فينقلها من الوجود بالإمكان إلى الوجود بالفعل. إن التعبير اللغوي هو الذي يجعل الفكرة تنكشف لذاتها مثلما تنكشف لنا نحن أيضا، ويحصل لنا الوعي بها، فبدون لغة يظل الفرد غير واع بأفكاره. وخلاصة القول إن الفكرة التي لا يمكن التعبير عنها بالكلمات تساوي اللامعنى، أو لنقل إنها ليست فكرة بعد.

     وتجدر الإشارة إلى أن هيجل لا ينفي وجود الأفكار القائمة بذاتها أو غير المعبر عنها. وإذا كان قد اعترف بوجودها، فإنه يؤكد أنها لا زالت في طور الاختمار تسعى إلى الوجود بالفعل، ولا تتحقق بالفعل إلا عندما تتجسد في الكلمات. وإذا كان يرفض الفصل بين اللغة والفكر فإنه يعترف أن الفكر يتمتع بنوع من الاستقلال النسبي، وهو ما يدل عليه قوله بوجود أفكار في طور الاختمار. إنها أفكار غير مكتملة أو جنينية تقع في أدنى درجة من درجات الوجود، تشبه الوجود بالإمكان. إن فكرا بدون لغة هو في الحقيقة فكر جنيني يسير في اتجاه التحقق في الكلمة. يمكن القول بناء على ذلك إننا لا نفكر بالفعل إلا عندما نقلص الفجوة بين ما نريد أن نقول وما نقول بالفعل. ومعنى ذلك أننا لا نفكر إلا عندما نتكلم، وأن الفكر لا يوجد خارج اللغة ولا يتحقق إلا داخلها.

     نجد لدى دي سوسير أطروحة مماثلة. فهو يرى أن الفكر بدون لغة عبارة عن كتلة من الضباب لا شيء فيها يبدو متميزا واضح المعالم. إن العلامات اللسانية في نظره هي التي تجعلنا قادرين على التمييز بين الأفكار. لا وجود إذن لأفكار قائمة بذاتها، ولا يمكن الحديث عن أفكار واضحة ومتميزة قبل ظهور اللغة. وهكذا، فإذا كنا نتكلم فإننا لا نتكلم لنعبر عن الأفكار كما يقول ديكارت، بل نتكلم لنفكر، لننتج الأفكار، وليحصل لنا الوعي بها. والدليل على ذلك هو أن الكلام الداخلي مع الذات لا يظهر إلا عندما تفكر. إننا نتكلم لنفكر. إن اللغة على حد تعبير ميبلوبونتي حافز الفكر كما أن الفكر حافز اللغة، كل واحد منهما يدفع بالآخر إلى التحقق في الوجود. إن الفكرة في نظره لا تكون فكرة إلا عندما بتم التصريح بها، ولا يتحقق حضورها حتى بالنسبة لذاتها إلا بالكلام. وإذا كانت الفكرة في حاجة إلى اللغة لكي تتحقق، فإن اللغة بدورها في حاجة إلى الفكر. ومعنى ذلك أنه عندما نفكر نتكلم، وعندما نتكلم نفكر. إن قدرتنا اللغوية تحدد قدرتنا على التفكير، والعكس صحيح.

     ولذلك لا يمكن القول إن اللغة وسيلة للتعبير عن الأفكار فقط أو أداة للتواصل فقط، إنها قبل كل شيء أداة لصنع الأفكار. ولذلك لا يمكن أن نتصور فكرا خارج اللغة. ومما يترتب عن هذه الفكرة أن اللغة ترسم لفكرنا حدودا لا يمكنه أن يتجاوزها. ومعنى ذلك أننا لا نستطيع أن ننتج من الأفكار إلا ما تسمح به اللغة التي نستعملها. إن طبيعة أفكارنا تتحدد بطبيعة اللغة التي نتكلم، وأن درجة خصوبة الفكر تتحدد بمستوى نمو اللغة. وبالتالي ليس بوسعنا أن نطمح لأكثر مما تجود به اللغة علينا. إن مستوى تطور اللغة يرسم للفكر حدودا لا يتجاوزها بحكم العلاقة الموجدة بينهما. فهما كما يقول دي سوسير وجهان لعملة واحدة، لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر.

       ولعل ذلك هو ما حذا بالفيلسوف الألماني هامبولت Wilhelm von Humbold إلى القول إن كل لغة تحمل في طياتها نظرة متميزة إلى العالم. إن اللغة ليست مجرد أداة للتواصل، إنها نظرة إلى العالم. تنطوي لغة كل شعب من الشعوب على نظرته المتميزة إلى العالم. وتختلف التصورات باختلاف اللغات. لا تنظر كل الشعوب بنفس النظرة إلى العالم، ولعل ذلك هو ما يعيق التواصل بينها في كثير من الأحيان ويتسبب في الكثير من المتاعب وسوء الفهم وانعدام التفاهم. ويترتب عن ذلك أيضا أن اختلاف اللغات يؤدي إلى تنوع طرق التفكير، وهو ما تؤكده البحوث التي أجريت في ميدان علم النفس المعرفي خلال العقود الأخيرة. فقد أثبتت هذه البحوث أن أساليب التفكير تختلف من ثقافة إلى أخرى. وتبين أن مختلف اللغات تصنف الكائنات تصنيفا مختلفا. ومن هنا تأتي صعوبة الترجمة. فقد يتمكن المترجم من ترجمة الكلمات، ولكنه لن يستطيع ترجمة أسلوب التفكير الذي تعبر عنه وتحدده. هناك إذن علاقة جدلية بين الفكر واللغة. فالفكر يحتاج في وجوده إلى اللغة وفي المقابل تؤثر اللغة في الفكر وتحدده.

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Partager cet article
Repost0
10 septembre 2006 7 10 /09 /septembre /2006 20:16

ما الذي يميز لغة الإنسان عن لغة الحيوان ؟

تعريف اللغة

 اللغة هي القدرة على التعبير والتواصل بواسطة مجموعة من العلامات المتمايزة. فلا يمكن لفرد أن يتكلم لغة بني جنسه ما لم تكن له القدرة على استعمال العلامات من أجل التواصل معهم، وهذه القدرة بالذات هي ما يشير إليه مفهوم اللغة. ويدل مفهوم اللسان على نسق العلامات المتداولة. وتتحقق القدرة على استعمال نسق العلامات بواسطة الكلام. وعلى هذا الأساس أمكن التمييز بين اللغة واللسان والكلام. فاللغة هي القدرة على التعبير والتواصل، واللسان هو نسق العلامات المستخدم للتواصل، وأما الكلام فهو طريقة استخدام الفرد لذلك النسق. فعندما يتكلم الفرد مخاطبا شخصا آخر فإنه يتكلم ليعبر عن شيء ما فينقله إليه، ومن أجل تحقيق هذه المهمة يحتاج إلى نسق من العلامات (اللسان) وإلى القدرة على استخدامه (اللغة). فلا يتحقق الكلام إلا بوجود اللغة واللسان.

 يبدو أن ظواهر  اللغة واللسان والكلام هي وقائع مترابطة فيما بينها، يحتاج كل واحد منها إلى الآخر ويعتمد عليه من أجل أن يتحقق. فهل معني ذلك أنه حيثما وجد نسق العلامات وجد معه الكلام والقدرة اللغوية ؟ هل يعتبر توفر بعض الكائنات على نظام للتواصل (اللسان) دليلا على أنها تتكلم وعلى أنها تتوفر على القدرة على التعبير والتواصل ؟ إذا كانت الحيوانات تتواصل فيما بينها فهل يعني ذلك أنها تتكلم وأنها تمتلك القدرة اللغوية ؟ هل للحيوان لغة خاصة به ؟ وهل توجد فروق جوهرية بين لغة الإنسان ولغة الحيوان ؟

 الفرق بين لغة الإنسان ولغة الحيوان

 هل يمتلك الحيوان القدرة على الكلام، أم أن الكلام خاصية إنسانية ؟ طرح هذا السؤال في الفلسفة الحديثة على عهد ديكارت، وبرزت على الساحة الفكرية آنذاك أطروحتان: الأطروحة التي ارتبطت باسم مونتيتني Montaigne والأطروحة التي دافع عنها الفيلسوف ذي الشهرة العالمية ديكارت Descartes.

 بلور مونتيني أطروحته انطلاقا من ملاحظة سلوك الحيوان، حيث تبين له أن الحيوانات تتواصل فيما بينها بواسطة الإشارات. وتساءل عما إذا كان هناك فرق بين الكلام وبين قدرة الحيوانات على التعبير عن الألم والمتعة والاستغاثة والتحذير من وجود خطر إلى غير ذلك من الأفعال التي تعبر عنها بأصواتها. وللإجابة على هذا السؤال انطلق من مصادرة مفادها أن اللغة معطى طبيعي. ولما كانت معطى من المعطيات الطبيعية لزم أن تكون موجودة لدى جميع الكائنات الحية، ومن ثمة لا يمكن اعتبارها خاصية إنسانية. ومن هذا المنطلق لم يجد مانعا من القول إن الحيوانات تتكلم مثلما يتكلم الإنسان. ولكي يدعم هذه الأطروحة كان عليه أن ينفي الرأي القائل بأن التواصل اللفظي له خصوصية تميزه عن التواصل غير اللفظي (التواصل بواسطة الحركات والإشارات).واستدل على بطلان هذا الرأي بكون الإشهار يولي أهمية أكبر للتواصل غير اللفظي بالمقارنة مع التواصل اللفظي لتحقيق التواصل. وخلص إلى القول إن الحيوانات لها لغة خاصة بها. وبذلك جعل نظام التواصل لدى الحيوان في نفس مرتبة اللغة الإنسانية.

 انطلق ديكارت من نفس الملاحظات التي انطلق منها مونتيني، ولكنه طرح سؤالا مختلفا، حيث تساءل عما إذا كان التواصل بين الحيوانات مؤشرا يدل على أنها تتكلم، مما دفعه إلى التفكير في خصائص اللغة الإنسانية بالمقارنة مع نظم التواصل الموجودة في عالم الحيوان، وتوصل إلا أن أهم خاصية من خصائص اللغة الإنسانية هي قدرتها على التعبير عن الأفكار. إن الكلام الحقيقي في نظره هو الكلام الذي يحمل أفكارا. ومن ثمة استبعد الرأي الذي يحصر اللغة في القدرة على استعمال الأصوات. وأما حجته في ذلك فهي أن الصم-البكم يفتقرون إلى القدرة على استعمال الأصوات من أجل التواصل، ونظرا لكونهم أشخاصا عقلاء يمتلكون القدرة على التفكير ابتكروا نظاما من الرموز للتعبير عن أفكارهم (انظر نص ديكارت في الكتاب المدرسي: اللغة خاصية إنسانية).

 ولما كان الحيوان بدوره قادرا على التعبير عن أفعاله، وجد ديكارت نفسه مضطرا للبحث في طبيعة هذه القدرة، حيث تساءل عما إذا كان الحيوان في حاجة إلى القدرات العقلية للتعبير عن أفعاله أم أن الانفعال الغريزي كاف من أجل التعبير عن حاجاته. وكان جوابه هو أن الحيوان لا يحتاج في ذلك لأكثر من الانفعال. واستدل على ذلك بأن هدفه الوحيد في الحياة هو تلبية حاجاته الفيزيولوجية، ولذلك لا يتجاوز سلوكه حدود رد الفعل المباشر تجاه المنبهات الخارجية.

 وأما الإنسان فهو من حيث الجوهر كائن عاقل، إنه ذات مفكرة، ولذلك كان في حاجة إلى وسيلة للتعبير عن أفكاره، وهذه الوسيلة هي اللغة. ومن هذا المنطلق اعتبر اللغة خاصية إنسانية، ليس فقط لأن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يتكلم، بل لكونه الكائن الوحيد الذي يفكر.

 إن ما يميز الإنسان في نظر ديكارت هم العقل، وهو الشرط الضروري لوجود اللغة. فإذا كان الإنسان يتكلم فلأنه يفكر. وهناك شرط آخر لوجود اللغة في نظره، وهو وجود الغير، ويعتبر الكلام دليلا على وجود الغير باعتباره ذاتا مفكرة. فلولا الكلام لما كان من الممكن معرفة ما إذا كان الغير ذاتا مفكرة أم آلة من الآلات. فإذا كنت، يقول ديكارت، على يقين بأنني موجود لأنني أفكر، فكيف يتسنى لي معرفة ما إذا كان الغير ذاتا مفكرة مثلي؟ إن الكلام باعتباره أداة للتعبير عن الأفكار هو الدليل القاطع على أنه ذات واعية مثلي. فإذا كان يتكلم فلأنه حتما يفكر، وبذلك يمكنني أن أتواصل معه وأتبادل معه الأفكار، في حين لا يمكنني أن أتواصل على ذلك النحو مع الحيوان. ولذلك أمكن القول إن الحيوان لا يتكلم لأنه لا يفكر.

  ولعل تبادل الأفكار هو الخاصية الأساسية التي تميز لغة الإنسان عن لغة الحيوان. فالإنسان يعبر عن أفكاره وينقلها إلى غيره، وفي المقابل يتلقى منه أفكارا أخرى، وهكذا ينشأ الحوار وتتطور الأفكار عن طريق الحوار. وأما عملية التواصل لدى الحيوان فإنها تسير في اتجاه واحد ولا تسمح بالتبادل. ففي عالم الحيوان لا يتوقع المرسل جوابا على رسالته من المرسل إليه، لأن وظيفة الرسالة هنا تنحصر في إحداث رد فعل ميكانيكي لدى المرسل إليه، ولا تؤدي بالتالي إلى قيام حوار وتبادل بين الطرفين، وهو ما تؤكده نتائج البحوث العلمية المعاصرة التي تناولت سلوك الحيوان بالدراسة والتحليل.

 لقد أوضحت الدراسات العلمية الحديثة أن الفرق الأساسي بين لغة الإنسان ولغة الحيوان يكمن في أن الأولى تستعمل العلامة-الرمز، بينما تستعمل الثانية الإشارة. والفرق بين الإشارة والرمز أو العلامة هو أن الأولى تولد رد الفعل بينما يولد الرمز التفكير. فالإشارة هي شيء يحيل على شيء آخر غير ما يشير إليه أو يطلبه. إن الإشارة منبه. ومعنى ذلك أنها شيء محسوس يولد رد الفعل ولا يبعث على التفكير. فالضوء الأحمر مثلا إشارة تدعو السائق للوقوف، ولا تحثه بالضرورة على التفكير فيما تشير إليه. إن الإشارة في لغة الحيوان وسيلة لإحداث رد الفعل، ويتوقف التواصل عند حدوثه. لقد تنبه ديكارت بدوره إلى هذه الحقيقة في حديثه عن الكائنات الميكانيكية.

 وأما العلامة الرمز فهي وسيلة للتفكير تتجاوز وظيفتها إحداث رد الفعل المباشر لأنها توحي بالأفكار المجردة التي لم تتحقق بعد في الواقع. وعلى هذا الأساس يمكن القول إن الانتقال من اللغة الحيوانية الطبيعية إلى اللغة الإنسانية، أي الانتقال من استعمال الإشارات إلى استعمال الرموز هو حدث بالغ الأهمية في تاريخ الكائنات الحية. فهو يدل على الانتقال من حالة الطبيعة إلى حالة الثقافة، من الوضعية التي تكون فيها الغرائز هي العامل المحدد للسلوك إلى الوضعية التي يلعب فيها العقل دورا مهما في تحديد السلوك. ولذلك يمكن اعتبار اللغة الرمزية هي معيار التمييز الأنطلوجي بين الإنسان والحيوان. تنسجم هذه الفكرة مع ما ذهب إليه عالم الأنثربولوجيا الفرنسي ليفي- ستروس Lévi-Strauss في دراسته للمجتمعات البدائبة حيث أكد أن ظهور التبادل هو العامل الأساسي الذي تسبب في الانتقال من حالة الطبيعة إلى حالة الثقافة.

  وتجدر الإشارة إلى وجود فرق آخر لا يقل أهمية بين العلامة المستعملة في اللغة الإنسانية والإشارة المستخدمة في اللغة الحيوانية، وهو الفرق الذي كشف عنه الفيلسوف الفرنسي برجسون Bergson. برى هذا الفيلسوف أن الفرق الجوهري الموجود بين العلامة والإشارة هو أن الأولى متحركة، تنتقل من موضوع إلى آخر بينما تظل الثانية ملتصقة بموضوع محدد ولا تفارقه أبدا. يقول بهذا الصدد:

 "إذا كان للنمل على سبيل المثال لا الحصر لغة، فإن عدد العلامات التي تتدرج في تكوينها لا بد أن يكون محدودا جدا، ولابد أن كل واحدة منها ظلت مرتبطة بموضوع محدد أو عملية محددة منذ أن خرج هذا النوع من الحيوان إلى الوجود. ترتبط العلامة بالشيء الذي تدل عليه في هذه اللغة ارتباطا لا ينفصم. وعلى العكس من ذلك نجد الصناعة والعمل قد اتخذا أشكالا متنوعة ومتغيرة في المجتمع الإنساني. هذا بالإضافة إلى أن كل فرد من أفراد المجتمع يجد نفسه مضطرا لأن بتعلم الدور المنوط به، لأن بنيته البيولوجية لا تؤهله مسبقا لأداء ذلك الدور. ولذلك كان من اللازم أن يتوفر الإنسان على لغة تمكنه من الانتقال في كل لحظة مما يعرف إلى ما يجهل. وأن لا يكون عدد العلامات التي تتألف منها تلك اللغة لا محدودا، وأن تكون قابلة لأن تنقل إلى عدد لا حصر له من الأشياء. إن قابلية العلامة للانتقال من موضوع إلى آخر هي الخاصية الأساسية التي تميز اللغة الإنسانية"   

 يكشف النص عن أحد الفروق الجوهرية بين لغة الإنسان ولغة الحيوان. والفرق الحاسم بينهما أن الإشارة في اللغة الحيوانية عقيمة جامدة تظل ملتصقة بالموضوع الذي وضعت منذ بداية تشكلها للإشارة إليه. وأما اللغة الإنسانية فهي خصيبة وغنية، علاماتها متحركة، تنتقل باستمرار من موضوع إلى آخر. فكلما حصل تغير وتطور في المجتمع يجد الإنسان نفسه مضطرا لابتكار علامات جديدة. وأما المجتمع الحيواني فهو ثابت وبسيط من حيث أن عدد الأنشطة فيه محدود جدا، وليس فيه ما يدعو إلى ابتكار إشارات جديدة. ولهذا السبب أيضا ظلت الإشارات مرتبطة بموضوعاتها، عاجزة عن اكتساب معاني جديدة.

 وإذا كانت العلامات التي تتألف منها اللغة الإنسانية قادرة على اكتساب معاني جديدة فإن السبب في ذلك يرجع إلى طبيعة المجتمع الإنساني وطبيعة الأنشطة التي يزخر بها. وإذا كان الأمر كذلك فإن ما يفسر الفرق بين لغة الإنسان ولغة الحيوان فهو الاختلاف الموجود بين النشاط الإنساني والنشاط الحيواني. ففي المجتمع الحيواني تتوزع الأنشطة بين الأفراد وفقا لمبدأ بيولوجي. إن العوامل الوراثية هي التي تحدد الأدوار وكيفية توزيعها. وأما المجتمعات الإنسانية فتنطوي على عدد لا حصر له من الأنشطة والأدوار المتجددة باستمرار. ذلك لأن عمليات الإنتاج تخضع لقوانين غير بيولوجية، وتنمو وتتطور وفقا لتغير شروطها الاجتماعية. إن الدور لا يتحدد بشكل مسبق ولكنه مبتكر يضطر الفرد لتعلمه. إن ما يميز الإنسان عن الحيوان هو قدرته الهائلة على الابتكار والتعلم. ومن هذه القدرة تستمد اللغة الإنسانية خصوصيتها المتمثلة في القدرة على النمو والتطور.

 وما كان بإمكان اللغة أن تواكب التطور الاجتماعي لولا قدرة العلامة اللسانية على الحركة والانتقال من موضوع إلى آخر. ولولا مرونة اللغة لظل المجتمع الإنساني على ما هو عليه راكدا ركود المستنقع، ولظل الإنسان منغلقا على ذاته يعيد إنتاج تجارب الماضي بما تنطوي عليه من معاني وأفكار بسيطة متجمدة. ولذلك يمكن اعتبار مرونة اللغة هي الشرط الضروري لتطور المجتمعات الإنسانية ورقيها وازدهارها. ولذلك اعتبر برجسون مرونة العلامة وقابليتها للانتقال من موضوع إلى آخر الخاصية الأساسية التي تميز اللغة الإنسانية عن لغة الحيوان، ورفض الفكرة التي تقول إن ما يميز اللغة الإنسانية هي قدرتها على التعميم والتجريد. فإذا كان التعميم يعني استعمال كلمة واحدة للدلالة على عدد كبير من الأشياء مثلما تدل كلمة "شجرة" على جميع النباتات، فإن الحيوان لا يفتقر إلى هذه القدرة افتقارا كليا، فالغزالة بالنسبة للأسد لا تعني الغزالة الماثلة أمامه فقط، بل تعني كل غزالة ممكنة

ولكن كيف تشكلت القدرة على استعمال العلامات والرموز؟ من المرجح أن تكون قد تشكلت نتيجة لحدوث نقلة على مستوى الذهن رافقت التطور النوعي الحاصل على مستوى بنيته العضوية، ذلك التطور الذي كشفت عنه البحوث التي أجراها العالم الروسي لوريا Luria على تطور بنية الدماغ ووظائفه والتي حصل بفضلها على جائزة نوبل. ومن المحتمل أيضا أن تكون هذه النقلة قد حصلت عندما اكتسبت بعض الكائنات الحبة القدرة على إقامة مسافة سيكولوجية بينها وبين متطلبات التكيف من أجل الحفاظ على البقاء. تتجلى هذه المسافة من خلال القدرة على التحكم الإرادي في الفعل المنعكس الطبيعي الذي ير&a

Partager cet article
Repost0

Recherche

Archives

&Amp;#1593;&Amp;#1606;&Amp;#1575;&Amp;#1608;&Amp;#1610;&Amp;#1606; &Amp;#1575;&Amp;#1604;&Amp;#1605;&Amp;#1602;&Amp;#1575;&Amp;#1604;&Amp;#1575;&Amp;#1578;

دروس في الفلسفة

Liens