21 septembre 2006
4
21
/09
/septembre
/2006
12:53
قراءة في أوراق عبد الله العروي
أحمد أغبال
(الجزء الثالث)
سبقت الإشارة إلى أن شوبنهور رفض مبدأ الواجب الأخلاقي الكانطي. تخلى عنه نتشه بدوره وأحل محله مبدأ الضرورة. نجد في الرواية ما يشير إلى استنكاف العروي من مبدأ الواجب الأخلاقي ودعوته إلى فصل الأخلاق عن التاريخ والسياسة. جاء على لسان الراوي أن إدريس مال إلى مهنة التدريس تحت تأثير أحد أساتذته، تعرف على حقيقة هذه المهنة من خلال مشاهدة فلم بعنوان: «وداعا مستر شبس»، وحصل له الامتعاض من مهنة يحكمها مبدأ الواجب. عبر مستر شبس في خطبة الوداع عن حقيقة هذه المهنة بقوله: «قم بواجبك ولا تنتظر أية مكافأة »، وكان رد فعل إدريس: «لن أكون أستاذا أبدا، إنها مهنة حقيرة».
يولد الإيمان بمبدأ الواجب الشعور بالمسؤولية. لم يكن إدريس مسؤولا تمام المسؤولية و«يلقي المسؤولية دائما على الغير» (ص 232). اعترف بأنه «تأخر عن القيام بواجبه والمشاركة في بناء المغرب المستقل» (ص 239). تقاعس ولم يتحمل المسؤولية، لم يؤد واجبه الوطني في الوقت المناسب. كانت لهذا التقاعس عواقب خطيرة ومضاعفات سلبية على حياته المستقبلية حسب تصريحاته التي تكررت بهذا الشأن في مواضع كثيرة (ص 239).ومن أمثلة ذلك إحساسه المؤلم بأن الطلبة النشيطين في الحركة الوطنية كانوا يتشككون في وطنيته بسبب تصريحات أدلى بها عقب نفي محمد الخامس: «لم يتخيل إدريس، يقول الراوي، أن الكلمة التي فاه بها دون روية ستسجل عليه وتتبعه عواقبها سنين وسنين». لم يكن بعد قد تعلم كيف يتقنع رغم اطلاعه على وصايا نتشه. جاء على لسان شعيب أنه «لم يكن قد تعلم بعد أن الأفضل في هذه الحالات أن تردد ما تسمع لا أن تصف ما ترى» (ص 93).وكان من مضاعفات التقاعس في أداء الواجب الوطني أن «طرد طردا من الساحة العمومية»(ص 165). يجب أن نفهم الساحة السياسية.
ربما ترجع خيبة إدريس وآلامه ومعاناته إلى سوء حظه. سوء الحظ المتمثل في تزامن حصوله على منحة من الحكومة الفرنسية مع محنة الملك وشعبه. كان يتلهف للحصول على المنحة. طمس التلهف بصيرته فلم يشعر بالزلزال الذي هز المشاعر. تبدأ الثورة في الشعور والوجدان، ثم تتموضع بعد ذلك في الكفاح. لم يشعر بذلك كله فبدت له الأوضاع هادئة، وأثار ذلك سخط الطلبة الوطنيين.
ربما شعر المراهق بأن الاستقلال بعيد المنال فعز عليه أن يفوت الفرصة على نفسه. كان مستوى طموحه عاليا، يقع في أسمى الدرجات. التشوف إلى المقام الرفيع في صفوف النخبة السياسية دفعه إلى اختيار شعبة «العلوم الاجتماعية التي كانت آنذاك مرتبطة بفنون الإدارة ــ الإدارة، الكلمة، النفوذ» (ص 41). كانت السياسة حلمه الكبير والدراسة وسيلته الأساسية لتحقيقه (ص167). وضع هدف الدراسة خارج الذات وحرص على تحقيقه مهما كانت الظروف. لقد أصبح الحصول على المنصب الرفيع حافزه القوي في الدراسة، باستطاعته أن يحقق أحلامه في هذه الظرفية أو تلك، كل شيء ممكن. يعرف ذلك جيدا من انتبه منذ وقت مبكر إلى أن «السياسة هي علم الممكن، فن التلون مع الواقع» (ص 53). كل شيء محتمل بالنسبة لمن حصل له الوعي بالإرادة واكتسب القدرة على التكيف مع مختلف الظروف.
كان إيمانه بفلسفة الحياة آنذاك قويا. إرادة الحياة فرضت عليه التكيف من أجل إثبات الوجود. يقتضي التكيف التحلي بروح الواقعية والحذر والقدرة على اقتناص الفرص. المنحة فرصة العمر الناذرة،«حصل عليها بعد طول الانتظار واليأس».استطاع الفوز بها لسببين رئيسيين: تفوقه في الامتحانات من جهة، وانتماؤه إلى «مدينة صغيرة هادئة» (ص 71). وأما التفوق في الامتحان فيرجع إلى قوة الحافز الذي أشرنا إليه، بينما يشير هدوء المدينة الصغيرة إلى عدم وجود ما من شأنه أن يثير حوله الشبهات، وخاصة شبهة الانتماء إلى الحركة الوطنية. لا شك في أن السلطات الفرنسية كانت لا تقدم على تخويل المنح للمرشحين لها في وقت اشتداد الأزمة الفرنسية-المغربية إلا بعد دراسة ملفاتهم للتأكد من عدم تأثرهم بالروح الوطنية السارية في جسم الأمة وقت محنتها الكبرى. كانت الأوضاع تبدو له هادئة تماما، وهو الدليل على أنها لم تجد منفذا تتسرب منه إليه. وأما ما كان يؤرقه في تلك الفترة الحرجة من تاريخ الأمة فهو الخوف من ضياع الوقت الذهبي الضروري من أجل الاستعداد لاجتياز مباراة الولوج إلى «المدرسة الوطنية للإدارة» (ENA) التي تتخرج منها الأطر العليا للدولة في فرنسا.
كان يسابق الزمن فود لو يطير. ركب الطائرة وحلقت به في الأجواء، في عتمة الليل. شاب من أسرة فقيرة يختار ركوب الطائرة بدل الباخرة رغم ارتفاع سعر تذكرة السفر، لأن الوقت لا يرحم، فرصة العمر الوحيدة لا تعود، من أجلها يمكن التضحية بكل شيء، بكل ما يمكن تداركه أو التعويض عنه في المستقبل. وما كاد يبزغ الصباح حتى حل بدار المغرب. كان أول من قابله هو مديرها، «هذا الرجل الرقيق العاطفة كان أحد أقطاب الشرطة الفرنسية في المغرب، لكن الله يرعى الأبرياء»!(ص 72). طلب منه غرفة فاعتذر لعدم توفرها. اشتكى له الفتى من ضائقته المالية «فرق» لحاله ومنحه الغرفة في النهاية. طريقة معروفة، استعملها الضابط لإشعاره بأن له عليه دين. أداء الدين في هذه الحالة يعني الحفاظ على «استقامة» السلوك.
يبدو أنه استجاب لتوقعات المدير. صرح أنه لم ينتم إلى أي حزب بما في ذلك حزب الحركة الوطنية خلال مدة إقامته في فرنسا. وكذلك ظل وفيا لتوقعات أبيه الذي كان ينصحه على الدوام بأن يفكر كيف يشاء دون أن يقدم على الفعل (ص 50). هذا مع العلم أن حقيقة الإنسان لا تتحدد بما يقول ولكن بما يفعل. استبطن موانع السلطة الأبوية والمؤسساتية ومعاييرها فراح يمارس الرقابة على الذات وخاصة في كل ما يتعلق بالسلوك. «عاش تجربة سياسية ولكن على مستوى الذهن فقط» (ص 95). كان يعتقد بأن دور الطالب ينحصر في التوعية وبعث الهمة لا في حمل السلاح (ص 53). لا مخاطرة إذن، ذلك ما لاحظه الراوي .
هكذا ظل إدريس وفيا لتعاليم الأسرة، حريصا على الاستجابة لتوقعات المؤسسة الفرنسية، عن وعي أو عن غير وعي. إرادة الحياة تدفعه إلى تحقيق الوجود المنشود، الحاجة إلى السلطة والنفوذ، وتدفعه الشهوات إلى ملاحقة شبح الأنثى. أدى به الجري وراء الأطياف الهاربة إلى التضحية بالقضية. ربما حصل له الوعي بوضعه المستلب المتمثل في العجز عن التأثير في الأحداث، وربما استحوذ عليه الشعور بالخيانة والندم ليصبح عرضة للصراع النفسي، الحرب الأهلية الداخلية التي مزقت كيانه. تمزق الذات بين المطالب المتنافية. يود لو كان حرا، ويقصد بالحرية النهوض ضد الذات وتكسير مجرى القدر ومعاكسة الطيع، «الإنسان إنسان إذا ثار وتوتر.. وإلا خان.. وشد ما يخون» (ص 82).
الشعور بالخيانة والشعور بالذنب علامتان من علامات الوعي الشقي. كان إدريس يرى التعاسة في كل شيء ويؤنب ضميره باستمرار، كتب عن باريس يقول: «…مدينة النور، مدينة التعاسة.. فيها عاديت نفسي.. جئتها سيد الأسياد فحولتني إلى متصوف بلا ضمير ولا إرادة..»، ثم تابع قوله متسائلا: «هل ينفع الحزن، يزهر ويغل ؟» (ص 84)، شهد شاهد منه أنه حول الإخفاق الذي أحس به إلى نوع من الانتصار. قالها «من هو أعلى من ذاته في ذاته» (ص 242)، صاحب الكلمة الفصل، شعيب الذي هو بمثابة الأنا الأعلى فيه. يقول:«كنت وأنا أستمع إليك تصف مراحل ابتعاد إدريس وانزوائه وانكماشه أرى فيها خطوات ئويته إلى أصله وهويته، لم يعها لذلك قصدها بحزم، اشتغل بتجريد نفسه وتصفية وعيه لذلك حجبت عنه وجهته الحقيقية» (ص 243)، لم يراجع نفسه عن وعي في البداية، وإنما حصل ذلك من خلال عمليات التصعيد وما رافقها من آليات دفاعية وإسقاط.
حاول المؤلف في لحظة الكتابة أن يحول صورته الاجتماعية القديمة المخجلة إلى نقيضها مثلما تحول الكيمياء القديمة الشيء المبتذل إلى شيء نفيس، حاول ذلك من خلال الاشتغال بتجريد نفسه وتصفية وعيه على طريقة المتصوفة الذين استخدموا كيمياء السعادة لتحويل النفس الأمارة بالسوء إلى مرآة مصقولة تعكس الصفات الإلهية. ذاق مرارة الحياة من جراء الصورة الاجتماعية التي تشكلت من خلال تفاعله مع الطلبة المغاربة فصمم على إنتاج صورة جديدة تنسخها مثلما تنسخ الآية المتأخرة آية متقدمة. كانت مواقف الطلبة النشيطين في الحركة الوطنية منه سلبية، وكانت مواقفه منهم سلبية أيضا. عن هذا التفاعل السلبي بين الذوات انبثقت صورته الاجتماعية التي لم يرض عنها. كان يعتقد مثل الرومنسيين أن الحياة تمثل وأن بإمكانه أن يغير شكل الحياة بإنتاج ونشر تمثلات جديدة تبدد التهم اللاصقة به، وتحرره من الشعور بالذنب. تلك هي وظيفة الكتابة عنده، هدفها التعبير عن لون التجربة المعيشة لا عن التجربة ذاتها (ص 233). لكن الصورة الجديدة ستنبثق عن المخاض العسير.
كان إدريس يشعر أن أصابع الاتهام تتجه إليه حيثما حل، ويشعر أنه محل ازدراء، «لم يقل لي أحد من الجماعة أنت ساذج ولكن هكذا أبدو لهم بلا شك» (ص 79)، فاستحوذ عليه الارتياب، ومال إلى العزلة والانكماش على الذات. لكن الصورة الاجتماعية ليست العامل الوحيد الذي يفسر ميله إلى العزلة والانطواء على النفس. خلف هذه الصورة توجد الفوارق الاجتماعية أيضا. ينتمي معظم الطلبة الذين عاشرهم إلى مختلف شرائح البرجوازية الحضرية، بينما ينتمي هو إلى أسرة فقيرة نسبيا تعيش في مدينة صغيرة خضع فيها لتنشئة اجتماعية على النمط التقليدي. وكان لابد أن يؤدي اختلاف الأصول الاجتماعية إلى صعوبة التواصل وسوء التفاهم.
وبالإضافة إلى ذلك لعبت صورته عن الذات دورا مهما في فصله عن عالم النساء، وعززت بذلك نزعته إلى الانطواء على النفس. يوحي وصف الراوي لهيأة إدريس بأنه لا يرتاح إلى صورة وجهه في المرآة. ربما كان يتضايق من قسمات وجههالتي تبدوله منفرة لطبع النساء. كان انتباهه يتركز في كل لحظة من لحظات حياته بشكل مرضي على بعض التفاصيل. فلا يكاد يتخلص من استحواذها عليه حتى يكتشف تفاصيل أخرى. يدل الوصف على أن صورته عن ذاته كانت سلبية. الرأس الغليظ والأنف الضخم والفم الواسع، «صورةمؤلفة من مجموعة لقطات غير متزامنة» (ص. 12)، للأناظاهر وباطن. باطنه حالات شعورية وظاهره بنية عضوية وهندام. كان مفتول العضلات. سافر إلى «بر العدو» وهو يرتدي حذاء مدعما بقطع الحديد أسفل الكعبين، «كلما خطى خطوة تزعزع الدرج». أثار ذلك انتباه أول فتاة فرنسية صادفها فشبهته بالحصان المصفح (ص 72). كانت بمثابة المرآة التي عكست له صورته كما تبدو للنساء.
لا شك في أن تجربة الاحتكاك السلبية بأول فتاة فرنسية هي التي كانت السبب في تولد مشاعر الخجل من الذات أمام غيرها من الفتيات. لو امتدحته لما كانت هناك مشكلة تذكر. حقيقة عبر عنها جيرودو في مسرحيته الشهيرة على لسان رئيس المؤسسة الذي اكتسب صفات الجمال بمجرد أن سمع أنياس، الموظفة الجديدة التي لا زالت في ريعان الشباب، تقول له: أنت جميل. وقال &