Overblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
29 juin 2008 7 29 /06 /juin /2008 19:31

مهنة التدريس

في مواجهة التنظيم البيروقراطي للتعليم

(الجزء الثاني)

أحمد أغبال

3. عملية البلترة كنتاج للتعارض بين حاجات الفرد وحاجات المنظمة

لقد أثبت أرجيرس Argiris أن الخصائص البنيوية للمنظمات تتعارض في الغالب مع الحاجات اللامادية لأفرادها. هذا التناقض هو المبدأ الذي تقوم عليه عملية البلترة أو عملية المسخ حسب تعبير فرانز كافكا المجازي العنيف، وهي العملية التي تحول الكائنات البشرية إلى بهائم دون أن تحتاج في ذلك إلى بذل أي مجهود (Camus, 1942)، وهو تعبير مجازي آخر لا يقل عنفا عن التعبير السابق. يشير مفهوم البلترة في سياق هذا التحليل إلى حلة الإنسان الذي انتزعت منه حريته وهويته. وهو بهذا المعنى مرادف لمفهوم الاستلاب. تعني البلترة، حسب تعريف أورغا ولاون السابق الذكر، عملية نقل المهارات خارج ميدان العمل، وهذا ما يدل عليه مفهوم الاستلاب كما سنوضح ذلك فيما بعد.

استرعت هذه الوضعية انتباه العديد من الباحثين خلال العقدين الأخيرين، وعكفوا على تحليل مختلف مظاهرها وبيان آثارها السلبية على المنظمة ذاتها وعلى فعاليتها ومردودبتها. ولعل من أهم مظاهرها ما يشير إليه مفهوم " الاحتراق الداخلي"  burnout أو " الإرهاق المهني"  épuisement.professionnelيدل هذا المفهوم على الحالة التي تكون عليها منظمة تبدو من الخارج سليمة ومعافاة من كل أنواع الخلل بينما هي في الواقع معتلة منخورة من الداخل. ومن أعراض هذا المرض تراخي الطاقة العاطفية-الوجدانية، وتزايد الأعباء الذهنية والضغط النفسي ومختلف أنواع التوتر الناتجة عن الضغوطات الخارجية (Sarabach ; 1992). تظهر هذه الأعراض بقوة في مجالات التعليم والصحة وفي قطاع الخدمات على العموم. وهي تدل على وجود اختلالات وظيفية في حقل العمل داخل المنظمات ذات الطبيعة البيروقراطية، تتجلى في التعارض القائم بين ميول الفرد وميول المنظمة. يولد هذا التعارض ردود فعل عاطفية-وجدانية لدى الأفراد ترافقها الأعراض السابقة الذكر وامتداداتها النفسية-العضوية، وغالبا ما ينتهي الأمر بهؤلاء الأفراد إلى تغيير اتجاهاتهم وسلوكياتهم. يعرف باينس Pines  ومسلاش Maslach الاحتراق الداخلي بأنه "جملة من الأعراض المرتبطة بالإرهاق العضوي والانفعالي الوجداني التي تخلق عند الفرد تصورا سلبيا عن ذاته واتجاهات سلبية نحو العمل، وتصرفه عن الاهتمام بالأفراد اللذين أسندت إليهم مهمة العناية بهم" (Pines and Maslach, 1978). يتبين من هذا التعريف وجود علاقة بين ظاهرة الاحتراق الداخلي وظاهرة الاستلاب، وربما كانت هذه المفاهيم تعبر عن شئ واحد، ربما كانت أسماء لمسمى واحد. وما يؤكد ذلك هو تعريف شرنس Cherniss التركيبي المركز لظاهرة الاحتراق الداخلي، حيث وصفها بأنها انسلاخ سيكولوجي عن واقع العمل يأتي كرد فعل إزاء ضغوطه المفرطة (Cherniss, 1980)؛ وهذا هو ما يدل عليه مفهوم الاستلاب عند شباردShepard، حيث عرفه بأنه: "انسلاخ نفسي-اجتماعي عن واقع العمل.(Shepard, 1972)

وإذا نظرنا إلى ظاهرة الاحتراق الداخلي من جهة ما تحدثه من آثر في شخصية الفرد  فسنجد بأنها تختلف كثيرا عن ظاهرن الاستلاب. يؤدي الاحتراق الداخلي إلى نخر الشخصية من الداخل بتآكل مكونات حياتها العاطفية-الوجدانية، ومواردها، وطاقاتها، وقدراتها، وبانكماش الذات وانطوائها على نفسها، فتطمس هويتها وتنمحي. يتجلى ذلك من خلال الإرهاق النفسي-الوجداني والاتجاهات السلبية والكلبية الساخرة التي تتشكل عند المدرسين نحو تلامذتهم، وعدم اعتبار الذات أو تقديرها تقديرا سلبيا، وفقدان الثقة في النفس وفي القدرة على الإنجاز، والانطواء على الذات، وتقلص علاقات الفرد مع الآخرين(Srabach, 1992). هناك تشابه كبير بين هذه الأعراض ومظاهر الاستلاب. يتجلى ذلك بوضوح من خلال مقارنة تلك الأعراض بما يشير إليه رنالد أريك Urick في تعريفه لمفهوم الاستلاب، فهو يرى بأن " الاستلاب كلمة تشير إلى مشاعر بعض الناس وتصوراتهم عن أنفسهم وعن بعض مظاهر المحيط الاجتماعي، لما يوجد بين الذات والمحيط من روابط. إن هذه التصورات والمشاعر هي على العكس مما ذهب إليه الشاعر الإنجليزي جون دن john Donne في قصيدة يقول فيها: لا وجود للجزر في عالم الإنسان؛ كل شخص هو جزء من القارة."(Urick, 1977, p. 8) ومن مظاهر استلاب الفرد ميله إلى أن يصبح " جزيرة ""  منفصلة عن الآخرين حين يستحوذ عليه الاعتقاد بأن لا شيء يربطه بهم، فتفقد الحياة معناها في نظره، وتتلاشى عنده القيم والمعايير الخلقية، ويفقد السيطرة على الأحداث والوقائع، فيشعر بالعجز والوهن، ويفقد القدرة على الفعل والتأثير، ومن ثمة يفقد الثقة في النفس، ويحط من قدرها، فتتبخر هويته، ولا يستطيع بعد ذلك الإجابة، كما يقول أريك، عن السؤال : "من أنا ؟". قد تكون أعراض الاحتراق النفسي ناتجة عن تفاقم ظاهرة الاستلاب.

ويرجع الأصل في ذلك كله إلى اختلال التوازن بين موارد الفرد ومتطلبات المنظمة التي يعمل فيها، ويرجع بالخصوص إلى التعارض بين تصور الفرد للشغل وكيفية تنظيمه وطريقة إنجازه في المنظمات الحديثة. إن الشغل من حيث طبيعته هو " نشاط وجودي existential activity "حسب تعبير برانكو هرفت(Horvat, 1985). وبوصفه كذلك، فإن له وضعية أنطلوجية محددا؛ ولهذا الوضعية أبعاد عديدة، فيزيولوجية، واجتماعية، وسياسية، ونفسية أو روحية؛ ولهذه الأبعاد جميعها أهمية كبيرة في حياة الإنسان، فهي ضرورية لضمان عيشه، وسلامته العضوية والنفسية، كما أنها ضرورية لتحقيق ذاته لتكون للحياة عنده معنى، فينظر إلى العالم بنظرة إيجابية، وهذا هو مصدر سعادته. ذلك ما يفترض أن يتحقق في وضعية مثلى. " أما وأن تكون السلطة التي تراقب أفعالي في يد الغير، فإن من شأن ذلك أن يفصل الأفعال عني، وبما أن العمل نشاط وجودي فستكون لانفصاله آثار سيكولوجية واجتماعية عميقة على الفرد والمجتمع. إن استلاب العمل يخلق مجتمعا مستلبا." .(Horvat, 1985, p. 235)يعبر مفهوم الاستلاب هنا عن وجود شرخ في حياة الإنسان يفصل الذات عن نشاطها الوجودي ويفقدها السيطرة عليه. أما مفهوم الاحتراق الداخلي فإنه يحيل إلى التعقيدات النفسية والنفسية-العضوية المترتبة عن وجود ذلك الشرخ. وأما العملية التي تؤدي إلى حدوث ذلك التصدع فهي عملية البلترة كما حددها لاون وأورغا، والتي ترتبط بكيفية توزيع السلطة في المنظمات البيروقراطية وغيرها. ومن هنا ضرورة تحليل المنظمة المدرسية بهدف تحديد خصائص الوضعية التي يشتغل فيها المدرس وتناقضاتها لبيان آثارها المحتملة على وجوده.

4. طبيعة المنظمة المدرسية

يعرف إتزيونيEtzioni  المنظمات بأنها وحدات اجتماعية أنشئت وفقا لخطة معينة وأرسيت بنيتها بشكل إرادي لتحقيق أهداف معينة. يشمل مفهوم المنظمة المستشفيات والسجون والمؤسسة العسكرية والمؤسسات الدينية والتعليمية كالكنيسة والمدارس والجامعات. وتتميز المنظمات بتقسيم الشغل وتوزيع السلطة والمسئوليات بين أفرادها، كما تتميز بوجود مركز أو عدد من مراكز القرار وأجهزة المراقبة التي تسهر على ضبط السلوك وتوجيه الجهود نحو تحقيق الأهداف المسطرة (Etzioni, 1971) . وتعتمد المنظمات في تنظيم علاقات أفرادها بعضهم ببعض على مبادئ وقواعد شكلية. وتنشأ عن عملية التنسيق هذه بنية المنظمة التي تتميز بنوع من الاستقرار والثبات (Weiss, 1964)

يعكس مفهوم البنية طريقة توزيع المهام والسلطة والمسئوليات لضمان تحقيق الأهداف؛ وتعتبر البنية، بهذا المعنى، كيانا مصطنعا يقوم على أساس عقلي منطقي. إن الطبيعة العقلانية للمنظمات تفرض، من حيث المبدأ على الأقل، أن يسلك الفرد بطريقة عقلانية. ويقصد بالسلوك العقلاني هنا الالتزام التام بالخطة الشكلية وبالبرامج التي تضعها المنظمة لبلوغ أهدافها. يتعين على الفرد في وضعية مثلى، أن يغير " طبيعته الإنسانية " وذلك بأن يتخلى عن كل ما ليس بعقلاني، لتكون أكثر تلاؤما مع متطلبات المنظمة. غير أنه من الصعب تحقيق هذا المطلب في الواقع؛ ولهذا السبب، دعا بعض المهتمين بشؤون تدبير المنظمات من دعاة التنظيم العلمي (طايلور Taylor وفايول (Fayol إلى ضرورة إحداث ثورة على صعيد العقليات يكون هدفها هو جعل "الطبيعة الإنسانية" أكثر تلاؤما مع الطبيعة العقلانية للمنظمات(Argiris, 1964) . تقوم هذه الدعوة على فرضية مفادها أنه من الممكن التأثير في الإنسان لإجباره على التكيف مع ظروف المنظمة والاستجابة لمتطلباتها؛ وتستبعد هذه الفرضية إمكانية تصور بنية تنظيمية تتلاءم مع "الطبيعة الإنسانية". إن ما يجب تغييره في نظر دعاة التنظيم العلمي هو الإنسان، وليس النظام الشكلي المصطنع. لذلك سيظل التعارض قائما بين ميول الفرد وميول المنظمة؛ وسيظل هذا التعارض مصدر آلام ومآسي العاملين في المنظمات.

 

Partager cet article
Repost0

commentaires

Recherche

Archives

&Amp;#1593;&Amp;#1606;&Amp;#1575;&Amp;#1608;&Amp;#1610;&Amp;#1606; &Amp;#1575;&Amp;#1604;&Amp;#1605;&Amp;#1602;&Amp;#1575;&Amp;#1604;&Amp;#1575;&Amp;#1578;

دروس في الفلسفة

Liens