Overblog
Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
21 septembre 2006 4 21 /09 /septembre /2006 12:53
قراءة في أوراق عبد الله العروي
أحمد أغبال
(الجزء الثالث)
سبقت الإشارة إلى أن شوبنهور رفض مبدأ الواجب الأخلاقي الكانطي. تخلى عنه نتشه بدوره وأحل محله مبدأ الضرورة. نجد في الرواية ما يشير إلى استنكاف العروي من مبدأ الواجب الأخلاقي ودعوته إلى فصل الأخلاق عن التاريخ والسياسة. جاء على لسان الراوي أن إدريس مال إلى مهنة التدريس تحت تأثير أحد أساتذته، تعرف على حقيقة هذه المهنة من خلال مشاهدة فلم بعنوان: «وداعا مستر شبس»، وحصل له الامتعاض من مهنة يحكمها مبدأ الواجب. عبر مستر شبس في خطبة الوداع عن حقيقة هذه المهنة بقوله: «قم بواجبك ولا تنتظر أية مكافأة »، وكان رد فعل إدريس: «لن أكون أستاذا أبدا، إنها مهنة حقيرة».
يولد الإيمان بمبدأ الواجب الشعور بالمسؤولية. لم يكن إدريس مسؤولا تمام المسؤولية و«يلقي المسؤولية دائما على الغير» (ص 232). اعترف بأنه «تأخر عن القيام بواجبه والمشاركة في بناء المغرب المستقل» (ص 239). تقاعس ولم يتحمل المسؤولية، لم يؤد واجبه الوطني في الوقت المناسب. كانت لهذا التقاعس عواقب خطيرة ومضاعفات سلبية على حياته المستقبلية حسب تصريحاته التي تكررت بهذا الشأن في مواضع كثيرة (ص 239).ومن أمثلة ذلك إحساسه المؤلم بأن الطلبة النشيطين في الحركة الوطنية كانوا يتشككون في وطنيته بسبب تصريحات أدلى بها عقب نفي محمد الخامس: «لم يتخيل إدريس، يقول الراوي، أن الكلمة التي فاه بها دون روية ستسجل عليه وتتبعه عواقبها سنين وسنين». لم يكن بعد قد تعلم كيف يتقنع رغم اطلاعه على وصايا نتشه. جاء على لسان شعيب أنه «لم يكن قد تعلم بعد أن الأفضل في هذه الحالات أن تردد ما تسمع لا أن تصف ما ترى» (ص 93).وكان من مضاعفات التقاعس في أداء الواجب الوطني أن «طرد طردا من الساحة العمومية»(ص 165). يجب أن نفهم الساحة السياسية.
ربما ترجع خيبة إدريس وآلامه ومعاناته إلى سوء حظه. سوء الحظ المتمثل في تزامن حصوله على منحة من الحكومة الفرنسية مع محنة الملك وشعبه. كان يتلهف للحصول على المنحة. طمس التلهف بصيرته فلم يشعر بالزلزال الذي هز المشاعر. تبدأ الثورة في الشعور والوجدان، ثم تتموضع بعد ذلك في الكفاح. لم يشعر بذلك كله فبدت له الأوضاع هادئة، وأثار ذلك سخط الطلبة الوطنيين.
ربما شعر المراهق بأن الاستقلال بعيد المنال فعز عليه أن يفوت الفرصة على نفسه. كان مستوى طموحه عاليا، يقع في أسمى الدرجات. التشوف إلى المقام الرفيع في صفوف النخبة السياسية دفعه إلى اختيار شعبة «العلوم الاجتماعية التي كانت آنذاك مرتبطة بفنون الإدارة ــ الإدارة، الكلمة، النفوذ» (ص 41). كانت السياسة حلمه الكبير والدراسة وسيلته الأساسية لتحقيقه (ص167). وضع هدف الدراسة خارج الذات وحرص على تحقيقه مهما كانت الظروف. لقد أصبح الحصول على المنصب الرفيع حافزه القوي في الدراسة، باستطاعته أن يحقق أحلامه في هذه الظرفية أو تلك، كل شيء ممكن. يعرف ذلك جيدا من انتبه منذ وقت مبكر إلى أن «السياسة هي علم الممكن، فن التلون مع الواقع» (ص 53). كل شيء محتمل بالنسبة لمن حصل له الوعي بالإرادة واكتسب القدرة على التكيف مع مختلف الظروف.
كان إيمانه بفلسفة الحياة آنذاك قويا. إرادة الحياة فرضت عليه التكيف من أجل إثبات الوجود. يقتضي التكيف التحلي بروح الواقعية والحذر والقدرة على اقتناص الفرص. المنحة فرصة العمر الناذرة،«حصل عليها بعد طول الانتظار واليأس».استطاع الفوز بها لسببين رئيسيين: تفوقه في الامتحانات من جهة، وانتماؤه إلى «مدينة صغيرة هادئة» (ص 71). وأما التفوق في الامتحان فيرجع إلى قوة الحافز الذي أشرنا إليه، بينما يشير هدوء المدينة الصغيرة إلى عدم وجود ما من شأنه أن يثير حوله الشبهات، وخاصة شبهة الانتماء إلى الحركة الوطنية. لا شك في أن السلطات الفرنسية كانت لا تقدم على تخويل المنح للمرشحين لها في وقت اشتداد الأزمة الفرنسية-المغربية إلا بعد دراسة ملفاتهم للتأكد من عدم تأثرهم بالروح الوطنية السارية في جسم الأمة وقت محنتها الكبرى. كانت الأوضاع تبدو له هادئة تماما، وهو الدليل على أنها لم تجد منفذا تتسرب منه إليه. وأما ما كان يؤرقه في تلك الفترة الحرجة من تاريخ الأمة فهو الخوف من ضياع الوقت الذهبي الضروري من أجل الاستعداد لاجتياز مباراة الولوج إلى «المدرسة الوطنية للإدارة» (ENA) التي تتخرج منها الأطر العليا للدولة في فرنسا.
كان يسابق الزمن فود لو يطير. ركب الطائرة وحلقت به في الأجواء، في عتمة الليل. شاب من أسرة فقيرة يختار ركوب الطائرة بدل الباخرة رغم ارتفاع سعر تذكرة السفر، لأن الوقت لا يرحم، فرصة العمر الوحيدة لا تعود، من أجلها يمكن التضحية بكل شيء، بكل ما يمكن تداركه أو التعويض عنه في المستقبل. وما كاد يبزغ الصباح حتى حل بدار المغرب. كان أول من قابله هو مديرها، «هذا الرجل الرقيق العاطفة كان أحد أقطاب الشرطة الفرنسية في المغرب، لكن الله يرعى الأبرياء»!(ص 72). طلب منه غرفة فاعتذر لعدم توفرها. اشتكى له الفتى من ضائقته المالية «فرق» لحاله ومنحه الغرفة في النهاية. طريقة معروفة، استعملها الضابط لإشعاره بأن له عليه دين. أداء الدين في هذه الحالة يعني الحفاظ على «استقامة» السلوك.
يبدو أنه استجاب لتوقعات المدير. صرح أنه لم ينتم إلى أي حزب بما في ذلك حزب الحركة الوطنية خلال مدة إقامته في فرنسا. وكذلك ظل وفيا لتوقعات أبيه الذي كان ينصحه على الدوام بأن يفكر كيف يشاء دون أن يقدم على الفعل (ص 50). هذا مع العلم أن حقيقة الإنسان لا تتحدد بما يقول ولكن بما يفعل. استبطن موانع السلطة الأبوية والمؤسساتية ومعاييرها فراح يمارس الرقابة على الذات وخاصة في كل ما يتعلق بالسلوك. «عاش تجربة سياسية ولكن على مستوى الذهن فقط» (ص 95). كان يعتقد بأن دور الطالب ينحصر في التوعية وبعث الهمة لا في حمل السلاح (ص 53). لا مخاطرة إذن، ذلك ما لاحظه الراوي .
هكذا ظل إدريس وفيا لتعاليم الأسرة، حريصا على الاستجابة لتوقعات المؤسسة الفرنسية، عن وعي أو عن غير وعي. إرادة الحياة تدفعه إلى تحقيق الوجود المنشود، الحاجة إلى السلطة والنفوذ، وتدفعه الشهوات إلى ملاحقة شبح الأنثى. أدى به الجري وراء الأطياف الهاربة إلى التضحية بالقضية. ربما حصل له الوعي بوضعه المستلب المتمثل في العجز عن التأثير في الأحداث، وربما استحوذ عليه الشعور بالخيانة والندم ليصبح عرضة للصراع النفسي، الحرب الأهلية الداخلية التي مزقت كيانه. تمزق الذات بين المطالب المتنافية. يود لو كان حرا، ويقصد بالحرية النهوض ضد الذات وتكسير مجرى القدر ومعاكسة الطيع، «الإنسان إنسان إذا ثار وتوتر.. وإلا خان.. وشد ما يخون» (ص 82).
الشعور بالخيانة والشعور بالذنب علامتان من علامات الوعي الشقي. كان إدريس يرى التعاسة في كل شيء ويؤنب ضميره باستمرار، كتب عن باريس يقول: «…مدينة النور، مدينة التعاسة.. فيها عاديت نفسي.. جئتها سيد الأسياد فحولتني إلى متصوف بلا ضمير ولا إرادة..»، ثم تابع قوله متسائلا: «هل ينفع الحزن، يزهر ويغل ؟» (ص 84)، شهد شاهد منه أنه حول الإخفاق الذي أحس به إلى نوع من الانتصار. قالها «من هو أعلى من ذاته في ذاته» (ص 242)، صاحب الكلمة الفصل، شعيب الذي هو بمثابة الأنا الأعلى فيه. يقول:«كنت وأنا أستمع إليك تصف مراحل ابتعاد إدريس وانزوائه وانكماشه أرى فيها خطوات ئويته إلى أصله وهويته، لم يعها لذلك قصدها بحزم، اشتغل بتجريد نفسه وتصفية وعيه لذلك حجبت عنه وجهته الحقيقية» (ص 243)، لم يراجع نفسه عن وعي في البداية، وإنما حصل ذلك من خلال عمليات التصعيد وما رافقها من آليات دفاعية وإسقاط.
 حاول المؤلف في لحظة الكتابة أن يحول صورته الاجتماعية القديمة المخجلة إلى نقيضها مثلما تحول الكيمياء القديمة الشيء المبتذل إلى شيء نفيس، حاول ذلك من خلال الاشتغال بتجريد نفسه وتصفية وعيه على طريقة المتصوفة الذين استخدموا كيمياء السعادة لتحويل النفس الأمارة بالسوء إلى مرآة مصقولة تعكس الصفات الإلهية. ذاق مرارة الحياة من جراء الصورة الاجتماعية التي تشكلت من خلال تفاعله مع الطلبة المغاربة فصمم على إنتاج صورة جديدة تنسخها مثلما تنسخ الآية المتأخرة آية متقدمة. كانت مواقف الطلبة النشيطين في الحركة الوطنية منه سلبية، وكانت مواقفه منهم سلبية أيضا. عن هذا التفاعل السلبي بين الذوات انبثقت صورته الاجتماعية التي لم يرض عنها. كان يعتقد مثل الرومنسيين أن الحياة تمثل وأن بإمكانه أن يغير شكل الحياة بإنتاج ونشر تمثلات جديدة تبدد التهم اللاصقة به، وتحرره من الشعور بالذنب. تلك هي وظيفة الكتابة عنده، هدفها التعبير عن لون التجربة المعيشة لا عن التجربة ذاتها (ص 233). لكن الصورة الجديدة ستنبثق عن المخاض العسير.
كان إدريس يشعر أن أصابع الاتهام تتجه إليه حيثما حل، ويشعر أنه محل ازدراء، «لم يقل لي أحد من الجماعة أنت ساذج ولكن هكذا أبدو لهم بلا شك» (ص 79)، فاستحوذ عليه الارتياب، ومال إلى العزلة والانكماش على الذات. لكن الصورة الاجتماعية ليست العامل الوحيد الذي يفسر ميله إلى العزلة والانطواء على النفس. خلف هذه الصورة توجد الفوارق الاجتماعية أيضا. ينتمي معظم الطلبة الذين عاشرهم إلى مختلف شرائح البرجوازية الحضرية، بينما ينتمي هو إلى أسرة فقيرة نسبيا تعيش في مدينة صغيرة خضع فيها لتنشئة اجتماعية على النمط التقليدي. وكان لابد أن يؤدي اختلاف الأصول الاجتماعية إلى صعوبة التواصل وسوء التفاهم.
وبالإضافة إلى ذلك لعبت صورته عن الذات دورا مهما في فصله عن عالم النساء، وعززت بذلك نزعته إلى الانطواء على النفس. يوحي وصف الراوي لهيأة إدريس بأنه لا يرتاح إلى صورة وجهه في المرآة. ربما كان يتضايق من قسمات وجههالتي تبدوله منفرة لطبع النساء. كان انتباهه يتركز في كل لحظة من لحظات حياته بشكل مرضي على بعض التفاصيل. فلا يكاد يتخلص من استحواذها عليه حتى يكتشف تفاصيل أخرى. يدل الوصف على أن صورته عن ذاته كانت سلبية. الرأس الغليظ والأنف الضخم والفم الواسع، «صورةمؤلفة من مجموعة لقطات غير متزامنة» (ص. 12)، للأناظاهر وباطن. باطنه حالات شعورية وظاهره بنية عضوية وهندام. كان مفتول العضلات. سافر إلى «بر العدو» وهو يرتدي حذاء مدعما بقطع الحديد أسفل الكعبين، «كلما خطى خطوة تزعزع الدرج». أثار ذلك انتباه أول فتاة فرنسية صادفها فشبهته بالحصان المصفح (ص 72). كانت بمثابة المرآة التي عكست له صورته كما تبدو للنساء.
 
لا شك في أن تجربة الاحتكاك السلبية بأول فتاة فرنسية هي التي كانت السبب في تولد مشاعر الخجل من الذات أمام غيرها من الفتيات. لو امتدحته لما كانت هناك مشكلة تذكر. حقيقة عبر عنها جيرودو في مسرحيته الشهيرة على لسان رئيس المؤسسة الذي اكتسب صفات الجمال بمجرد أن سمع أنياس، الموظفة الجديدة التي لا زالت في ريعان الشباب، تقول له: أنت جميل. وقال &
Partager cet article
Repost0
21 septembre 2006 4 21 /09 /septembre /2006 12:46
قراءة في أوراق عبد الله العروي
أحمد أغبال
(الجزء الثاني)
الرومنسي المتفائل والفيلسوف المتشائم كلاهما يمجد الإرادة وقوة الاندفاع. يبدأ الأول بالقوة وينتهي إلى الفرحة بالحياة. ينطلق الثاني من القوة أيضا وينتهيبه المطاف إلى الضجر واليأس. قلب شوبنهور الرومنسية بإحلاله قيم التشاؤم واليأس محل قيم التفاؤل وتمجيد الحياة. تفاهة في تفاهة، كل شيء تافه، هكذا يتصور العالم. يدل هذا الانقلاب على وجود اعتلال ما فيشخصية الفيلسوف حسب بعض المحللين ([1]). شخصية معتلة كليلة، غارقة في بحر الأوهام واليأس. بدأ شوبنهور فلسفته بالسعي إلى إثبات الذات وانتهى به الأمر إلى نكرانها.
في سلسلة التطور الطويلة برز الإنسان ككائن مفعم بالشهوة والرغبات، يسعى جاهدا لتحقيق وجوده من خلال إشباعها. تلك إرادة الحياة، إرادة الحفاظ على الوجود، قانون الحياة الأول. ومع تنامي العقل تتعدد الدوافع وتتقوى الرغبة والحاجة إلى الإشباع. لم تعمل الحضارة إلا على الإكثار من الحاجات ومضاعفة قوة الرغبات، وفي المقابل لم يحصل أي تقدم في الإنسان من الناحية الأخلاقية. كل ما حصل هو أن كل فرد يسعى جاهدا إلى تحقيق سعادته، ثم لا يلبث أن يصطدم بجهود الآخرين في سعيهم نحو تحقيق سعادتهم، فيكبح المجتمع جماح رغبته، ولا يغير بذلك من طبيعته شيئا. تبقى الدوافع هي هي، وتبقى الرغبة والأنانية، وتبقى الموانع أيضا. إرادة المجتمع فوق إرادة الفرد. وهناك إرادة أخرى أعظم وأعتى من هذه وتلك. إنها إرادة الكون المحيطة بكل موجود. بالرجوع إليها يحصل الوعي للإنسان بأنه قطرة ندى في صحراء مترامية الأطراف، سرعان ما تنمحي. من بين جميع الكائنات الإنسان وحده يعرف أنه سيموت. يعرف ذلك فيكتشف أن ما كان يجري وراءه تافه وحقير، وأن وجود الإنسانية أعظم شأنا من وجود الفرد. هكذا انتقل شوبنهور من إثبات الذات إلى نكرانها، ومن الأنانية إلى الذوبان في الجماعة. ولكن الوعي بحقيقة الإنسان وأوهامه يولد الشعور بالأسى واليأس والكآبة، فما السبيل إلى الخلاص؟
إذا كان من غير الممكن تحقيق إرادة الفرد وسعادته فإنه من الحكمة أن يضحي بهما في سبيل سعادة الجماعة، ما دامت إرادة الجماعة فوق إرادة الفرد، وما دام حب الجماعة أسمى الفضائل. ويزداد المشكل تعقيدا بسبب وجود إرادة فوق إرادة الجماعة، إرادة الكون الشمولية القاسية التي لا ترحم. وهكذا، فإذا كانت سعادة الفرد وهما فإن سعادة الجماعة هي الأخرى وهم من الأوهام. والنتيجة: كل شيء تافه.
الحياة تكرار لما مضى. العالم مسرح يلعب فيه الأفراد نفس الأدوار على الدوام، والتاريخ أكذوبة، وحياة الفرد حلم من أحلام الروح، روح الطبيعة الامتناهية، حلم من أحلام إرادة الحياة، شكل آخر من الأشكال السريعة الزوال، المرسومة على صفحة الزمان والمكان الامتناهية. « الحياة قضية تافهة » هكذا يتصورها شوبنهور. إذا كان الأمر كذلك فلماذا يتعلق الإنسان بالتفاهات ؟ السلطة وهم والثروة تافهة. باب التصوف مفتوح على مصراعيه.
اشتكى شوبنهور مرة بقوله أن الحياة تراوح كرقاص الساعة بين الشقاء والضجر، وانبرى يبحث عن الخلاص، فوجده في الفن. الفن استكشاف وبحث عن الأفكار الخالصة، به تحصل المعرفة التي تحرر النفس من الإرادة، وبه تتحقق السعادة الحقيقية، سعادة لا تسبقها المعاناة ولا يعقبها الندم. في الفن ينكشف التاريخ العميق الذي يمثل حركة الإرادة في سعيها نحو اكتساب الوعي بالذات. فيه تتجلى أسرار الحياة، وتسمع نبضات القلب البشري في مدها وجزرها. يدلنا الفن على حقيقة الحياة في سرائها وضرائها، على حقيقة الواقع الكامنة خلف الظواهر والأوهام. يغرينا بالحلول في الإرادة الكونية والذوبان فيها. فيه نتجاوز الأنانية ونتخلص من الحزن واليأس والكآبة. ذلك هو طريق الخلاص في نظر شوبنهور.طريق الخلاص عندههي الموسيقى، أسمى أنواع الفنون، ترحل بالروح خارج الجسد، تحررها من ضوابط المكان والزمان، تساعد النفس على النسيان، فتنسى ارتباطها بالعالم.
أفكار شوبنهور نجدها حاضرة بقوة عند نتشه الذي يمثل حالة مرضية أخرى. علمه أستاذه أن الوعي لا يحدد الحياة، لذلك رفض العقل كوسيلة لفهم الإنسان. غلب عليه التشاؤم مثل أستاذه، ووجد الخلاص مثله في الفن وفي الميتافيزيقا.


إن المعاناة هي الطريق الطبيعية المؤدية إلى فلسفة شوبنهور. عندما تتكاثر عوامل الإحباط وتشتد، عندما تتوالى تجارب الإخفاق في الحياة، وتظلم الدنيا في عين الفرد، وتفقد الحياة معناها عنده، يلوذ بفلسفة شوبنهور. يستسلم لها إذا كان من المطلعين عليها، وإن لم يكن فلابد أن يعيش تجربته في الحياة تلقائيا وفق مبادئها الكبرى كما لو كان صاحبها. فلسفة شوبنهور حاضرة بشكل مكثف في « أوراق ». حاول إدريس أن يهتدي بمشروع نتشه ومثله العليا فازدادت شخصيته اضطرابا وضعفا، «انتفخ ولم يتقو، انعزل ولم يستقل، احتقر التاريخ والثقافة ولم ينسهما، حكم على نفسه بالإخفاق لما أخطأ التشخيص» (ص 237)، أخفق لأنه يفتقر إلى قيم البطولة والشجاعة. من هنا كان الإحجام والهروب إلى الفن والانغماس في التعبير. لم يجد الخلاص في هذه الدنيا ولو في الدين، الدين الذي يمثل «لحظة التعالي» لأن «التعالي لا ينتهي أبدا في هذه الدنيا بأي نوع من التجسيد والاتحاد وأن كل محاولة في هذا الباب خطأ»(نفس الصفحة)، حاول أن يجد الخلاص في الفن بدون جدوى، حاول دلك وعبر عن رأيه بقوله:
الفنان حقا هم من يستطيع أن يستقل بالفعل عن وعيه، لا عن التاريخ والثقافة
فحسب، من ينسـى نفسـه وينغمـس في المـادة، في اللامعـقـول، في الـحـاضـر
الدائم، الفنان حقا هو من يستطيع أن لا يندم ولا يحن، من لا يحاكم ولا يحكم،
من يأخذ آلته ويغادر العالـم والنفس التي تتذكـر الكـون وما فيه، من ينسى كـل
ما سبق الفرار بل عملية الفرار ذاتها
هذه أفكار مستوحاة من كتابات شوبنهور. مأساة إدريس تكمن في كونه لم يستطع أن يرسم لنفسه طريق الخلاص، طريق الهجرة عبر الفن: «لم يؤد ثمن الفن فلم يرعه الفن» (ص 239). لو كانت المشكلة مشكلة فردية، حسب تعليق الراوي، لكان «الفن طريق النجاح». ولكن الإخفاق هو إخفاق الجماعة (نفس الصفحة). محاولة يائسة للتميز عن شوبنهور.
تبدو الحياة للمتشائم اليائس على أنها حلم. كان شوبنهور يعتقد أن الحياة وهم، وردد العروي من بعده يقول: «إذا كنت تحلم ثم حلمت أنك تحلم في حلمك ثم أفقت وأنت لا تزال تحلم، فماذا أضعت ؟». ومعناه أنك أفقت فوجدت نفسك في حياة كلها أحلام وأوهام، ولا فرق بين أحلام النوم وأحلام اليقظة.
انساق إدريس مع شوبنهور بحثا عن نغمة الحنين عله يجد النجاة في الفن. لكنه أخفق بسبب الإخفاق الجماعي، ثم أحجم وعاد إلى منتصف الطريق التي مر بها شوبنهور، وبدل أن ينغمس في الطبيعة اكتفى بالانغماس في الجماعة التي ازدراها من قبل تحت تأثير نتشه. حب الجماعة أسمى الفضائل. قالها شوبنهور ولم يقف عندها، وفضل العروي الوقوف عند حدودها في آخر المطاف. لم يعد يجري وراء نغمة الحنين، انصهر في الجماعة فحق عليه القول ومات. الواقـع أنـه عـاد إلى الرومنسيين من أجل إعلان الصلح مع الواقع. ذلك ما تشير إليه الرمزية المتعلقة بدار غوته، يقول بهذا الصدد (ص 232):
ودار غوته نفسها ترمز إلى التصالح بين القديم والجديد، الفرد والمجتمع، السماء
والأرض، الحلم والواقع، دار برجوازيـة قطنهـا شاعـر كبيـر قـال بالقـدر وبالعفـو.
التصالح إذن غير عقيم بالضرورة.
العودة إلى الجماعة مع طلب العفو. لو كان مسؤولا لكان الشعور بالذنب أودى به قبل أن يقدم نفسه للمحاكمة. ولكنه القدر. لولاه لما كان للعفو عنده معنى. حصل للعروي ما حصل لشوبنهور، بدأ رحلته الفكرية بإثبات الذات فابتعد عن الجماعة، وانتهت الرحلة بنكران الذات والعودة إلى الجماعة. تصالح شوبنهور مع الجماعة لأنه جعل من الشفقة قيمة أخلاقية سامية، ورأى في التنوع مظهرا من المظاهر الخادعة. شعر بأن معاناة الغير هي معاناته الشخصية. فلا فرق عنده بين الأنا والغير. الأنا هو الغير والغير أنا، فهما يشكلان نفس الواقع وحقيقته الباطنية المتمثلة في الإرادة التي تمثل النومين أو الشيء في ذاته.، «الفردانية مظهر خالص» هكذا يقول شوبنهور، وهو ما عبر عنه العروي بقوله «إخفاقي هو إخفاق الجماعة» أو بعبارة أخرى: معاناتي هي معاناة الجماعة.
برر إدريس التصالح مع الجماعة بالقدر. عقد صلحا منفردا ووجد لنفسه المبرر والعزاء في كون جميع من سبقوه قاموا بالتصالح على انفراد. حتى الاستعمار الذي كان بوسعه أن يقلب الأوضاع رأسا على عقب تصالح مع الوضع القديم. بما أن الزلزال لم يحصل فإن كل شخص مجبر على عقد التصالح على انفراد. إنه القدر، وفي القدر مواساة وعزاء. فكرة عبر عنها شوبنهور في كتابه «العالم كإرادة وتمثل»، يقول بالحرف الواحد: c'est le ،le consolateur fatalisme
سبقت الإشارة إلى أن شوبنهور رفض مبدأ الواجب الأخلاقي الكانطي. تخلى عنه نتشه بدوره وأحل محله مبدأ الضرورة. نجد في الرواية ما يشير إلى استنكاف العروي من مبدأ الواجب الأخلاقي ودعوته إلى فصل الأخلاق عن التاريخ والسياسة. جاء على لسان الراوي أن إدريس مال إلى مهنة التدريس تحت تأثير أحد أساتذته، تعرف على حقيقة هذه المهنة من خلال مشاهدة فلم بعنوان: «وداعا مستر شبس»، وحصل له الامتعاض من مهنة يحكمها مبدأ الواجب. عبر مستر شبس في خطبة الوداع عن حقيقة هذه المهنة بقوله: «قم بواجبك ولا تنتظر أية مكافأة »، وكان رد فعل إدريس: «لن أكون أستاذا أبدا، إنها مهنة حقيرة».
يولد الإيمان بمبدأ الواجب الشعور بالمسؤولية. لم يكن إدريس مسؤولا تمام المسؤولية و«يلقي المسؤولية دائما على الغير» (ص 232). اعترف بأنه «تأخر عن القيام بواجبه والمشاركة في بناء المغرب المستقل» (ص 239). تقاعس ولم يتحمل المسؤولية، لم يؤد واجبه الوطني في الوقت المناسب. كانت لهذا التقاعس عواقب خطيرة ومضاعفات سلبية على حياته المستقبلية حسب تصريحاته التي تكررت بهذا الشأن في مواضع كثيرة (ص 239).ومن أمثلة ذلك إحساسه المؤلم بأن الطلبة النشيطين في الحركة الوطنية كانوا يتشككون في وطنيته بسبب تصريحات أدلى بها عقب نفي محمد الخامس: «لم يتخيل إدريس، يقول الراوي، أن الكلمة التي فاه بها دون روية ستسجل عليه وتتبعه عواقبها سنين وسنين». لم يكن بعد قد تعلم كيف يتقنع رغم اطلاعه على وصايا نتشه. جاء على لسان شعيب أنه «لم يكن قد تعلم بعد أن الأفضل في هذه الحالات أن تردد ما تسمع لا أن تصف ما ترى» (ص 93).وكان من مضاعفات التقاعس في أداء الواجب الوطني أن «طرد طردا من الساحة العمومية»(ص 165). يجب أن نفهم الساحة السياسية.
ربما ترجع خيبة إدريس وآلامه ومعاناته إلى سوء حظه. سوء الحظ المتمثل في تزامن حصوله على &
Partager cet article
Repost0
21 septembre 2006 4 21 /09 /septembre /2006 12:18
قراءة في أوراق عبد الله العروي
أحمد أغبال
اشتهر عبد الله العروي بكتاباته عن أزمة المثقف العربي. رآها انعكاسا لأزمة المجتمع، ولكنه اعترف بوجود «أزمة ذاتية تهمه هو ويلهي بها ذهنه وأذهان قارئيه»، وهي أزمة تجعل أزمة المجتمع أعمقوأخطر. خصص لها مقالة في المؤلف المشار إليه أسفله، تناول فيها بالدراسة والتحليل أسبابها التي حصرها في عاملين أساسيين وهما: ازدواجية التكوين وضعف استيعاب العلوم الاجتماعية. واستخلص منهما سمات المثقف العربي، وجعل في مقدمتها البؤس الذي «يقود كثيرا من المثقفين إلى اليأس من إصلاح شؤون المجتمع»([1]). نجد في«أوراق»معلومات دقيقة حول سمات شخصية المثقف المغربي والعوامل التي تؤثر فيها. إن المعطيات التي تزخر بها « أوراق » يمكن استثمارها فيما يمكن تسميته بدراسة الحالة.
صرح المؤلف في مقدمة الطبعة الثانية ([2]) بأن الأمر يتعلق بوصف شخصية إدريس، حيث قال: «من وراء التساؤلات حول الموضوع والأسلوب…توجد شخصية إدريس»، ودعا القارئ إلى الكشف عنها. قالها بنوع من التحدي كمن يدعوك إلى حل لغز من الألغاز المستعصية. قدم لنا شخصية ملفوفة محجوبة، تتوارى خلف تقنيات السرد الروائي وأشكاله التعبيرية التي يمتزج فيها الصدق بالتمويه. واعتبر محك الفهم هو القدرة على خرق الحجاب للوقوف على عناصر الشخصية وإعادة بنائها. ولا يستقيم البناء إلا بالاعتماد على الخيال لاستنباط الحلقات المفقودة التي تعمد المؤلف انتزاعها من السلسلة. ذلك ما عبر عنه بقوله: «أوراق إدريس هي حياته، لكن حياته ليست كلها في أوراقه. يبقى مجال واسع يرتع فيه خيال القارئ، خاصة الشاب، يتصور ما كان وما لم يكن، وما كان يمكن أن يكون» (ص8)، وصرح المؤلف أيضا بأن الهدف من كتابة سيرة إدريس الذهنية هو وصف الجو الثقافي الذي عاش فيه رعيل المثقفين من ذوي الثقافة المزدوجة الذين اشتهروا في مرحلة ما بعد الاستقلال. لذلك يمكن أن نعتبر سيرة إدريس الذهنية حالة نموذجية تمكننا من إدراك القواسم المشتركة بينهم بخصوص اختياراتهم وتوجهاتهم الفكرية والمعتقدية والعوامل الأكثر تأثيرا فيها. هذا هو الهدف المعلن. ونحن نفترض وجود أهداف ضمنية يسعى الكاتب إلى تحقيقها عن وعي أو عن غير وعي. فما هي هذه الأهداف المفترضة؟ ما هو الدور الذي أراد الكاتب لرواية السيرة الذاتية أن تلعبه؟ ما وظيفة تعليق الراوي عليها وتعليق شعيب؟
هذه هي الأسئلة التي سنحاول الإجابة عنها. وسوف يتركز التحليل على نقطتين أساسيتين وهما: أولا، مسيرة تكوين إدريس الفكري. وسيكون الهدف هنا هو بيان تأثير الفكر الغربي في شخصيته وما ترتب عن ذلك التأثير من تمزق في الذات. ثانيا، محاولة بناء الشخصية من خلال جمع شظاياها المبعثرة في مختلف الفقرات، وهو ما سيمكننا من تشكيل فكرة عامة حول صاحب السيرة والكشف عن الأهداف المضمرة التي تساءلنا حولها.
     لمعرفة تأثير الفكر الغربي في تكوينه سوف لن نكتفي بالإشارة إلى أسماء الفلاسفة والمفكرين الذين تأثر بهم خلال مختلف مراحل التكوين. لذلك سنقوم في البداية بالتعريف بالفلسفات التي بدا لنا أنها حاضرة بشكل مكثف في ذهن المؤلف عندما أقدم على كتابة الرواية وفي ذهن إدريس الذي يمثل صورته في الماضي. ولعل أهم الفلسفات التي أثرت في حياته الفكرية والسياسية هي الفلسفة الرومنسية الألمانية وامتدادها عند شوبنهور وتلميذه نتشه. وسيلاحظ القارئ أن الأفكار التي سنستعرضها توجد أصداؤها كلها في «أوراق».
الفلسفة الرومنسية حركة فكرية ظهرت منذ أواخرالقرن الثامن عشر في ألمانيا كرد فعل ضد فلسفة الأنوار، ضد العقل وسلطته الشمولية. انتعشت هذه الحركة، من غوته إلى شوبنهور، في الأعمال لأدبية بالخصوص. واكب ظهورها احتداد الصراع بين مؤيدي ما وصف حينئذ بالاستبداد المتنور والقوى السياسية الأخرى. في هذه اللحظة بالذات احتد الجدال حول مسألة الإلحاد. كانت لحظة صراع أيديولوجي شامل.
وإذا كانت الحركة الرومنسية قد ناهضت عقل الأنوار في بداية تشكلها فإنها أحلت محله العقل كما تصوره سبنوزا، وهو عقل لم يقطع صلته بالوجدان والشعور الديني. العقل عند فلاسفة الأنوار نور يبدد الظلمات، إنه التعبير عندهم عن وضوح الرؤية والأفكار وسداد الحكم. مع ظهور الفلسفة الديالكتيكية أصبح يعني قوة الخلق ووحدة الكل، الوحدة المتجلية في تناسق الكون وجلاله.
لقد انتقل مركز الثقل في فكر غوته وفي فلسفات كل من  شبنهور ونتشه من الأنا إلى الطبيعة.لم يعد الأنا هو مركز الفكر كما كان الشأن عند ديكارت. الطبيعة، حياة الطبيعة هي التي أصبحت المحور الذي يدور حوله الفكر. ثورة كوبرنيكية أخرى. لقد أصبح الرومنسيون ينظرون إلى الطبيعة على أنها صيرورة الوجود المتجلية غبر تعاقب الأزمان. زمن لا رجعة فيه، محل الولادة والموت، الحجاب الذي يخفي تناهي الذات ودوام الإرادة والقوة الإلهية. التفكير في عظمة الكون، إدراك وحدته، والإحساس بنبض الحياة فيه مجازفة خطيرة بالنسبة لمن لا يستطيع أن يتبين نظامه الكلي. يستدعي إدراك النظام الكلي العودة إلى الأصل، ورصد سلسلة الكائنات. من نتائج الموقف الرومنسي بروز الحس التاريخي وتشكل نظريات التطور.
تمثل الكلية وصيرورتها الوجود الممتد في الزمن البعيد. كل شيء خرج من الليل وإليه يعود. فكر عجيب. في الرومنسية شاعرية ورهبة، فيها وعد ووعيد. كانت وراء أمجاد العصر اللاحق ومآسيه. كانت ملهمة فنون العصر والنازية على حد سواء. تمجد الرومنسية فكرة الوحدة المقدسة الفعالة، وحدة يخضع فيها ضمير الفرد لضمير الجماعة وينمحي فيه. فلا قيمة للفرد فيها إلا بانتمائه إلى الجماعة. تعلي من شأن البعد الوجداني في الإنسان، وتقلل في المقابل من قيمة العقل والمنطق والاستدلال. تعلن أن الحدس الوجداني المدرك لوحدة الكون ونظامه أعظم شأنا من الإدراك العقلي المجزئ. لا مجال إذن للحديث عن الحرية. هناك كلية تتجاوز الأفراد وتفرض منطقها عليهم، إنها القدر، ويجب الاعتراف به.
يقتضي الاعتراف بالقدر الصلح مع الحياة، مع الكلية. تصالح الفرد مع الوجود يدل على قدرته على فهم الضرورة التي تؤسس نظام الطبيعة التي لا تبالي بشيء بحكم كمالها المطلق. بلوغ الكمال يعني انتفاء الغاية والهدف. ليست في الطبيعة أهداف ولا غايات. ويعني الكمال أيضا استحالة التغير والتجديد. ليست الحركة والتغير إلا عودة الشيء نفسه في شكل جديد. الطبيعة هي الإله الدائم المتحول ليبقى هو هو في كل مرة ولكن في شكل جديد. بروتي، الهوية الباقية خلف تجدد الأشكال. تبدو الطبيعة للرومنسيين على أنها خلق وإبداع تلقائي مستمر،ولكن الإبداع في الشكل لا في المضمون. ولكن ما الباعث على هذا النوع من التحول؟ إنه سر من الأسرار التي تقلق الإنسان، ولكنه يولد لدية الذوق الفني والإحساس بالجمال. يوحي له أن المهم ليس في إدراك الحقيقة، ولكن في إعادة تشكيل مظهر العالم. فلا فائدة من معرفة الحقيقة والإفصاح عنها. إن المفيد يكمن في القدرة على التحكم في شكل العالم. ويجب أن يبقى السر قائما لينتعش الحدس وتنتعش الرغبات. إن أعظم الأوهام لوهم الحقيقة، وإن العقل لباطل!
التحكم في مظاهر العالم والإنسان رغبة خالجت نفوس الرومنسيين وأنعشت النزوة الميغالومانية عند نتشه. النزعة التي جسدت النازية إرادتها: التحكم في العالم أو المأساة والدمار. يرى نوفاليس أن كل تمثل قابل من حيث المبدأ للتحقيق. ذلك لأن الإرادة هي جوهر كل موجود، والذاتية حقيقته. شيد تصورك الشخصي للعالم، وجاهد من أجل تحقيقه في الواقع. تستطيع ذلك إن حصل لك الوعي بأن جوهر الوجود هو الإرادة. العالم هو ما تريد أن يكون. فلا تشغل بالك بما إذا كان التمثل صحيحا أو خاطئا، ذلك لأن الحقيقة ليست على النقيض من الخطأ، كلاهما نابع من صروح الوهم. فلا يمكن أن تقول عن الشيء في ذاته بأنه صحيح أو خاطئ، خير أو شر، كل حكم ينحل في الذات الواهمة. هكذا تتصور الفلسفة الرومانسية العالم، إنه بناء ذاتي يحكمه مبدأ الإرادة.
شوبنهور هو الامتداد المقلوب للنزعة الرومنسية، فيلسوف التشاؤم واليأس. صفتان تميزانه عن المدرسة الرومنسية. عنها أخذ مفاهيمه الأساسية ولكنه أكسبها مدلولات أخرى، مفاهيمه الأساسية عنوان مؤلفه الشهير: " العالم كإرادة وتمثل ". وأما الإرادة فهي إرادة العالم، والتمثل وهم.
شوبنهور واحد من أقطاب الحركة الفلسفية التي ترجع أصولها إلى كانط. يقترب شوبنهور من كانط ويبتعد عنه. يقترب منه لأنه يوافقه على التمييز بين عالم النومينات وعالم الفينومينات، ويبتعد عنه لأنه أعطى للمفهوم مدلولا جديدا. النومين عند كانط هو الشيء في ذاته، المبدأ الأول الذي يستمد وجوده من ذاته، مبدأ الواجب المؤسس للأخلاق. النومين هو روح العالم، والروح هي الأخلاق. النومين عند شوبنهور هو الإرادة، والإرادة روح العالم. لذلك كان شوبنهور يستنكف من مبدأ الواجب الأخلاقي ويرفضه. والفينومينات عند شوبنهور هي التمثلات، والتمثلات أوهام. العالم بالنسبة للإنسان وهم، والإرادة جوهر الوجود.
الإرادة هيالنزوع نحو الوجود، الرغبة في إثبات الوجود. وأما الإرادة الأولى فهي الإرادة الكونية، القوة السارية في الكون، الدافع الغريزي الحيوي. لا دخل للإنسان فيه ما دام الإنسان هو آخر ما انبثق عنه من الكائنات. ليس الإنسان سيد الكون لأنه المنتوج الأخير للإرادة الكونية، آخر تجل من تجلياتها، هو الحلقة الأخيرة في سلسلة الكائنات، ولكن الإرادة بلغت فيه كمالها، به وفيه حصل لها الوعي بذاتها.
في البدء كان العالم. وكان مندفعا بقوة من أجل التموضع في شكل من الأشكال. وأما إثبات الوجود فقد تحقق بالقوة الخالصة، القوة العمياء غير الواعية، المعبرة عن ذاتها بتجاذب الأجسام وتنافرها: صراع الجبابرة من أجل الوجود. في أعقاب هذه المرحلة التيتانية من تاريخ الكون تجسدت الإرادة في الكائنات الحية كقوة نامية، وأخذت شكل إرادة الحياة، ثم بلغت مرادها في الإنسان واكتملت، وحصل لها الوعي بذاتها. ولكن ماذا كانت النتيجة؟ التعاسة والشقاء بطبيعة الحال.
كان الرومنسيون يعتقدون بأن الإنسان هو أسمى المخلوقات جميعا، زهرة الكون النهائية. وكانوا ينظرون إلى الطبيعة باعتبارها المرآة التي تعكس جمال الزهرة، ويجدون متعة في رؤية الصورة المنعكسة في المرآة، تماما مثل نرجس. تفاهة وغرور. هكذا يرد عليهم شوبنهور. إن ما اكتشفته الإرادة بعد حصول الوعي لها هو أن ضخامة المجهود المبذول بالمقارنة مع النتائج التافهة لا قيمة له، من الحكمة لو تم اقتصاده. تبدأ الإرادة كفاحها مثل الجبابرة وينتهي بها الأمر إلى وضع سزيف، يحمل الصخرة إلى القمة وهو يعلم أنه لن يصل. تفاهات وغرور وعبث، هذا هو التشاؤم بعينه.
الرومنسي المتفائل والفيلسوف المتشائم كلاهما يمجد الإرادة وقوة الاندفاع. يبدأ الأول بالقوة وينتهي إلى الفرحة بالحياة. ينطلق الثاني من القوة أيضا وينتهيبه المطاف إلى الضجر واليأس. قلب شوبنهور الرومنسية بإحلاله قيم التشاؤم واليأس محل قيم التفاؤل وتمجيد الحياة. تفاهة في تفاهة، كل شيء تافه، هكذا يتصور العالم. يدل هذا الانقلاب على وجود اعتلال ما فيشخصية الفيلسوف حسب بعض المحللين ([3]). شخصية معتلة ك&
Partager cet article
Repost0
19 septembre 2006 2 19 /09 /septembre /2006 09:34
مختصر دراسة مايكل مرمورا
لمفهوم السببية عند ابن سينا ()
أحمد أغبال
في المقالة الرابعة من كتاب الشفا قدم لنا ابن سينا تحليلا وافيا للعلاقات السببية كما يتصورها تحت عنوان" فصل فيالمتقدم والمتأخر وفي الحدوث"استهل هذه المقالة بتحديد مفاهيم القبل والبعد بناء على تصوره للحدوث، الذي يقوم عنده على فكرة أن العلة الفاعلة سابقة على المعلول الضروري لها لا في الزمان ولكن في الوجود، وجعل هدف المقالة المذكورة هو البرهنة على هذه الأسبقية الأنطلوجية.
استحضر ابن سينا في بداية المقالة الرابعة تصوره لموضوع الفلسفة الأولى الذي هو الوجود بما هو وجود والذي تقع تحته جميع الموجودات لا كما تقع الأنواع من الجنس بل تقع منه موقع الخواص والعوارض اللازمة باعتبارها لواحق. ويعتبر التقدم والتأخر من جملة هذه اللواحق. ومن هنا كان لابد من تحديد هذين المفهومين في ضوء تصوره للوجود. وبدل أن يكتفي بالنظر إليهما باعتبارهما لحظتان من لحظات تتابع الأحداث في الزمان أكسبهما مدلولا أنطلوجيا، ولم تعد الأسبقية في سياق التحليل أسبقية زمنية بل أسبقية أنطلوجية. وميز في هذه الأخيرة بين نوعين:
·        النوع الأول من الأسبقية الأنطلوجية هي تلك الأسبقية التي يكون فيها المتقدم شرطا ضروريا للمتأخر، ولكن وجود الأول لا يستلزم وجود الثاني وإن كان شرطا ضروريا لوجوده. وأما الثاني فلا يكون له وجود إلا وقد سبقه وجود الأول. ومن أمثلة ذلك الواحد والكثرة: فلا يلزم عن وجود الواحد أن تكون الكثرة موجودة، ولكن الكثرة لا يكون لها وجود إلا إذا كان الواحد موجودا، لأن الكثرة تتحقق بواسطة التركيب.
·        وأما النوع الثاني فهو الأسبقية التي يكون فيها المتقدم شرطا يلزم عنه وجود المتأخر بالضرورة من حيث أنه هو علته. فللمتأخر من المتقدم وجوب الوجود، لآن المتأخر ليس له وجود بذاته، فوجوده ممكن فحسب، ومتى وجد الأول لزم وجود الثاني. ومن أمثلة ذلك حركتان لشيئين في لحظة واحدة، كأن يقول قائل حرك زيد يده ثم تحرك المفتاح. فمع وجود الحركتين معا في الزمان يفرض العقل لإحداهما تقدما وللأخرى تأخرا إذا كانت بينهما علاقة سببية. فإذا وجد شيئان وكان احدهما علة الآخر دلت العلة على التقدم والمعلول على التأخر ولو كانا متزامنين. وعلى العموم، فإن "وجود كل معلول واجب مع وجود علته، ووجودعلته واجب عنه وجودالمعلول. وهما معاً في الزمان أو الدهر أو غير ذلك". وإذا وجدا معا فإن المعية لا توجب العلية لأحدهما، فهما في المعية سواء. والفرق بينهما هو أن أحدهما لم يجب وجوده بالآخر، والثاني يتوقف وجوده على وجود الأول.
ومن المعلوم أن الأشاعرة اعترضوا على الرأي القائل بوجود علاقة ضرورية بين العلة والمعلول. ومع أنهم يعترفون بوجود أحداث متزامنة في العالم الطبيعي إلا أنهم أنكروا وجود أية علاقة سببية بينها، وإنما حصل الاعتقاد بوجودها بحكم العادة فقط. وكذلك لم ينكروا إمكانية استنباط وجود العلة من المعلول، وهي فكرة تنسجم تمام الانسجام مع مصادرتهم الأساسية التي تقول إن الموجودات جميعها باستثناء الخالق عز وجل حادثة في الزمان، وأنه من البديهي بالتالي أن يكون لكل حادث محدث. وهو دليلهم على وجود الله سبحانه وتعالى. ومما ترتب عن ذلك قولهم باستحالة اقتران العلة الحقيقية بالمعلول وتزامنهما، من جهة، وباستحالة استنباط وجود المعلول من وجود العلة. ذلك لأن فكرة اقتران العلة بالمعلول وفكرة استنباط المعلول من العلة هما من جملة الأفكار المرتبطة بنظرية السببية الطبيعية، التي تؤكد أن الفعل هو نتيجة ضرورية تصدر عن طبيعة الفاعل، والتي يرفضونها جملة وتفصيلا. ذلك لأن الأخذ بهذه النظرية يؤدي إلى الاعتقاد بأن العالم قديم أبدي وأزلي، لأن هذا الاعتقاد هو شديد الصلة بالاعتقاد بتلازم العلة والمعلول. وخلاصة القول إن الأشاعرة إنما رفضوا نظرية قدم العالم التي تؤدي في اعتقادهم إلى تفي الحياة والإرادة والعلم والقدرة عن الذات الإلهية التي هي علة كل شيء والتي تملك وحدها القدرة على الخلق من عدم.   
 ولعل أقوى دليل يواجه نظرية اقتران العلة بالمعلول وتلازمهما هو دليل الأشاعرة الذي اعتمدوا عليه لإثبات أن تتابع الأحداث الملاحظة في الطبيعية لا يدل على وجود علاقة سببية ضرورية بينها. واجه ابن سينا هذا الدليل في كتاب الإلهيات، واعترف بأن الانتظام الملاحظ في العالم الطبيعي لا يعني دائما وجود علاقات ضرورية بين الموجودات الطبيعية. ولكن ذلك لم يمنعه من القول بأن وراء الأحداث العارضة منطق خفي، واستدل على ذلك بكون الأحداث التي تبدو عارضة لا يعقل أن تظل أبدا على هذا الحال. وخلص إلى القول بأن الانتظام الموجود في الطبيعة مرده إلى الطبائع السببية للأشياء. وهو دليل إبستملوجي. وأما دليله الميتافيزيقي فهو أن كل موجود عارض ليس معلولا فحسب ولكن وجوده اقتضته ضرورة ما. فهو لم يوجد عبثا أو عشوائيا ذلك لأن كل الموجودات، باستثناء الوجود الإلهي، هي بذاتها ممكنة الوجود، يمكن أن توجد أو لا توجد. وبما أنها موجودة فذلك لأن شيئا ما خارج ذاتها منحها الوجود وخصها به، وهذا الشيء هو علتها. فإذا افترضنا الموجود "أ" الذي هو بذاته ممكن الوجود والذي خرج إلى الوجود بالفعل بسبب وجود "ب"، فإن وجود "أ" في ذاته ممكن فحسب، ويصبح وجوده ضروريا من خلال وجود "ب" ونسبته إليه. وفي حال لم يتحقق بالفعل فإن وجوده يظل ممكنا.
نقطة الانطلاق في هذا الاستدلال هي ملاحظة الموجودات العرضية. فالموجود العرضي يصبح وجوده ضروريا بوجود علته. لم يكتف ابن سينا هنا بإثبات أن كل موجود عارض يجب أن تكون له علة، بل ذهب إلى أبعد من ذلك ليؤكد أن وجوده ضروري بوجود العلة. فإذا اجتمعت كل شروط العلة، وكانت العلة كاملة، لزم أن يكون المعلول بالضرورة، ولا يمكن للمعلول أن يرتفع في هذه الحالة لأن العلة والمعلول متلازمان.
اعترض الأشاعرة على هذا الدليل، ورفضوا أن تكون طبيعة الشيء هي العلة التي يتوقف عليها وجود الشيء باعتباره معلولا، كما رفضوا مبدأ التلازم بين العلة والمعلول. وفي هذا الإطار، ساق الباقلاتي دليلا لدحض نظرية ابن سينا، التي تقول بأن العالم صدر عن العلل الطبيعية الأربع المشهورة وبأنه، بالتالي، قديم أبدي أزلي، مفاده أن الطبيعة إذا كانت قديمة أزلية أبدية، وكان ما ينشأ عنها كذلك أبديا أزليا، فما الذي يجعل أحدهما مؤهلا لأن يكون هو السبب الذي يجعل وجود الآخر ضروريا، وما الذي يمنع هذا الأخير من أن يكون له مثل ذلك الاستعداد ؟
ويرد ابن سينا على مثل هذا الاعتراض بقوله إن العلة إذا استوفت شروطها تجعل وجود المعلول ضروريا، ولا تحتاج في ذلك إلى أن تكون من جملة العلل الطبيعية فحسب، فقد تكون أيضا إرادة أو انفعالا بشريا. وفيما يتعلق بالإرادة، ميز فيها بين نوعين: الإرادة التي تجعل النفس تميل إلى الفعل: وهي الإرادة المميلة؛ والإرادة الجازمة وهي العزم أو الإجماع الموجب لتحريك الأعضاء. يبدو أن ابن سينا قد استعمل مفهوم الإرادة بالمعنى الثاني في الفصل الذي عالج فيه مسألة التقدم والتأخر والأسبقية الأنطلوجية من أجل إثبات أطروحة التلازم بين العلة والمعلول والتي أوضحها من خلال مثال اليد التي تحرك المفتاح. يقول بهذا الصدد:
" لا يستنكرالعقل البتة أن نقول: لما حرك زيد يده تحرك المفتاح، أونقول: حرك زيد يده ثمتحرك المفتاح. ويستنكر أن نقول: لما تحرك المفتاح حرك زيديده، وإن كان يقول:لما تحرك المفتاح علمنا أنه قد حرك زيد يده. فالعقل مع وجودالحركتين معاً فيالزمان يفرض لأحدهما تقدماً والآخر تأخراً إذ كانت الحركة الأولىليس سببوجودها الحركة الثانية، والحركة الثانية سبب وجودها الحركة الأولى"
وخلص إلى القول إنه من الضروري أن يكون المعلول ملازما للعلة بالمعنى الدقيق للكلمة. ومن ثمة انتقل إلى بيان الشروط التي إذا اجتمعت في العلة وجب عنها وجود المعلول. وحاول أن يستدل على ذلك بطريقة بالغة التعقيد لا يساعد أسلوبه اللغوي على متابعة عرضه وفهمه بشكل دقيق. يمكن تلخيص ما فهمنا من كلامه على النحو التالي:
إذا كان "غ"، مثلا، هو الشيء الكافي بذاته لإحداث "م"، فإن وجود "م" سيتبع بالضرورة وجود "ع". ومعنى ذلك أنه طالما وجد "ع" وجد "م" أيضا. وأما إذا كان "ع" يتوفر فقط على إمكانية إحداث "م"، وكان "م" يتوفر فقط على إمكانية صدوره عن "ع". ويمكن لأحد أن يستنتج من ذلك أنه ما دام وجود "م" وعدم وجوده متساويان في الإمكان، فإن "م" يمكن أن يكون مع "ع" مرة كما يمكن أن لا يكون معه مرة أخرى. إذا كان الأمر كذلك، فدعنا نتأمل الحالة التي يكون فيها "م" مقترنا بـ"ع". إن وجود "م" في هذه الحالة لا يرجع إلى وجود "ع" وحدها، ما دام وجود "م" وعدم وجوده متساويان في الإمكان. يمكن أن نستنتج من ذلك أن عاملا ما، لنسميه "ب"، قد تدخل وأقام التمييز بين الحالة التي يكون فيها "م" موجودا مع "ع" والحالة التي يكون فيها غير موجود معه. إن "ب" يقيم التفريق بين الحالتين أمرا ضروريا، فعندما يضاف إلى "ع" يؤلف معها العلة، وتصبح العلة هي "ع" + "ب". وإنما ينطبق هذا على الإنسان باعتباره فاعلا، والدليل على ذلك إشارة ابن سينا إلى أحوال النفس الإنسانية من شهوة وغضب وما إلى ذلك. يقول بهذا الصدد:
"... وكان الشيء الذي يصح أنيصير علة ولم يكن ذلك الوجود وجود العلة، بلوجوداً إذا انضاف إليه وجود آخركان مجموعهما العلة، وكان حينئذ يجب عنه المعلولسواء كان ذلك الشيء إرادة أوشهوة أو غضباً أو طبعاً حادثاً أو غير ذلك، أو أمراًخارجاً منتظراً لوجودالعلة. فإنه إذا صار بحيث يصلح أن يصدر عنه المعلول من غيرنقصان شرط باق وجبوجود المعلول"
وخلص من ذلك إلى أن "وجود كل معلول واجب مع وجود علته، ووجودعلته واجب عنه وجودالمعلول. وهما معاً في الزمان أو الدهر أو غير ذلك". وفي هذا السياق نفسه ناقش الرأي المعارض الذي يشبه إلى حد كبير رأي الباقلاني في نظرية السببية لدى الفلاسفة. يقول بالحرف الواحد: " ولقائل أن يقول: إنه إذا كان كل واحد منهما إذا وجد وجدالآخر، وإذا ارتفع ارتفع الآخر، فليس أحدهما علة والآخر معلولاً، إذ ليس أحدهماأولى أن يكون علة في الوجود دون الآخر". واستهل ابن سينا رده عليه بالإشارة إلى وجود نوع من الغموض والالتباس في الشرط المعبر عنه في القضية " إذا كان كل واحد منهما إذا وجد وجدالآخر" ، ومن ثمة حاول رفع ذلك اللبس من خلاق شرح معنى "إذن" التي يمكن تأويلها على أربعة أوجه يكون واحد منها فقط هو التأويل الصحيح. فإما أن يكون المعنى المقصود هو:
·        أن وجود أي من العلة والمعلول في الواقع يؤدي بالضرورة إلى وجود الآخر في الواقع؛
·        أو أن أيا من العلة والمعلول إذا وجد في الواقع وجب عنه أن يكون الآخر قد وجد في الواقع ؛
·        أو أن وجود أي واحد منهما إذا حصل في العقل وجب عنه أن يحصل الآخر في العقل أيضا؛
·        أو أن وجود أحدهما في الواقع وجب عنه في العقل أن يكون الآخر قد حصل(أ) إما في الواقع (ب) وإما في العقل.
 من بين هذه الاحتمالات الأربع يكون الاحتمال الثالث، في نظر ابن سينا، هو الاحتمال الوحيد الذي يعتبر صحيحا بالكامل. وأما الاحتمال الأول فهو غير صحيح  من جهة أنه لا يستبعد أن يكون المعلول سببا في وجود علته؛ والاحتمال الثاني خاطئ في جانبه المتعلق بالعلة، فهو لا يستبعد أن تكون العلة كاملة من غير أن يكون المعلول، وإذا حصل المعلول بعد ذلك فكأنما حصل بغير علة. وأما الاحتمال الرابع فهو صادق في شطره الأول (أ)، وخاطئ في شطره الثاني. وذلك أنه إذا وجد المعلول في الواقع فإنه من البديهي بالنسبة للعقل أن تكون العلة قد وجدت وإلا لما كان المعلول. وكذلك الحال بالنسبة لمسألة الرفع، " فإنه إذا رفعنا العلة رفعنا المعلول بالحقيقة، وإذا رفعناالمعلول لمنرفع العلة". وإذا ارتفع المعلول علمنا أن العلة رفعت لا محالة، فرفع المعلول دليل رفع العلة، وإثباته دليل إثباتها.
ولإزالة الشبهة عن القضية المطروحة للنقاش خلص ابن سينا من تحليله لعلاقاتها إلى القول: "إنهليست المعيةهي التي أوجبت لأحدهما العلية، حتى يكون ليس أحدهما أولى بالعليةمن الآخر لأنهمافي المعية سواء، بل إنما اختلفا لأن أحدهما فرضناه أنه لم يجبوجوده بالآخر، بل معالآخر؛ والثاني فرضناه أنه كما أن وجوده مع الآخر فكذلك هوبالآخر. فهكذا يجب أنتتحقق هذه المسألة" 
Partager cet article
Repost0
15 septembre 2006 5 15 /09 /septembre /2006 19:25
مختصر دراسة مايكل مرمورا
لمسألة الإضافة في كتاب الإلهيات
لابن سينا(*)
(تابع)
أحمد أغبال
عندما يقول ابن سينا إن "المضاف في الوجود موجود بمعنى أن له هذا الحد" فإنه يقصد بذلك تعريفه العام. وهذا التعريف يستلزم أن يكون المضاف عارضا للشيء، بحيث إذا تصوره العقل أضفى عليه الصفة المذكورة، ولا ينظر إليه باعتباره شيئا قائما بذاته يربط شيئا بشيء آخر. لنواصل معه تحليله لهذه المسألة:
"وأما القول بالقياس [تحديد ماهية المضاف بالقياس إلى مضاف آخر]فإنما يحدث في العقل، فيكون ذلك هو بالإضافة العقلية[فتكون ماهية المضاف مرتبطة بالإضافة العقلية]، و[أما]الإضافةالوجودية مابيناه، وهو بحيث إذا عقل كان معقول الماهية بالقياس [إذا عقلت تلك الإضافة، فإن ماهيتها تعقل بالقياس إلى غيرها]، وأما كونه فيالعقل فإنيكون عُقل بالقياس إلى غيره [وإن كانت الإضافة في العقل، فإن وجودها يعقل بالقياس إلى غيرها] فله في الوجود حكم، وفي العقل حكم [للإضافة الوجودية مبدأ أو قانون يحكمها ولها في العقل مبدأ آخر يحكمها]، من حيثهو فيالعقل لا من حيث الإضافة. ويجوز في العقل إضافات مخترعة إنما يفعلها العقلبسببالخاصية التي للعقل منها"
يكتسي هذا المقطع من تحليل ابن سينا للمسألة المطروحة أهمية كبيرة رغم كونه غامض ومحير إلى حد ما. حيث نجده يدفع في البداية بالتحليل في اتجاه معين، وفجأة نشعر وكأنه يسير بنا في اتجاه آخر. يطرح في بداية هذا المقطع قضية يمكن صياغتها على النحو التالي: في حال وجود شيئين موضوعيين X و Y، وكان X مرتبطا بـY، فإن تحديد ماهية X بالقياس إلى Y لا تحصل إلا في العقل، فهي إذن تنتمي إلى مجال الإضافة العقلية. تتمثل الإضافة الوجودية أو العيانية في كون X إذا عُقِلَ، فإنه يعقل بالقياس إلىY. إن وجود الإضافة، إذن، يتوقف على إدراك العقل لها. نجد مثل هذا التصور للعلاقات بين الأشياء لدى بعض الفلاسفة اللاتينيين في القرون الوسطى من أمثال William of Ockham و Petrus Aurcoli. كان الأول يرى أن العلاقات عقلية ولها أساس في الواقع، ورأى الثاني أنها توجد في الواقع بالإمكان وفي العقل بالفعل. وقد سبقت الإشارة إلى أن ابن سينا كان قد وضع نصب عينيه حل الشبهة في رأي من يقول بوجود الإضافة في الأعيان ومن يقول بوجودها في العقل على حد سواء، وربما حاول التوفيق بينهما، مما يوحي بأنه لم ينحز إلى الرأي القائل بوجود العلاقات أو الإضافات في العالم الخارجي الموضوعي انحيازا تاما.
وبعد ذلك بدا وكأنه غير الاتجاه حين طرح قضية أخرى من شأنها أن تدفع الدارس إلى تأويل موقفه من المسألة المتعلقة بما إذا كان للعلاقات وجود موضوعي في الواقع تأويلا آخر. عبر عن هذه القضية بقوله إن للإضافة الوجودية في الوجود حكم وفي العقل حكم، وأضاف إليها هذه الجملة: " من حيثهو فيالعقل لا من حيث الإضافة". وأول سؤال يتبادر إلى الذهن هو: ماذا يقصد بـ"الإضافة" في هذه الجملة ؟ من المحتمل أن يكون المقصود هو الإضافة باعتبارها حالة من الحالات الموضوعية التي تنتمي إلى شيء معين من أشياء العالم الخارجي والتي تتجه إلى شيء آخر، وباعتبارها متميزة هن مفهوم هذه العلاقة كما هو موجود في العقل. وإذا نظرنا إليها باعتبارها كذلك، فإنه يتعين أن تكون علاقة X بـY، واللذين قلنا عنهما بأنهما من جملة الأشياء الموجودة في العالم الخارجي، لا يتوقف وجودها الموضوعي على وجود مفهومها في العقل. يمكن القول بعبارة أخرى: يكون X على نحو ما هو عليه بحيث إذا عقل فإنه يعقل بالقياس إلى Y، لا لشيء إلا لأنه يوجد في علاقته بـ Y في الواقع الموضوعي.
والحقيقة أنه لا أحد يستطيع الجزم يقينا أن ابن سينا كان يقصد هذا المعنى بالضبط. صحيح أن في تحليله ما يبدو للوهلة الأولى أنه يدعم التأويل الثاني. يتعلق الأمر هنا بالقضية التي استهل بها الفصل العاشر من المقالة الثالثة في كتاب "الإلهيات"، هذا نصها:
"وأما أنه إذا فرض للإضافةوجود كان عرضاً، فلذلك أمر لا شك فيه، إذ كان أمراًلا يعقل بذاته، إنما يعقلدائماً لشيء إلى شيء، فإنه لا إضافة إلاّ وهي عارضة"
إن القول بأن الإضافة عارضة يعني أنها موجودة في عالم الأعيان. غير أنه كلما قطع شوطا جديدا في تحليل وشرح هذا المفهوم بدا أقل تأييدا للتأويل الثاني. يتبين من خلال متابعة تحليله أن الإضافة بالنسبة إليه تمثل نوعا خاصا من الأعراض، فهو ليس عرضا ملموسا، ولكنه من جملة الأعراض التي يتطلب إدراكها فعلا عقليا. هل يتعلق الأمر هنا بشرط إبستملوجي خالص كما يوحي بذلك التأويل الثاني، أم أنه جزء لا يتجزأ من حد الإضافة كما يوحي بذلك التأويل الأول ؟ ليس في تحليل ابن سينا ما من شأنه أن يساعدنا على الإجابة عن هذا السؤال بشكل واضح، ولذلك ظل موقفه من هذه المسألة غامضا في ذهننا.
ومهما يكمن من أمر ذلك، فإنه من نافل القول التنبيه إلى أن ابن سينا ختم الفصل العاشر من المقالة الثالثة في كتاب "الإلهيات" مثلما بدأه بالتأكيد على أن الإضافة موجودة في الأعيان. يقول في خاتمة هذه المقالة:
"فالمضاف إذن موجود في الأعيان وبان أن وجوده لايوجبأن يكون هناك إضافة إلى إضافة بغير نهاية [أن يكون لكل إضافة إضافة أخرى، وهلم جرا إلى ما لا نهاية]. وليس يلزم من هذا أن يكون كل مايعقلمضافاً يكون له في الوجود إضافة [كل ما يتصوره العقل على أنه إضافة يكون له في الوجود إضافة تقابله]"


(*)Michael E. Marmura. Avicenna’s Chapter « On the Relative » in the metaphysics of the Shifà
   University of Toronto.
 
Partager cet article
Repost0
15 septembre 2006 5 15 /09 /septembre /2006 19:15
مختصر دراسة مايكل مرمورا
لمسألة الإضافة في كتاب الإلهيات
لابن سينا(*)
أحمد أغبال
يقول ابن سينا: "وأما أنه إذا فرض للإضافةوجود كان عرضاً، فلذلك أمر لا شك فيه، إذ كان أمراًلا يعقل بذاته، إنما يعقلدائماً لشيء إلى شيء، فإنه لا إضافة إلاّ وهي عارضة". ومعنى ذلك أمه إذا حصل وجود الإضافة في الأشياء فإن وجودها لابد وأن يكون من جملة العوارض. إن وجود الإضافة في الأشياء هو وجود عارض إذن. ويترتب عن ذلك القول إن الأعراض إنما هي لواحق تلحق بموضوعات العالم الخارجي. وهنا تطرح مسّألة الإضافة والعلاقة وما إذا كان لهما وجود موضوعي في الواقع الخارجي أم أن وجودهما في العقل. يقول ابن سينا بهذا الصدد:
"هل الإضافةفي نفسها موجودة في الأعيان أو أمر إنما يتصور في العقل،ويكون ككثير من الأحوالالتي تلزم الأشياء إذا عقلت بعد أن تحصل في العقل، فإنالأشياء إذا عقلت تحدث لها في العقل أمور لم يكن لها من خارج، فتصيركلية وجزئية وذاتية وعرضيةوتكون جنس وفصل وتكون محمول وموضوع وأشياء من هذاالقبيل"
 يتعلق الأمر هنا بما إذا كانت الأشياء لا تصير كلية وخاصة وذاتية وعرضية ..إلا إذا حصلت في العقل. وأشار إلى أن البعض ذهبوا إلى أن الإضافات لا توجد إلا بوصفها مفاهيم في الذهن. وبعد ذلك استعرض دليل من يقول بأنها موجودة في الأعيان وهو من الأدلة التي ترجع أصولها إلى أفلوطين وسمبلسيوس Simplcius حسب بعض الدارسين (MichalMarmura). وبعد ذلك استعرض الدليل المعارض الذي يستند إلى مبدأ اللاتناهي ومفاده أنه لو كانت الإضافة موجودة في الأشياء لوجب من ذلك أن لا تنتهي الإضافات، كما ناقش الأطروحة التي تقول إن وجود الإضافات في الأعيان أمر غير معقول لأنه لا يستبعد إضافة موجود إلى معدوم.مثلما هو الحال بالنسبة للمتقدم والمتأخر في الزمان. يقول ابن سينا بهذا الصدد:
"وقالت الفرقة الثانية:إنه لو كانت الإضافة موجودةفي الأشياء لوجب من ذلك أن لا تنتهي الإضافات، فإنهكان يكون بين الأب والابنإضافة، وكانت تلك الإضافة موجودة لهما أو لأحدهما أو لكلواحد منهما. فمن حيثالأبوة للأب وهي عارضة له، والأب معروض لها، فهي مضافة، وكذلكالبنوة. فههناإذن علاقة للأبوة مع الأب والبنوة مع الابن خارجة عن العلاقة التيبين الأبوالابن فيجب أن تكون للإضافة إضافة أخرى وأن تذهب إلى غير النهاية، وأنتكونأيضاً من الإضافات ما هي علاقة بين موجود ومعدوم؛ كما نحن متقدمون بالقياسإلىالقرون التي تخلفنا وعالمون بالقيامة"
رد ابن سينا على الدليلين المتضمنين في هذه الفقرة بطريقتين مختلفتين، حيث حاول دحض فكرة الإضافات اللامتناهية، ولكمه لم يرفض فكرة إضافة الموجود إلى المعدوم، وذلك لأنه يقبل أن تكون الإضافة بين المتقدم والمتأخر في الزمان على مستوى العقل. ولذلك حاول أن يبين كيف تتحقق الإضافة في العقل أثناء مناقشته الأطروحة التي تقول بوجود الإضافة في الأعيان. يبدو للوهلة الأولى وكأن في بعض العبارات ما يدعم تلك الأطروحة، ولكن القارئ المدقق لا يفوته أن يدرك أنه إنما يريد إيجاد حل للمعضلة التي تواجه ذوي التصور الذاتي وذوي التصور الموضوعي لمسألة الإضافة هل هي في الأعيان أم في العقل. يقول:
"والذي تنحل به الشبهة من الطرفين جميعاًأن نرجع إلى حد المضاف المطلق فنقول: إن المضاف هو الذي ماهيته إنما تقالبالقياسإلى غيره، فكل شيء في الأعيان يكون بحيث ماهيته إنما تقال بالقياس إلىغيره فذلكالشيء من المضاف. لكن في الأعيان أشياء كثيرة بهذه الصفة، فالمضاف فيالأعيانموجود"
وأضاف قائلا:
"فإن كان للمضاف ماهية أخرى فينبغي أن يجرد ماله من المعنىالمعقول بالقياسإلى غيره وغيره، [لأن هذا المعنى] إنما هو معقول بالقياس إلى غيره [...]، [وهو] ليسمعقولاً بالقياس إلى غيره بسبب شيء غير نفسه"
ماذا يقصد ابن سينا بقوله إن للمضاف ماهية أخرى ؟ هناك احتمالان (راجع MichalMarmura ): فمن المفسرين من رأوا أنه كان يقصد بذلك أشياء كالعلم مثلا بدعوى أنه تعرض لهذه المسألة بالذات في دراسته للمنطق، حيث اعتبر العلم في ذاته كيفية، ونظر إليه باعتباره إضافة أيضا بالقياس إلى موضوعه. فللعلم إذن في نظره طبيعة كيفية وإضافة في نفس الوقت. وأما الاحتمال الثاني فهو انه إنما يريد التمييز في وظيفة الإضافة بين العلاقة التي تقيمها بين شيء مخصوص وآخر وبين وجودها كوجود مجرد، كالأبوة التي تربط هذا الأب بهذا الابن والأبوة باعتبارها مفهوما مجردا.
"[أن هذا المعنى] ليسمعقولاً بالقياس إلى غيره بسبب شيء غير نفسه، بل هومضاف لذاته على ما علمت. فليسهناك ذات وشيء هو الإضافة، بل هناك مضاف بذاته لابإضافة أخرى فتنتهي من هذاالطريق الإضافات" 
وواصل تحليله لهذه المسألة:
"وأما كون هذا المعنى المضاف بذاتهفي هذا الموضوع، فهو من حيث أنهفي هذا الموضوع ماهيته معقولة بالقياس إلى هذاالموضوع، وله وجود آخر مثلاً وهو:وجود الأبوة، وذلك الوجود أيضاً مضاف. ولكن ليس ذلك [الإضافة السابقة] هذا [الإضافة الأخيرة]"
يبدو أن ابن سينا لا يميز هنا بين الإضافات على مستوى الأعيان والإضافات على المستوى المجرد أو في العقل. عندما يتحدث عن "المعنى المضاف بذاته في هذا الموضوع" فإنه يقصد بالموضوع شيئا مخصوصا، وليس ضروريا أن يكون هذا الشيء المخصوص شيئا موجودا في الواقع. هذا مع العلم أن التمييز بين الإضافة في الأعيان والإضافة في العقل مسألة أساسية بالنسبة إليه.وهو إنما يحاول هنا التمييز بين (1) معنى الإضافة حين تكون وظيفته هي إقامة علاقة بين موضوع خاص (وليس من الضروري أن يكون هذا الموضوع من جملة الأشياء الموجودة في الواقع الخارجي) ينتمي إليه أو هو جزء منه، وبين شيء آخر؛ (2) ومعنى الإضافة باعتبارها كيانا مجردا له وجود كوجود الأبوة مثلا.
وهكذا، فعندما يتحدث ابن سينا عن الإضافة بالمعنى المجرد فإنما يقصد بذلك الإضافة باعتبارها كيانا موجودا في العقل. ولكنه لا يستبعد أن يكون لها وجود آخر، وهو "الوجود الخاص"، وهو ما عبر عنه بقوله: "فإن لكلأمر حقيقة هو بها ما هو فللمثلث حقيقة أنهمثلث، وللبياض حقيقة أنه بياض، وذلك هوالذي ربما سميناه الوجود الخاص، ولم نردبه معنى الوجود الإثباتي"(المقالة الأولى من كتاب الإلهيات، ص. 16). يمكن القول بعبارة أخرى إن التمييز هنا هو بين الإضافة R التي تنتمي إلى موضوع خاص حين تربط هذا الموضوع بموضوع آخر، من جهة، و R باعتبارها كيانا مجردا كالبياض مثلا. فصفة البياض هي عرض طارئ على R ، ومن هنا فإن كلا من R والصفة المجردة (الإضافة باعتبارها كيانا مجردا) يرتبط بعضهما ببعض. ولكن ارتباط كل واحد منهما بالآخر هو ارتباط ذاتي مباشر، بمعنى أن الارتباط لا يتم من خلال إضافة أخرى. يقول الشيخ الرئيس:
"فليكن هذا [لأبوة] عارضاً منالمضاف[ناشئ عن مضاف آخر بشكل عرضي] لزم المضاف [أي أنه يكون ملازما له]، وكل واحد منهما مضافلذاته إلى ما هو مضاف إليه بلا إضافة أخرى [كل واحد منهما يضاف إلى غيره إضافة ذاتية من غير أن يحتاج في ذلك إلى إضافة أخرى تربطه به].فالكون محمولاً مضاف لذاته [فكونه محمولا يعني أنه مضاف بذاته من غير واسطة]، والكونأبوة صارت مضافة لذاته. فإن نفس هذا الكون مضاف بذاته ليس يحتاج إلىإضافة أخرى يصير بهامضافا [أن يكون حال الموضوع هو الأبوة يعني أن الأبوة مضافة إليه بذاتها وليس عن طريق إضافة أخرى]، بل هو لذاته ماهية معقولة بالقياس إلى الموضوع [بمعنى أن حال الموضوع هو ماهية معقولة بالنظر إلى ذلك الموضوع] ، أيهو بحيث إذا عقلتماهيته كانت محتاجة إلى أن يحضر في الذهن شيئاً آخر يعقل هذابالقياس إليه [أي أن تعقل ماهيته يحتاج إلى وجود مفهوم في العقل تعقل بالقياس إليه]"
ومن هنا انتقل ابن سينا إلى تطبيق هذا التحليل على الإضافات المتعلقة بالأشياء الموجودة في الواقع ليبرهن على أن فرض وجود هذه الإضافات لا يستلزم القول بتدرجها وانحدارها إلى ما لا نهاية. يقول:
"بل إذاأخذ هذا مضافاً في الأعيان فهو موجود مع شيء آخر لذاته [مقترن به بذاته] لالمعية أخرى تتبعه [لا من خلال اقتران شيء آخر به]، بلنفسه نفس المع أو المعية المخصصة بنوع تلك الإضافة [اقتران يحمل خصائص تلك الإضافة]. فإذاعقل احتيج إلى أن يعقل معإحضار شيء آخر [فإذا عقل احتاج في تصوره لشيء آخر في العقل]، كما كانت [مثل ما هو الشأن بالنسبة لـ] ماهية الأبوة من حيث هيأبوة، فذاتها مضافة بذاتها لابإضافة أخرى رابطة، وللعقل أن يخترع أمراً بينها [بين الأبوة والشيء الذي تضاف إليه] كأنه معية خارجة منهما [علاقة اقتران توجد خارج كل واحد منهما] لا يضطرإليه نفس التصور [ليس في التصور في ذاته ما يجعله مضطرا إلى القيام به]، بل اعتبار آخر من الاعتباراتاللاحقة التي يفصلها العقل [باعتبارها من لواحق الأشياء بعد تصورها والتي يفعلها العقل]. فإن [لأن]العقل قد يقرن أشياء بأشياء لأنواع منالاعتبارات [تتعلق بكيفية تصور الأشياء] لا للضرورة، فأما [الأبوة] في نفسها فهيإضافة [فقط]، لا بإضافة [لا علاقة لها بأية إضافة أخرى] لأنها ماهية لذاتهاتعقل بالقياس إلى الغير"
ويواصل تحليله للبرهنة على أن الإضافات لا تنحدر إلى ما لا نهاية، فيقول:
"وههنا [هناك] إضافات كثيرةتلحق بعض الذوات لذاتها لا لإضافةأخرى عارضة [لا تلحق بها بفضل إضافة أخرى عارضة]، بل مثل ما يجري عليه الأمر من لحوقهذه الإضافة للإضافة الأبوية [على نحو ما يلحق هذا النوع من الإضافة بإضافة الأبوة].وذلك مثل لحوق الإضافة لهيئة العلم فإنها لا تكونلاحقة بإضافة أخرى في نفسالأمور [لا تلحق بالعلم كعلم من خلال إضافة أخرى ذات صلة بالأشياء المتعلقة بالعلم]، بل تلحقها لذاتها، وإن كان العقل ربما أخترعهناك إضافة أخرى"
فكما هو الحال في عالم المجردات حيث تلحق الإضافات بالذوات بذاتها من غير أن تحتاج في ذلك إلى إضافات أخرى، كذلك تلحق الإضافات في عالم الأعيان على ذلك النحو، حيث تكون كل إضافة زائدة من اختراع أو بناء العقل. ولكن ليست هناك ضرورة تلزم العقل باختراعها. ولذلك لا يلزم أن تتدرج الإضافات إلى ما لا نهاية. هذا بالإضافة إلى أن الإضافات التي يصنعها العقل من قبيل المجردات فحسب. وإذا كانت فرضية وجود الإضافات في الأعيان تستلزم تدرج الإضافات إلى ما لانهاية، مما يجعل الإضافات بالمعنى المجرد تتدرج بدورها إلى ما لا نهاية. لكن ابن سينا لا يقبل هذه النتيجة، فهو يختلف مع الفارابي الذي نحا في تعامله مع هذه المسألة منحا آخر. وأما رأي الفارابي في هذه المسألة فقد بسطه في كتاب الحروف، حيث ذهب إلى أن وجود الإضافات في الأعيان يستلزم بالضرورة تدرج الإضافات المجردة إلى ما لا نهاية، بينما يرى ابن سينا أنه ممكن وليس ضروريا، وكونه ممكنا لا يلغي نظرية وجود الإضافات في الأعيان. وهكذا، فرغم اتفاقهما في رفض مذهب القائلين باستحالة وجود الإضافات في الأعيان إلا أنهما تعاملا معها بطرق مختلفة. يقول ابن سينا في الجزء الأخير من رده على القائلين بتدرج الإضافات إلى ما نهاية:
" وإذ قدعرفت هذا فقد عرفت أن المضاف في الوجود موجود بمعنى أن لههذا الحد، وهذا الحدلا يوجب أن يكون المضاف في الوجود إلاّ عرضاً [و]إذا عقل كانبالصفة المذكورة [وفقا لتعريفه العام]، ولايوجب أن يكون أمراً قائم الذات واحداً واصلاً بين الشيئين"
عندما يقول ابن سينا إن "المضاف في الوجود موجود بمعنى أن له هذا الحد" فإنه يقصد بذلك تعريفه العام. وهذا التعريف يستلزم أن يكون المضاف عارضا للشيء، بحيث إذا تصوره العقل أضفى عليه الصفة المذكورة، ولا ينظر إليه باعتباره شيئا قائما بذاته يربط شيئا بشيء آخر. لنواصل معه تحليله لهذه المسألة:
"وأما القول بالقياس [تحديد ماهية المضاف
Partager cet article
Repost0
14 septembre 2006 4 14 /09 /septembre /2006 00:49
ملكات النفس الإنسانية ومستويات التجريد
في فلسفة ابن سينا
(الجزء الأول)
أحمد أغبال
يميز ابن سينا في النفس الإنسانية بين العقل النظري والعقل العملي. تكمن وظيفة العقل النظري في استقبال الصور المجردة الوافدة إليه من الخارج. يكون في البداية عبارة عن صفحة بيضاء، ثم تنطبع فيها صور المعقولات المجردة. يقول ابن سينا: " وأما القوة النظرية فهي قوة من شأنها أن تنطبع بالصور الكلية المجردة عن المادة. فإن كانت مجردة بذاتها فأخذها لصورتها...وإن لم تكن فإنها تصير مجردة بتجريدها إياها حتى لا يبقى فيها من علائق المادة شيء" (الشفا، ص. 48). يتميز العقل النظري، إذن، بالقدرة على استخلاص صور الموضوعات المادية بواسطة التجريد، من جهة، وبالقدرة على استقبال الصور المعقولة الخالصة الموجودة في عقل دائم الوجود بالفعل.
ويكون قبول الصور إما بالقوة أو الفعل. ويمر العقل النظري في سيره من القوة إلى الفعل بثلاث مراحل يكون له في كل مرحلة منها استعداد أكبر لاكتساب الفعل. ولبيان معاني القوة والاستعداد المرتبطة بمراحل الانتقال من القوة إلى الفعل وظف ابن سينا مثالا نموذجيا يتعلق بكيفية تعلم الطفل فن الكتابة، يبين هذا المثال مراتب الاستعداد والقابلية للتعلم وكيفية تدرجها من الاستعداد المطلق إلى الاستعداد الكامل، وهي على التوالي::
·        الاستعداد المطلق، وهو نوع من الاستعداد الخاص بالنفس التي لم يتحقق لها أي كمال من الكمالات الموجودة فيها بالقوة ولا تعقل أي شيء بالفعل لافتقارها إلى المعرفة بالفعل المراد اكتسابه والوسائل الضرورية لذلك مثلما هو الحال بالنسبة للطفل الذي يمتلك القدرة على اكتساب فعل الكتابة ولكنه لا يستطيع تحقيقه بسبب جهله بالحروف وعدم توفر أدوات الكتابة؛
·        الاستعداد النسبي، وهو قوة الاستعداد المتمثلة في إمكانية اكتساب الفعل عندما تتوفر الوسائل، فعندما تتوفر أدوات الكتابة والمعرفة بأشكال الحروف يكون للطفل استعداد أكبر لتعلم الكتابة؛
·        الاستعداد التام أو الكامل، وهو قوة الاستعداد المتمثلة في " قوة الملكة". تتجلى هذه القوة من خلال إتقان استعمال الوسائل الضرورية لتحقيق الفعل؛ وهي التي نجدها لدى الكاتب الذي يتقن الكتابة بحيث يمكنه أن يمارس نشاطه متى شاء كلما كانت لديه النية أو القصد.
وتتدرج عملية الانتقال من العقل بالقوة إلى العقل بالفعل بأربع مراحل:
·        العقل الهيولاني، وهو القاسم المشترك بين جميع أفراد النوع البشري. وهو عقل لا يعقل شيئا، لأنه موجود في كل فرد بالقوة، إنه عبارة عن استعداد مطلق.
·        العقل بالملكة أو العقل باعتباره قوة ممكنة، وهو العقل الذي حصلت له المعرفة بمبادئ القياس التي تتأسس عليها المعرفة. برى ابن سينا أن الانتقال إلى هذا المستوى يحصل عندما يكتسب العقل الهيولاني "المعقولات الأولى" وهي البديهيات أو مقدمات القياس التي تستعمل في الاستدلال والتي يتوصل انطلاقا منها وبواسطتها إلى المعقولات الثانية أو الصور المجردة. ولكنه يكتفي بخزن المعقولات الأولى في الذاكرة، ولا يرجع إليها ليطالعها ويتأملها بالفعل.
·        العقل بالفعل، ينتقل العقل إلى هذا المستوى عندما يتقن استعمال القياس، ويصبح قادرا على التفكير بذاته من غير أن يحتاج في ذلك إلى التعلم والاكتساب، فيعود إلى المعقولات الأولى ويتأملها، متى شاء بلا تكلف واكتساب، يعقلها ويعقل أنه يعقلها بالفعل. إن ما يميز هذا العقل هو قدرته على التفكير في الصور المتضمنة فيه وفي ذاته، حيث يحصل له الوعي بالذات، ويتحول إلى عقل بالفعل. ويجوز أن يسمى عقلا بالقوة بالقياس إلى العقل الذي يأتي بعده في الترتيب.
·        العقل المستفاد، وهو أرقى درجة من درجات العقل الإنساني. يصل العقل إلى هذا المستوى الرفيع بعد أن يحصل له الوعي بالذات بما تنطوي عليه من صور وما تقوم به من أفعال، فتنشأ القدرة على تقبل صور المعقولات الخالصة التي تتوافد عليه من الخارج. وللحصول على هذه الصور يفترض أن يكون هناك عقل مفارق دائم الوجود بالفعل ويشتمل على ما يسميه ابن سينا المعقولات الثانية في مقابل المعقولات الأولية المستمدة من الواقع المادي. لا يحصل الانتقال، إذن، من مستوى العقل بالفعل إلى مستوى العقل المستفاد إلا بسبب وجود عقل أسمى مفارق يكون دائما بالفعل، وهو العقل الفعال، يجعل منه موضوعا لتأملاته، ويستمد منه الصور المعقولة الخالصة فتنطبع فيه.
تلك هي مراتب العقول النظرية عند ابن سينا التي تمثل مختلف مستويات التجريد. وعندما يصل نمو العقل إلى مستوى العقل المستفاد يكون كل من الجنس الحيواني والنوع الإنساني قد تم ويلغ كماله، يقول ابن سينا: "وهناك تكون القوة الإنسانية تشبهت بالمبادئ الأولية للوجودكله".
تجد مثل هذا التصنيف لدى كل من الفارابي وألكسندر الأفروديسي، ولكن لا أحد منهما تحدث عن العقل بالملكة.
يمكن تعريف المعرفة في ضوء تصور ابن سينا لمراتب العقل الإنساني على أنها استقبال وتقبل الصور المجردة من المادة. فإذا كانت الصور التي يستقبلها العقل موجودة في عالم الأعيان فأنه لابد أن تختلف قيمة المعرفة باختلاف درجة التجريد. ولذلك يمكن التمييز بين أصناف المعرفة وفقا لهذا لمعيار. يلخص الرسم التالي نظرية المعرفة عند ابن سينا
Partager cet article
Repost0
12 septembre 2006 2 12 /09 /septembre /2006 22:39
تطور مفهوم النفس
من المعلم الأول إلى الشيخ الرئيس
أحمد أغبال
 
أخذ ابن سينا بتعريف أرسطو للنفس وحددها بأنها كمال البدن المركب من عناصر طبيعية. ولا يدل مفهوم النفس عنده على نظام البدن وانسجامه فحسب، بل هي جوهر قائم بذاته زائد على الجسمية ومتعال عليها. وبعد أن حدد ابن سينا مفهوم النفس، قام بوصف قواها التي تحرك الكائنات الحية كالنبات والحيوان والإنسان. فميز في النبات بين القوى المولدة والقوى الغاذية والقوى المنمية. فعندما يبلغ تركيب الجسم درجة عالية من الكمال يكون قادرا على استقبال النفس الحيوانية، فيكتسب القدرة على الحركة والإدراك. ولكن إدراك الحيوان يظل إدراكا حسيا مرتبطا بالأشياء المادية. وميز فيه بين نوعين: إدراك خارجي وإدراك داخلي. يتحقق الإدراك الخارجي من خلال انطباع صور الأشياء المادية في الحواس الخمس. وأما القوىالمدركة منباطن فمنها ما يدرك صور المحسوسات ومنها ما يدرك معاني المحسوسات:
"والفرق بين ادراك الصورة وإدراك المعنى أنالصورة هو الشيء الذي تدركه النفس الباطنة والحس الظاهر معاً؛ لكن الحس الظاهريدركه أولاً ويؤديه إلى النفس إدراك الشاة لصورة الذئب، أعني شكله وهيئته ولونه،فإننفس الشاة الباطنة تدركها، ويدركها أولاً حسها الظاهر. وأما المعنى فهو الشيءالذيتدركه النفس من المحسوس من غير أن يدركه الحس الظاهر أولاً، مثل إدراكالشاة معنىالمضاد في الذئب، وهو المعنى الموجب لخوفها إياه وهربها عنه من غيرأن يكون الحسيدرك ذلك البتة. فالذي يدرك من الذئب أولاً بالحس ثم القوى الباطنةهو الصورة والذيتدركه القوى الباطنة دون الحس فهو المعنى".
وميز ابن سينا في القوى المدركة من باطن بين عدة أنواع، يأتي الحس المشتركة والقوة الحافظة (الذاكرة) المرتبطة به في مقدمة هذه القوى. يقول ابن سينا: "واعلم أن القوة التي بهاالقبول [الحس المشترك] غير القوة التي بها الحفظ". للحيوان إذن قوة مدركة باطنة تسمى قوة فنطاسيا أو الحس المشترك، تتلقى الصور الحسية التي تنقلها إليها الحواس وتحفظها في ذاكرة خاصة تسمى قوة الخيال وتبقى فيها بعد غيبة المحسوسات.
ويلي ذلك القوة التيتسمى متخيلة بالقياس إلى النفس الحيوانية ومفكرة بالقياسإلى النفس الإنسانية، وهذه القوة تركب الصور المحفوظة في ملكة الخيال وتفصل بعضها عن بعض بحسب الاختيار. وهناك القوةالوهمية التي تدرك المعاني الغير المحسوسة الموجودةفي المحسوسات الجزئية "كالقوة الموجودة في الشاة الحاكمة بأن هذا الذئب مهروب عنه وأن هذا الولد هو المعطوف" (الشفا، ص. 45-46). ولهذه القوة ذاكرة خاصة بها تحفظ ماتدركه القوة الوهمية من المعاني الغير المحسوسة الموجودة فيالمحسوسات الجزئية. وتقعالقوة الحافظة من القوة الوهمية موقع القوة التيتسمى خيالاً من الحس. ونسبة تلك القوة إلى المعاني كنسبة هذه القوة إلى الصورالمحسوسة - فهذههي قوى النفس الحيوانية، ومن الحيوان ما يكون له الحواس الخمس كلهاومنه ما لهبعضها دون بعض..
وأما النفس الإنسانية الناطقة فتختلف عن النفس الحيوانية من حيث أنها منفصلة عن البدن في نظر ابن سينا. ويرى أرسطو خلاف ذلك، فهو يعتقد أن النفس مرتبطة بالبدن باعتبارها كماله الأساسي، توجد فيه مثلما يوجد الربان في السفينة، وتلعب دور المبدأ المنظم للبدن والذي لا ينفصل عنه. ليس للروح في نظر أرسطو نشاط مستقل عن البدن، لأن هذا الأخير يشارك النفس في نشاطها، ولا يمكن بالتالي أن يكون للنفس وجود مستقل عن وجود البدن. إن النفس عند أرسطو هي المبدأ الداخلي المنظم البدن والذي يمنحه تماسكه وانسجامه، وليست شيئا زائدا يحركه من الخارج. ففي تجربة الخوف والتفكير، مثلا، ليست النفس هي التي تخاف أو تفكر، بل الإنسان في كليته هو الذي يعيش تلك التجارب، وذلك على خلاف ما ذهب إليه أفلاطون. إن القول بأن النفس تخاف أو تفكر كالقول بأنها تلبس وتبني وما إلى ذلك. ومع ذلك نسب أرسطو المعرفة إلى النفس. والحقيقة أن لأرسطو آراء مختلفة ومتباينة حول مسألة العلاقة بين النفس والبدن، مما يدل على انه لم يتحرر نهائيا من آراء أفلاطون. فهو يرى مثل أستاذه أن البدن أداة تستعملها النفس. يذكرنا مقال الربان والسفينة الذي استخدمه لإيضاح العلاقة بين النفس والبدن بطريقة تفكير أفلاطون في معالجته لهذه المسألة. وهذا ما جعل شراح أرسطو من ذوي النزعة الأفلاطونية المحدثة يؤولون أفكار المعلم الأول وفقا لمبادئ المذهب الأفلاطوني، وهو ما يفسر أيضا محاولة ابن سينا للتوفيق بين الحكيمين.
ففي تفسيره لآراء أرسطو في النفس مال ألكسندر الأفروديسي إلى الرأي القائل بأن النفس هي صورة البدن، ترتبط به ارتباطا وثيقا ولا تنفصل عنه. ولكي يضفي الانسجام على نظرية أرسطو رفض رأي أفلاطون الذي يقول بأن للفكر سلطة على البدن، ومن ثمة رفض مثال الربان والسفينة الذي تسبب له في صعوبات كثيرة. وبدل أ يأخذ بفكرة الربان الذي يقود السفينة اكتفى بالحديث عن فن القيادة للتأكيد على فكرة أن النفس هي صورة البدن وليست شيئا عارضا له، إنها الجوهره الذي بدونه لن يكون هو هو. وما يدل على أن النفس جوهر وليست عرضا كونها قابلة لأن تلحق بها صفات متعارضة، وهذه خاصية من خصائص الجوهر. ويعتبر هذا الدليل هو أول دليل معروف في تاريخ الفلسفة لإثبات الطبيعة الجوهرية للنفس. وسنجده بتردد لدى الفلاسفة السكولائيين الذي جاءوا بعد ألكسندر رغم. صعوبة التوفيق بين كون النفس صورة البدن وكونها جوهرا يقبل صفات متباينة ومتعارضة.
إن الفكرة التي تقول بأن النفس جوهر لامادي مفارق وخالد هي فكرة أفلوطينية بحتة. وما طرح أفلوطين هذه الفكرة إلا لإيجاد حل لمسألة العلاقة بين النفس والبدن، ولكنه لم يقدم أي دليل مقنع لإثبات هذه العلاقة، وإنما اكتفى بالإثبات بالسلب، حيث قال إن النفس لا توجد في البدن مثلما يوجد الربان في السفينة، وأنها لا ترتبط بالبدن مثلما ترتبط الصورة بالمادة وأضاف قائلا على سبيل المثال إن وجود الروح في البدن كوجود النور في الفضاء. وأما الدليل الذي يقوم عليه اعتراضه على أرسطو، الذي اعتبر النفس كمال البدن، فهو أن النفس لو كانت كمال البدن لكان من الممكن تجزيئها مثلما يجزأ البدن. فإذا كان البدن قابلا للتجزيء فإن النفس في اعتقاده لا تتجزأ. ولكن نظرية أفلوطين لا تساعد على تعقل الميولات المتعارضة في النفس والتي تشهد التجارب الإنسانية على وجودها. هذا من جهة، وأما إذا نظرنا على الأمور من منظور أرسطو، واعتبرتا النفس كمال البدن، فإننا لا ندري كيف يمكن لهذه النفس أن تدرك المعقولات. وهذه الصعوبة هي التي دفعت الفلاسفة المشائين إلى افتراض وجود نفس أخرى متعالية. ولكن افتراض وجود هذه النفس طرح من جديد مسألة العلاقة بين النفس والبدن، خاصة وأن مثال الربان والسفينة لا يبين لماذا توجد النفس على الدوام في البدن. وعندما حاول أفلوطين إيجاد حل لهذه المعضلة وقع في النظرة الثنائية إلى الأمور، حيث ذهب إلى أن النفس المتعالية هي محل المعرفة وخالية من الانفعال على عكس النفس المرتبطة بالبدن، ومن ثمة ميز بين نفس دنيا مرتبطة بالبدن تشاركه انفعالاته، ونفس متعالية لا تتأثر بانفعالات البدن. نجد مثل هذا التصور لدى سمبليسيوس الذي ميز بين مبدأ روحي متعالي ومبدأ روحي محايث. ومن هذا المنطلق قام بدمج التصور الأفلاطوني للنفس في المذهب الأرسطي. وبذلك أمكن القول بأن أفعال النفس المحايثة لا تنفصل عن البدن، وأما النفس باعتبارها جوهرا فهي مفارقة للبدن، مثل الربان الذي يتمتع بوجود قائم بذاته منفصل عن السفينة ولكن أفعاله سارية فيها ولا تنفصل عنها.
ذكر ابن سينا في بداية كتاب الشفا أن النفس صورة أو جوهر لامادي، واستعرض في بداية المقالة الأولى من هذا الكتاب ثلاثة مفاهيم ذات صلة بتعريف النفس وهي: الصورة والكمال والجوهر. ونظر إلى في النفس باعتبارها صورة البدن التي تدل على كمال النوع. فالصورة هي كمال للكائن الحي، ذلك الكمال الذي يجعله ينتمي إلى نوع معين من أنواع الكائنات. ومع ذلك يمكن التمييز بين مفهوم الصورة ومفهوم الكمال، من حيث أن المفهوم الثاني أكثر اتساعا من المفهوم الأول، لأن بعض الكائنات تكون أكثر كمالا من غيرها دون أن تكون في حاجة إلى احتواء صورتها، ذلك لأن الصورة جوهر مفارق، كقولنا: الربان هو كمال السفينة والملك كمال الدولة. وهكذا فبما أن بعض النفوس ليست صورا مرتبطة بالأشياء، بل صورا مفارقة لها، وجب تعريف النفس بأنها كمال البدن لا صورته. وإذا سلمنا بهذا التعريف فإنه يمكن التمييز في الكمال بين معنيين: الكمال بوصفه علاقة تربط النفس بالبدن، والكمال بوصفه صورة أو جوهرا قائما بذاته. وهكذا، فإن القول بأن النفس كمال البدن لا يتضمن القول بالضرورة بأنها جوهر قائم بذاته. لأننا نظر هنا إلى النفس في علاقتها بالبدن ولا ننظر إليها باعتبارها كيانا قائما بذاته. إن الكمال هنا هو مفهوم يدل على العلاقة بين النفس والبدن، مثل قولنا إن فلان بناء، فإن تعريف البناء يشمل البناية، ولكن هذا التعريف لا يخبرنا عن طبيعة البناء في حد ذاته، هل هو جوهر أم لا.
وبعد أن اتضحت لنا طبيعة النفس في علاقتها بالبدن باعتبارها كماله، بقي أن نعرف ما إذا كانت النفس جوهرا أم لا، ولتحقيق هذا الهدف يجب أن نقوم أولا بتعريف الجوهر من وجهة نظر الشيخ الرئيس. يرى ابن سينا أنه لكي يكون الشيء جوهرا يجب أن يتوفر فيه شرطان: (1) أن لا يكون عرضا يلحق بالشيء (2)؛ وأن يكون له وجود قائم بذاته مستقل عن أي شيء آخر. لنطبق هذين المعيارين على الإنسان، ولنفترض مع ابن سينا إنسانا خلق في الفراغ أو معلقا في الفضاء، لا يلامس شيئا ولا تلامس أعضاء جسمه بعضها البعض؛ لا يمكن لهذا الرجل لن يعترف بوجود أي موضوع خارجي، ولا حتى أن يدرك بدنه. فلا العالم الخارجي موجود بالنسبة إليه ولا البدن. الشيء الوحيد الذي يوجد بالنسبة إليه هو النفس التي ليس لها امتداد في الطول ولا في العرض ولا في العمق. وهذا هو دليل ابن سينا على استقلال الروح عن البدن، وعلى أنها جوهر لامادي قائم بذاته يمكن إدراكه أو الوعي به بطريقة مباشرة فورية أو عن طريق الحدس. وأما القول بأن النفس هي كمال البدن فإنما يدل على علاقة النفس بالبدن لا على حقيقة النفس ذاتها. إن النفس باعتبارها جوهرا هي كيان قائم بذاته في استقلال عن أي شيء آخر، وليست عرضا من الأعراض المضافة إلى البدن.
وهكذا، فبعد أن دحض ابن سينا كلا من التصور المادي والتصور الرياضي للروح انبرى للبرهنة على أن الروح جوهر لامادي قائم بذاته، وخلص إلى أن النفس الإنسانية وحدها هي التي تتمتع بهذا الوجود الجوهري، وأما النفس النباتية والنفس الحيوانية فلا يمكن تصورهما بمعزل عن الجسم. ومع ذلك نجده يميل في نهاية التحليل إلى الاعتقاد بأن النفس النباتية والنفس الحيوانية جواهر مستقلة قائمة بذاتها مثل النفس الإنسانية. واستدل على ذلك بقوله إن كل جسم كيف ما كان نوعه لا يوجد في استقلال عن النفس التي تمنحه الصورة التي يصنف بمقتضاها ضمن نوع معين من أنواع الكائنات (حصان، إنسان..) وإذا كان الجسم لا يوجد في استقلال عن النفس، فإنه يمكن القول بأن النفس هي جوهره. يدل مفهوم الجوهر هنا على الخصائص التي تميزه عن غيره. وإذا كان الأمر كذلك فإنه لا يجوز اعتبار النفس من اللواحق العارضة للجسم. يبدو أن ابن سينا قد تغافل عن الفرق الموجود بين مفهوم الجوهر الذي يدل على الشيء القائم بذاته، الموجود في استقلال عن غيره، وبين مفهوم الجوهر باعتباره مجموع الخصائص التي تميز بعض الأشياء عن غيرها وتجعلها تنتمي إلى نوع معين من أنواع الكائنات. وتجدر الإشارة هنا إلى أن المعلم الأول كان قد وقع في هذا الخلط.
ولقد حاول ابن سينا البرهنة على خلود النفس، ومن أدلته على ذلك أن علاقة النفس بالبدن ليست علاقة سببية، وبالتالي فإن العلاقة بينهما ليست ضرورية، وإذا كان الأمر كذلك، فإن فناء البدن لن يؤدي إلى فناء النفس. وبما أن النفس قائمة بذاتها ومستقلة عن البدن، فإنه لابد أن تكون خالدة. والدليل الثاني هو أن النفس بسيطة والبدن مركب، والبسيط لا يفنى بينما ينحل الجسم المركب ويفنى.
ولقد ظل الغموض يكتنف مفهوم النفس عند ابن سينا بسبب استعمالاته المختلفة. فعندما يعرف النفس بأنها جوهر لامادي، فإنه كثيرا ما يفهم من هذا التعريف أن النفس ليست شيئا آخر غير العقل. باعتباره وحدة أو كلية أو مبدأ واحدا. فعندما تقوم ملكة من الملكات العقلية بفعل ما فإن النفس تشتغل باعتبارها كلية، تعقل وتعقل أنها تعقل في نفس الوقت. وبذلك يكون ابن سينا قد جعل من النفس أساس كل تجربة شعورية أو فكرية، إنها التعبير عن الوعي بالذات. فعندما يحدث شيء ما في ذهن الإنسان ووجدانه فإنه يميل إلى التعبير عن حالاته الشعورية من خلال استعمال ضمير المتكلم "أنا". لقد ذهب ابن سينا في تصوره لنشاط النفس إلى ابعد مما ذهب إليه أرسطو، و&
Partager cet article
Repost0
12 septembre 2006 2 12 /09 /septembre /2006 20:50
الميتافيزيقا الديكارتية
بين اللاهوت والنزعة الإنسية
(الجزء الثاني)
أحمد أغبال
ويقول ديكارت إنه ليس له أن يتأسف على أن الله لم يمنحه كمالا أكبر، بل إن عليه أن يشكره على أنه منحه القدرة على تعليق الحكم كلما كانت المعرفة غير واضحة وغير متميزة. وهنا يكمن الكمال الإنساني الأكبر في نظره، يقول بالحرف الواحد في نهاية الجزء الرابع من التأملات: "إنه أكبر كمال إنساني" «c’est la plus grande perfection de l’homme»، أو لنقل إنه الحد الأقصى من الكمال الذي هو كمال بالنسبة للإنسان لا بالنسبة لله ولا حتى بالنسبة للملائكة. لم تأخذ هذه الجملة بعين الاعتبار في التأويلات الأحادية الجانب للميتافيزيقا الديكارتية، فاختزلتها إلى مجرد كونها شكلا من أشكال اللاهوت السكولائي.
 ويتجلى كمال الإنسان أيضا في كمال قدراته. يقول ديكارت في الجزء الرابع من التأملات إن الإنسان رغم كونه مخلوق متناهي فإنه يتوفر على ملكات تتصف بنوع من الكمال الخاص بالنوع الإنساني، وهي فكرة جريئة بالنظر إلى ظروف العصر الذي عاش فيه ديكارت. وتجدر الإشارة هنا إلى أن ديكارت لا يستخدم مفهوم التناهي بالمعنى اللاهوتي الذي يدل على الطبيعة الشريرة للإنسان، والذي يتنافى بالتالي مع فكرة الكمال النسبي. كما أنه لا يستخدم مفهوم الكمال الإنساني بالمعنى الأنطلوجي الذي يدل على أن الإنسان هو أرقى المخلوقات جميعا، وهو ما يدل عليه معنى قوله في التأملات الرابعة إنه لا يحق له أن يشتكي من كون الله عندما خلقه لم ينزله في منزلة الكائنات الأكثر نبلا وكمالا، ونجد نفس الفكرة في رسالته إلى إليزابيت Elisabeth بتاريخ 15 شتنبر 1645، وهي فكرة تنسجم مع التصور الكوبيرنيكي للكون الذي لم يعد الإنسان يحتل فيه مكانة مركزية. وبقدر ما تنسجم مع التصور الكوبيرنيكي بقدر ما تتعارض مع التصور اللاهوتي الذي يجعل من الإنسان أسمى المخلوقات جميعا. يقول في الرسالة المشار إليها: "وبدل أن ننشغل بمعرفة الكمالات التي توجد فينا بالفعل، ننسب للمخلوقات الأخرى النواقص التي لا توجد فيها لكي نسمو فوقها" يتحدد مفهوم التناهي ،إذن، في علاقته بفكرة الكمال الإنساني، من حيث أن السعي إلى تحقيق أقصى درجة ممكنة من الكمال يتطلب الوعي بمواطن الضعف التي توقعنا في الخطأ. مما يدل على أن الإنسان لا يمثل أرقى الكائنات الموجودة في الكون.
وإذا كان في الإنسان شيء ما لامتناهي فهو الإرادة، تلك " الإرادة الكاملة المطلقة" حسب تعبير ديكارت نفسه في حواره مع Burman ولابد من الاعتراف هنا بأن هذه الفكرة تطرح مشكلة عويصة فيما يتعلق بتأويل "التأملات". كيف يمكن الحديث عن تناهي الإنسان إذا كانت إرادته مطلقة ولا متناهية ؟ كيف يمكن الجمع بين تناهي العقل ولاتناهي الإرادة لدى الإنسان ؟
يتجلى تناهي العقل الإنساني في عدم قدرته على فهم الله أو على فهم غايته من خلق العالم. ولكن انعدام القدرة على فهمه لا يعني استحالة معرفته. فقد يرهن ديكارت على وجود الله قبل أن يثبت وجوده هو ووجود العالم. ولذلك يقول بأن معرفة الله أيسر إليه من معرفة العالم. تكمن حدود العقل من وجهة النظر هذه في انعدام القدرة على فهم المطلق، لا في العجز على معرفته كما يقول كانط. إن فكرة الله في نظر ديكارت هي أكثر الأفكار وضوحا وتميزا. فإذا كان من خصائص المطلق أنه مستغلق على الفهم لمن نظر إليه، فإن معرفته، في المقابل، أيسر إليه من معرفة نفسه.
يدل مفهوم الكمال الإنساني على نمط تفكير يرتكز على الإيمان بقدرة الإنسان على معرفة الحقيقة اليقينية بالاعتماد على قدراته الطبيعية، ومما يدل على ذلك تأكيده في مناسبات كثيرة على أن سبب الأخطاء التي نرتكبها لا يرجع إلى وجود نقص في طبيعتنا الإنسانية ولكن إلى سوء استعمال قدراتنا العقلية وإرادتنا وحريتنا.   
ويجب الاعتراف مع ذلك بأن مسألة العلاقة بين الميتافيزيقا والأخلاق عند ديكارت مسألة حساسة للغاية، فقد كانت ولا تزال موضوع خلاف لم يحسم بعد. يرى Ferdinand Alquié، مثلا ، أن الفلسفة الأخلاقية عند ديكارت هي "شيء مضاف من الخارج إلى فلسفته". ونقل عنه Martial Gueroult، الذي دعم رأيه في هذه المسألة، قوله إنها نمت "خارج نسق" التأملات. قد يرجع السبب في اتخاذهما لهذا الموقف إلى عدم انتباه أي واحد منهما إلى فكرة "الكمال الإنساني الأساسي" وعدم تقديرهما للمكانة التي تحتلها في نسق التأملات. وإذا أمعنا النظر في هذه الفكرة تبين لنا مدى ارتباطها بفكرة وحدة الكائن الإنساني ومبدأ التمييز بين الروح والجسد. ولبيان هذه العلاقة يتعين علينا تحليل أسس الميتافيزيقا الديكارتية في أفق تحديد المكانة التي يحتلها الإنسان في فلسفة ديكارت.
ذكر ديكارت في رسالتين لأليزابيت بتاريخ 21 مايو و 28 يونيو من عام 1643- واللتان يمكن اعتبارهما بمثابة ملخص مركز لنتائج "التأملات"- أن فلسفته الميتافيزيقية تقوم على أساس ثلاثة مفاهيم أولية، تمثل في نظره النماذج الأصلية التي تقوم عليها كل معرفة إنسانية وهي المفاهيم التي لدينا عن الروح والجسد والعلاقة بين الروح والجسد: يتعلق المفهوم الأول بتصورنا للروح، ويشمل العقل والإدراك الحسي والإرادة ومختلف النوازع الانفعالية؛ ويتعلق المفهوم الثاني بتصورنا للجسم، وهو مفهوم الامتداد الذي تُرَد إليه أشكال الأجسام وهيئتها وحركتها؛ ويتعلق المفهوم الثالث بالعلاقة بين الروح والبدن، وهو مفهوم الوحدة التي تتجلى من خلال قدرة الروح على تحريك البدن، وقدرة البدن على التأثير في الروح وإثارة انفعالاتها. ونظرا لكون هذه المفاهيم أولية وبسيطة فإنه لا يمكن، في نظر ديكارت، تفسير بعضها بالبعض الآخر ولا إرجاع بعضها إلى البعض الآخر، على اعتبار أن كل مفهوم من هذه المفاهيم الثلاث نتأصل في النفس الإنسانية وليس مشتقا من غيره، ولذلك وجب استعمال كل مفهوم في المجال الخاص به. ويرى ديكارت أن هذه المفاهيم تدرك بطرق مختلفة: فالروح لا يمكن معرفتها إلا عن طريق العقل وحده، بينما يمكن معرفة الجسم بواسطة العقل والمخيلة معا وإن كانت معرفته بالمخيلة أحسن. وأما وحدة الروح والبدن فإن خير وسيلة للإحاطة بها هي الملكات الحسية.
ولابد من الإشارة هنا إلى وجود قراءات مختلفة لمضمون هذه الرسائل. يرى بعض المحللين أن مفهوم الإنسان جاء في المرتبة الثالثة بعد مفهوم الذات المفكرة ومفهوم الامتداد، وربما احتل المرتبة الرابعة إذا أخذنا بعين الاعتبار مفهوما آخر أكثر بدائية من المفاهيم الأولية الأخرى، وهو مفهوم الله، الذي يعتبر بداية كل شيء في الفلسفة الديكارتية. وذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن مفهوم الإنسان هو مفهوم مركب يجمع بين مفهوم الروح ومفهوم البدن. ولذلك اعتبروا مفهوم الإنسان، الذي هو وحدة الروح والبدن، مفهوما مشتقا وليس مفهوما أوليا. ومما يترتب عن ذلك أن الفلسفة الديكارتية ليست فلسفة إنسانية بالأساس، بل يمكن تصنيفها ضمن الفلسفات ذات النزعة المضادة للإنسان anti-humanisme، والمقصود بذلك الفلسفات التي لا تجعل من فكرة الإنسان مبدأها الأول، وتكون بذلك أقرب إلى اللاهوت منها إلى الفلسفة. 
وتنطلق القراءة الثانية من ملاحظة مفادها أنه ليس في منطوق الرسالتين ما يدل على أن مفهوم الإنسان باعتباره وحدة الروح والجسد مشتق من مفهوم الروح ومفهوم البدن. ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن ديكارت حسم في الأمر ولم يترك الباب مفتوحا للتأويل حين صرح بأن كل واحد من المفاهيم الثلاث (الفكر والامتداد ووحدة الروح والبدن) هو مفهوم أولي ولا يمكن فهمه بالتالي إلا بالانطلاق منه هو ذاته وليس من غيره، وبأن إدراك كل مفهوم يتطلب طريقة خاصة، ولا يمكن إذراك مضمونه الدلالي من خلال إجراء مقارنة بينه وبين المفاهيم الأخرى. وعليه، فإن إدراك حقيقة الإنسان باعتباره وحدة الروح والجسد لا يشترط مسبقا توفر المعرفة الواضحة المتميزة بكل من الروح والجسد، ذلك لأن مفهوم الإنسان ليس مزيجا من الروح والمادة، ولكنه وحدة أو كلية تمثل واقعا قائما بذاته. ومع ذلك يمكن للعقل أن يميز في هذه الوحدة أو الكلية على سبيل التجريد بين الروح والجسد. ومن ثمة أمكن القول بأن مفهوم الإنسان هو من المفاهيم الأولية الأساسية التي تقوم عليها الميتافيزيقا الديكارتية وبأن الفلسفة الديكارتية هي من حيث العمق فلسفة إنسانية.
وتتجلى نزعتها الإنسانية في تركيزها على فكرة الكمال الإنساني التي تميزها تمييزا واضحا عن اللاهوت. ولكن إيمان ديكارت بفكرة الكمال الإنساني جلبت عليه سخط رجال الدين وعلماء اللاهوت من السكولائيين الذين تسببوا له في متاعب كثيرة.
لم تكتمل هذه الدراسة بعد.
المرجو ممن يستشهد بفقرة منها أن يشير إلى مصدرها وفقا لما هو متعارف عليه في الأوساط الأكاديمية.  
 
Partager cet article
Repost0
12 septembre 2006 2 12 /09 /septembre /2006 20:34
الميتافيزيقا الديكارتية
بين اللاهوت والنزعة الإنسية
أحمد أغبال
هل توجد قطيعة بين فلسفة ديكارت وفلسفة النهضة ؟ لازالت هذه المسألة محط خلاف بين الباحثين المختصين في دراسة التراث الديكارتي ومؤرخي الفلسفة إلى اليوم. يرى Henri Gouhier و Etienne Gilson أن ديكارت أحدث قطيعة مع فلسفة النهضة، وذهب Etienne Gilson إلى حد القول بأن ديكارت وضع حدا لمغامرات عصر النهضة، ووصفه Henri Gouhier بأنه يمثل نقيض النهضة "Anti-Renaissance"، واستدل على ذلك بما ورد في رسالة كتبها ديكارت إلى Beeckmann ندد فيها بالفلسفةالطبيعية لبعض الفلاسفة من المجددين في عصر النهضة. ومهما كان تأويل هذه الرسالة فإنه من الممكن مد الجسور بين فلسفة ديكارت والفلسفة الإنسية التي كانت قد بدأت تتشكل في فرنسا خلال عصر النهضة على يد كل من Sibiuda و Bovelles و Charronمن خلال مراجعة المشروع الفلسفي الديكارتي.
والحقيقة أن مشروع ديكارت الذي بلوره مند مارس 1636 والدي يهدف إلى تأسيس علم ذو صلاحية كونية قادر على الارتقاء بالطبيعة الإنسانية إلى أعلى درجات الكمال، هو امتداد لفلسفة النهضة التي كانت تسير في اتجاه الفصل بين الفلسفة واللاهوت والربط بين العلم والحكمة، والابتعاد عن اللاهوت السكولائي الذي جعل من الميتافيزيقا علما تأمليا لا تربطه أية صلة بالحكمة الإنسانية، وذلك على عكس ما نجده لدى أرسطو الذي استهل المقالة الأولى من الميتافيزيقا برسم صورة جميلة للحكيم. لقد جاء مشروع ديكارت كرد فعل ليس فقط ضد الفصل بين العلم والحكمة، بل جاء أيضا كرد فعل ضد الفصل بين الفلسفة الطبيعية والأخلاقية وبين الميتافيزيقا.
تعتبر مسالة العلاقة بين الفلسفة الأخلاقية والميتافيزيقا من المسائل الأساسية في الفلسفة الديكارتية. فقد كان مشروع ديكارت في ألأصل مشروعا للتركيب بين مختلف أبعاد الإنسان المعرفية والأخلاقية والوجودية. ولكنه اصطدم بعراقيل وصعوبات لها علاقة بالمناخ الثقافي العام ووضعية العلوم في زمانه، ولذلك جاءت مقالته في المنهج مقسمة على ثلاثة محاور أساسية وهي: قواعد المنهج، قواعد الأخلاق والتأملات أو الميتافيزيقا.. يمكن النظر إلى هذه المحاور على أنها مترابطة فيما بينها باعتبارها تمثل مختلف مجالات العلم الكوني الذي كان يطمح إلى تأسيسه، ومع أن ديكارت لم يعبر بشكل صريح عن العلاقة التي تربط المجالات الثلاث بعضها ببعض فإن هذه العلاقة موجودة بالفعل، وبإمكان الباحث أن يكشف عنها من خلال الوقوف على مقاصد الفيلسوف وتجربته في الحياة كما تتراءى من خلال كتاباته الفلسفية التي ليست غريبة عن فن السيرة الذهنية، ومن خلال الكشف عن المصادرات الأساسية التي يقوم عليها نسق تأملاته الميتافيزيقية.
يبدو من خلال قراءة "التأملات" أن هناك علاقة عضوية بين الميتافيزيقا وفلسفة الأخلاق لدى ديكارت. وتمثل فكرة الكمال الإنساني في اعتقادنا المبدأ المنظم الذي يربط مختلف مجالات الفلسفة الديكارتية بعضها ببعض.. نجد هذه الفكرة في كتاباته الأساسية وخاصة في التأملات الميتافيزيقة. يقول في نهاية التأملات الرابعة إن الله منحني الحرية لإصدار الحكم أو تعليقه عندما يتعلق الأمر بالأشياء التي لا توجد لدي عنها فكرة واضحة ومتميزة. وإذا كان من الممكن أن أخطأ، فإن السبب في ذلك يرجع إلى وجود نقص في يتعلق بسوء استعمال الإرادة والتسرع في إصدار الأحكام في القضايا التي لا زال يكتنفها الغموض في ذهني. وإذا كان الله لم يمنحني فضيلة العصمة التي يتوقف وجودها على المعرفة الواضحة المتميزة بكل الأمور التي يمكنني البت فيها،فإنه منحني على الأقل الوسيلة الأخرى المتمثلة في حرية الامتناع عن إصدار أي حكم على الأشياء التي لا أعرف حقيقتها معرفة يقينية. وهاهنا بالذات يكمن "الكمال الأساسي للإنسان" المتمثل في حرية الإرادة والاختيار.
وهكذا، فإن ما يعصم الإنسان من الوقوع في الزلل فهو حرية الإرادة والاختيار وحسن استعمالها. يشمل الكمال الإنساني بهذا المعنى القدرة على اكتساب المعرفة اليقينية وحسن استعمال الإرادة والحرية باعتباره أساس الأخلاق الفاضلة. ولذلك يمكن أن نجعل من فكرة الكمال الإنساني المبدأ الأساسي الأول الذي تقوم عليه كل من الفلسفة الميتافيزيقية والفلسفة الأخلاقية عند ديكارت. ومن هنا تتبين العلاقة بين الميتافيزيقا والأخلاق في الفلسفة الديكارتية، فهما مترابطان في الأصل، بمعنى أنهما بنيا على أساس واحد أو أن لهما جذر واحد، وهو الإيمان بقدرة الإنسان على الارتقاء في مراتب الكمال.
وترجع جذور فكرة الكمال الإنساني إلى ما قبل عصر النهضة، وتبلورت بشكل واضح في الساحة الثقافية الأوروبية من القرن الثالث عشر بعد أن تمت ترجمة شروح ابن رشد على طبيعيات أرسطو إلى اللغة اللاتينية. وارتبطت هذه الفكرة آنذاك بدراسة العلوم التأملية، حيث بدأ بعض المفكرين يميلون أكثر فأكثر إلى الاعتقاد بأن تحصيل هذه العلوم يساعد الإنسان على اكتساب مزيد من الكمال. ولكنها تعرضت لانتقادات رجال الدين الذين نددوا بها باعتبارها مناقضة لتعاليم الديانة المسيحية التي تقول بسقوط الإنسان إلى الدرك الأسفل وبالرحمة الإلهية، وذلك على اعتبار أن فكرة الكمال الإنساني تفترض إمكانية الخلاص خارج نطاق الدين. ورغم مقاومة رجال الدين لهذه الفكرة في العصر الوسيط المتأخر فإنها انتقلت إلى فلاسفة عصر النهضة، ولكنا تسببت لهم في الكثير من المتاعب. وإذا كان طوماس الإكويني قد أخذ بفكرة الكمال الإنساني، فإنه أكسبها مدلولا آخر ينسجم مع التعاليم الدينية: يكتسب الإنسان مزيدا من الكمال في نظره لا من خلال تحصيل العلوم التأملية ولكن من خلال تأمل الذات الإلهية، ولا ينال هذه النعمة إلا من كتبت لع السعادة في الحياة الأخرى. يدل ذلك على استحالة ارتقاء الإنسان المذنب إلى مراتب الكمال العليا في الحياة الدنيا. إن الإنسان في نظر رجال الدين عاجز عجزا راديكاليا عن معرفة أي شيء من الأمور المتعلقة بالذات الإلهية، وأصبحت له في اللاهوت المسيحي، على الأقل منذ Duns Scot، صورة المسافر الشقي البعيد كل البعد عن السعادة الأخروية، ولم يعد بوسعه وهو في رحلته الدنيوية إلا أن يطلب الرحمة الإلهية.  ولذلك حرّموا الأخذ بفكرة الكمال الإنساني. ولسوف يعاني ديكارت بدوره من هذا القرار الكنسي.
ولقد أدى قرار التحريم إلى تغييب الإنسان من حقل الممارسة الفكرية طوال فترة مديدة. ولكن بعض فلاسفة عصر النهضة ممن كانت لهم الشجاعة الكافية للأخذ بفكرة الكمال الإنساني، من أمثال Sibiuda و Bovelles و Charron، أعادوا إليه المكانة التي يستحقها في عالم الفكر، ومن ثمة انتقلت الفكرة إلى ديكارت لتأخذ أبعادا ودلالات جديدة، حيث جعل منها المبدأ الأساسي الذي تقوم عليه محاولته التركيبية، وهو ما يدل عليه حضورها القوي في القسم الرابع من تأملاته الميتافيزيقة.
ولعل ما صرف اهتمام الدارسين لفلسفة ديكارت بهذه الفكرة ومكانتها في نسق التأملات هو طغيان النظرة الأحادية الجانب إلى التراث الديكارتي، مما أدى في نظر بعض المحللين إلى هيمنة تأويل واحد في الفلسفة المعاصرة وهو تأويل هايدجر الذي اختزل الميتافيزيقا الديكارتية إلى مجرد كونها امتدادا للمذاهب اللاهوتية السكولائية، وما يدل على ذلك، في نظره، هو ارتكازها على فكرة تناهي الوجود الإنساني التي تنطوي على فكرة الخطيئة والذنب. ففي دراسته لمراحل تطور مفهوم الأنطلوجيا المتضمنة في أحد الدروس التي ألقاها عام 1927، ذكر هايدجر أن ديكارت أخد مفاهيمه الأنطلوجية الأساسية مباشرة عن سواريز وسكوت وطوماس الإكويني، دون أن يقدم أي دليل على ذلك، وأضاف إلى ذلك قوله إن الميتافيزيقا القروسطوية ليست شيئا آخر غير اللاهوت، ومن ثمة تم سحب هذا الحكم على الميتافيزيقا الديكارتية، وما زال يتردد صداه إلى البوم.
لاشك في أن الفلسفة الديكارتية لا تستبعد فكرة النتاهي، ولكن هذه الفكرة ليس لها معنى سلبيا في هذه الفلسفة، بمعنى أنها لا تلغي إمكانية بلوغ الإنسان أقصى درجات الكمال. إن الارتقاء في مراتب الكمال يتحقق بشكل تدريجي، ولكنه يسير في اتجاه اللامتناهي. وهذه الحركة اللامتناهية في اتجاه الكمال هي الدليل على أن الإنسان، في نظر ديكارت، لا يمكنه أن يكون لا متناهيا، لأن اللامتناهي لا ينقصه شيء، ولذلك لا يحتاج إلى الحركة والنمو والتطور. ولكن اللامتناهي الثابت الإيجابي ليس نقيضا من حيث إيجابيته للمتناهي المتحرك، فالنمو والارتقاء هو شيء إيجابي، إنه كمال إنساني. إن المتناهي في هذه الحالة إيجابي وليس سلبيا. وتكمن إيجابيته وكماله الأساسي في امتلاكه للإرادة والحرية. يتجلى ذلك بوضوح في التأملات الرابعة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. فالإنسان في نظر ديكارت حر في أن يختار تعليق الحكم كلما كانت المعرفة الواضحة المتميزة بحقيقة الأشياء التي يضطر إلى البت فيها غير متوفرة بعد. إن القدرة على تعليق الحكم تجعلنا أكثر كمالا رغم كوننا كائنات متناهية. هذه هي الأطروحة الأساسية المتضمنة في التأملات الرابعة.
Partager cet article
Repost0

Recherche

Archives

&Amp;#1593;&Amp;#1606;&Amp;#1575;&Amp;#1608;&Amp;#1610;&Amp;#1606; &Amp;#1575;&Amp;#1604;&Amp;#1605;&Amp;#1602;&Amp;#1575;&Amp;#1604;&Amp;#1575;&Amp;#1578;

دروس في الفلسفة

Liens