Overblog
Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
29 juin 2008 7 29 /06 /juin /2008 19:31

مهنة التدريس

في مواجهة التنظيم البيروقراطي للتعليم

(الجزء الثاني)

أحمد أغبال

3. عملية البلترة كنتاج للتعارض بين حاجات الفرد وحاجات المنظمة

لقد أثبت أرجيرس Argiris أن الخصائص البنيوية للمنظمات تتعارض في الغالب مع الحاجات اللامادية لأفرادها. هذا التناقض هو المبدأ الذي تقوم عليه عملية البلترة أو عملية المسخ حسب تعبير فرانز كافكا المجازي العنيف، وهي العملية التي تحول الكائنات البشرية إلى بهائم دون أن تحتاج في ذلك إلى بذل أي مجهود (Camus, 1942)، وهو تعبير مجازي آخر لا يقل عنفا عن التعبير السابق. يشير مفهوم البلترة في سياق هذا التحليل إلى حلة الإنسان الذي انتزعت منه حريته وهويته. وهو بهذا المعنى مرادف لمفهوم الاستلاب. تعني البلترة، حسب تعريف أورغا ولاون السابق الذكر، عملية نقل المهارات خارج ميدان العمل، وهذا ما يدل عليه مفهوم الاستلاب كما سنوضح ذلك فيما بعد.

استرعت هذه الوضعية انتباه العديد من الباحثين خلال العقدين الأخيرين، وعكفوا على تحليل مختلف مظاهرها وبيان آثارها السلبية على المنظمة ذاتها وعلى فعاليتها ومردودبتها. ولعل من أهم مظاهرها ما يشير إليه مفهوم " الاحتراق الداخلي"  burnout أو " الإرهاق المهني"  épuisement.professionnelيدل هذا المفهوم على الحالة التي تكون عليها منظمة تبدو من الخارج سليمة ومعافاة من كل أنواع الخلل بينما هي في الواقع معتلة منخورة من الداخل. ومن أعراض هذا المرض تراخي الطاقة العاطفية-الوجدانية، وتزايد الأعباء الذهنية والضغط النفسي ومختلف أنواع التوتر الناتجة عن الضغوطات الخارجية (Sarabach ; 1992). تظهر هذه الأعراض بقوة في مجالات التعليم والصحة وفي قطاع الخدمات على العموم. وهي تدل على وجود اختلالات وظيفية في حقل العمل داخل المنظمات ذات الطبيعة البيروقراطية، تتجلى في التعارض القائم بين ميول الفرد وميول المنظمة. يولد هذا التعارض ردود فعل عاطفية-وجدانية لدى الأفراد ترافقها الأعراض السابقة الذكر وامتداداتها النفسية-العضوية، وغالبا ما ينتهي الأمر بهؤلاء الأفراد إلى تغيير اتجاهاتهم وسلوكياتهم. يعرف باينس Pines  ومسلاش Maslach الاحتراق الداخلي بأنه "جملة من الأعراض المرتبطة بالإرهاق العضوي والانفعالي الوجداني التي تخلق عند الفرد تصورا سلبيا عن ذاته واتجاهات سلبية نحو العمل، وتصرفه عن الاهتمام بالأفراد اللذين أسندت إليهم مهمة العناية بهم" (Pines and Maslach, 1978). يتبين من هذا التعريف وجود علاقة بين ظاهرة الاحتراق الداخلي وظاهرة الاستلاب، وربما كانت هذه المفاهيم تعبر عن شئ واحد، ربما كانت أسماء لمسمى واحد. وما يؤكد ذلك هو تعريف شرنس Cherniss التركيبي المركز لظاهرة الاحتراق الداخلي، حيث وصفها بأنها انسلاخ سيكولوجي عن واقع العمل يأتي كرد فعل إزاء ضغوطه المفرطة (Cherniss, 1980)؛ وهذا هو ما يدل عليه مفهوم الاستلاب عند شباردShepard، حيث عرفه بأنه: "انسلاخ نفسي-اجتماعي عن واقع العمل.(Shepard, 1972)

وإذا نظرنا إلى ظاهرة الاحتراق الداخلي من جهة ما تحدثه من آثر في شخصية الفرد  فسنجد بأنها تختلف كثيرا عن ظاهرن الاستلاب. يؤدي الاحتراق الداخلي إلى نخر الشخصية من الداخل بتآكل مكونات حياتها العاطفية-الوجدانية، ومواردها، وطاقاتها، وقدراتها، وبانكماش الذات وانطوائها على نفسها، فتطمس هويتها وتنمحي. يتجلى ذلك من خلال الإرهاق النفسي-الوجداني والاتجاهات السلبية والكلبية الساخرة التي تتشكل عند المدرسين نحو تلامذتهم، وعدم اعتبار الذات أو تقديرها تقديرا سلبيا، وفقدان الثقة في النفس وفي القدرة على الإنجاز، والانطواء على الذات، وتقلص علاقات الفرد مع الآخرين(Srabach, 1992). هناك تشابه كبير بين هذه الأعراض ومظاهر الاستلاب. يتجلى ذلك بوضوح من خلال مقارنة تلك الأعراض بما يشير إليه رنالد أريك Urick في تعريفه لمفهوم الاستلاب، فهو يرى بأن " الاستلاب كلمة تشير إلى مشاعر بعض الناس وتصوراتهم عن أنفسهم وعن بعض مظاهر المحيط الاجتماعي، لما يوجد بين الذات والمحيط من روابط. إن هذه التصورات والمشاعر هي على العكس مما ذهب إليه الشاعر الإنجليزي جون دن john Donne في قصيدة يقول فيها: لا وجود للجزر في عالم الإنسان؛ كل شخص هو جزء من القارة."(Urick, 1977, p. 8) ومن مظاهر استلاب الفرد ميله إلى أن يصبح " جزيرة ""  منفصلة عن الآخرين حين يستحوذ عليه الاعتقاد بأن لا شيء يربطه بهم، فتفقد الحياة معناها في نظره، وتتلاشى عنده القيم والمعايير الخلقية، ويفقد السيطرة على الأحداث والوقائع، فيشعر بالعجز والوهن، ويفقد القدرة على الفعل والتأثير، ومن ثمة يفقد الثقة في النفس، ويحط من قدرها، فتتبخر هويته، ولا يستطيع بعد ذلك الإجابة، كما يقول أريك، عن السؤال : "من أنا ؟". قد تكون أعراض الاحتراق النفسي ناتجة عن تفاقم ظاهرة الاستلاب.

ويرجع الأصل في ذلك كله إلى اختلال التوازن بين موارد الفرد ومتطلبات المنظمة التي يعمل فيها، ويرجع بالخصوص إلى التعارض بين تصور الفرد للشغل وكيفية تنظيمه وطريقة إنجازه في المنظمات الحديثة. إن الشغل من حيث طبيعته هو " نشاط وجودي existential activity "حسب تعبير برانكو هرفت(Horvat, 1985). وبوصفه كذلك، فإن له وضعية أنطلوجية محددا؛ ولهذا الوضعية أبعاد عديدة، فيزيولوجية، واجتماعية، وسياسية، ونفسية أو روحية؛ ولهذه الأبعاد جميعها أهمية كبيرة في حياة الإنسان، فهي ضرورية لضمان عيشه، وسلامته العضوية والنفسية، كما أنها ضرورية لتحقيق ذاته لتكون للحياة عنده معنى، فينظر إلى العالم بنظرة إيجابية، وهذا هو مصدر سعادته. ذلك ما يفترض أن يتحقق في وضعية مثلى. " أما وأن تكون السلطة التي تراقب أفعالي في يد الغير، فإن من شأن ذلك أن يفصل الأفعال عني، وبما أن العمل نشاط وجودي فستكون لانفصاله آثار سيكولوجية واجتماعية عميقة على الفرد والمجتمع. إن استلاب العمل يخلق مجتمعا مستلبا." .(Horvat, 1985, p. 235)يعبر مفهوم الاستلاب هنا عن وجود شرخ في حياة الإنسان يفصل الذات عن نشاطها الوجودي ويفقدها السيطرة عليه. أما مفهوم الاحتراق الداخلي فإنه يحيل إلى التعقيدات النفسية والنفسية-العضوية المترتبة عن وجود ذلك الشرخ. وأما العملية التي تؤدي إلى حدوث ذلك التصدع فهي عملية البلترة كما حددها لاون وأورغا، والتي ترتبط بكيفية توزيع السلطة في المنظمات البيروقراطية وغيرها. ومن هنا ضرورة تحليل المنظمة المدرسية بهدف تحديد خصائص الوضعية التي يشتغل فيها المدرس وتناقضاتها لبيان آثارها المحتملة على وجوده.

4. طبيعة المنظمة المدرسية

يعرف إتزيونيEtzioni  المنظمات بأنها وحدات اجتماعية أنشئت وفقا لخطة معينة وأرسيت بنيتها بشكل إرادي لتحقيق أهداف معينة. يشمل مفهوم المنظمة المستشفيات والسجون والمؤسسة العسكرية والمؤسسات الدينية والتعليمية كالكنيسة والمدارس والجامعات. وتتميز المنظمات بتقسيم الشغل وتوزيع السلطة والمسئوليات بين أفرادها، كما تتميز بوجود مركز أو عدد من مراكز القرار وأجهزة المراقبة التي تسهر على ضبط السلوك وتوجيه الجهود نحو تحقيق الأهداف المسطرة (Etzioni, 1971) . وتعتمد المنظمات في تنظيم علاقات أفرادها بعضهم ببعض على مبادئ وقواعد شكلية. وتنشأ عن عملية التنسيق هذه بنية المنظمة التي تتميز بنوع من الاستقرار والثبات (Weiss, 1964)

يعكس مفهوم البنية طريقة توزيع المهام والسلطة والمسئوليات لضمان تحقيق الأهداف؛ وتعتبر البنية، بهذا المعنى، كيانا مصطنعا يقوم على أساس عقلي منطقي. إن الطبيعة العقلانية للمنظمات تفرض، من حيث المبدأ على الأقل، أن يسلك الفرد بطريقة عقلانية. ويقصد بالسلوك العقلاني هنا الالتزام التام بالخطة الشكلية وبالبرامج التي تضعها المنظمة لبلوغ أهدافها. يتعين على الفرد في وضعية مثلى، أن يغير " طبيعته الإنسانية " وذلك بأن يتخلى عن كل ما ليس بعقلاني، لتكون أكثر تلاؤما مع متطلبات المنظمة. غير أنه من الصعب تحقيق هذا المطلب في الواقع؛ ولهذا السبب، دعا بعض المهتمين بشؤون تدبير المنظمات من دعاة التنظيم العلمي (طايلور Taylor وفايول (Fayol إلى ضرورة إحداث ثورة على صعيد العقليات يكون هدفها هو جعل "الطبيعة الإنسانية" أكثر تلاؤما مع الطبيعة العقلانية للمنظمات(Argiris, 1964) . تقوم هذه الدعوة على فرضية مفادها أنه من الممكن التأثير في الإنسان لإجباره على التكيف مع ظروف المنظمة والاستجابة لمتطلباتها؛ وتستبعد هذه الفرضية إمكانية تصور بنية تنظيمية تتلاءم مع "الطبيعة الإنسانية". إن ما يجب تغييره في نظر دعاة التنظيم العلمي هو الإنسان، وليس النظام الشكلي المصطنع. لذلك سيظل التعارض قائما بين ميول الفرد وميول المنظمة؛ وسيظل هذا التعارض مصدر آلام ومآسي العاملين في المنظمات.

 

Partager cet article
Repost0
28 juin 2008 6 28 /06 /juin /2008 19:38

مهنة التدريس

في مواجهة التنظيم البيروقراطي للتعليم

(الجزء الثالث)

أحمد أغبال

 2.4. الحلول المقترحة لحل الصراع بين البيروقراطية والنزعة المهنية

حاول بعض الباحثين المهتمين بشؤون التربية والتعليم إيجاد حل لهذه المعضلة، فانشغلوا بالحث عن الأساليب الإدارية وأساليب القيادة الأكثر تلاؤما وانسجاما مع طبيعة مهنة التدريس (Halpin, 1958 ; Gibb, 1983 ; Cohen & march, 1983 ; Stogdill, 1973) ودعا بعضهم إلى ضرورة إضفاء مسحة إنسانية على وجه البيروقراطية. يأتي في مقدمتهم هلبين Halpin الذي طالب بضرورة اعتماد أساليب القيادة التي تحقق أهداف المنظمة دون أن تخل بالعلاقات الإنسانية. ينطوي أسلوب القيادة الناجح، في نظره، على بعدين يجب أخذهما دائما بعين الاعتبار: يتعلق أحدهما بتحقيق الأهداف goal achievement، ويتعلق الثاني برعاية مجموعة العمل وصيانتهاgroup maintenance.. ولستغدل Stogdill  رأي مماثل، فهو يرى أن أسلوب القيادة الناجح هو ذلك الذي يجمع بين درجة عالية من الاعتبار consideration الذي يظهره الرئيس لمرؤوسيه، من جهة، وقدرة عالية على الأخذ بزمام المبادرة لتنظيم المهام وهيكلتها وتوجيه الجهود نحو تحقيق أهداف المنظمةinitiatve structure. من جهة أخرى. ويرى جب Gibb بأن أسلوب القيادة السائد في مختلف أنواع المنظمات المدرسية هو الأسلوب الدفاعي defensive leadership، وهو أسلوب سلطوي يرتكز على المبادئ التي كشف عنها ماكغريغر  McGrigor  في نظريته المعروفة باسم نظرية theory X. وأما السبب في اللجوء إلى الأسلوب الدفاعي فهو الخوف وفقدان الثقة، بحيث يجد المرء نفسه في حلقة مفرغة: يخاف فيتسلط على الآخرين، ثم يزداد خوفا من ردود أفعالهم فيزداد تسلطا. ويرى جب Gibb بأن الحل يكمن في استئصال جذور الخوف وفي بعث مشاعر الثقة. فإذا كان الخوف يولد الخوف، فإن الثقة تولد الثقة، والمحبة تولد المحبة، ويولد الاحترامُ الاحترامَ. يكمن الحل في نظره في إحلال نمط قيادة جديد محل النمط الدفاعي، وهو نمط يعتمد على المشاركة كأسلوب في التدبيرparticipative leadership. يقوم هذا الأسلوب على أساس القيم الأخلاقية السامية، وهي قيم لا تتعارض مع القيم المهنية. وأما كوهن Cohen ومارشMarch  فإنهما انطلقا من تحليل المنظمات المدرسية، وخلصا إلى أن ما يميز هذا النوع من المنظمات هو الغموض الذي يكتنف بعض عناصرها البنيوية الأساسية كالسلطة والأهداف وبعض الوقائع المرتبطة بها كالخبرة والنجاح، ووصفوها بأنها مجال للفوضى، ولكنها فوضى منظمةorganized anarchy ، يجد المرء نفسه فيها مضطرا إلى استخدام الاستراتيجيات الدفاعية بسبب الغموض وما يترتب عنه من خوف وحذر وفقدان للثقة بين الأطراف المتفاعلة فيها.

كيف يمكن، إذن، تدبير شؤون عالم يسوده الغموض والخوف والحذر؟ إذا كان جب Gibb قدر رأى الحل في إذابة الجليد وتنحية كل ما يبرر اللجوء إلى الأساليب الدفاعية في القيادة، فإن كوهن ومارش يريان أن الحل يكمن في العثور على خطة تكتيكية تمكن رجال الإدارة من التأقلم مع ذلك المحيط ومن الزيادة في قدرتهم على التأثير في مجريات الأحداث وخاصة فيما يتعلق باتخاذ القرارات وتنفيذها؛ وهو، بطبيعة الحال، حل تقني لمشكل اجتماعي معقد. يتمثل هذا الحل في القدرة على ابتكار واستخدام تقنيات الإقناع والتأثير كتلك التي تستعمل في الإشهار وفي الدعاية السياسية والانتخابية لتغيير اتجاهات الناس. ويعترف الباحثان بأن هذا الأسلوب، وإن كان أكثر فعالية من الأسلوب الدفاعي، فإنه ليس أقل غموضا منه. واقترحا خطة ترتكز على ثمان قواعد تكتيكية tactical rules لمساعدة الإداريين على حل المشكلات التي تواجههم؛ سوف نتطرق للحديث عن بعضها لاحقا، وأما ما يمكن ملاحظته الآن فهو أنها ليست غريبة عن روح الفلسفة السياسية لمكيافيل.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض الفلاسفة تصدوا بدورهم لمشكل الصراع بين البيروقراطية والمهنة في قطاع التعليم، واقترحوا حلولا جذرية له؛ ولعل من أشهرها، في العالم الأنجلو-سكسوني على الأقل، ذلك الحل الذي اقترحه الفيلسوف الإنجليزي المعاصر لانجفورد Langford والذي صاغه في ضوء الفلسفة الفينومينولوجية. حاول هذا الفيلسوف أن يعالج مسألة الصراع بين البيروقراطية والمهنة بالرجوع إلى جذورها من أجل استنباط الحلول المناسبة لها؛ ولم يكتف، مثلما فعل علماء الاجتماع، بالتساؤل عما إذا كان التعليم مهنة أم لا، بل تساءل عما إذا كان ينبغي أم لا ينبغي اعتبار التعليم مهنة، وتساءل عما إذا كان يجب تنظيم التعليم على أساس المبادئ البيروقراطية أم على أساس مبادئ المهنة. وحاول أن يعرف أيا من هذين التنظيمين أكثر فعالية وأيهما أكثر إثارة للمشاكل؛ وبدأ بتعريف مفهوم المهنة، وحددها بأنها كل نشاط يهدف إلى خدمة الآخرين يحتاج فيه المحترف إلى معرفة علمية وخبرات تقنية، ولا يصبح الفرد عضوا في المهنة إلا إذا اجتاز مباراة للتأكد مما إذا كان يمتلك بالفعل المعارف والمهارات الضرورية. وتجلب المهنة لصاحبها تقدير الجماعة واحترامها ولاسيما حين تكون علاقته بالمستفيد من الخدمات علاقة مباشرة. ولكن أهم عنصر فيها هو المسئولية. ويرى بأن فكرة المهنة تستلزم بالضرورة وجود نوعين من المسئولية، وهما :

     أ ــ مسئولية الشخص الملتزم. إن الشخص الملتزم هو الذي يعمل وفقا لمبدإ الواجب، فهو لا يعمل خوفا من العقوبات ولا طمعا في المكافآت، وإنما يقوم بما يعتقد أنه الواجب. وكما هو واضح، فإن هذا النوع من المسئولية لا يقبل المراقبة الخارجية، وهو يشكل في نظر لانجفورد حافزا قويا إلى العمل، ويزيد من اعتبار الشخص لذاته.

     ب ــ المسئولية عن الأهداف والغايات: إن الشخص الذي يشتغل لحساب شخص آخر مسئول عن تحقيق الأهداف التي وظف من أجلها على الرغم من أنة لم يشارك في وضعها. ولكن الطرف الذي وظفه يكون مسئولا عن تحديد الأهداف وعن تحقيقها. يعتبر هذا المبدأ في نظر لانجفورد بمثابة الأساس الذي تقوم عليه فكرة المهنة. إذ لابد أن يقبل المحترف بحرية وتلقائية أهداف الجماعة قبولا كليا، بحيث يجب أن يعتبرها وكأنها أهدافه الشخصية.

إذا كان الأمر كذلك، فإن على المدرس باعتباره شخصا مسئولا أن يلتزم بأهداف الجماعة وكأنها أهدافه الشخصية. ينبغي أن يكون حافزه الأساسي في العمل هو مبدأ خدمة الآخرين، وأن يعمل كما لو كان رئيسا. ومعنى ذلك أن يعمل وفقا لأهدافه بوصفه مدرسا، لا وفقا لأهداف البيروقراطيين. يرى لانجفورد بأن تنظيم التعليم على أساس مبادئ المهنة سيؤدي إلى تقوية روح المسئولية لدى المدرسين والتزامهم بالأهداف وولائهم للمهنة. وطالما ظل التعليم محكوما بالمبادئ البيروقراطية فإن المسئولية عن الأهداف سوف لن تتحملها إلا فئة قليلة من البيروقراطيين اللذين لا يزاولون التدريس ولا يعتبرون أنفسهم جزءا من النظام الذي يسهرون على تدبير شؤونه.

يؤدي تشبث المدرسين بمبادئ المهنة إلى نشوء الوعي بوحدة الأهداف وإلى تشكل جماعة مهنية ذات هوية متميزة. يتوقف تشكل هذه الجماعة على الوعي المشترك بالانتماء إلى المهنة وعلى مبدإ التماهي identification الذي يعني دمج الشخص نفسه في شخص أو جماعة دمجا ينشأ عنه ارتباط عاطفي وثيق وروح عصبية esprit de corps قوية. تظهر الجماعة المهنية في ميدان التعليم عندما ينظر كل مدرس إلى غيره من المدرسين بنفس النظرة التي ينظر بها كل مدرس إليه، حيث يكون على وعي، ليس فقط بانتماء المدرسين الآخرين إلى المهنة، ولكنه يكون على وعي أيضا بانتمائه إليها، وبوعيهم على أنه على وعي بانتمائه إليها. يسمي لانجفورد العلاقة التي تربط المدرسين بعضهم ببعض في إطار جماعة مهنية ذات هوية متميزة  "علاقة الوعي الذاتي المتبادل"the relation of reciprocal self-awareness، ويسمي الجماعة التي تتشكل بناء على هذه العلاقة " الجماعة الأولية"primary social group . تتحدد الجماعة الأولية في نظره بنظرة الأفراد إلى واقعهم؛ إنها واقع ذاتي. ويشترط أيضا لظهور هذه الجماعة اعتراف المجتمع بالمدرسين كمحترفين، وقبوله لنظرة المدرس إلى نفسه باعتباره فاعلا اجتماعيا قادرا على أن يقدم للمجتمع خدمات أساسية لما لديه من معارف ومهارات، وباعتباره شخصا ملتزما ومسئولا عن تحقيق أهداف نظام التعليم. يستلزم الاعتراف بذلك كله الاعتراف باستقلالية المهنة، ورفع المراقبة الخارجية عنها، وتحمل نفقات التعليم.

غير أنه ليس من السهل تطبيق هذا النموذج؛ إذ كيف يمكن التأكد من أن جميع المدرسين أشخاص مسئولين بالمعنى الأول لمفهوم المسئولية؟ وهل بلغوا جميعهم درجة من النضج يكون فيها الإحساس بالمسئولية الشخصية قويا إلى درجة يمكن معها الاستغناء عن مراقبتهم؟ ثم ما هي درجة إيمانهم بمبدإ خدمة الآخرين؟ وما هو حافزهم الأساسي في العمل ؟ أهو الإيمان بخدمة الآخرين؟  تشير هذه التساؤلات إلى الصعوبات التي تعترض تطبيق النموذج الذي دعا إليه لانجفورد. لنفترض جدلا أن الجواب عنها سيكون بالنفي؛ يتعين علينا في هذه الحالة أن نتساءل عن العوامل التي تحول دون نضج المدرس وتصرفه عن خدمة الآخرين وعن تحمل المسئولية. يمكن تسليط بعض الأضواء على هذه المسألة بالنظر إليها في ضوء نظرية الحاجات ومن خلال ربطها بعملية البلترة الناجمة عن الطريقة البيروقراطية في تنظيم التعليم.

لقد أوضح أرجيرس Argyris بما لا يدع مجالا للشك وجود تنافر بين متطلبات الشخصية فيما يتعلق بنموها ونضجها ومتطلبات المنظمة البيروقراطية فيما يتعلق بتحقيق أهدافها. يكفي لإثبات ذلك أن نتصور وضعية مثلى يجري فيها تطبيق المبادئ البيروقراطية بدقة وصرامة متناهيين، وضعية يتطابق فيها النموذج الأمثل للبيروقراطية كما صاغه ماكس فيبر مع الواقع. كيف ينبغي أن تكون سمات شخصية الفرد الذي يشتغل في مثل هذه الظروف ؟ لابد أن يكون ذلك الفرد بالضرورة إنسانا سلبيا يتلقى تأثير المحيط ويذعن له، تابعا لغيره، فاقدا لاستقلاله الشخصي، عديم القدرة على التحكم في ظروف العمل، ذي أفق ضيق، سجين الحاضر، ميالا إلى اقتصاد الجهد وإلى تجميد إمكانياته ومهاراته، وينتهي به الأمر إلى الانهيار السيكولوجي (1964Argygis, ).

تتعارض هذه السمات مع ما ينبغي أن تكون عليه الشخصية السوية، ولا تنسجم إلا مع حاجات الأطفال، ولا تستجيب، بكل تأكيد، لما يستلزم إشباع حاجات الراشدين وخاصة فيما يتعلق باستقلال الشخصية وتحقيق الذات وإثبات الهوية. حاول أرجيرس أن يبين ذلك انطلاقا من تعريفه لمفهوم الشخصية، ومن تصوره للنموذج الأمثل للشخصية السوية، مستفيدا من نتائج العديد من البحوث والدراسات، وعرف الشخصية بأنها تنظيم محدد لمجموعة من العناصر التي تشكل وحدة متكاملة، يساهم كل عنصر من عناصرها في تدعيم تلك الكلية والمحافظة عليها؛ وتساهم تلك الكلية بدورها في تدعيم وجود كل عنصر وتحافظ عليه وتصونه؛ وتسعى الشخصية إلى تحقيق نوع من التوازن الداخلي أو التوافق  adjustmentوالتوازن الخارجي من أجل ضمان القدرة على التكيفadaptation ؛ وتكون مدفوعة بطاقة سيكولوجية (وعضوية)؛ وتحتل موقعا مناسبا في نظام معين؛ وتفصح عن نفسها من خلال جملة من المهارات والقدرات؛ وتنتظم عناصرها بشكل معين لتشكل ما يسمى بالأنا self الذي يعبر عن خصوصية الفرد، ويضفي على تجاربه سمة مميزة، ويمكنه من العيش في عوالم خاصة. وتتمتع الأنا بقدرة عالية على الدفاع عن النفس  وعلى مواجهة مختلف التحديات الخارجية، وتتميز بميولاتها إلى النمو لتحقيق مزيد من النضج، ومن أهم هذه الميول :

§        الميل إلى الانتقال من حالة السلبية التي يكون عليها الأطفال اللذين يكتفون بتلقي تأثيرات المحيط إلى حالة الكائن الإيجابي الفعال أو الراشد؛

§        الميل إلى الانتقال من حالة التبعية التي يكون عليها الأطفال إلى حالة الاستقلال النسبي التي يكون عليها الراشدون؛

§        الميل إلى الانتقال من وضعية الطفل الذي يسلك بطرق متماثلة إلى حد ما إلى وضعية الراشد الذي يسلك بطرق عديدة ومتنوعة؛

§        الميل إلى الانتقال من وضعية الطفل الذي يتمسك بمصالح تافهة أو شاذة ثم يتخلى عنها بسرعة إلى وضعية الراشد الذي يكون على وعي بمصالحه الأساسية وتعقيداتها ويدركها في كليتها؛

§        الميل إلى الانتقال من وضعية المرؤوس الخاضع لسلطة الأسرة والمجتمع التي يوجد عليها الطفل  إلى وضعية الراشد الذي يطمح إلى أن يلعب دورا أكثر غنى من دور المرؤوس؛

§        الميل إلى الانتقال من وضعية الطفل ذي الأفق الضيق القصير المدى والذي يتحدد سلوكه بمتطلبات الحاضر إلى وضعية الراشد ذي الأفق البعيد المدى الذي يمتد من الماضي إلى المستقبل؛

§        الميل إلى الانتقال من وضعية الطفل الذي لا يملك وعيا بذاته إلى وضعية الراشد الذي حصل له الوعي بذاته واكتسب القدرة على التحكم في الذات. إن تحكم المرء في سلوكه يولد لديه وعيا بشروط سلامة الشخصية واستقامتها integrity حسب تعبير إركسون Erickson، ويبعث في نفسه مشاعر طيبة تجاه الذات وهو ما يسميه روجرز Rogers اعتبار الذات وتقديرها self worth (Argyris, 1964)

وإذا قمنا بمقابلة النموذج الأمثل للشخصية السوية بالنموذج الأمثل للبيروقراطية فسنجد بأن التنظيم البيروقراطي ينسجم مع متطلبات النمو عند الطفل ولا يتلاءم بتاتا مع متطلبات شخصية الراشد. هذه هي النتيجة التي خلص إليها أرجيرس. ويتوقع أن يشتد التنافر بين متطلبات البيروقراطية ومستلزمات الشخصية السوية كلما ازداد نضج الشخص الذي يحتل المواقع الدنيا في هرم المنظمة، أو عندما تتشدد البيروقراطية في تطبيق مبادئها العقلانية، فيزداد ميلها إلى كبح آليات النمو والنضج لدى الفرد، وتبالغ في تعاملها معه كما لو كان طفلا غير مسئول. يؤدي فقدان التوافق بين متطلبات الشخصية السوية ومتطلبات المنظمة إلى حصول اضطراب في الشخصية يتجلى من خلال شعور الفرد بالحرمان، والعجز عن تحقيق الذات، وانهيار طاقاته السيكولوجية بسبب عجزه عن تحقيق التوافق بين أهداف المنظمة وحاجاته الأساسية، ويتجلى أيضا من خلال ضيق الأفق بسبب فقدان السيطرة على المستقبل الذي يظل غامضا بالنسبة للفرد، ثم إن رغبة هذا الأخير في الحفاظ على سلامته في ظروف عصيبة تجعله يعيش تجربة صراع داخلي مستمر. وتنشأ عن ذلك كله سلوكات شاذة تتراوح بين السلبية التامة والعنف الشديد، ويظهر الميل إلى الهروب من واقع العمل وإلى اعتماد الأساليب الدفاعية والإسقاطية لتبرير تلك السلوكات، إلى غير ذلك من التصرفات المرضية. وتضطر البيروقراطية في مواجهتها لهذه السلوكات إلى تقوية أجهزة الضبط والمراقبة، ولا يؤدي ذلك في الواقع إلا إلى الزيادة في تعقيد المشكلات. هكذا يتحول الحل إلى مشكلة؛ ذلك لأن أجهزة المراقبة تصبح أقل فعالية كلما ازدادت قوة  1983 Parkinson ; 1964 , Crozier .

ولكن، لماذا تتعامل البيروقراطية مع الشخص الراشد كما لو كان طفلا؟ يرى إدغار شاين  Schein  بأن سلوك الفرد داخل المنظمة يتحدد بثقافة المنظمة organizational culture، ويرى أن الثقافة التنظيمية من صنع القادة leaders اللذين يتولون تدبير شؤون المنظمة. يدل مفهوم القيادة عنده على القدرة على إنتاج الثقافة وصيانتها وتدمير ما عداها من الثقافات الدخيلة على المنظمة؛ تلك هي الوظيفة الأساسية للقائد والمبرر الحقيقي لوجود القيادة في نظر شاين. إن القيادة والثقافة، في نظره، هما وجهان لعملة واحدة. يدل مفهوم الثقافة عنده على:"...المصادرات الضمنية الأساسية basic assumptions والمعتقدات المشتركة بين أعضاء المنظمة، والتي تفعل فعلها بطريقة لاشعورية، وتحدد نظرة المنظمة إلى محيطها بطريقة تحمل على الاعتقاد بأنها نظرة عادية ومسلم بها"  .(Schein, 1985, p. 6)تنشأ تلك المصادرات أو المسلمات الضمنية الأساسية كنتيجة للاعتقاد في نجاعة بعض الحلول التي أثبتت التجارب المتكررة قدرتها على حل بعض المشكلات التي تعاني منها المنظمة، وخاصة مشكلة التكيف مع المحيط الخارجي ومشكلة الاندماج الداخلي. وبما أن تلك الحلول نجحت في الماضي ولمدة طويلة، تحولت مع مرور الزمن إلى معتقدات، ثم إلى مسلمات وبديهيات، وانتقلت بحكم بداهتها إلى اللاشعور، وأصبحت تشكل المرتكزات العميقة أو الضمنية لفلسفة المنظمة التي تحدد نظرة الناس إلى واقع المنظمة وكيفية تعاملهم مع ذلك الواقع. يتحول الحل الذي أثبت جدارته كحل ناجع لفترة طويلة إلى معتقد مشترك، ويتحول المعتقد إذا استمرت الظروف على حالها إلى "مصادرة ضمنية أساسية". وعندما تتغير الظروف تظل المصادرة الضمنية ثابتة وراسخة بحكم انتقالها مع مرور الزمن إلى اللاشعور، وأصبحت من البديهيات التي لا يتجرأ أحد على وضعها موضع تساؤل.

يعتبر ماكغريغر McGrigor أول من حاول الكشف المصادرات أو المسلمات الضمنية الأساسية التي تقوم عليها البيروقراطية وتحدد نظرتها إلى البشر، وأفصح عنها في نظريته المعروفة باسم نظري X . تقوم البيروقراطية في نظره على التسليم بما يلي :

§        إن معظم الناس كسالى يكرهون العمل؛

§        يفتقر الناس إلى روح المبادرة، ولا يتمتعون إلا بقدرة ضعيفة على الإبداع وعلى حل مشاكل المنظمة، ولا يرغبون في تحمل المسئولية، ويفضلون أن يتولى الغير تدبير شؤونهم وقيادتهم؛

§        إن العوامل الاقتصادية والحاجة إلى الأمن هي الحوافز التي تدفع الإنسان إلى العمل؛

§        يجب إخضاع الناس لمراقبة دقيقة وتتبع أعمالهم وتحسيسهم بما يمكن أن يحرزوا عليه من مكافآت أو يتعرضوا له من عقوبات(Conrad, 1985)

تعكس هذه المصادرات تصور الفلسفة البيروقراطية للطبيعة الإنسانية: فالإنسان بطبعه كسول، بليد، غير مسئول، ميال لإشباع حاجاته الأولية، محتاج إلى من يسوسه. لذلك تتعامل البيروقراطية مع الراشد كما لو كان طفلا غير مسئول. وإذا كانت تعترف من الناحية القانونية بقدرته على تحمل المسئولية، فإنها لا توفر له الشروط التي تساعده على الارتقاء إلى مستوى الشخص المسئول. وإذا افترضنا أن المدرس الذي يشتغل في منظمة بيروقراطية كائن غير مسئول، فلمن ترجع مسئولية تحقيق أهداف التعليم؟ لاشك أنها سترجع منطقيا إلى أولئك اللذين يراقبونه، وهم يشكلون فئة قليلة، ولا يعتبرون أنفسهم جزءا من نظام التعليم، كما يقول لانجفورد. وبالإضافة إلى دلك فإنهم يشكلون فئة متراتبة تتوزع السلطة والمسئوليات بين أفرادها بشكل غير متكافئ، وذلك وفقا لمبدإ التراتب الذي يجعل كل مراقِب مراقَب.

وإذا كانت المستويات العليا تراقب المستويات الدنيا، فإن ذلك يعني أن مسئولية البيروقراطيين الذين يوجدون في ا

Partager cet article
Repost0
27 juin 2008 5 27 /06 /juin /2008 19:44

مهنة التدريس

في مواجهة التنظيم البيروقراطي للتعليم

(الجزء الرابع)

أحمد أغبال

كان ماكس فيبر أحد المفكرين الأوائل الذين تنبهوا إلى هذه المشكلة، حيث بدا له أن "العقلنة تسير في اتجاه نمط عيش لاعقلاني" (أورده (Lowith, 1982. وعلق لويث عن مضمون العبارة التي نسبها إلى ماكس فيبر بقوله: إن المفارقة التي تنطوي عليها، والتي وصفها جورج زيمل بتراجيديا الثقافة، إنما تدل في الحقيقة على أن البيروقراطية، التي وضعت في الأصل لخدمة الإنسان، لا تخدم في الواقع إلا المؤسسات، وهي فكرة نجدها أيضا عند كارل ماركس. تدل هذه الأطروحة على أن للبيروقراطية وجه لا إنساني، لأنها تنقلب ضد الإنسان وتنزع منه إنسانيته، وتزج به في عوالم الغربة والاستلاب. كان ماكس فيبر على وعي بذلك كله، ولكنه لم يندد بالبيروقراطية كما فعل كارل ماركس، ولم يتجرأ حتى على اتخاذ موقف صريح من المشكلة الإنسانية الذي تلازمها، وحاول إضمار موقفه منها، ولذلك تولى لويت Lowith مهمة الإفصاح عن ذلك الموقف وصياغته بشكل واضح؛ وذهب إلى القول بأن ماكس فيبر قد يكون عبر عن موقفه بطريقة غير مباشرة من خلال فقرة اقتبسها في بعض كتاباته من ديوان بودلير Baudelaire  "أوهار الشر" Les fleurs du mal يقول فيها: يمكن لشيء ما أن يكون مقدسا لا لكونه جميل فحسب، ولكن لكونه غير جميل أيضا. دافع ماكس فيبر عن هذه الفكرة بالاستناد إلى آيات الإنجيل وأقوال نسبها إلى نتشه، وانتهى إلى القول بأن شيئا ما يمكن أن يكون حقا حتى وإن كان غير جميل ولا مقدس ولا خير. إنه التعبير في نظره عن الطبيعة اللاعقلانية للأخلاق السائدة في هذا العالم. تنطوي الأخلاق على شيء غير معقول، وهي فكرة لا تتحمل بالنسبة للذين يؤمنون بالقيم الأخلاقية المطلقة. والواقع أنه لو كان الخير يأتي من الخير، وكان الشر ينبع من الشر، لما أثارت السياسة باعتبارها ميلا طبيعيا في الإنسان أية مشكلة.

إن ما يبرر السياسة إذن هي البعد اللاعقلاني لوجود الإنسان. فلولا الطبيعة المتناقضة للواقع الإنساني لما كان الناس في حاجة إلى السياسة. ومعنى ذلك أن الوظيفة الأساسية للأنظمة السياسية تكمن في تدبير الأمور اللاعقلانية، وتلطيفها، وتخفيف عبئها، ليتحملها الناس ويتكيفون معها، ويعيشون مرتاحين في ظلها. إن هدف السياسة هو أن تجعل اللامعقول شيئا مستساغا. وهي تحتاج لتحقيق ذلك إلى الأخلاق. تكمن وظيفة الأخلاق، من وجهة النظر هذه، في دفع الناس إلى قبول ما لا يعقل قبوله، ليعيشوا الحياة كما تأتيهم عفوا من غير ضجر. ولعل ذلك هو ما ألمح إليه ماكس فيبر في حديثه عن "الطبيعة اللاعقلانية للأخلاقEthical irrationality of the world ، وهو ما عبر عنه كوهن Cohen ومارش March  أيضا بقولهما : "بما أن العالم غير معقول فإنه ينبغي على الرئيس أن يتحلى بالفضيلة" (Gohen and March, 1983, p. 205)؛ والمقصود بالفضيلة هنا التظاهر بالتواضع. إن الخطة التكتيكية التي اقترحاها لمساعدة الرؤساء على اتخاذ القرارات وتنفيذها في عالم "الفوضى المنظمة" تلزم كل رئيس أو قائد بالظهور أمام المرؤوسين بمظهر الإنسان المتواضع؛ ذلك ما تدل عليه كل قاعدة من القواعد التكتيكية الثمانية التي تنبني عليها الخطة المقترحة. تقول القاعدة الأولى: إن على القائد أن يتفهم رغبة أعضاء المنظمة في المشاركة في اتخاذ القرارات، ولكن عليه أن يمتص طاقتهم ويسخرها لحسابه؛ وتقول القاعدة الثانية: إن على القائد أن يتشبث برأيه ويصمد عندما يواجهه أعضاء المنظمة بالرفض، وأن يتفهم رفضهم ويقبله، لأن ما يرفض اليوم لن يرفض بالضرورة غدا، وعندما ينجح في فرض القرار الذي كان يرغب في اتخاذه فإن عليه ألا يتباهى بانتصاره، لأن كل انتصار هو في الحقيقة انتصار مؤقت؛ وتقول القاعدة الثالثة بأن عليه أن يبادلهم موقعه مقابل ما هو أساسي وجوهري بالنسبة للمنظمة exchange status for substance، ومعنى ذلك أن يهتم بالنتائج ويمسك في المقابل عن التلذذ بكل ما يمكن أن يترتب عن تحقيقها من مشاعر الارتياح واعتبار الذات، وعما قد يحدثه في النفس تقدير الآخرين وشكرهم واعتبارهم له، عليه أن يترفع عن ذلك كله ليجعل من نجاحه مناسبة لبعث مشاعر الاعتبار الذاتي عند المرؤوسين، وبعبارة أخرى، يجب أن يحقق النصر ويترك للآخرين فرصة الانتشاء بالانتصار. وتهدف القواعد الخمس الأخرى إلى إحداث سلوكات مماثلة لدى الرؤساء، وإلى حمل المرؤوسين على الاعتقاد بأن رؤساءهم طيبون متواضعون.

لا تهدف الخطة المقترحة إلى تغيير الطبيعة البيروقراطية للمنظمة بقدر ما تهدف إلى تغيير نظرة المرؤوسين إليها. تلعب قيمة التواضع في هذه العملية دور البوتقة التي ينصهر فيها الصلب ليتحول إلى سائل مرن دون أن يؤدي ذلك إلى تغيير طبيعته. إن تصور البيروقراطية للإنسان تصور لامعقول، لأنها تنظر إلى الراشد نظرة الراشد إلى القاصر؛ وبما أن هذا التصور لامعقول، وبما أن من يحمله لا يرغب في تغييره، فإن من الحكمة التعامل معه كما لو كان شيئا معقولا؛ فبدل أن يظهر بمظهر الصخرة الصماء التي ترتطم بها أمواج بحر مضطرب، وجب أن يأخذ شكل سائل يندمج مع الموج ويكبح جموحه بثقله. ومعنى ذلك أن يتكلم الرئيس لغة المرؤوس، ويتكيف مع الصورة التي يحملها عن الواقع ليدفعه إلى القيام بما يرغب فيه دون أن يفقد المرؤوس ماء الوجه. هذا ما يدل عليه مفهوم التواضع في أخلاقيات اللامعقول.

تقضي الحكمة في هذه الأخلاق أن تواجه مفارقة ( أو سخافة ) بمفارقة أخرى ( أو بسخافة أخرى ). فالبيروقراطية تفترض بأن الرجل طفل قاصر، هذه مفارقة أولى، ولكن الفضيلة تفرض عليها التعامل مع القاصر كما لو كان راشدا، هذه مفارقة أخرى. يمكن التعبير عن هذه المفارقات بجملة من خطاب خيالي مفترض وجهه رئيس منظمة إلى مرؤوسيه يقول فيه : أيها السادة.. إنكم في الحقيقة أطفال قاصرون، ولكنكم تعتقدون بأنكم راشدين، لذلك سأتعامل معكم كما لو كنتم راشدين. تذكر هذه الخطة التكتيكية بتقنيات الطب النفسي والتواصل العلاجي التي دأب كل من إركسون (Erickson, 1965) وواتزلفيك(Watzlawick, 1980)  وغيرهما ممن ينتمون إلى مدرسة بالو ألتو .Palo Alto تتمثل تلك التقنيات في استعمال مقاومة المريض، ولغته، وجعله أمام اختيارات وهمية، وتقديم أعراض المرض كوصفة للعلاج، وحل مفارقة بمفارقة أخرى...الخ. استعمل واتزلفيك هذه التقنيات لحل مشكلات التواصل في الأسر المختلة، ودعا إلى استعمالها أيضا لحل مشكلات التواصل في مختلف أنواع المنظمات. ترتكز هذه التقنيات على مبدأين أساسين صاغهما واتزلفيك على النحو التالي :

§    " ليس بوسعنا إلا أن نتواصل"  (Watzlawick, 1972, p. 48)

§    " ليس بوسعنا إلا أن نؤثر. (Watzlawick, 1980, p. 19)

يمكن إرجاع هذين المبدآن إلى  مبدأ واحد ما دام كل تواصل ينطوي في ذاته على فعل التأثير.

اصطدم واتزلفيك عند استعماله لهذه التقنيات بالمفارقة الأخلاقية السابقة الذكر، وعبر عن موقفه منها بقوله : "ليس بوسعنا إلا أن نتحمل المسئولية المحتومة لنقرر، من أجلنا نحن، الطريقة التي يجب إتباعها في اعتبار هذا القانون الأساسي الذي يحكم التواصل الإنساني من أجل التعامل معه بروح إنسانية وبأكبر ما يمكن من الصدق والفعالية" (نفس المرجع السابق، نفس الصفحة)؛ ولكنه ندد في موضع آخر بمن وصفهم "بالمثاليين المملوءة عيونهم بالنجوم المتلألئة" اللذين يرفعون من شأن قيم الإخلاص والصدق ويجعلون منها هدفهم الأسمى. إن قانون التواصل لا يسمح للمرء أن يقول الحق دائما وفي كل الظروف، ولا أن يكون مخلصا على الدوام وفي كل الظروف (Wilder, 1981)؛ وليس يلزم عن ذلك بالضرورة أنه كاذب أو منافق، كما يقضي المنطق الأرسطي الثنائي القيم الذي يلغي الإمكانية الثالثة (الثالث المرفوع). بإمكان المرء أن يقول مثلا: لا أنا بصادق ولا أنا بكاذب، لا أنا بمخلص ولا أنا بمنافق؛ إنه مظهر آخر من مظاهر اللاعقلانية المبثوثة في عالم الأخلاق؛ من شأن موقف كهذا أن يثير البلبلة في أذهان أولئك اللذين اعتادوا التفكير في أمور حياتهم اليومية بعقلية أرسطية ثنائية القيم، وأن يحدث الامتعاض في نفوس أولئك اللذين يؤمنون بالأسطورة القائلة بأن أسمى ما في الإنسان هو العقل (Watzlawick, 1980).

وهكذا، فإذا كان اللامعقول يلزم القائد بالتحلي بفضيلة التواضع، فإنه يفرض عليه أن يضع قيم الصدق والإخلاص بين قوسين، وأن يتعامل بالتالي مع المرؤوسين باعتبارهم قاصرين غير مسئولين دون أن يشعرهم بذلك، وأن يتقن استعمال فن الخطابة للتحكم في مواقفهم واتجاهاتهم. إن فن الخطابة كما عرفه واتزلفيك ملخصا آراء أرسطو في الموضوع، هو شكل من أشكال التواصل الذي يمكِّن كل ذي مقام رفيع وجاه عظيم ممن يتمتعون بثقة مبررة من تغيير آراء وميول الناس اللذين تربطهم به علاقة تواصل ما. ويجب التذكير هنا بأن التواصل يقوم على المبدإ القائل إنه "ليس بوسعنا إلا أن نؤثر". تكمن وظيفة الخطاب في تغيير اتجاهات الآخرين، أو تقريب المواقف، ومن ثمة حل المفارقات الأخلاقية وسوء التفاهم بين الناس.

ترجع جذور هذا الموقف إلى الفلسفة الوضعية المنطقية وإلى نزعتها الوجدانية ممثلة بستفنسن Stivensen  على وجه التحديد. ترى هذه الفلسفة بأن ما يميز الأخلاق هو طبيعتها اللاعقلانية، ما دامت ترتكز على أحكام القيمة. ويرى ستفنسن بأن أحكام القيمة تكتسي دلالة عاطفية-وجدانية، لأن الحكم المعياري يكون دائما مشحونا بطاقة عاطفية-وجدانية، ولذلك كانت أحكام القيمة مصدرا للصراع الأخلاقي وسوء التفاهم بين الناس. غير أن سوء التفاهم لا يعني التناقض، لامتناع القول بأنها صحيحة أو خاطئة، ما دامت لا تؤدي أية وظيفة معرفية. تكمن وظيفتها الأساسية في التعبير عن انفعالات صاحبها وفي خلق رد فعل لدى الطرف الأخر في عملية التواصل، أو التأثير فيه. وبناء على ذلك يميز ستفنسن في أحكام القيمة بين بعدين : بعد يتعلق بالتعبير عن اتجاه معين نحو موضوع الحكم، وبعد يتعلق بالرغبة في التأثير في الغير لتغيير اتجاهه نحو ذلك الموضوع. لذلك، فإن التعبير عن الرأي هو في نفس الوقت مجهود يبذل لتغيير اتجاهات الآخرين. ما من شك في أن هذه الفكرة هي المصدر الذي استمد منه واتزلفيك قاعدته الذهبية القائلة "ليس بوسعنا إلا أن نؤثر". إن الطبيعة المزدوجة للأحكام المعيارية تولد بالضرورة سوء التفاهم بين أطراف عملية التواصل، ولكنها لا تذهب إلى حد التناقض، ولذلك كان من الممكن إيجاد حل لسوء التفاهم ما دام الأمر لا يتعلق بتعارض الآراء والاتجاهات. وأما وسيلة حله في نظر ستفنسن فهي الإقناع persuation الذي يهدف إلى تغيير اتجاه الطرف الآخر. وهكذا، فإن ما قد يبدو على أنه صراع أخلاقي إن هو في الحقيقة إلا صراع الاتجاهات؛ وبما أن الأخلاق لاعقلانية فإن العقل عاجز عن حل ذلك الصراع، لذلك لزم أن يتولى فن الإقناع معالجة هذه المسألة (Watzlawick, 1980 ; Stivenson, 1944).

يمكن القول، بناء على ما سبق، إن الصراع القائم بين البيروقراطية والمهنة في ميدان التعليم هو صراع أخلاقي، صراع بين تصورين متعارضين لما ينبغي أن يكون عليه واقع التعليم بأبعاده الهيكلية والتنظيمية والبشرية. يتجلى هذا الصراع في التعارض الموجود بين اتجاهات المدرسين واتجاهات رؤسائهم نحو الوقائع والظواهر التعليمية، ولا يمكن حسمه إلا بطريقتين: طريقة يمكن وصفها بأنها محافظة، لأنها تسعى إلى الحفاظ على الواقع الموضوعي كما هو وتغيير صورته في أذهان المدرسين من خلال تغيير اتجاهاتهم نحوه بالاعتماد على تقنيات الإقناع والتأثير، وهي الطريقة التي يدعو إليها ستفنسن وواتزلفيك، والتي حدد كوهن ومارش خطتها التكتيكية؛ وطريقة يمكن وصفها بأنها جذرية، وهي الطريقة التي تهدف إلى تغيير المسلمات الضمنية التي تقوم عليها البيروقراطية وتصورها للإنسان، و التي دعا إليها لانجفورد وماكغريغر في نظريته المعروفة بنظريةtheory (Y) .

إن نظرية (X) ما هي في الحقيقة إلا وصف وتحليل نقدي للبيروقراطية يراد منه الإفصاح عن مصادراتها الضمنية المسئولة عن الاختلالات الوظيفية في المنظمات، وعن الاضطرابات النفسية-الاجتماعية التي يعاني منها العاملون فيها. إن تصورها السلبي للإنسان يستلزم من الناحية المنطقية تنظيم المنظمة وفقا لمبدإ التراتب scalar principle الذي يفرض أسلوبا في الإدارة يعتمد على استعمال السلطة. وسيؤدي تغيير التصور السلبي للإنسان، في نظر ماكغريغر، إلى تغيير ذلك المبدإ المنظم، ومن ثمة تغيير الأسلوب السلطوي في الإدارة. هذا ما تطالب به نظرية(Y) ، فهي تدعو إلى اتخاذ موقف إيجابي من الإنسان، وسيؤدي الموقف الإيجابي الجديد إلى اعتماد مبدإ جديد في التنظيم، وهو مبدأ الاندماج the principal of integration الذي يستلزم الاعتراف بحاجات كل من المنظمة والفرد على حد سواء وإشباعهما معا. يؤدي مبدأ الاندماج في نظر ماكغريغر إلى تقوية ولاء الفرد للمنظمة، واستثمار الطاقات البشرية، وتقوية روح المسئولية لدى الفرد وقدرته على المراقبة الذاتية، وتجنب الصراع، وهو ما لا يمكن تحقيقه في إطار العمل بنظرية(McGrigor, 1983) (X) .

إن النظرة السلبية للإنسان تؤدي إلى عدم الاعتراف بقدرته على تحمل المسئولية. وربما كان ضعف روح المسئولية في المنظمات البيروقراطية هو الخلل الرئيسي الكامن خلف المشاكل التي تعاني منها. وبما أن البيروقراطية قد عجزت عن بعث روح المسئولية في موظفيها، فإنه يتعين إعادة تنظيم المنظمات، وخاصة المنظمات التعليمية، على أساس مبادئ وقواعد أخرى. هذا ما دعا إليه لانجفورد. ينبغي من أجل بعث روح المسئولية في المدرسين إعادة تنظيم التعليم وفقا لمبادئ المهنة. إن هذا النوع من التنظيم هو وحده الكفيل بجعل المدرس المسئول الأول والأخير عن أهداف التعليم. يقتضي مبدأ المسئولية عن الأهداف مطالبة المدرسين برفع تقارير مفصلة عن الأنشطة المنجزة خلال فترة محددة لمعرفة مدى أدائهم لواجباتهم، ولإتاحة الفرصة للنقد والتقويم. ويقتضي مفهوم المسئولية الثقة في تقاريرهم. ذلك لأن قيمة الثقة ملازمة لفكرة المسئولية، إذ من العبث أن نعترف بمسئولية شخص لا نثق به؛ هذا على الرغم مما قد يترتب عن الثقة من مخاطر، يجب قبول هذه المخاطر والعمل على التقليل منها (Lanfford, 1985).

وما يمكن أن يؤخذ على لانجفورد وماكغريغر هو أنهما اقترحا الحلول دون أن يقدما خطة عملية تترجمها إلى واقع، وذلك على خلاف ما فعل كوهن ومارش اللذين بلورا خطة تكتيكية لحل مشكلات البيروقراطية، ولو كان من الصعب تطبيقها، على اعتبار أن الشرط الأساسي فيها هو أن يتقن كل رئيس في كل مستوى من المستويات التنظيمية فن الخطابة وتقنيات الإقناع والتأثير، وهو ما يتطلب تكوينا معمقا وتجربة طويلة إلى جانب وجود قابلية للتأثر لدى المرؤوسين. وأما فيما يتعلق بلانجفورد وماكغريغر فإن أفكارهما توحي بطريقتين على الأقل: طريقة ترتكز على تعبئة المدرسين للدفاع عن مطالبهم المهنية؛ غير أن من شأن هذه الطريقة أن تولد ردود فعل قوية لدى البيروقراطية، مما يزيد الطين بلة، ويزيد من تأجيج الصراع وتفاقم المشاكل السابقة، ويكون المدرس هو الضحية الأولى؛ وهذا ما أكدته التجارب الماضية (Banks, 1978 ; Grace, 1983). هذا بالإضافة إلى وجود عراقيل موضوعية تحول دون تنامي النزعة المهنية في ميدان التعليم(Parry & Parry, 1981 ; Bargess, 1986)

ويرى بعض الباحثين أن الصراع بين البيروقراطية قد يضعف ويخمد في ظل شروط معينة، حيث يظهر الميل إلى التكامل والانسجام والتوازن بينهما(Johnson, 1972)) ؛ غير أن هذه الشروط ناذرا ما تتوفر مجتمعة (Dingwall & Lewis, 1985). وهناك من يذهب إلى الاعتقاد بأن حل الصراع بين البيروقراطية والنزعة المهنية رهين بالتحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تجري خارج المنظمة. ومهما يكن من أمر ذلك، فإن استمرار الصراع سيظل العائق الأساسي لاندماج المنظمة التعليمية والسبب الرئيسي في التمزق الداخلي للعاملين فيها.

 

Partager cet article
Repost0
11 mai 2008 7 11 /05 /mai /2008 21:40

الليبرالية السياسية ومسألة العدالة
لدى جون راولز

أحمد أغبال

 

الجزء الأول: مبادئ الليبرالية السياسية

خصائص الليبرالية السياسية لدى راولز

         تنبني على المصادرات الضمنية الأساسية (= المعتقدات التي تبدو للناس بديهية ولا يضعونها موضع تساؤل) التي تقوم عليها الثقافة السياسية في المجتمعات الغربية وخاصة. المجتمع الأمريكي. يقول:“لا تنطلق من الحقائق الأخلاقية العامة، بل من معطيات ثقافتنا المشتركة...طالما أنها تتوفر على ميزات حسنة وقابلة للتحسن باستمرار"

         تعليق الشرط  الإبستملوجي: لا تدعي امتلاك الحقيقة في تصورها للعدالة، ولا تحتكم إلى أية نظرية فلسفية أو أي معيار من معايير الحقيقة، وإنما تترك أمر ذلك "للمواطنين... الذين يتعين عليهم أن يقرروا كل على انفراد كيفية ارتباط القيم السياسية بقيم مذاهبهم العامة”[1]

ماذا يعني تعليق الشرط الإبسنملوجي؟
وما هي تلك المصادرات الضمنية الأساسية ؟


المصادرات الضمنية

v      الاعتقاد بأن المواطنين 

             أحرار متساوون

v      الإيمان بفكرة التسامح الديني

v      الإيمان بالتعددية العقائدية 

             والمذهبية

جعل راولز من هذه العناصر الثقافية المسلمات التي

أسس عليها نظريته. يقول:


المقصود بتعليق الشرط الإبستملوجي

تحرير القيم السياسية من التبعية للمذاهب والتيارات الفلسفية

لأن التبعية المذهبية تعني القضاء على التعددية التي هي جوهر الليبرالية السياسية

لذلك وجب استبدال مفهوم ”الحقيقة“

بمفهوم ”الثقة المعقولة“

 

سنبدأ، إذن، بإلقاء نظرة على الثقافة العمومية نفسها باعتبارها المخزون المشترك الذي يتضمن الأفكار والمبادئ الأساسية المعترف بها ضمنيا. ونأمل في صياغة هذه الأفكار والمبادئ بشكل واضح بحيث يمكن التأليف بينها في إطار تصور سياسي للعدالة يتناسب مع معتقداتنا الأكثر رسوخا[2]

باختصار:

v     الاعتراف الضمني بمبادئ الثقافة السياسية المشتركة هو ما يجعل الليبرالية السياسية ممكنة

v     إن الإيمان المشترك بالمصادرات الضمنية الأساسية التي تقوم عليها الثقافة السياسية المشتركة يستلزم:

1. تعليق الشرط الإبستملوجي

2. استبدال مفهوم ”الحقيقة“ بمفهوم ”الثقة المعقولة“ الذي أصبح يحتل مكانة مركزية في المقاربة السياسية لراولز  

لماذا استبدل راولز مفهوم الحقيقة بمفهوم الثقة المعقولة ؟

فعل ذلك للاعتبارات التالية:

q     تقدم نظرية العدالة كإنصاف نفسها بوصفها التعبير الصحيح والمناسب عن قيم الثقافة السياسية المشتركة.

q     يمكن لكل مذهب من المذاهب الشمولية المعقولة أن يجد لنفسه سندا أو مبررا في الثقافة  المشتركة.

q     إن مفهوم "الحقيقة" لا يتناسب مع مبدإ التعددية، ولا يصلح كمعيار للحكم على المواقف الأخلاقية والسياسية.

q     تقع مبادئ العدالة خارج دائرة اهتمام العقل النظري، ولذلك لا تحتاج في قبولها إلى برهان، فهي تستمد قيمتها من ذاتها باعتبارها جزءا من العقل العملي الذي تكمن وظيفته الأساسية في تحديد ما ينبغي أن يكون.

بعبارة أخرى، إن ما يبرر هذا التوجه هو:

q     الاعتقاد بأن مفهوم "الثقة المعقولة" يؤدي في مجال الأخلاق والسياسة الوظيفة التي يؤديها مفهوم الحقيقة في المجال المعرفي

q     الاعتقاد بـأن مفهوم ”الثقة المعقولة“ يؤدي الوظائف التالية:

§         التقريب بين المذاهب المعقولة المتنافسة

§         إتاحة الفرصة لقيام  إجماع بالتقاطع بين المذاهب

§         ومن ثمة إمكانية تنظيم المجتمع بشكل جيد.  

 وما هي الدلالة السياسية لمفهوم ”الثقة المعقولة“ ؟

v     يدل على الإيمان بإمكانية قيام الليبرالية السياسية التي تضمن إمكانية قيام نظام دستوري عادل.

v      وبمثل الشرط الضروري لقيام الإجماع بالتقاطع بين المذاهب المتنافسة في المجتمعات التي يحكمها مبدأ التعددية المعقولة0

v      ويدل على المستوى العملي على الرغبة في التوفيق بين المذاهب التي يدعي كل واحد منها امتلاك نوع من الحقيقة من أجل بنـاء "المجتمع المنظم بشكل جيد"  well-ordered

ما هو ”المجتمع المنظم بشكل جيد“ ؟

q     هو مجتمع نظمت بنيته الأساسية وفقا  للتصور العمومي للعدالة.

q      إنه نظام تعاون منصف، تخضع مؤسساته الأساسية لقواعد يعترف بها جميع المواطنين ويمتثلون لها.

ما هي شروط وجوده ؟

v     أن يقبل كل فرد مبادئ العدالة، وأن يكون على علم بأن الآخرين يقبلونها مثلما يقبلها هو؛

v     أن يتم تنظيم المؤسسات الأساسية وفقا لمبادئ العدالة، وأن يكون هناك ما يبرر بشكل معقول اعتقاد المواطنين بأن المؤسسات تشتغل وفقا لتلك المبادئ؛

v     أن ينظر الأفراد إلى أنفسهم على أنهم متساوون في الحرية ولهم نفس الشخصية الأخلاقية التي تبعث فيهم الإحساس بالعدالة وببعدها العمومي؛

v     أن يكون للأفراد تصور للخير، وأن يجعلوا منه هدفهم الأساسي الذي يتيح لهم إمكانية المطالبة بحقوقهم المشروعة في إطار مؤسساتهم

v     أن يكون لهم الحق، وأن ينظروا إلى أنفسهم على أنهم أصحاب حق في نيل نصيبهم من الاحترام والتقدير بتمكينهم من المساهمة في تحديد المبادئ التي تنظم البنية الأساسية للمجتمع.

v     أن تشتغل المؤسسات الأساسية بطريقة تولد الإحساس بالعدالة في نفوس المواطنين من أجل ضمان الاستقرار الدائم للمجتمع.

وخلاصة القول

إن الاعتراف الضمني بمبادئ الثقافة السياسية المشتركة هو ما يجعل من المذاهب المتنافسة مذاهب معقولة ويساعد على انتشار مشاعر الثقة في المؤسسات الأساسية ويلزم كل فرد بالتحفظ في ادعاء الحقيقة

ويترتب عن ذلك:

 1. إمكانية قيام الليبرالية السياسية.

 2. إمكانية حصول إجماع بالتقاطع.

وما هي أهداف الليبرالية السياسية ؟

v     تحقيق الإجماع بالتقاطع overlapping consensus  بين المذاهب المعقولة حول مبادئ العدالة التي ستنظم البنية الأساسية للمجتمع.

v      ومن ثمة بناء المجتمع بوصفه نظام تعاون منصف عبر تعاقب الأجيال.

v     نشر مشاعر الثقة في المجتمع من أجل ضمان استقراره الدائم، وذلك  من خلال تفعيل آليات التوازن المتعقل reflective equilibrium وخلق الشروط التي تساعد على تنامي الحس الخلقي وروح المواطنة لدى أفراد المجتمع.

باختصار:

إن المجتمع المنظم بشكل جيد هو مجتمع منظم وفقا لمبادئ العدالة، يوفر إمكانية التعاون المنصف بين المواطنين الذين تتوفر فيهم الصفات التالية :

v      العقلانية والمعقولية

v      يعتبر بعضهم بعضا أحرارا متساوين

v      لهم تصور مشترك للعدالة، ويعترفون بمبادئها

v      يعلم كل فرد أن الآخرين يعترفون مثله بتلك المبادئ

 كيف يمكن بناء هذه المدينة الفاضلة ؟

إنها قبل كل شيء بناء عقلي. وأما طريقة بنائها فتسمى: “البنائية السياسية“، وهي أيضا منهجية للتعاقد

المبادئ والمصادرات التي تقوم عليها المقاربة البنائية السياسية لدى جون راولز

         إن مبادئ الأخلاق والعدالة ليس لها وجود قائم بذاته في استقلال عن ملكاتنا الذاتية

         إن القول بوجود نظم أخلاقية قائمة بذاتها يتنافى مع مبادئ الاستقلال الذاتي وحرية الإرادة والاختيار

         إن مبادئ الأخلاق والعدالة هي قبل كل شيء نتاج الاختيارات العقلانية المعقولة والقرارات التي يتخذها أشخاص يتمتعون بحرية الإرادة والاستقلال

 باختصار، تنطلق عملية البناء/التعاقد من:


بعض المعطيات المرتبطة بالثقافة السياسية في المجتمعات الغربية:

1. الاعتقاد بأن جميع المواطنين أحرار متساوون

2. التعددية العقائدية والمذهبية

 


بعض المصادرات والفرضيات التي تبلورت في ضوء العقل العملي:

1. مبادئ الأخلاق والعدالة ليست معطاة بل تشيد

2. الشخص الأخلاقي العقلاني والمعقول وحده مؤهل لأن يكون مواطنا

3. فرضية الوضعية الأصلية

تجمع المقاربة البنائية السياسية بين المعطى الأمبريقي ومقولات العقل العملي، إنها نتاج "الوحدة القائمة بين العقل العملي والتصور الملائم للمجتمع والشخص وللدور الذي تلعبه مبادئ العدالة في الفضاء العمومي“[3]             

وتنطلق المقاربة البنائية السياسية في محاولتها لتأسيس المدينة الفاضلة على المستوى التجريبي النظري من فرضية الوضعية الأصلية أو الوضعية المثلى للتعاقد original position

هدف التعاقد الأمثل

اختيار مبادئ العدالة لتنظيم المجتمع بشكل جيد أي تنظيمه بشكل يجعل منه نظام تعاون منصف ويضمن له الاستقرار.

 


[1] John Rawls (1993). Political liberalism, p. 140.

[2] John Rawls (1993). Political liberalism; p. 8.

[3] John Rawls(1993). Political liberalism, 107.

[4] John Rawls (1971). Theory of justice, p. 102

[5] John Rawls (1971). Theory of justice, p. 11

[6] John Rawls(1993). Political liberalism

Partager cet article
Repost0
10 mai 2008 6 10 /05 /mai /2008 21:52

الليبرالية السياسية ومسألة العدالة بدى جون راولز
أحمد أغبال

ما هي شروط التعاقد الأمثل ؟

  1. أن يجري في وضعية منصفة (= وضعية مساواة تتوزع فيها المواقع وفقا لمبدإ التماثلية reciprocity
  2. أن يجري بين أشخاص تتوفر فيهم شروط المواطنة
  3. أن يتم تحييد نتائج التوزيع الطبيعي للإمكانيات والقدرات

لماذا يجب تحييد الفوارق الطبيعية ؟

وما هي مقومات الشخص ؟ مقومات المواطنة ؟

يجب التحكم في الفوارق الطبيعية خلال عملية التعاقد لأنه:

"لا يمكن القول عن التوزيع الطبيعي [للقدرات والمواهب] بأنه عادل أو غير عادل، كما أنه لا يمكن القول إنه ليس من العدالة في شيء أن يولد الناس داخل المجتمع في موقع متميز. هذه وقائع طبيعية فحسب. وأما ما يعتبر عادلا أو غير عادل، فهو طريقة تعامل المؤسسات مع هذه الوقائع [...] ليس هناك ضرورة تدعو الناس للاستسلام لهذه الوقائع العارضة. إن النظام الاجتماعي ليس خارجا عن سيطرة الإنسان أو أنه غير قابل للتغيير أو التعديل، ولكنه نظام ناشئ عن النشاط الإنساني"[1]

كيف يمكن التحكم في عوارض الزمن خلال عملية التعاقد في الوضعية الأصلية ؟

جواب راولز: من خلال إسدال ستار من الجهل عليها veil of ignorance
وما تعريفه ؟ يقول راولز 
:

”... ومن أهم خصائص هذه الوضعية أن أحدا لا يعرف مكانته في المجتمع أو موقعه الطبقي ووضعيته الاجتماعية، ولا يعرف أي أحد نصيبه من التوزيع الطبيعي للقدرات والمهارات كمستوى ذكائه وقوته وما شابه ذلك؛ بل إنني سأذهب إلى حد التسليم بأن أي طرف من الأطراف المعنية لا يعرف تصوره للخير ولا نوازعه النفسية؛ وبذلك يتم اختيار مبادئ العدالة خلف ستار من الجهل. هذا ما يضمن التكافؤ بين الأفراد، بحيث لا يكون هناك من هو في وضعية مواتية أو من هو في وضعية غير مواتية لاختيار المبادئ بناء على حصيلة الحظ الطبيعي أو العوارض الاجتماعية. وبما أن الجميع يوجدون في وضعية لا تسمح لأي أحد أن يضع المبادئ التي تخدم وضعيته الخاصة، فإن مبادئ العدالة ستأتي نتيجة تعاقد منصف[2]

وما الذي يجعل المتعاقدين يقبلون الوقوف خلف ستار الجهل؟

جواب:

المتعاقد شخص أخلاقي

ولا يقبل التعاقد إلا الشخص الأخلاقي

وما هي مواصفات الشخص الأخلاقي ؟

إنه الشخص الذي يتوفر على ملكتين أخلاقيتين وهما:

  1. 1. القدرة على تشكيل تصور للخير والسعي إلى تحقيقه
  2. 2. القدرة على الإحساس بالعدالة وفهم مبادئها وتطبيقه.  
  3. ويعتبر المواطنون متساوين عندما يبلغ مستوى نمو القدرات الأخلاقية الحد الأدنى الذي يؤهلهم للتعاون: يجعلهم قادرين على تفعيلها

تدل الملكة الأولى على أن الشخص الأخلاقي عقلاني

وتدل الملكة الثانية على أنه معقول

ياختصار:

يشترط في المواطن بوصفه شخصا أخلاقيا أن يتوفر على ملكتين، تمثل إحداهما الجانب العقلاني من شخصيته وتمثل الأخرى الجانب المعقول من شخصيته

وما الفرق بين العقلاني والمعقول؟

العقلاني

”إن ما يوجه السلوك العقلاني ..هي تلك المبادئ المألوفة التي توجهنا مثلا نحو اختيار الوسائل التي تمكننا من تحقيق الأهداف بأكبر ما يمكن من الفعالية والنجاح"

المعقول

"إن ما يفتقر إليه الفاعلون العقلانيون هو .. الحس الأخلاقي الذي يشكل أساس الرغبة في الانخراط في التعاون المنصف .. ولست أدعي أن المعقول يستغرق الحس الخلقي كله؛ لكنه يتضمن الجزء المرتبط بفكرة التعاون الاجتماعي المنصف"

باختصار:

الفرق بين العقلاني والمعقول هو أن العقلاني لا يراعي دائما الاعتبارات الأخلاقية أو المصالح المشتركة: فقد يكون المرء عقلانيا في اختياراته إلى أبعد الحدود، ولكن اختياراته قد تكون غير معقولة من الناحية الأخلاقية

وما هي مواصفات الشخص المعقول ؟

q     أن يكون مؤهلا لاقتراح شروط تعاون   منصف يكون من المعقول الاعتقاد بأن الآخرين سيقبلونها

q     الالتزام ببنود اتفاقيات التعاون، ولكن شريطة ان يلتزم بها الآخرون أيضا

q     الاعتراف بصعوبة إصدار الأحكام وقبول ما يترتب عن هذه الصعوبة من نتائج. وهنا يكمن جوهر المعقول

يقول راولز:

”يرجع الأصل في التمييز بين المعقول والعقلاني إلى كانط، ويتجلى ذلك من خلال تمييزه بين الأمر المطلق والأمر الافتراضي.. يمثل الأمر الأول العقل العملي الخالص، ويمثل الثاني العقل العملي الأمبريقي. وفي إطار النظرية السياسية للعدالة حصرت دلالة المعقول في معنى ضيق، وجعلته دالا في المقام الأول على الاستعداد للاعتراف بصعوبة إصدار الأحكام وقبول النتائج المترتبة عنه“[3]

ما الذي يجعل إصدار الأحكام صعبا؟

هناك نوعان من العوامل:

1.   عوامل تتسبب في خلاف غير معقول

2.   عوامل تتسبب في خلاف معقول

1. أسباب الخلاف غير المعقول

q     يدافع الناس عن الآراء التي تؤيد مصالحهم الضيقة أو الأنانية. ولما كانت المصالح متضاربة، فإن الآراء ستكون متعارضة.

q      جميع الناس ليسوا أذكياء بما فيه الكفاية، ومع ارتكابهم للأخطاء المنطقية وقصر النظر والتعصب الأعمى والمستبقات تتعارض الآراء ويحتد الصراع بينها.

2. أسباب الخلاف المعقول: صعوبات الحكم

q     صعوبات مرتبطة بالاستعمال الصحيح (البريء) لملكات الاستدلال والاستنتاج والحكم في المجال السياسي. فباعتبارنا أشخاصا عقلانيين، نسعى إلى تحقيق أهداف متنوعة، ونضطر إلى تقدير قيمتها وترتيبها حسب الأولوية، وهنا تواجهنا صعوبة إصدار أحكام عقلانية صحيحة.

q     وباعتبارنا أشخاصا معقولين نضطر إلى تقدير مدى قوة ووجاهة مطالب الآخرين ليس فقط بالنظر إلى مطالبنا الخاصة، ولكن بالنظر إلى مطالب كل طرف بالقياس إلى مطالب الطرف الآخر. وهنا تواجهنا صعوبة الوصول إلى أحكام معقولة وسليمة.

ومن أسباب عدم الاتفاق المعقول أيضا:

q     كثيرا ما يكون الدليل الأمبريقي العلمي معقدا ومتناقضا، ولذلك يكون من الصعب تقييمه.

q     قد نتفق حول بعض الأمور، ونختلف حول تقدير أهميتها النسبية، فنصدر أحكاما مختلفة.

q     إن مفاهيمنا السياسية والأخلاقية كثيرا ما تكون عامة وفضفاضة وقابلة لتأويلات مختلفة.

q     إن طريقتنا في تقييم الأدلة وتقدير مدى أهمية القيم السياسية والأخلاقية تتأثر بتجاربنا في الحياة وانتماءاتنا الطبقية والدينية..مما يؤدي إلى اختلاف أحكامنا.

q     توظف في المناقشات والمناظرات العمومية قواعد معيارية تتفاوت في درجة قوتها، ولذلك يكون من الصعب إعطاء تقييم عام متفق عليه من طرف الجميع

q     لكل نظام مؤسساتي قيمه الأخلاقية والسياسية، وبما أن لكل نظام فضاء اجتماعي محدود، فإنه يضطر لأن يرسم للقيم التي اختارها حدودا بالنظر إلى قيم أخرى. ومما يترتب عن ذلك صعوبة تحديد الأولويات، وصعوبة اتخاذ القرار.

استنتاج

v     إنه من الممكن بلورة تصورات مختلفة للعالم انطلاقا من زوايا نظر مختلفة وبطريقة معقولة. ومعنى ذلك أن تعدد المذاهب ناتج عن تعدد المنظورات

v     إنه من الخطأ الاعتقاد أن كل الاختلافات الموجودة بيننا سببها الجهل او الفساد أو التنافس عن مصادر الثروة والسلطة والنفوذ. إن الاعتقاد بذلك سيؤدي إلى انتشار مشاعر الحذر والعدوان في المجتمع.

v     إن الاعتراف بصعوبات الحكم يستلزم قبول ما يترتب عنها.

ومما يترتب عن صعوبة الحكم

  1. أن لا يعتنق جميع الأشخاص المعقولين نفس المذهب.
  2. نبذ المذاهب غير المعقولة
  3. الدفاع عن المذاهب المعقولة بطرق معقولة
  4. الدفاع عن المذهب المعقول بطرق غير معقولة لا يحوله إلى مذهب غير معقول

باختصار:

مما يترتب عن صعوبة إصدار الأحكام
1. قبول التعددية العقائدية والمذهبية
2. التسامح
إنها مواصفات الشخص الأخلاقي أو المواطن المؤهل للتعاقد

مواصفات المتعاقدين في الوضعية الأصلية

v     العقلانية: القدرة على اختيار الوسائل الفعالة لتحقيق الأهداف والمصالح الشخصية.

v     المعقولبة: القدرة على اقتراح مبادئ التعاون المنصفة وقبول مبادئ التعاون المنصفة التي يقترحها الغير.

v     ستار الجهل: لا أحد يعرف ما هو نوع التنظيم الذي يخدم مصلحته على حساب مصالح الآخرين.

v     الحذر: لا أحد يقبل المجازفة والمخاطرة بمستقبله.

ولرسم معالم الوضعية الأصلية انطلق راولز من المصادرات الحدسية التالية:

v     اللامساواة غير مقبولة أخلاقيا، ولا يجوز السماح بها ما لم يكن هناك مبرر معقول

v      لا يجوز لأحد أن يأخذ أكثر مما ينبغي فقط لأنه يحتل موقعا من المواقع التي تحكمت في توزيعها عوارض  الزمن

v     لا يمكن القضاء على التعددية العقائدية إلا باستعمال سلطة الدولة، وهو ما يعني القضاء على الحريات المدنية.

باختصار:

يسعى كل فرد إلى تحقيق مصلحته الشخصية، ولكن ستار الجهل يحرم الجميع من اتخاذ القرار الذي يضمن لبعضهم التفوق على غيرهم.. وباعتبارهم أشخاصا عقلانيين يوجدون في وضعية عدم اليقين، ما هي مبادئ العدالة التي يكون من المعقول أن يختاروها جميعا دون استثناء ؟ إذا كنت في وضعية عدم اليقين، فكيف يمكنك أن تتصرف بوصفك شخصا عقلانيا ؟ ما هي مبادئ العدالة التي ستختارها ؟ أمامك لائحة تتضمن مبادئ العدالة التي تتحكم في عملية توزيع الخيرات الأولية (الحقوق، الحريات، السلطة، المناصب، الدخل، الثروة)  

عينة من مبادئ العدالة التي يجب الاختيار بينها تحت إكراهات الوضعية الأصلية
1. مبدأ المنفعة: يعني تحقيق أكبر قدر من الرفاهية لأكبر عدد من المواطنين
2. مبدأ الماكسمين
maximin principle: رفع الحد الأدنى إلى حده الأقصى، أي رفع مستوى رفاهية فئات المجتمع الدنيا  

    إلى أقصى حد ممكن. ومعناه أيضا لا يمكن قبول اللامساواة إلا إذا كانت تزيد من رفاهية الفئات الدنيا

بعبارة أخرى

هل تفضل ؟:

q      نظاما اجتماعيا يزداد فيه معدل الرفاهية ارتفاعا

q     نظاما اجتماعيا ترتفع فيه حصة الفئات الدنيا من الخيرات الأولية إلى أقصى حد ممكن

ما هو الاختيار العقلاني؟

في وضعية عدم اليقين يكون اختيار مبدإ الماكسمين هو الاختيار العقلاني. ما الدليل على ذلك ؟

القضية الأولى: يقضي الواجب بعدم إلحاق الأذى بالآخرين.

القضية الثانية: عندما نضطر إلى الاختيار بين بديلين يلحق كل واحد منهما نوعا من الأذى بالآخرين، فيجب

                    اختيار أهون الضررين.

القضية الثالثة: عندما نريد الاختيار بين أنواع النظم الاجتماعية فإننا نكون بصدد الاختيار بين بدائل يلحق كل

                    واحد منها نوعا من الأذى ببعض الفئات.

القضية الرابعة: اختيار النظام الاجتماعي الذي توزع فيه الخيرات الأولية وفقا لمبدإ الماكسمين يعني اختيار البديل

                    الذي يلحق الحد الأدنى من الأذى بالفئات الدنيا

o       إن كنت عقلانيا فحسب، فستختار مبدأ المنفعة؛

o       وإن كنت عقلانيا ومعقولا في نفس الوقت فستختار مبدأ الماكسمين.

استنتاج

من مزايا البعد المعقول في الشخصية أنه:

         يساعدنا على اتخاذ القرارات في وضعية عدم اليقين وفي الوضعيات المحفوفة بالمخاطر؛

         يؤهلنا للتعاقد مع الآخرين؛

         يؤهلنا للتعامل مع المفارقات الأخلاقية وغيرها.

والنتيجة هي أن المواطن شخص أخلاقي



معقول:

  لأنه يتوفر على ملكة الإحساس بالعدالة



وعقلاني:

  لأنه يمتلك القدرة على تشكيل تصور للخير

يمثل الشخص المعقول والعقلاني النموذج السياسي الأمثل للمواطنة الديمقراطية. والسؤال الآن هو:
كيف تتشكل وتنمو روح المواطنة ؟ هل يمكن تنميتها بواسطة التربية والتعليم ؟



[1] John Rawls (1971). Theory of justice, p. 102

Partager cet article
Repost0
9 mai 2008 5 09 /05 /mai /2008 22:11

الليبرالية السياسية ومسألة العدالة لدى جون راولز

أحمد أغبال

الجزء الثاني: مراحل النمو الأخلاقي لدى راولز

وهي مراحل تشكل الإحساس بالعدالة والمشاعر الأخلاقية الموازية لكل مرحلة من المراحل النمائية الثلاث:

1.      أخلاق السلطة

2.      أخلاق التشارك

3.      أخلاق المبادئ

1. أخلاق السلطة

1.                             وهي أخلاق مرحلة الطفولة.

تتشكل بفعل القانون السيكولوجي الأول داخل الأسرة التي تعتبر جزءا من البنية الأساسية للمجتمع

القانون السيكولوجي الأول:

لفهم هذا القانون يجب التعرف أولا على نوازع الطفل وميوله الفطرية

v     الميل الفطري إلى تحقيق ”مصلحته الذاتية العقلانية“ rational self-interest (تحقيق الرغبات الذاتية)؛

v     لا يميل إلى حب الوالدين بالفطرة؛

v     يفتقر إلى القدرة على التسويغ: لا يدرك أهمية الأوامر والنواهي، ولا يرى ما يبرر الخضوع لسلطة الوالدين، ولا يستطيع الشك فيها وانتقادها استنادا إلى مبرر مقبول.

استنتاج:

لا يوجد لدى الطفل أي ميل فطري للامتثال للسلطة. كيف يمكن ”ترويضه“ إذن ؟

القانون الأول: المحبة تولد المحبة

محبة الوالدين لطفلهما تولد محبة الطفل لهما كرد فعل. تتجلى محبتهما له من خلال النوايا الواضحة للعناية به؛ وتتجلى له النوايا بوضوح من خلال:

  • مساعدته على تلبية ”مصالحة الذاتية العقلانية“
  • دعم شعوره بالاعتبار الذاتي وتأكيد تصوره لذاته
  • دعم رغبته في الاستقلال وفي تحمل المسئولية

والنتيجة: تشكل مشاعر وعاطفة جديدة لدى الطفل.

يمكن صياغة القانون السيكولوجي الأول بطريقة أخرى:

عندما يعترف الطفل بحب والديه له من خلال إدراكه لنواياهما الواضحة للعناية به يطمئن على نفسه لإيمانه أن أولئك الذين يمثلون السلطة في محيطه يعتبرونه شخصا جديرا بالاحترام بوصفه قيمة في ذاته. أي أنه أصبح يعتقد أن حب والديه له غير مشروط: لا يحبونه لانضباطه، بل لأن في حضوره متعة. وتكون النتيجة:

q      تنامى الشعور بالاعتبار الذاتي لدى الطفل..

q      وعن هذا الشعور ينشأ حبه لوالديه.

  تنامي المشاعر الأخلاقية لدى الطفل

تتشكل المشاعر الأخلاقية كنتيجة للقانون السيكولوجي الأول. فإذا كان الطفل يحب والديه، ويثق بهما، وحصل أن انساق مع المغريات وخرق القواعد فإنه لابد أن

q      يشعر بالذنب.

q      ويعترف بالخطأ.

الشعور بالذنب شعور أخلاقي ناتج عن القانون الأول. ويدل انعدام الشعور بالذنب على انعدام المحبة والثقة. ولكن لا يجب الخلط بين الشعور بالذنب والخوف من العقاب، لأن الخوف من العقاب لا يعتبر شعورا أخلاقيا.

2. أخلاق التشارك

إذا كانت أخلاق السلطة تتكون من القواعد والتوجيهات (الأوامر والنواهي)، فإن أخلاق التشارك تتألف من المعايير الأخلاقية والنماذج المثلى المرتبطة بالمواقع والأدوار في المنظمات الاجتماعية. تطبع هذه المعايير في نفس الفرد بواسطة مواقف الاستحسان والاستهجان الصادرة عن مراكز السلطة وأعضاء المجموعة التي ينتمي إليها (الأسرة، المدرسة..)

كيف تتشكل وتنمو أخلاق التشارك ؟

كلما تقدم المرء في السن، وانتقل من موقع اجتماعي إلى آخر، ومن دور إلى آخر، يكتسب النماذج المثلى لما ينبغي أن يكون عليه صاحب الموقع الجديد والدور الجديد: التلميذ النموذجي، الأستاذ النموذجي، الزوج النموذجي. ومع مرور الوقت، يكتسب الفرد القدرة على فهم النماذج الجديدة وتفسيرها في ضوء أهداف التنظيم، ويتشكل لديه تصور عن نظام التعاون الشمولي الذي يحدد طبيعة المنظمة ووظائفها وأهدافها

ما هي القدرات المطلوبة لاكتساب أخلاق التشارك ؟

إن اكتساب أخلاق التشارك المتمثلة في التأليف بين نماذج مثلى عديدة يتطلب توفر القدرة على رؤية الأشياء من زوايا نظر متعددة وإدراك الروابط التي تجعل منها  نظام تعاون واحد. ولا يمكن النظر إلى الأشياء من منظور الآخرين ما لم يكتسب الفرد القدرة على إدراك نواياهم ومقاصدهم ومشاعرهم؛ ذلك لأن الفرق بين الطفل والراشد هو أن الطفل تعوزه القدرة على إدراك نوايا الآخرين ومقاصدهم. إن إدراك النوايا والمقاصد والمشاعر هو ما يجعل الفرد قادرا على التحكم في سلوكه وتوجيهه وفقا لتوقعات الشركاء الذين يحتلون مواقع أخرى في المنظمة. إن القدرة على إدراك نوايا ومقاصد الآخرين تؤدي إلى تنامي الحس الخلقي وتدفع الفرد إلى الانخراط في التعاون.

القانون السيكولوجي الثاني

عندما تتحقق قدرة الشخص على إدراك مشاعر زملائه في العمل أو التنظيم الاجتماعي، وتتشكل الروابط العاطفية بينهم بحكم القانون السيكولوجي الأول، وعندما يفصح زملاؤه عن نية واضحة في العمل وفقا لما يقتضيه الواجب، تتنامى مشاعر الصداقة والثقة في الآخرين. وهذا هو القانون السيكولوجي الثاني.

وهذه صياغة أخرى للقانون الثاني:

عندما يلج المنظمة عضو جديد، ويشعر أن الأعضاء القدماء يؤدون أدوارهم وفقا للمثل العليا التي تتناسب مع مواقعهم في التنظيم، ويشعر أنهم يؤدوها بنية واضحة لإيمانهم بأن المبادئ التي يقوم عليها التنظيم عادلة ومنصفة، يكون من نتائج ذلك كله تنامي مشاعر الصداقة والثقة المتبادلة بين أعضاء المنظمة، وهذا ما يجعلهم أكثر ارتباطا بالمثل الأخلاقية المرتبطة بمواقعهم في نظام التعاون. وعندما تتعزز الروابط، تتنامى مشاعر التعاون والتشارك، ويشعر الفرد بالذنب عندما يتخلف عن أداء مهمته وهكذا تتشكل المشاعر الأخلاقية الموازية لاكتساب النماذج المثلى المرتبطة بالمواقع والأدوار في المنظمات تحت تأثير القانون السيكولوجي الثاني

بقول راولز:

”إن غياب هذه الميول [الشعور بالذنب] يدل على غياب روابط الصداقة والثقة المتبادلة“ إن الشخص الذي ينقصه الشعور بالذنب لا يحس بالعبء الملقى على كاهل الآخرين، ولا يصاب بالحرج والانزعاج إزاء شعورهم بالخيبة من نكثه للعهد وخرقه للثقة الموضوعة فيه"[1]

خلاصة

  • فكما أن روابط المحبة تنشأ في المرحلة النمائية الأولى (أخلاق السلطة) داخل الأسرة وفقا للقانون السيكولوجي الأول، كذلك تنمو روابط الصداقة والثقة بين الشركاء في المنظمات الاجتماعية خلال المرحلة النمائية الثانية.
  • في كل مرحلة توجد قوانين طبيعية تقف خلف تشكل المشاعر الأخلاقية.
  • ويدل غياب المشاعر الأخلاقية على غياب الروابط الاجتماعية الحميمة التي يقوم عليها نظام المجتمع بوصفه نظام تعاون منصف.

3. أخلاق المبادئ

إذا كان الشخص في المرحلة النمائية الثانية (أخلاق التشارك)  يبدي نية واضحة للعمل وفقا للنماذج المثلى والمثل العليا المرتبطة بالموقع الذي يحتله في المنظمة، فإن الشخص في المرحلة الثالثة يميل إلى الارتباط بمبادئ العدالة الأكثر سموا وإنصافا. فإذا كان الشخص في المرحلة الثانية يريد أن يكون أستاذا نموذجيا، فإنه أصبح الآن يرغب في أن يكون عادلا.

يقول راولز:

”إن فكرة الفعل العادل والعمل على تطوير المؤسسات العادلة، أصبح لها عنده [في المرحلة الثالثة] جاذبية شبيهة بجاذبية النماذج المثلى..“[2]

القانون السيكولوجي الثالث

حسب هذا القانون، إنه عندما تتشكل مشاعر المحبة ومشاعر الصداقة والثقة المتبادلة بمقتضى القانون الأول والقانون الثاني، يظهر الميل إلى الاعتراف بعدالة المؤسسات إذا شعر الجميع أنهم يستفيدون منها بطريقة منصفة. ويكون من نتائج ذلك تشكل وتنامي الإحساس بالعدالة

يتجلى الإحساس بالعدالة بطريقتين:

  1. يتجلى من خلاف الاعتراف بالمؤسسات العادلة، وقبول سلطتها للاعتقاد بأنها تخدم مصالح الجميع، ولذلك يسعى الجميع، كرد فعل إيجابي، إلى الحفاظ على نظامها واستقرارها، ويشعر الفرد بالذنب إذا أخل بواجباته والتزاماته إزاءها
  2. ويتجلى من خلال الرغبة في العمل من أجل بناء المؤسسات العادلة أو إصلاح المؤسسات القائمة، والرغبة في توسيع مجال تطبيق مبادئ العدالة.

ويشعر الشخص بالذنب إن هو تصرف بطريقة تناقض إحساسه بالعدالة وهنا يأخذ الشعور بالذنب معنى مختلفا عن المعنى الذي يكون له في المرحلتين السابقتين

دلالة الشعور بالذنب لدى الطفل

إن ما يميز الطفل هو عدم قدرته على إدراك النوايا والمقاصد وعلى فهم المثل الأخلاقية. ولذلك، فإن مشاعر الذنب الناشئة عن الإخلال بالمبدأ ليس لها وجود في التجارب الوجودية للطفل

دلالة الشعور بالذنب في أخلاق التشارك

تتشكل المشاعر الأخلاقية في مرحلة التشارك حول روابط الصداقة والثقة في بعض الأشخاص والمجموعات. ويتأسس السلوك الأخلاقي في هذه المرحلة على الرغبة في الحصول على رضا الشركاء وتقديرهم. إذ كثيرا ما يكون الدافع الذي يقف خلف قيام المواطنين بأدوارهم هي الروابط التي تربطهم ببعض الشخصيات المتميزة أو بالمجموعات التي ينتمون غليها، فيخشون من أن تتغير نظرتهم إليهم

دلالة الشعور بالذنب في أخلاق المبادئ

لا ترتبط أخلاق المبادئ بالرغبة في تحقيق رغد العيش أو نيل رضا الآخرين وتقديرهم. تتشكل أخلاق المبادئ بناء على تصورنا للحق بغض النظر عن العوامل العرضية، فخلال هذه المرحلة يصبح الحس الأخلاقي مستقلا عن الظروف العرضية كما هو الحال في الوضعية الأصلية التي وصفناها. يفسر الشخص في هذه المرحلة الشعور بالذنب استنادا إلى المبادئ؛ يفسره بعدم الوفاء للمبادئ. ولكن روابط الصداقة تزيد من قوة الشعور بالذنب.

وخلاصة القول:

عندما يتصرف الشخص وفقا لمبادئ العدالة، بالمعنى الكانطي للكلمة، فإنما يعبر بذلك عن طبيعته بوصفه كائنا عاقلا ومعقولا. والحقيقة أنه:

”بدون إحساس مشترك بالعدالة لن يكون لروابط الحياة المدنية وجود“[3]



[1] John Rawls (1971). Theory of justice, p. 471.

[2] John Rawls (1971). Theory of justice, p. 473.

[3] John Rawls (1971). Theory of justice,

Partager cet article
Repost0
27 janvier 2008 7 27 /01 /janvier /2008 11:48

 

1- علم النفس المعلوماتي
بدأ علم النفس المعلوماتي يتشكل تدريجيا ليتأسس كعلم قائم بذاته منذ حوالي أربعة عقود خلت في الولايات المتحدة الأمريكية، رافق ظهوره تطور أنظمة الذكاء الاصطناعي، ونما تحت تأثيرها. وقد جاء النموذج المعلوماتي information-processing model كرد فعل ضد نظرية بيني Binet التي تعتبر الذكاء قدرة ثابتة، وبدأ يفرض نفسه في أعقاب الضجة التي أثارها استخدام روائز الذكاء في مجال التعليم بالولايات المتحدة الأمريكية،وأتى بتصور جديد للذكاء. يرتكز التصور الجديد على مصادرة مفادها أن الذكاء ليس سمة من سمات الفرد الثابتة، ولكنه طريقة في تناول الموضوعات ومعالجة المعلومات وحل المشكلات. يشمل مفهوم الذكاء، منظورا إليه من هذه الزاوية،مجموعة من العمليات العقلية التي لا تخرج خروجا تاما عن نطاق السيطرة، إذ يمكنالتحكم فيها، وتدريبالمتعلمين عليها، وتطويرها بشكل إرادي.
يركز هذا التصور على البعد الدينامي الحركي للذكاء،ويستبعد أن يكون له مضمون ثابت.وإذا صحت هذه الفرضية فإنه لا يجوز لأحد أن ينعت الطفل الذي يعاني من صعوبات التعلمبالغباء، وذلكعلى اعتبار أن الخلل ليس متأصلا في الذات،بليقع على مستوى الطريقة التي يباشر بها المهام المعرفية، ولذلك يمكن القولإن الطفل ليس غبيا، ولكن سلوكه ليس ذكيا. لهذا التصور مزايا عديدة تنكشفلنا عندما نقوم بفحصهفي ضوء الدور المنوط بالمدرس،وهو مساعدة التلميذ على تقويم سلوكه. وأما إذا افترضنا أن الذكاء قدرة ثابتةفإنه لن يكون باستطاعة أي مدرس مهما كانت قدراته أن يؤثر فيه،وسيكون من الطبيعي أن يعمد إلى تصنيف التلاميذ إلى فئات حسب درجات الذكاء أو الغباء،وأن يتعامل مع بعضهم على أنهم أذكياء بالطبع، ومع غيرهم على أنهم أغبياء بالطبع،وسيكون من العبثأن نرسل أطفالنا إلى المدارس إذا كانت حصيلة التدريس متغيرا تابعا لمتغير آخر يقع خارج سيطرة المعلم. ولعل من أبرز مزايا التصور الجديد للذكاء وأكثرها أهمية هو أن الوعي بمبادئه ومقاصده يساعد على تنامي الروح المهنية في ميدان التربية والتعليم، وهو ما عبر عنه بيغس ومور بقولهما: « إن خلع الطابع الميثولوجي عن هذا المفهوم [الذكاء] مهم جدا لكونه يساعد على تطوير التصور المهني لدور المدرس»Biggs and Moore, 1993, p. 159))  
تلحق صفة الذكاء،منظورا إليه في ضوءعلم النفس المعلوماتي،بالسلوك لا بالذات.يرد مفهوم الذكاء في سياق الخطاب السيكولوجي الجديدمرادفا لمفهوم معالجة المعلومات. كتب هونت Hunt مقالا تحتعنوان:  « Intelligence as an information-processing concept »(Hunt, 1980)ليؤكد على مدى أهمية هذه الفكرة. ترتكز نظرية هونت على ثلاثة مفاهيم أساسية وهي: مفهوم البنية structure، ومفهوم العملية process، ومفهوم قاعدة المعرفة Knowledge base. تعكس هذه المفاهيم نظام الكمبيوتر، ولكن الباحثين عمموا استعمالها ليشمل أنظمة أخرى ولتغدو أكثر اتصالا بواقع السلوك الإنساني، وأصبحت تشير إلى بنية الدماغ والجهاز العصبي للإنسان.
كان داس  Das وكيربيKirbyوجارمن Jarman (1979) من أبرز الباحثين الذين اتجهوا في هذا المنحى في محاولة للجمع بين نظرية لوريا Luria  حول وظائف الدماغ ونظرية معالجة المعلومات. وتعتبر نتائج بحوثهم من أكثر الأعمال انسجاما مع الإنجازات التي تحققت في مجال فيزيولوجيا الدماغ والجهاز العصبي (Kirby, 1984). وكان لورياقد ميز بين ثلاثة أنظمة وظيفية وهي: النظام الذي يؤدي وظيفة التذكرarousal، والنظام الذي يتولى معالجة المعلومات processing، والنظام الذي يؤدي وظيفة التخطيط planning. تبنى داس وكيربي وجارمن هذه المفاهيم، وركزوا على وظيفة معالجة المعلومات، وميزوا فيها بين نوعين من العمليات: العمليات التي تعالج المعلومات وفقا لمبدأ التزامن simultaneous processing، والعمليات التي تعالج المعلومات وفقا لمبدأ التعاقب successive processing. وعلى هذا الأساس بلور داس Das ما سماه نموذج دمج المعلومات information integration model(Das, 1984). ويتألف نظام معالجة المعلومات من ثلاث نظم صغرى مترابطة فيما بينها، وتمر عملية معالجة المعلومات بثلاث مراحل، يشتغل في كل واحدة منها نظام معين،وهي:
المرحلة الأولى: وفيها تشتغل العمليات المرتبطة بنظام استقبال الانطباعات الحسية. يرتكز هذا النظام على عملية انتقاء المعلومات، وتتطلب هذه العملية درجة عالية من الانتباه من أجل فحص المدخلات الواردة من المحيط الخارجي لتقدير مدى أهميتها بسرعة فائقة. ذلك لأن الفرد يتلقى خلال هذه المرحلة كمية هائلة من المعلومات عن طريق الحواس، ونظرا لضخامة حجم المعطيات التي ترد إليه من المحيط يعجز عن معالجتهادفعة واحدة وبشكل متزامن،ولذلك يركز انتباهه على أكثرها أهمية بالنسبة إليه.وتجري عملية الانتقاء ضمن ما يسميه داسبسجل الانطباعات الحسية sensory register، وتستغرق مدة قصيرة جدا لا تتجاوز ثانية واحدة.
المرحلة الثانية: وفيها تنتقل المعطيات المنتقاة إلى الذاكرة النشيطة working memory. ومن أهم ما يميز هذه الذاكرة هو وقوعها داخل دائرة الوعي، ومحدوديةطاقتها الاستيعابية، وقصر مداها، لا تستقر فيها المعلوماتأكثر من دقيقة واحدة، ولذلك سميت بالذاكرة القريبة المدى. وتحتل الخطط والاستراتيجياتقسطا وافرا من حيز الذاكرة القريبة المدى إلى جانب المدخلات التي تم انتقاؤها،ولذلك اعتبرت بمثابة المحطة الرئيسية في عملية معالجة المعلومات.وتجدر الإشارة هنا إلى وجود علاقة وثيقة بين الخطط والاستراتيجيات من جهة، ونظم معالجة المعلومات من جهة أخرى، وهو ما عبرعنه كيربي بقوله:« إن الاستراتيجية الجيدة تعوض النقص في حيز الذاكرة النشيطة»(Kirby. 1984. pp. 6). وعندما تنتقل المدخلات إلى الذاكرة النشيطة تعالج بطريقة تمكن من حفظها في الذاكرة البعيدة المدى.
المرحلة الثالثة:وفيها تنتقل المعلومات التي تمت معالجتها إلى الذاكرة البعيدة المدى، ويفترض أن تستقر فيها مدى الحياة إذا تمكن الفرد من تنظيمها تنظيما محكما. ولكن الأساليب المستعملة لاختزانها وتنظيمها تختلف من فرد لآخر. فهناك من يلجأ إلى استراتيجية التكرار والحفظ والاستظهار، وهناك من يستخدم استراتيجية أخرى تقوم على الربط بين المدخلات الجديدة والمعارف المكتسبة من خلال تأويلها في ضوء تلك المعارف، وهذا ما يشير إليه مفهوم التحويل coding  أو encoding في لغة علم النفس المعلوماتي(Biggs and Moore, 1993).
يتألف نظام معالجة المعلومات، إذن،من ثلاثنظم فرعية وهي: سجل الانطباعات الحسية، والذاكرة النشيطة، والذاكرة البعيدة المدى، ويشتملبالإضافة إلى ذلك على عمليات التحويل,والتخزين,والتخطيط, والإستراتيجيات المرتبطة بها. وتعتبر الذاكرة النشيطة المحطة المركزية في هذا النظام. وبحكم مكانتها المركزية في الجهاز المعرفي تلعب الذاكرة النشيطة دورا رئيسيا في عملية معالجة المعلومات،حيث إنها تؤدي العديد من الوظائف البالغة الأهمية: منها ما يتصل بالتخطيط، وتحديد الأهداف، واتخاذ القراراتفيما يتعلق بانتقاء الاستراتيجيات المناسبة لتحقيق الأهداف أو ابتكار استراتيجيات جديدة من أجل التحكم في الأداء؛ ومنها ما يتصل بتحويل المدخلات التي تم انتقاءها وفرزها وتصنيفها وتحليلها وتركيبها في ضوء الأهدافالمتوخاة.
وعلى هذا الأساس أمكن التمييز في الجهاز المعرفي بين نوعين من الوظائف: هناك من جهة وظيفة تحويل encoding المدخلات وتخزينها،وهي الوظيفة التي تمثل المضمون الحقيقي لعملية معالجة المعلومات؛ وهناك من جهة أخرى الوظائف المرتبطة بنظم التحكم في العمليات السابقة الذكر. يتعلق الأمر هنا بالخطط والاستراتيجيات التي توجه عملية معالجة المعلومات وتمكن الفرد من تنفيذها بطريقة فعالة. يتألف الجهاز المعرفي إذن من عمليات معالجة المعلومات ونظم التحكم فيها.  
يستعمل مفهوم العمليةprocess، بالمعنى الدقيق للكلمة، للدلالة على التحويلencoding لتمييزه عن الإجراءات التي يشملها مفهوم التخطيط ومفهوم الاستراتيجية. هذا مع العلم أن الاستراتيجيات والقدرة على التخطيط تميل، عندما يتقنالفرد استعمالها ويطبقها بطريقة آلية، إلى الاشتغال مثلما تشتغل عملية معالجة المعلومات. وفي هذه الحالة يصبح من الصعب التمييز بين العمليات والاستراتيجيات. غير أن التطور الحاصل في الاستراتيجيات لا يفقدها وظيفتها، حيث تظل في موقع السيطرة متحكمة في عملية معالجة المعلومات، ترسم لها الخطط والأهداف والغايات. يدل مفهوم الاستراتيجيةبمعناها العام على المنهجية أو المقاربة المعتمدة في أداء المهام المعرفية. ومع أنه يمكن استخدام مصطلح الخطة plan كمرادف لمفهوم الاستراتيجية إلا أن بعض الباحثين يفضلون التفريق بينهما، حيثيميزون في الخطة بين عدة مستويات متراتبةحسب درجة خصوصيتها أو عموميتها: فهناك الخطط الصغرى والخطط الكبرى (Kirby, 1984).
Partager cet article
Repost0
26 janvier 2008 6 26 /01 /janvier /2008 12:14

تتخذ الخطةفي نظرية جون كيربي مستويات متعددة ومتراتبة، تتدرج من أكثرها خصوصية إلى أكثرها عمومية، بحيث إن تنفيذ خطة معينة يستلزم أولا تنفيذ الخطط التي تقع في المستويات الدنيا من الدارج. تندرج الاستراتيجية في هذا النظام المتراتب باعتبارها خطة فرعية subplan،إنها جزء من نظام الخطط. والفرق بينها وبين الخطة هو أن هذه الأخيرة تبدو أكثر عموميةوشمولا. غير أنه يمكن التعامل مع الاستراتيجية بوصفها خطة عندماتوظف إجراءاتها ضمن نطاق محدود. ومع ذلك فإن مفهوم الاستراتيجية لا ينطبق دائما على جميع الأنشطة المعرفية، فهناكالكثير من الأنشطة التي لا يعبر عنها إلا بمفهوم الخطة.
وكذلك ميز جون كيربي في الاستراتيجيات بين نوعين: الاستراتيجيات الصغرى أوالأكثر خصوصية microstrategies والاستراتيجيات الكبرى أو الأكثر عمومية macrostrategies. وما يميز الصنف الأول هو أن كل استراتيجية منها تتناسبمع نوع محدد من المهام المعرفية دون غيره.إن ما يميز هذا النوع من الاستراتيجيات هو أنها تأخذ بعين الاعتبار خصوصيةكلمهمة، ولذلك تكون أكثر ارتباطا بالمعارف والقدرات التي يتطلبها إنجازها، وهو ما يجعلها قادرة على التأثير في الأداءبشكل مباشر.وتكمن أهميتها، إضافة إلى ذلك، في كونها قابلة للتلقين. وأما الصنف الثانيفيتميز بكونه أكثر شمولا وأكثرارتباطا بالبعد الوجداني للفرد وحوافزه.تعكس الاستراتيجيات الكبرى  الأسلوب المعرفي cognitive styleللشخص وطريقته في معالجة مختلف المهامالمعرفية. ولعل أهم ما يميز هذا النوع من الاستراتيجيات هو ارتباطها الوثيق بثقافة المجتمع، ولذلك يكون من الصعب تغييرهابواسطة التربية والتعليم.
وكذلك يمكن التمييز في الخطط بين نوعين: الخطط التي تطبق على مستوى الميكرو والخطط التي تطبق على مستوى الماكرو. ويكون من الصعب التمييز بين الاستراتيجيات والخطط الصغرى microplans عندما تميل هذه الأخيرة لأنتصبح أكثر شمولية، وكذلك يصعب التمييز بينها وبين خطاطة المعرفة knowledge schemeأو بنية المعارف الأكثر التصاقا بأفعال الفرد، عندما تصبح أكثر خصوصية. وكثيرا ما يحصل الخلط أيضا بين الأساليب المعرفية العامة والخطط الكبرى عندما تبلغ هذه الأخيرة درجة عالية من التعميم(Kirby. 1984).
إن ما يميز نموذج معالجة المعلومات بصفة عامة هو أنه يولي أهمية بالغة لنظم التحكم في عملية معالجة المعلومات. أخذ هذا النموذج العام شكلا خاصا عند داس Das وكيربي Kirby وجارمن Jarman عندما أدرجوا في نظريتهم أفكار لوريا حول التركيب المتزامن simultaneous synthesis والتركيب المتعاقب successive synthesis، وأطلقوا على الصيغة الجديدة اسم نظرية دمج المعلومات information integration theory. تمر عملية معالجة المعلومات في إطار هذا النموذج بنفس المراحلالتي كشف عنها النموذج المعلوماتي.والجديد في نظرية داس ومجموعته هو أن استعراض المعلومات وتنظيمهايتم وفقا لمبدأ التزامن ومبدأ التعاقبفي كل مرحلة من مراحل عملية المعالجة.
هناك إذن طريقتان لمعالجة المعلومات: طريقة ترتكز على مبدأ التعاقب، وأخرى ترتكز على مبدأ التزامن. ويختلف الأفراد في طريقة معالجة المعلومات، فمنهم من يظهر ميلا واضحا إلى بسطها واستعراضها في شكل حلقات متوالية، ولا يقيم بينها أية علاقةأخرى غيرعلاقة التسلسل،وهذه هي طريقة التركيب المتعاقب. ويفترض أن يكون الفرد الذي يستخدم هذه الطريقةشديد الميل إلى الحفظ والاستظهار. ومن الأفراد من يمتلك القدرة على أن يستحضر في ذاكرته كمية هائلة من المعطيات في آن واحد، ثم يقيم بينها علاقات منطقية، ويتمكن بذلك من إدراكالمعنى العام الذي تدل عليه التركيبة التي بناها على ذلك النحو،وهذه هي طريقة التركيب المتزامن. وتجدر الإشارة هنا إلى أن إنجاز بعض المهام يتطلب بالضرورة توظيف منهجية التركيب المتعاقب، كما هو الشأن مثلا بالنسبة للسلاسل الزمنية أو التراكيب اللغوية، فإن فهمها يستلزمتنظيمهاوفقا لمبدأ التعاقب. وما يمكن ملاحظته على العموم هو أن الأفراد يتوزعونعلى هاتين الطريقتين، غير أن هذا التوزيع لا يحول دون إمكانية تصور فئة ثالثة تجمع بينهما. ويتحدد ميل الفرد إلى استخدام هذه الطريقةأو تلك بمدى قدرته على التخطيط.
وترتكز نظرية دمج المعلومات على مجموعة من المصادرات من أهمها:
§         تتم عملية معالجة المعلومات المتزامنة والمتعاقبة والتخطيط على جميع مستويات الجهاز المعرفي بما في ذلك مستوى الإدراك الحسي والذاكرة،وعلى مستوى بناء المفاهيم؛
§         إن عملية التركيب المتزامن وعملية التركيب المتعاقب لا تخضعان لمبدأ التراتب؛
§         وإذا كان من الممكن أن تظهر إحداهما قبل ظهور الأخرى، فإن كل واحدة منهما تنمو في استقلال عن الأخرى؛    
§         يمكن مقاربة المهمة المعرفية الواحدة بالاعتماد على طريقة التركيب المتزامن أو على طريقة التركيب المتعاقب، هذا مع العلم أنه يمكن لنفس الطريقة أن توظف استراتيجيات مختلفة. وتقف مجموعة من العوامل المتفاعلة خلف اختيار الفرد لهذه الطريقة أو تلك.تتمثل هذه العوامل في: (أولا) ميل الفرد إلىإتقان نمط معين من أنماط التحويل أكثر مما يتقن نمطا آخر؛؛ (ثانيا)اعتيادهعلى استعمال نمط معين إذا كان يتقن النمطين معا؛ (ثالثا)يشمل هذا العامل شروط إنجاز المهمة المعرفية. وقد تتغير هذه الشروط كلما تغيرت التعليمات التي يتلقاها الفرد بخصوص كيفية معالجتها.
§         إن التخطيط والتحويل عمليتان مترابطتان فيما بينهما.
لهذا النموذج النظري أساسه الفيزيولوجي أيضا. فقد تبلور انطلاقا من نظرية لوريا Luria التي تؤكد أنالمنطقةالجبهية الأمامية من الدماغ هي المسئولة عن أداء وظيفة التخطيط. لقد أثبت هذا العالم بواسطة التجارب التي أجراها على عدد كبير من الأفراد أنه عندما تتعرض هذه المنطقة للأذى تضعف قدرة الفرد على التخطيط. ومن الآثار المترتبة عن ذلك أيضا حصول اضطراب على مستوى الإدراك الحسي-البصري، وضعف القدرة على التحكم في الانتباه وتوجيهه لانتقاء المدخلات المهمة، مما يتسبب في انخفاض مستوى الأداء. وتوصل أيضا إلىأنلكل من أسلوب التركيب المتزامنوأسلوب التركيب المتعاقب أساس فيزيولوجي، حيث أثبت أن لكل أسلوب منطقة خاصة به في الدماغ (Das, Kirby and Jarman, 1979 ; Das. 1984).
وتجدر الإشارة أخيرا إلى أن نظرية كيربي تبلورت خارج حقل التربية والتعليم،إلا أنها كانت تطمح منذ البداية إلى المساهمة في فهم طرق التحصيل والأداء لدى المتعلمين وأساليب التدريس وتطويرها. يعترف كيربي أن هذه » النظرية تشكلت قبل جمع المعطيات« ، ولكنه قام بفحصها في ضوء نتائج البحوث الميدانيةالتي أجراها مع زملائه في ميدان التربية والتعليم، ودعموها بنتائج البحوث التي أجريت في ميدان علم النفس الفارقي، وانطلقوا في بحوثهم الميدانية من افتراض وجود علاقة بين مستوى الذكاء ومستوى الأداء لدى التلاميذ. وصاغوا هذه الفرضية انطلاقا من مصادرة مفادها أن ما يحدد كلا من مستوى الأداء ومستوى الذكاء هيالعمليات المعرفية cognitive processes التي تشكل بنيتهما التحتية. تسعى هذه البحوث إلى التعرف على طبيعة المشاكل التي يعاني منها التلاميذ من أجل وضع برامج للتدخل في المؤسسات التعليمية لتصحيح سلوك المتعلمين وتطوير أساليب التدريس والتعلم وخاصة ما تعلق منها بالخطط والاستراتيجيات(Kirby, 1984b. p. 60).
2
Partager cet article
Repost0
25 janvier 2008 5 25 /01 /janvier /2008 12:17

2- البياجيون الجدد
لقد كان لعلم النفس ألمعلوماتي تأثيرعميق في حركة البياجيين الجدد. ولبيان ذلك سنحاول فيما يلي التعريف بأفكار اثنين من كبار ممثلي هذه الحركة، وهما روبي كيس Robbie Case، وكورت فيشر Kurt Fischer.وتجدر الإشارة إلى أن بعض الدارسين قاموا بجمع ومناقشة أعمال العديد من الباحثين الذين ينتمون إلى هذا التيار الفكري في مؤلفات باتت مشهورة(Kessen, 1984 ; Demetriou. 1988).
2-1- نموذج روبي كيس
أعلن روبي كيس Case بعبارة صريحة انتماءه إلى حركة البياجيين الجدد، وذلك حين قال إن أحسن وصف يمكن أن يوصف به موقفه من مسألة النمو كما طرحها بياجي هو أنه موقف « بياجي جديد»Piagetian-Neo. وبرر ذلك بقوله(Case, 1984 , p. 20):
 » إنني أعتقد مثل بياجي أن أحسن وصف يمكن أن توصف به آليات التفكير لدى الأطفال في مختلف المراحل النمائية هو أنها سلسلة من البنيات الذهنية تكون فيها كل بنية أكثر تطورا من سابقاتها. وكذلك أعتقد مثل بياجي أن شكل هذه البنيات ودرجة تعقيدها في أية مرحلة من مراحل العمر تظل ثابتة مهما تنوعت مضامين الحقول المعرفية (شريطة أن تتوفر للأطفال الظروف المناسبة للتعلم). ومع ذلك فإنني أعتقد، على خلاف ما ذهب إليه بياجي، أن البنيات الذهنية للأطفال يمكن التفكير فيها أحسن بواسطة المفاهيم التي تبلورت في حقل معالجة المعلومات والذكاء الاصطناعي كبديل للمفاهيم التي تبلورت في حقل المنطق الرمزي. ولابد أن يؤدي الاختلاف في طريقة وضع المفاهيم التي تصف البنيات الذهنية للأطفال إلى الاختلاف في طريقة بناء المفاهيم التي تصف عملية الانتقال من مرحلة نمائية إلى أخرى «        
وتعتبر نقط الاتفاق والاختلاف هذه هي السمات المشتركة المميزة للمفكرين البياجيين الجدد، إن ما يجمع بين هؤلاء الباحثين هو سعيهم إلى تصحيح نظرية بياجي في ضوء الإنجازات التي تحققت في ميدان علم النفس المعلوماتي، وإثرائها بالمفاهيم التي تبلورت في هذا المجال.
أخذ كيس Case بعض المفاهيم الأساسية التي تبلورت في حقل علم النفس المعلوماتي ووظفها لتأسيس نظرية تقترح تفسيرا جديدا للنمو كبديل للتفسير الذي قدمه بياجي. تركز هذه النظرية على مصادرة مفادها أن النمو المعرفي يتحقق على مستوى الاستراتيجيات أو ما يسميه «بنية التحكم في الأداء»executive control structure. هذا هو المفهوم المركزي في نظريته، وعرفه بأنه«خطة ذهنية لحل صنف من أصناف المشكلات»(Case, 1984 , p. 21). تنمو هذه البنية مع مرور الزمن، ويدل مفهوم النمو هنا على ازدياد درجة تعقيد البنية. فكلما ازدادت درجة تعقيدها انتقل الفرد إلى مرحلة جديدة من مراحل النمو. لا يحصل الانتقال، إذا نظرنا إليه في ضوء هذه النظرية، من خلال تجاوز بنية المرحلة السابقة، ولكن من خلال دمجها في البنية الجديدة وفقا لمبدأ التراتب. وهكذا، فإن المبدأ المتحكم في النمو المعرفي حسب نظرية كيس هو مبدأ الاندماج المتراتب لبنيات التحكم في الأداء hierarchical integration.كيف يتحقق ذلك في الواقع ؟
يرى روبي كيس أن جميع بنيات التحكم في الأداء تقوم على أساس تصور معين لظروف المشكلة التي تواجه الفرد.فعندما يجد الفرد نفسه أمام مشكلة ما، ثم يفكر في وضع الخطة المناسبة لحلها، فإن ما يحدد الخطة التي يضعها هو تصوره للظروف المناسبة لتطبيقها من جهة،وتصورهللوضعية المرغوب فيها التي تستهدفها الخطة من جهة أخرى. ويشترط أن يكون للفرد بالإضافة إلى ذلك تصور واضح عن الاستراتيجية التي ستوجه نشاطه عبر سلسلة من الإجراءات نحو تحقيق أهدافه. يمكن القول بعبارة أخرى إن ما يحدد بنيات التحكم في الأداء هي تصورات الفرد للوضعية التي تواجهه،  وللوضعيةالتي يرغب فيها، وللإجراءات التي تنقله من الوضعية الأولى إلى الوضعية الثانية. هذه هي الخصائص المشتركة بين جميع نظم التحكم في الأداء. وعلى الرغم من أن لهذه النظم بنية شكلية متماثلة فإنها لا تمكن الفرد من معالجة جميع أنواع المهام وحل جميع المشكلات. والدليل على ذلك هو أن الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين أربع وخمس سنوات يمرون بنفس المراحل عندما يعالجون مشكلة حسابيةيتطلب حلها توفر القدرة على التعامل مع الأعداد أو مشكلة يحتاج حلها إلى توفر القدرة على التعامل مع الأوزان، أو مشكلة تستلزم توفر القدرة علىتمييز نوع آخر من الكميات. ولكن هؤلاء الأطفال يجدون صعوبة في حل مشكلة مركبة تجمع بين بعدين مختلفين كالعددوالوزن، وذلك على الرغم من أن بنية التحكم في أداء المهمة المتعلقة بمعالجة الأعداد لا تختلف من حيث بنيتها الشكلية عن بنية التحكم في أداء المهمة المتعلقة بمعالجة الأوزان.
ويحصل الانتقال إلى مرحلة جديدة من مراحل النمو في حوالي السنة السادسة من العمر عندما يصبح الطفل قادرا على حل المشكلة المركبة من خلال دمج بنية التحكم في معالجة البعد المتعلق بالعدد ببنية التحكم في البعد المتعلق بالوزن على نحو متراتب، حيث يستعمل الهدف المتعلق ببنية التحكم في العدد من أجل حل مشكلة الوزن. هذا مع العلم أن الطفل البالغ من العمر أربع سنوات يمتلك القدرة على استخدام البنيتين معا، ولكنه يستخدم كل واحدة منهما على حدة لحل مشكلة بسيطة، ولا يستطيعالجمع بينهما لحل مشكلة معقدة. يتفق كيس Case مع بياجي وغيره من الباحثين في مجال علم النفس النمائي على أن الانتقال من المرحلة التي تنطلق من السنة الرابعة إلى المرحلة التي تنطلق من السنة السادسة من العمر يمثل التحول الرئيسي في البنية المعرفية بالمقارنة مع تحولات المراحل اللاحقة. ففي حوالي السنة السادسة من العمر تظهر الوظيفة المنطقية لدى الطفل حسبنظرية بياجي، وفي هذه اللحظة نفسها يظهر التفكير البعدي dimentional thought حسبنظرية كيس. وأما نمط التفكير الذي يميز المرحلة التي تمتد من السنة الرابعة إلى السنة الخامسة من العمر فيصفه كيس بأنه تفكير علائقي relational thought. ويحصل الانتقال إلى نمط التفكير البعدي عندما يصبح الطفل قادرا على التنسيق بين بنيات التحكم في الأداء المتوفرة لديه، وتنظيمها بشكل متراتب من أجل الإحاطة بمختلف أبعاد المشكلة.
وتحدث تحولات أخرى في الثامنة والعاشرة من العمر. ولكن هذه التحولات لا تضيف شيئا جديدا إلى البنية المتراتبة التي تشكلت في السنة السادسة، ولا تؤدي إلى ظهور نمط جديد من التفكير. يقول كيس بهذا الصدد:«إن التغير الذي يلحق طريقة اشتغال بنية التحكم في الأداء بعد سن السادسة ليس تغيرا نوعيا كبيرا،إن ما يحدث بعد هذه السن هو عبارة عن سلسلة من التغيرات النوعية الطفيفة. وتعتبر هذه التغيرات في الواقع امتدادا للتغير الذي حصل بين السنة الرابعة والسنة السادسة من العمر، والذي يتعاظم ويتسع مداه تدريجيا »(Case, 1984. p. 26). هكذا يتحقق النمو في جميع مراحل العمر. حيث يتم دمج البنيات السابقة بعضها ببعض بطريقة متراتبة، ويتولد عن ذلك نمط جديد من التفكير. ثم تتبلور البنية الجديدة بشكل تصاعدي عبر سلسلة من المراحل، ويتسع مداها أكثر في كل مرحلة جديدة، وتزداد قدرة الفرد على الإحاطة أكثر فأكثر بمختلف جوانب المشكلات التي تواجهه، ويأخذ بعين الاعتبار في كل مرة عددا أكبر من المتغيرات إلى أن تحصل قفزة نوعية أخرى في سلم النمو المعرفي. هذا هو المبدأ العام الذي يتحكم في عملية النمو.(Case, 1985 , 1992)
تمتد المرحلة الحسية-الحركية في نموذج كيس من صرخة الميلاد إلى الشهر الثامن عشر، تليها مرحلة التفكير العلائقي وتمتد إلى السنة الخامسة. وابتداء من السنة السادسة يظهر نمط التفكير البعدي ويستمر في النمو إلى أن يبلغ ذروته في السنة الحادية عشرة، حيث تبدأ مرحلة التفكير الشكلي أو المجردوالتي يستغرق نموها سنوات عديدة(Case, 1985). وفي كل مرحلة جديدة تزداد درجة تعقد بنية التحكم في الأداء، وتحصل الطفرة عندما يصبح الطفل قادرا على دمج البنيات المكتسبة بعضها  ببعض على نحومتراتب. ولكن، كيف يتسنى له ذلك ؟ ما هي العمليات التي تقف خلف القدرة على دمج البنيات ؟
يميز كيس بين نوعين من العمليات:» العمليات أو القدرات التي يأتي الكائن الإنساني وهو مجهز بها منذ الولادة«، »والقدرات التي لا يأتي الكائن الإنساني وهو مجهز بها منذ الولادة « (Case. 1984 . p. 27). ويرى أن النوع الأول من القدرات يظل ثابتا على الدوام يلعب دور اللامتغير الوظيفي functional invariant الذي تحدث عنه بياجي والذي تمثله عمليات الاستيعاب والتوافق والموازنة في نظريته. ويعتبر اللامتغيرالوظيفي العامل الأساسي الذي يتحكم في عملية  دمج البنيات، ويشمل،حسب كيس، القدرات التالية :
§         القدرة على وضع الأهداف؛
§         القدرة على استخدام الخطاطات schemes أو الخطط الذهنية المتوفرة وفقا لتسلسل جديد من أجل تحقيق الأهداف المرسومة؛
§         القدرة على تقييم نتائج الخطة في تسلسلها الجديد في ضوء الوضعية الراهنة والأهداف المسطرة؛
§         القدرة على هيكلة وتعميم الخطة الناجعة على التجارب المستقبلية وبشكل مقصود؛
§         القدرة على تذكر هذه البنيات (الخطط) التي تم صقلها بواسطة الممارسة المتكررة في المستقبل، ودعمها وهيكلتها باستمرار إلى أن تصبح جزءا من البنيات المتحكمة في الأداء.
Partager cet article
Repost0
24 janvier 2008 4 24 /01 /janvier /2008 12:22

تذكرنا هذه القدرات الفطرية،» التي يأتي الكائن الإنساني وهو مجهز بها منذ الولادة«بما قاله لوريا Luria وداس Das وكيربي Kirby عن التخطيط باعتباره وظيفة من وظائف الدماغ. ولكن كيس أضاف إليها قدرات أخرى تتميز بكونها عامة وفطرية إلى حد ما وهي:القدرة على حل المشكلات، والاستكشاف exploration، والتقليد imitationوالتفاعل المتبادل mutual regulation الذي يتجلى من خلال بعض السلوكات كالبسمة المتبادلة مثلا: تبتسم الأم لرضيعها فيبتسم لهابدوره. تظهر هذه القدرات في «سن مبكرة جدا»، خلال الشهر الأول أو الثاني بعد الولادة،ولكننالا نعرف على وجه الدقة ما إذا كانت فطرية أو مكتسبة، والحال أنه أدرجها في صنف العمليات التي يأتي الفرد مجهزا بها منذ الولادة. وبرى كيس أن هذه القدرات الأربع ضرورية لتشغيل العمليات السابقة الذكر وللتحكم فيها، وهي التي تؤدي إلى دمج البنيات المتوفرة لدى الطفل بشكل متراتب، وتدفعه إلى الارتقاء في سلم النمو من خلال إنتاج ببنيات جديدة أكثر تعقيدا وأكثر فعالية. يعتقد كيس أن عملية الدمج تتحقق بشكل تلقائي وبطريقة أوتوماتيكية، ولا يكون للراشدين أي دخل في ذلك. وهذا رأي لا يتفق معه العديد من الباحثين. وسوف نعود إلى مناقشة هذه المسألة في مناسبة لاحقة.
وفيما يتعلق بالقدرات التي لا يأتي الفرد وهو مجهزا بها منذ الولادة،فإن أكثرها أهمية في نظر كيس هي الذاكرة القريبة المدى أو النشيطة. يميز كيس في الذاكرة القريبة المدى بين الحيز الذي تشغله عملية معالجة المعلومات operating spaceوالحيز المخصص لمخزون الذاكرة القريبة Short Term Storage Space. وتجدر الإشارةهنا إلى أنكيس يستخدمكلمة»حيز« بالمعنى المجازي للدلالة على مدى قدرة الفرد على الانتباه، ويفترض وجود علاقة بين الحيز الذي يشغله مخزون الذاكرة القريبة المدى وبين عملية دمج البنيات، ومعنى ذلك أن نمو الذاكرة القريبة المدى يتيح للفرد إمكانية دمج البنيات بعضها ببعض والانتقال، بالتالي، من مرحلة إلى أخرى. ويطرح كيس، بالإضافة إلى ذلك، فرضية أخرى مفادها أن الطاقة الاستيعابية العامة للذاكرة النشيطة محدودة، ولا فرق في ذلك بين الطفل والراشد. لا توجد فروق، إذن، بين الراشدين والأطفال فيما يتعلق بمدى اتساع حيز الذاكرة القريبة المدى. ومع ذلكيفترض كيس وجود علاقة بينعامل السن ومدى اتساع الحيز الذي يشغله مخزون الذاكرة القريبة المدى. وهكذا، فكلما تقدم الفرد في السن إلا واتسع الحيز المخصص لذلك المخزون في نظره.
وانطلاقا من هذه الفروض، التي أكدتها نتائج البحوث التجريبية والميدانية التي قام بها كيس ومجموعته، يمكنأن نستنبط كل الوقائع والاحتمالات الممكنة. يمكن أن نفهم مثلا لماذا لا يستطيع طفل في الرابعة أو الخامسة من العمر توظيف المعارف المكتسبة لحل المشكلاتالحسابيةوالمشكلاتالمتعلقة بالوزن لمعالجة مهمة مركبة تشمل البعدين معا (العدد والوزن). ذلك لأن معالجة المهام المركبة يتطلب القيام بعمليتين مختلفتين في آن واحد، حيث يتعين على الطفل أن يحتفظ في ذاكرته بأهداف الخطة المتصلة ببنية التحكم في أداء المهمة المتعلقة بالوزن، وأن يقوم في نفس الوقت بتنفيذ خطته لحل المشكلة الحسابية كخطوة ضرورية، وأن يحتفظ بنتائجها لتنفيذ الخطةالمتعلقة بحل مشكلة الوزن. ولكن ذاكرته النشيطة لا تتحمل هذا العبء كله،ذلك لأن انتباهه ينصبعلى عملية معالجة المعلومات فيتسع الحيز الذي تحتله هذه العملية على حساب حيز المخزون. ولا يكون باستطاعته أن يدمج البنيتينمع بعضهما إلا بعد أن يتمكن من تقليص الحيز الذي تحتله عملية معالجة المعلومات، ثم يخصص الحيز المحررللمخزون. وهكذا، فإن نمو الذاكرة القريبة المدى لا يعني الزيادة في حيزها العام، بل يدل فقطعلىاتساع الحيز المخصص للمخزون على حساب الحيز الذي تشغله عملية معالجة المعلومات. وعندما يتسع حيز المخزون لاحتواء بنيتين مندمجتين تحصل الطفرة في النمو (Case. 1984). ولكن، ما هي العوامل التي تتيح الفرصة لاتساع حيز المخزون في الذاكرة القريبة المدى ؟
عندما تستحوذ عملية معالجة المعلومات على انتباه الفرد تضعف القدرة على الانتباه إلى ما يجب حفظه وتخزينه في الذاكرة. يحصل ذلك عندما يكون الفرد حديث عهد بالمهمة التي يتعين عليه إنجازها،مثله في ذلك مثل سائق سيارة مبتدئ، يركز انتباهه على عملية معينةولا ينتبه إلى ما يجري حوله من الأمور التي قد تشكل خطرا عليه، ويجد صعوبة في التحدث إلى من يرافقه، ويصاب بالإرهاق والإعياء بسرعة. ومع مرور الوقت يكتسب الخبرة والمهارة، ويتمكن من أداء العديد من العمليات بطريقة آلية في آن واحد، فيتحرر انتباهه ويتجه إلى أمور أخرى. وهذا ما يحدث للطفل، فمع كثرة الممارسة يكتسب القدرة على أداء العمليات المعرفية بمزيد من الكفاية والفعالية. وتؤدي القدرة على تحقيق تلك العمليات، أو ما يسميه كيسبالكفاية الإجرائية operational efficiency، إلى تحرير نسبة مهمة من الحيز الذي تشغله عملية معالجة المعلومات، ويصبح الحيز المحرر في متناول مخزون الذاكرة القريبة المدى.
ويرى كيسأنالممارسة وحدها غير كافية للارتقاء بالكفاية إلى المستوى الذي يحصل معه ذلك التحول،وافترض وجود عوامل أخرى ذات صلة وثيقة بمستوى النضج البيولوجي،يتعلق الأمر بتشكل ونمو غمد النخاعينmyelinization، وهو المادة التيتحيط بالألياف العصبية. ويعتبر تشكل غمد النخاعين مرحلة بالغة الأهمية في نمو الجهاز العصبي، ويأخذ نموه شكل موجات متتالية، تظهر كل موجة فيمرحلة من مراحل العمر. يساعد تنامي هذه المادة على ازدياد سرعة انتقال السيالة العصبية. يفترض كيس وجود علاقة بين نمو غمد النخاعين وازدياد القدرة على أداء العمليات المعرفية.وما يدل على ذلك في نظره هو وجود نوع من التطابق بين مراحل تشكل غمد النخاعين ومراحل النمو العقلي. وربما كان نمو هذه المادة العصبية هو المسئول عن بروز وتنامي القدرة على التفكير الشكلي المجرد لدى كل من المراهقين والراشدينعلى حد سواءCase. 1984b)).
يتفق روبي كيس مع رأي بياجي الذي يقول إن قدرات الأطفال محدودة. وإذا كان بياجي يعتقد أننزعة التمركز حول الذات هي العامل الأساسيالمسئولعن ضعف القدرة على معالجة المعلومات لدى الأطفال، فإن كيسيفسر هذه الظاهرة بعوامل لها علاقة بالإكراهات المرتبطة بالذاكرة القريبة المدىالتي لا تتسع لاستيعاب بنيات التحكم المندمجة التي تمكن من معالجة المهام المعقدة. يتعلق الأمر هنا بالنقص في الحيز المخصص لمخزون الذاكرة النشيطة. ومن آثار هذا العجز ضعف القدرة على التعلم في مراحلالنمو الأولى. وتقف العوامل المتصلة بنمو الجهاز العصبي خلف النقص الملاحظ في حيز الذاكرة القريبة المدى. تؤثر هذه العوامل في تنامي الذاكرة القريبة المدى وتحدد وتيرة نموها. يلتقي روبي كيس في هذه النقطة بالذات مع صاحب نظرية «الابستملوجيا البيولوجية»،. ويعتقد مثله أن النمو يسير في اتجاه خطي تصاعدي.. ومع ذلك يلحكيس على أهمية الدور الذي تلعبه التجربة والخبرة المكتسبة وعوامل المحيط في نمو الذاكرة القريبة المدى، إلا أنه يجعل تأثير هذه العوامل مشروطا بمستوى النضج. ويعتقد كذلكأن النمو يحصل بطريقة تلقائية، وهو ما يترتب عنه القول إن عملية التعلم لا تتحقق إلافي حالارتكازها على مبدأ التوجيه الذاتي، ولذلك يستبعد كيس أن يكون للراشدين أي دور في تنامي القدرة على التعلم. وربما جاء هذا الموقف كنتيجة منطقية للمغالاة في تقدير أهمية الدور الذي يلعبه عامل النضج. ومع انه أشار إلى أهمية الممارسة والمعارف المكتسبة والخبرة،إلا أنه غض الطرف عن الإكراهاتالمحتملة التي تخضع لها، كما أنه تحاشى الحديث عن الحدود التي ترسمها لها طبيعة التفاعل مع الغير. فقد يكون للدعموالتدخل الإرشادي الذي يتلقاه الطفل من الكبار دور مهم في تنظيم المعارف المكتسبة باعتباره الشرط الضروري لقيام الخبرة.
Partager cet article
Repost0

Recherche

Archives

&Amp;#1593;&Amp;#1606;&Amp;#1575;&Amp;#1608;&Amp;#1610;&Amp;#1606; &Amp;#1575;&Amp;#1604;&Amp;#1605;&Amp;#1602;&Amp;#1575;&Amp;#1604;&Amp;#1575;&Amp;#1578;

دروس في الفلسفة

Liens