Overblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
27 septembre 2006 3 27 /09 /septembre /2006 23:54
محاولة لفهم كلمة البابا التي أثيرت حولها الضجة
أحمد أغبال
استهل البابا بندكت السادس عشر كلمته، التي أثارت ردود فعل عنيفة في العالم الإسلامي، بالحديث عن تجربته كأستاذ في جامعة بون منذ العام 1959، وهي نفس الجامعة التي ألقى من أعلى منبرها كلمته التي يمكن وصفها بأنها تاريخية. تذكّر مناخ الجامعة الذي كان يتميز بعلاقات القرب الحميمة بين الأساتذة والطلاب وبين الأساتذة أنفسهم. كان مناخ الجامعة يشجع على الحوار بين الأساتذة من ذوي الاختصاصات والمشارب المختلفة، وأهم ما ميز الحوار الذي كان يجري في الحرم الجامعي هو روح العقلانية والتفاهم التي تجمع بينهم جميعا رغم اختلاف تخصصاتهم وتوجهاتهم المعتقدية، يقول بهذا الصدد
 » وعلى الرغم من أن اختصاصاتنا التي تجعل من الصعب علينا التواصلأحيانا، مع بعضنا البعض، تجعلنا كلا موحدا، نعمل كل شيء على قاعدة عقلانية واحدةبوجوهها المختلفة ونتشارك المسؤولية في اللجوء الصحيح إلى العقل «
ولعل أهم ما ورد في كلمته عن ذكرياته الجامعية تأكيده على أن روح اللاهوت كانت منصهرة وفي تناغم تام مع الروح العلمية للجامعة، مما يدل على أن اللاهوت المسيحي هو لاهوت عقلاني وأنه جزء من الروح الجامعية العلمية، وذلك على الرغم من أن بعض الأساتذة الجامعيين كانوا لا يؤمنون بالله. ولتقريب وجهات النظر بين المؤمنين وغير المؤمنين سعى رجالات اللاهوت إلى ربط الإيمان بالعقل. وهنا تظهر معالم الرسالة التي أراد البابا تبليغها إلى العالم من منبر جامعة بون التي كرس جزءا مهما من حياته للتدريس فيها. تتلخص هذه الرسالة في أنه يجب» إبراز مسألة الله عبر استخدام العقل« في وجه التيارات »التشكيكية الجذرية «بدل اللجوء إلى العنف. واعتبر هذا الحل امتدادا لتقاليد الإيمان المسيحي.
ومن هذا المنطلق راح الحبر الأعظم يستعرض نتائج تأملاته في مسألة العلاقة بين الإيمان والعقل والتي عالج بعض جوانبها وفقا لمنهج تاريخي مقارن. ولعل ما استدرجه إلى التاريخ ومطباته هو ما قرأه عن الإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني وما دار بينه من حوار مع احد علماء المسلمين حول مسألة الإيمان والعقل. ويذكر المؤرخون أن هذا الإمبراطور كان قد وقع أسيرا لدى المسلمين أيام طفولته، وأن العثمانيين استولوا على القسطنطينية بعد مرور حوالي ثمانية وعشرين عاما على وفاته. تذكر الحبر الأعظم هذه الوقائع وهو يستعد لإلقاء كلمته في جامعة بون في سياق التحضير لزيارة تركيا التي جرت تلك الوقائع على أرضها. كل شيء في هذا السياق له دلالة خاصة: الحوار الفاشل والاستيلاء على القسطنطينية.
يقول البابا إن ما أعجبه في الحوار السابع الذي نشره الأستاذ خوري واستأثر باهتمامه حتى جعل منه نقطة انطلاق لتأملاته هي تلك الحجة التي ظلت هامشية في بنية الحوار رغم أهميتها، وهي أن العنف أمر لاعقلاني ولا يتوافق بالتالي مع طبيعة الله. وإذا كان الأمر كذلك فإن نشر الدين بقوة السلاح هو سلوك يتنافى مع الطبيعة الإلهية وطبيعة الروح.
وقبل أن يقتبس البابا الفقرة التي أغضبت المسلمين حرص على أن يقيم بينه وبين صاحبها مسافة تمليها الضرورة الأخلاقية، تتجلى من خلال التعبير عن اندهاشه من الأسلوب الفظ الذي نهجه في حواره مع غريمه المسلم. يمكن القول بناء على وجود هذه المسافة الظاهرة أن ما أغضب القائمين على حماية الملة والدين في بلاد المسلمين ليس هو ذلك الاقتباس بما يتضمنه من آراء ومواقف الإمبراطور البيزنطي، بل الحجة التي بدت للبابا هامشية في بنية الحوار والتي أسس عليها تأملاته في مسألة العلاقة بين الإيمان والعقل ودعوته إلى حوار الحضارات في ضوئها. ولعله فتح باب النقاش حين تعرض لإحدى القضايا الكلامية التي كانت محط جدل قوي بين المفكرين المسلمين أنفسهم منذ أن نشأ علم الكلام وذلك على غرار ما فعل الإمبراطور البيزنطي ولكن بطريقة لبقة هذه المرة، يتعلق الأمر هنا بمسألة التنزيه المطلق للذات الإلهية. يمكن صياغة الإشكالية المطروحة على النحو التالي: إذا كان الله متعالي ومنزها تنزيها مطلقا وغني عن العالمين فهل يمكن للعقل البشري عندئذ أن يرقى إليه ويحيط به إدراكا ومعرفة  وفهما ؟
يبدو وكأنما أراد البابا أن يقول إن نقطة الفصل الحاسمة بين اللاهوت الإسلامي واللاهوت المسيحي تقع عند موطن الإجابة على هذه الإشكالية التي دفع بها إلى نهاياتها المنطقية ليبرز المعضلة المنطقية الأساسية التي تنطوي عليها، يقول بالحرف الواحد: »هنا، أمام محاولتنا فهم الله، وإذن، أمام الممارسة الملموسة للدين، تواجهنا معضلة تجعلنا، وبشكل مباشر، أمام نوع من التحدي.» هل القول بأن الفعل المنافي للعقل قد يكون متناقضا مع طبيعة الله هو محض فكرة إغريقية أم أنه فكرة صحيحة في ذاتها؟«؛ ثم انبرى يستعرض موقفه من المسألة المطروحة بطريقة تنم عن رغبته في أن يُعمِل الآخر بدوره عقله فيها وأن يفصح عن موقفه منها.
ولبيان موقفه انطلق البابا من مصادرة أساسية مفادها أن العقيدة المسيحية لا تتعارض مع العقل كما فهمه الإغريق، يقول: »هنا يتجلى، في ظني، الانسجام العميق بين ما هو إغريقي بالمعنى النبيل للكلمة والإيمان بالله المبني على أساس ما ورد في التوراة والإنجيل «.تذكرنا محاولته لتأصيل الإيمان في اللوغوس والربط بين اللاهوت المسيحي والتراث الفلسفي الإغريقي بتصور الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل للهوية الأوروبية الذي أفصح عنه في المحاضرة التي ألقاها في جامعة فيينا عام 1935 تحت عنوان »أزمة الإنسية الأوروبية والفلسفة«. الفكرة الأساسية التي تدور حولها هذه المحاضرة هي أن العلم الحديث حاد عن الطريق القويم المتجه نحو الهدف الذي رسمته الفلسفة اليونانية القديمة والذي يتمثل في توسيع دائرة العقل ليشمل جميع مجالات النشاط الإنساني في أفق حصول الوعي للإنسان بغاياته النبيلة التي لا يمكنه بلوغها إلا بهدي من نور العقلانية والروحانية. وأما ما جعل العلم الحديث يحيد عن هذه الأهداف النبيلة فهو وقوعه، في نظر هوسرل، في براثن النزعة الطبيعية والنزعة الوضعية. لم يعد العلم الحديث ينظر إلى الإنسان باعتباره كائنا روحيا من حيث الجوهر بل أصبح ينظر إليه باعتباره شيئا من الأشياء الطبيعية. وهذا بالضبط هو ما قاد العلم الحديث إلى الوقوع في أزمة خطيرة، تجلت في عجزه على أن يوفر للإنسان المعاصر ذلك النموذج العقلاني المثالي الذي ينسجم مع الطبيعة الإنسانية كما حددتها الفلسفة اليونانية. تتمثل أزمة العلم الحديث في الاستعمال الأداتي للعقل وتوجيهه نحو الخارج بدل أن ينصب على ذاته ثم يمتد باعتباره اللوغوس الذي يحتضن كل شيء ويتجلى في كل شيء بدل أن يختزل نفسه في كونه مجرد تقنية رياضية ratio. إن انحطاط العقل وانتقاله من الوظيفة الروحانية للوغوس إلى الوظيفة التقنية الطبيعية للراسيو ratio هو ضرب من ضروب الاستلاب.
يبدو وكأن البابا بندكت السادس عشر يتحرك في إطار مشروع هوسرل الذي يهدف إلى تأصيل الهوية الأوروبية بجميع عناصرها الثقافية في اللوغوس الإغريقي. وأما الواقعة الأصلية في التاريخ الروحاني لأوروبا والتي ساهمت في تشكيل هويتها فهي رؤيا القديس بولس. فبعد أن ضاق ذرعا من انسداد المعابر إلى آسيا رأى في المنام مقدونيا يدعوه أن »اعبر إلى مقدونيا وأعنا« (أعمال الرسل 16، 6-10). وكأنه يريد أن يقول: لم تكن الظروف قد تهيأت في آسيا لانتشار العقيدة التوراتية، وأما في بلاد الإغريق فإن نشوء الفلسفة وتطورها عبر عدة قرون قبل ميلاد المسيح قد هيأ العقول لفهما واحتضانها. ذلك لأن مفتاح فهم الإنجيل هو الكلمة، والكلمة هي اللوغوس، المبدأ الأول الذي إليه يرجع كل شيء؛ »في البدء كانت الكلمة«، هذه هي الجملة التي حرص يوحنا أن تكون بادئة سفر التكوين. فالكلمة هي الله، والله هو العقل أو الحكمة. ليس من قبيل الصدفة إذن يحصل ذلك التقارب بين العقيدة المسيحية والعقل اليوناني، وان يقوم آباء الكنيسة الكبار من أمثال القديس أوغسطين بتأسيس مذاهبهم اللاهوتية في ضوء فكرة الفلسفة القديمة.
وذهب البابا إلى أبعد من ذلك حين صرح بأن اللقاء بين عقيدة التوراة والعقل اليوناني ترجع جذوره إلى العهد القديم، حين أعلن الله نفسه لموسى عند الدغل المشتعل بقوله: »أنا موجود«، »أنا الموجود الذي يوجد«« je suis celui qui suis ». لم يكن بوسع موسى أن يفهم عنه؛ ولكي يفهم عنه أضاف على سبيل التفسير والتفصيل كلمة » إله« قائلا: »أنا إله أبيك، إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب«، وإنما كشف الله لموسى عن نفسه باعتباره حقيقة الوجود أو جوهر الوجود، الواحد الأحد، وفي ذلك نفي لتعدد الآلهة، على اعتبار أن التعدد شيء عارض، إنه وهم أو أسطورة، وهذا الوهم هو الذي كرس سقراط وغيره من الحكماء والأنبياء حياتهم لتبديده، وضحوا بها من أجل الحقيقة. لم يعلن الله عن نفسه في بادي الأمر باعتباره إلها، بل باعتباره جوهر الوجود: »أنا الموجود الذي يوجد«، أو لنقل بعبارة أخرى إنه الوجود الموجود أو الوجود بما هو موجود، وهو موضوع الفلسفة الأولى لدى فلاسفة الإغريق، فلا فرق إذن بين الفلسفة الميتافيزيقية واللاهوت. قصة الدغل المشتعل ورد ذكرها أيضا في القرآن الكريم: » وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى«، وجاءهم بقبس من الحكمة حسب تأويل البابا للتوراة، وكان اللقاء الخصب الخلاق بين الإيمان والعقل. ومن ثمة فإن معرفة حقيقة الوجود تقتضي الجمع بين الإيمان والعقل، بين الفلسفة واللاهوت. ولعل أبرز حدث يؤرخ وبشكل رسمي لهذا اللقاء هو ترجمة "العهد القديم" إلى لغة الإغريق.
ومنذ ذلك العهد ظل الإيمان ينمو في كنف العقل، والعقل في كنف الإيمان، يعزز الواحد منهما الآخر ويدعمه في نموه وانتشاره. تدل حجج مانويل الثاني، في نظر البابا، على توحد قوى العقل والإيمان في وجدانه. ومع ذلك، كانت الأمور فد بدأت تسير في اتجاه الانفصام بين العقل والإيمان في العالم المسيحي منذ القرن الثالث عشر عندما بدأ دانس سكوت Duns Scott (1265-1308) ينحرف عن المنحى العقلاني الذي سار فيه كبار آباء الكنيسة الرومانية والكاثوليكية من أمثال القديس أوغسطينSaint Augustin (354-430) وطوماس الأكويني Thomas d’Aquin (1225-1274). ومن مظاهر الانحراف قوله أن إرادة الله وسلطته مطلقتين، وأنه حر في أفعاله لا يتقيد فيها بضوابط العقل، ولما كانت الإرادة الإلهية تتمتع بحرية مطلقة فلا شيء يمكن أن يجبرها بالتالي على أن تسلك بطريقة عقلانية. ويعتقد أيضا، على خلاف أسلافه، أن نظام الكون لا يصدر عن العقل الإلهي بل يخضع كل شيء فيه لإرادة الله المطلقة، وأن العقل البشري هو مجرد وسيلة مسخرة لخدمة الإيمان. وكما أن حرية الله مطلقة كذلك اقتضت إرادته أن يكون الإنسان حرا وأن يختار بين فعل الخير أو فعل الشر، وهو أمر مناقض للعقل. وإذا كان كل شيء يتأسس على الإرادة فإنه يتعذر أن تكون القوانين والتشريعات عقلانية. فإذا كان الله قد شرع القوانين للإنسان وأمره باتباعها، فقد تقتضي مشيئته أن يخالفها أيضا ما دامت إرادته حرة غير مقيدة بالعقل. إن التشريعات الإلهية للبشر هي تشريعات اعتباطية لا يحكمها مبدأ الضرورة.  وهكذا، فإن القواعد الأخلاقية، إذا نُظِر إليها من منظور دان سكوت، لا تنطوي في ذاتها على ما يلزم الإنسان على مجاراتها والعمل بها في كل الظروف، ولذلك يحتاج المرء دائما إلى وجود سلطة خارجية تلزمه بالانصياع لها.
وبعد أن رسم البابا الخطوط العريضة لمذهب دان سكوت راح يقارن بيته وبين مذهب ابن حزم، وبدا له أن تصوره للألوهة ينسجم تمام الانسجام مع تصور ابن حزم، من حيث أن كل واحد منهما ينظر إلى الفعل الإلهي باعتباره فعلا ناشئا عن الإرادة المطلقة المتحررة من ضوابط العقل.
Partager cet article
Repost0

commentaires

Recherche

Archives

&Amp;#1593;&Amp;#1606;&Amp;#1575;&Amp;#1608;&Amp;#1610;&Amp;#1606; &Amp;#1575;&Amp;#1604;&Amp;#1605;&Amp;#1602;&Amp;#1575;&Amp;#1604;&Amp;#1575;&Amp;#1578;

دروس في الفلسفة

Liens