Overblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
29 mai 2011 7 29 /05 /mai /2011 19:22

الليبيرالية السياسية ومبادئها الأخلاقية

مدخل إلى فلسفة جون راولز

أحمد أغبال

في عام 1958 نشر جون راولز مقالة مطولة بـ"المجلة الفلسفية" تحت عنوان: "العدالة كإنصاف" رسم فيها الخطوط العريضة لمشروعه الفكري الذي أخذ صورته الكاملة وغير النهائية في كتابه "نظرية العدالة"[1] الصادر عام 1971 والذي أعاد نشره بعد مراجعته عام 1975. نقرأ في مستهل المقالة السابقة الذكر ما يلي:

"يبدو للوهلة الأولى أن مفهومي العدالة والإنصاف يدلان على نفس الشيء، وأنه ليس هناك ما يدعو إلى التمييز بينهما. أعتقد أن هذا التصور خاطئ. أريد أن أبين في هذه المقالة بأن الفكرة الأساسية التي ينطوي عليها مفهوم العدالة هي الإنصاف؛ وأود أن أقدم تحليلا لمفهوم العدالة من وجهة النظر هذه. ولبيان موطن القوة في هذا المطلب والتحليل الذي يرتكز عليه، سأحاول البرهنة على أن هذا الجانب من العدالة هو ما لم تستطع النزعة النفعية في شكلها الكلاسيكي بيانه، وهو، في المقابل، ما تعبر عنه فكرة العقد الاجتماعي حتى وإن كان ذالك بطريقة مضللة"([2])

تلخص هذه الفقرة مشروع راولز الفلسفي وتصوره لأسس العدالة ومبادئها، وتبين مدى تميزه عن مذاهب الفلاسفة السابقين من رواد المذهب النفعي من أمثال دافيد هيوم وجون ستوارت مل وجرمي بنتام، ورواد نظرية العقد الاجتماعي من أمثال روسو وهوبز وجون لوك وكانط. يرتكز تصور راولز للعدالة على مجموعة من المصادرات الأساسية التي اهتدى إليها بضرب من الحدس العقلي باعتبارها بديهية بذاتها لا تقبل البرهان ولا يمكن البرهنة عليها. وقبل أن نستعرض تصوره للعدالة نرى من الضروري التعريف بمنهجيته وطريقته المتميزة في بناء نظريته.

1.    منهجية راولز وفرضية الوضعية الأصلية

يصنف جون راولز نفسه ضمن المذهب الليبرالي الذي سعى منذ بداية نشأته إلى توفير إطار نظري لحقوق الإنسان، ولكنه أراد أن يجد لنفسه موقعا خاصا داخل هذا المذهب يميزه عن غيره من المفكرين الذين ينضوون تحت لوائه؛ فاختار طريقة في التفكير جعلته ينظر إلى قضايا العدالة وحقوق الإنسان من موقع يقع خارج الأطر والمرجعيات الفلسفية. فإذا كانت الفلسفة الليبرالية وغيرها من المذاهب الفلسفية الأخرى تنطلق في تحديدها لما ينبغي أن يكون عليه النظام الاجتماعي والسياسي من تصور معين للعالم وللطبيعة الإنسانية، فإن راولز ألقى بمصادراتها الفلسفية جانبا، وراح يبحث عن مصادرات بديلة انطلاقا من أرضية سياسية.

وهكذا، فإذا كانت الفلسفة الليبرالية قد لجأت إلى المقاربة الميتافيزيقية في تناولها لموضوعاتها، وانطلقت من تصور معين للطبيعة الإنسانية، ثم استنبطت منه جملة من المبادئ والقيم والمثل العليا التي ينبغي الالتزام بها لتحقيق السعادة في هذا العالم والخلاص في العالم الأخروي، فإن راولز اختار مقاربة سياسية تقوم على ما يسميه مبدأ تعليق الشرط الإبستملوجي. يقضي هذا المبدأ بضرورة اتخاذ موقف الحياد إزاء القضايا المتعلقة بالطبيعة الإنسانية، والإمساك عن ادعاء الحقيقة فيما يتعلق بأسس النظام الديمقراطي ومبادئ العدالة. وعلى هذا أصبحت الفلسفة السياسية عنده تسعى إلى بيان طبيعة النظم الاجتماعية الحديثة بغض النظر عما إذا كانت المبادئ التي تقوم عليها منسجمة مع معايير الحقيقة الفلسفية أو الميتافيزيقية. ومعنى ذلك أن نظرية الليبرالية السياسية كما يتصورها راولز لا تنطلق من أي تصور فلسفي لحقيقة الواقع والطبيعة الإنسانية، ولا تحتاج بالتالي إلى أي مبرر إبستملوجي لدعم المصادرات الأساسية التي يتأسس عليها النظام الديمقراطي العادل. وذهب راولز في تصوره لليبرالية السياسية إلى حد إقامة نوع من التفرقة بين النظرية السياسية وفلسفة الأخلاق، وهو ما عبر عنه بقوله: "إن القضايا المتعلقة بالعدالة الأساسية يمكن دعمها إلى أقصى حد ممكن استنادا إلى القيم السياسية وحدها"[3]؛ وهذا ما يميز موقفه من الأنظمة الليبرالية عن باقي المواقف التي تندرج ضمن الفلسفة الليبرالية.

تنطلق المقاربة السياسية لراولز من الاعتراف بواقع الثقافة الديمقراطية وصلاحيتها بوصفها القاسم المشترك بين مختلف مكونات المجتمعات الغربية الحديثة. وأما ما يميز البلدان الغربية، في نظره، فهو الإجماع الحاصل بين جميع المواطنين حول المبادئ الأساسية التي تقوم عليها الثقافة السياسية السائدة؛ ومع الإقرار بواقع هذه الثقافة، يحاول كل مواطن أن يجد لمبادئها مبررات في المذهب الذي يعتنقه كلما دعت الضرورة إلى ذلك. إن الليبرالية السياسية ، كما يتصورها راولز، لا تنطلق من الحقائق الأخلاقية العامة، بل من معطيات الثقافة المشتركة، طالما ظلت هذه الثقافة بميزاتها الإيجابية قابلة للتطور باستمرار؛ وكذلك فإن هذه الليبرالية لا تدعي لنفسها امتلاك الحقيقة فيما يتعلق بموضوع العدالة، كما أنها لا تحتكم إلى أية نظرية فلسفية بعينها للتحقق من صحة المبادئ التي صدرت عنها ثقافة المجتمع، وإنما تترك أمر ذلك كله للمواطنين الذين يتعين عليهم أن يقرروا كل على انفراد كيفية ارتباط القيم السياسية بقيم مذاهبهم العامة. يقول راولز بهذا الصدد:

"يرجع الأصل في هذا الموقف إلى الأفكار الأساسية التي تقوم عليها الثقافة السياسية العمومية، وإلى مبادئ وتصورات العقل العملي الذي يشترك فيه المواطنون. ولذلك [...] يتوقع أن يكون المواطنون قادرين على قبول مبادئه وتصوراته إلى جانب مذاهبهم الشاملة المعقولة. حينئذ يمكن للتصور السياسي للعدالة أن يصبح محل إجماع"([4]) 

هنا يكمن المضمون الحقيقي لمفهوم الليبرالية السياسية كما يتصورها راولز. يدل هذا المفهوم على الميل المتزايد إلى تحرير القيم السياسية من التبعية للمذاهب والتيارات الفلسفية دون أن يؤدي ذلك إلى إلغاء التعددية المذهبية، بل يترك لكل مذهب حرية "تحديد كيفية ارتباط فكرته عن المعقول بتصوره للحقيقة"([5]) ومما يترتب عن استعمال مفهوم الليبرالية السياسية على المستوى المنهجي، أن الباحث يكون ملزما بمراعاة مبدأ تعليق الشرط الإبستملوجي في الدراسات السياسية حتى لا ينزلق إلى براثن النزعة الدوغمائية الوثوقية، والنظرة الشمولية، والصراعات العقائدية. وفيما يتعلق بالممارسة السياسية، فإن قبول التصور السياسي البنائي كبديل للتصور البنائي الميتافيزيقي هو الكفيل بتحقيق المثل الأعلى للمواطنة الديمقراطية الذي ينحل فيه الخلاف المذهبي وفقا لمبادئ العقل العمومي، وبذلك يضمن للمجتمع  نوعا من التوازن والاستقرار.

ويعتبر مفهوم "الإجماع بالتقاطع"، وهو الإجماع الناتج عن التقاطعات بين مختلف "المذاهب المعقولة"، أحد المفاهيم الأساسية التي تقوم عليها نظرية الليبرالية السياسية. يعكس هذا المفهوم واقع الثقافة السياسية المشتركة بين أفراد المجتمع على اختلاف توجهاتهم المذهبية والفكرية؛ وتكمن أهميته في قدرته على الاستجابة لمطلب التعددية ومطلب الاستقرار. وتهدف الليبرالية السياسية من خلال تحقيق هذا النوع من الإجماع إلى بيان وترسيخ المبادئ والقيم الأساسية الكامنة خلف نظرة المجتمع الديمقراطي إلى العدالة، هذا مع العلم بأن القيم والمبادئ المشار إليها لا توجد خارج حقل الثقافة السياسية المشتركة. يقول راولز بهذا الصدد:

"سنبدأ، إذن، بإلقاء نظرة على الثقافة العمومية نفسها باعتبارها المخزون المشترك الذي يتضمن الأفكار والمبادئ الأساسية المعترف بها ضمنيا. ونأمل في صياغة هذه الأفكار والمبادئ بشكل واضح بحيث يمكن التأليف بينها في إطار تصور سياسي للعدالة يتناسب مع معتقداتنا الأكثر رسوخا"([6])  

إن الاعتراف الضمني بمبادئ الثقافة السياسية المشتركة هو ما يجعل الليبرالية السياسية ممكنة، ويسمح بانتشار مشاعر الثقة بين الأفراد والمؤسسات؛ ومن هنا جاء مفهوم "الثقة المعقولة"  الذي يعتبر أحد المفاهيم الأساسية في الجهاز الإبستملوجي الذي تقوم عليه المقاربة السياسية لراولز. ولقد جاء هذا المفهوم في نظرية العدالة كإنصاف كبديل لمفهوم "الحقيقة". وما يبرر هذا التوجه ثلاثة أمور: أولها أن نظرية العدالة كإنصاف تطرح نفسها بوصفها  التعبير الصحيح والمناسب عن قيم الثقافة السياسية المشتركة؛ وثانيها أنه بإمكان كل مذهب من المذاهب الشاملة المعقولة أن يجد لنفسه سندا أو مبررا في هذه الثقافة؛ وثالثها أن مفهوم "الحقيقة" لا يتناسب مع مبدأ التعددية، ولا يصلح كمعيار للحكم على المواقف الأخلاقية والسياسية.

ولهذه الاعتبارات كلها كان لابد من استبدال مفهوم "الحقيقة" بمفهوم "الثقة المعقولة". وأما ما يبرر هذا التوجه فهو الاعتقاد بأن مفهوم "الثقة المعقولة" يؤدي في مجال الأخلاق والسياسة نفس الوظيفة التي يؤديها مفهوم الحقيقة في المجال المعرفي. ويعتبر مفهوم "الثقة المعقولة" في التقاليد الفلسفية التي ترجع أصولها إلى كانط الدعامة الأساسية التي ترتكز عليها الأفكار والمقولات الأخلاقية؛ وهذا بالضبط هو ما يؤهله لأداء وظيفته على المستوى السياسي مثلما يؤدي مفهوم "الحقيقة" وظيفته على المستوى المعرفي. ومن وظائفه الأساسية التقريب بين المذاهب المعقولة المتنافسة، وضمان إمكانية التوافق بينها، ومن ثمة إمكانية تنظيم المجتمع بشكل جيد ومعقول. وهكذا، فإن الاعتراف الضمني بمبادئ الثقافة السياسية المشتركة يستدعي الثقة في المؤسسات الأساسية من جهة، والتحفظ في ادعاء الحقيقة من جهة أخرى، وبذلك يفسح المجال لليبرالية السياسية، ويتيح الفرصة لقيام إجماع بالتقاطع.

وأما ما يجعل التوافق بين مختلف المذاهب ممكنا رغم اختلاف تصوراتها للحقيقة فهو اعترافها بوجود ثقافة سياسية مشتركة؛ وهذا الاعتراف هو الذي يضفي صفة المعقولية على المذاهب المتنافسة وعلى مواقفها المتضاربة. وبحكم مرجعيتها الثقافية المشتركة تصبح الثقة بين المذاهب المتنافسة أمرا ممكنا ومعقولا.   

ولكن، ما هو المضمون الدلالي لمفهوم الثقة المعقولة ؟ يدل هذا المفهوم، في المقام الأول، على الإيمان بإمكانية قيام الليبرالية السياسية التي تضمن إمكانية قيام نظام دستوري عادل. وتعتبر الثقة المعقولة في فلسفة راولز الشرط الضروري الذي لا غنى عنه لتحقيق الليبرالية السياسية التي تتيح الفرصة للتعاقد والإجماع بالتقاطع بين المذاهب المتنافسة في المجتمعات ذات التقاليد الديمقراطية التي يحكمها مبدأ التعددية المعقولة. تمثل الثقة المعقولة من وجهة النظر هذه حجر الزاوية في الليبرالية السياسية، وتعبر- على المستوى العملي- عن الرغبة في التوفيق بين المذاهب المتنافسة التي يدعي كل واحد منها امتلاك نوع من الحقيقة، والتأليف بينها في إطار ما يسميه راولز بـ"المجتمع المنظم بشكل جيد".

ويعتبر مفهوم "المجتمع المنظم بشكل جيد" أحد المفاهيم الأساسية في النظرية السياسية لراولز. يدل هذا المفهوم على النظام الاجتماعي المنظم وفقا للتصور السياسي للعدالة، وهو النظام الذي تحكمه مؤسسات تخضع في سيرها لقواعد يعترف بها جميع المواطنين ويعملون بها في الحقل العمومي. ولا يتحقق هذا النظام في صورته المثلى إلا إذا توافرت الشروط التالية:

ضرورة أن يقبل كل فرد تصورا معينا للعدالة ومبادئها، وأن يكون على علم بأن الأفراد الآخرين يقبلونها مثلما يقبلها هو؛

ضرورة أن تستجيب بنية المجتمع الأساسية أو المؤسسات الأساسية التي يتألف منها النظام الاجتماعي لهذه المبادئ، وأن يكون هناك ما يبرر بشكل معقول اعتقاد الناس بأن هذه المؤسسات تحقق لهم العدالة بالفعل؛

ضرورة أن يكون التصور العمومي للعدالة مبنيا على أساس الاعتقاد المعقول بأنه تصور منبثق عن مناهج البحث المعترف بها؛

ضرورة أن ينظر الأفراد إلى أنفسهم على أنهم متساوون في الحرية ولهم نفس الشخصية الأخلاقية التي تبعث فيهم الإحساس بالعدالة في بعدها السياسي بالخصوص؛

ضرورة أن يكون للأفراد تصور للخير، يجعلون منه هدفهم الأساسي، ويتيح لهم إمكانية المطالبة بحقوقهم المشروعة في إطار مؤسساتهم؛

ضرورة أن يكون لهم الحق، وأن ينظروا إلى أنفسهم على أن لهم الحق، في نيل ما يستحقونه من الاحترام والتقدير من خلال تمكينهم من المساهمة في تحديد المبادئ التي تنظم البنية الأساسية للمجتمع؛

ضرورة أن تشتغل المؤسسات الأساسية بطريقة تولد الإحساس بالعدالة في نفوس الناس من أجل إرساء دعائم الاستقرار في المجتمع.

وخلاصة القول: إن المجتمع المنظم بشكل جيد هو ذلك النظام الاجتماعي الذي بلغ درجة كافية من الاكتفاء الذاتي؛ وهو المجتمع الذي تتوافر فيه شروط التعاون المنصف بين المواطنين المعقولين والعقلانيين الذين يعتبرون أنفسهم أحرارا متساوين، لهم تصور مشترك للعدالة، ويعترفون جميعا بمبادئها الأساسية، ويعلم كل واحد منهم بأن الآخرين يعترفون مثله بتلك المبادئ.   

ولتحديد مبادئ العدالة التي يجب أن تخضع لها أنشطة المؤسسات الاجتماعية والسياسية في المجتمع المنظم بشكل جيد، اعتمد راولز على مقاربة بنائية متميزة تنطلق من الربط بين تصور معين للشخص وبين المبادئ الأولية للعدالة. ففيما يتعلق بمفهوم الشخص، اعتمد راولز في بنائه على مبدأ الأمر المطلق الذي وجده عند كانط، ونظر إلى هذا المبدأ بوصفه أحد المكونات الأساسية التي تندرج في تكوين فكرة الشخص. ويدل مفهوم الشخص عنده على كل كائن يتمتع بحرية الإرادة والاختيار، ويتمتع بالقدرة على التصرف بطريقة عقلانية ومعقولة في نفس الوقت؛ ويعتبر جميع الأشخاص متساوين بالنظر إلى هذه الصفات. إن وجود الشخص بهذا المعنى هو ما يجعل الأخلاق ممكنة، لأن المبادئ الأخلاقية لا تفرض على الناس قهرا؛ ولا يمكن الحديث عن الأخلاق ما لم تتح لجميع الأفراد حرية اختيار بعض المبادئ بطريقة عقلانية ليصنعوا منها القانون الأخلاقي الذي ينظم علاقاتهم ومعاملاتهم في إطار الجماعة التي ينتمون إليها والتي يمكن وصفها بالتالي بأنها جماعة أخلاقية.

يتبين في ضوء هذا التحليل أن مبادئ الأخلاق والعدالة هي قبل كل شيء نتاج الاختيارات العقلانية والقرارات التي يتخذها أشخاص يتمتعون بحرية الإرادة والاستقلال من أجل تنظيم علاقات بعضهم ببعض. ومعنى ذلك أن مبادئ الأخلاق والعدالة لا توجد في استقلال عن تصورنا للشخص، وأن نظامها يقوم بالأساس على مبدأ الاستقلال الشخصي الذي يتحكم في ذلك التصور؛ ويفهم من ذلك أيضا أن مبادئ العدالة ليست من جملة الأشياء التي توجد هناك في العالم الخارجي، ولا يمكن بالتالي اكتشافها مثلما تكتشف الكواكب في الفضاء، بل هي عبارة عن أبنية عقلية يشيدها أشخاص عقلانيون يتمتعون بحرية الإرادة والاستقلال.

لا يمكن القول، إذن، بوجود منظومات أخلاقية قائمة بذاتها في استقلال عن الملكات الذاتية للإنسان، لأن كل ادعاء من هذا القبيل يتنافى مع مبادئ الاستقلال وحرية الإرادة والاختيار. فإذا كان لابد من الاعتراف بوجود منظومات أخلاقية، فإن هذه المنظومات لا توجد في استقلال عن تصوراتنا لما ينبغي أن يكون عليه الواقع الإنساني، إنها عبارة عن أبنية ذات صلة وثيقة بالخصائص الجوهرية للأشخاص الذين يشيدونها. هذه هي الفكرة الأساسية التي تنطوي عليها المقاربة البنائية لراولز، والتي يمكن اعتبارها أيضا منهجية للتعاقد. تنطلق هذه المقاربة في سعيها لاستنباط مبادئ العدالة والتعاون من فرضية "الوضعية الأصلية" التي تشبه إلى حد ما فرضية "حالة الطبيعة" التي نجدها عند كل من روسو وهوبز وجون لوك. وقد استعملت فرضية حالة الطبيعة في مجال الأنثربولوجيا السياسية بصفة خاصة لتشكيل فكرة عن الطبيعة الإنسانية، ومعرفة كيف كانت قبل ظهور المجتمع المنظم وتأسيس الدولة بمؤسساتها وقوانينها؛ وتكمن أهمية هذه الفرضية من الناحية المنهجية في أنها تساعد على تلمس الأسباب التي دفعت الناس إلى تشييد مجتمعات منظمة، ومعرفة المبادئ التي اختاروها في المرحلة قبل-السياسية لتنظيم علاقاتهم في إطار الدولة التي سيؤسسونها.

2.    فرضية الوضعية الأصلية

إن الوضعية الأصلية كما يتصورها راولز هي وضعية مفترضة تضم مجموعة من الأفراد اجتمعوا للتداول في مشروع بناء مجتمع عادل؛ ويهدف برنامج العمل الذي اجتمعوا عليه إلى صياغة تصور للعدالة كإنصاف يقوم على مجموعة من المبادئ التي يجب أن تخضع لها البنيات الأساسية للمجتمع. وأما الطريقة المثلى التي تفرض نفسها على المفكرين في هذه الحالة فهي الطريقة البنائية، ذلك لأن المجتمع لا يتوفر على تصور مكتمل للعدالة، ولا على أي تصور للخير متفق عليه؛ هذا بالإضافة إلى أن مبادئ العدالة لا توجد في الواقع كموضوع مفارق من الموضوعات التي يبحث فيها العقل النظري، ولا يتطلب الأمر بالتالي معرفتها مثلما تعرف الموضوعات الخارجية؛ إن ما ينبغي القيام به في الوضعية الأصلية هو صياغة تلك المبادئ صياغة عقلية في ضوء فكرة العدالة كإنصاف باعتبارها مقولة من المقولات المتأصلة في العقل العملي. ولما كانت مبادئ العدالة تقع خارج دائرة اهتمام العقل النظري، فإنها لا تحتاج في قبولها إلى برهان يستند على معايير الحقيقة بالمعنى الفلسفي أو الميتافيزيقي، ما دامت تستمد قيمتها من ذاتها بوصفها جزءا من العقل العملي. وأما وظيفة هذا العقل فهي على حد تعبير راولز "إنتاج موضوعات مطابقة لتصورنا لتلك الموضوعات، كتصورنا مثلا للنظام الدستوري العادل  الذي يُطرح بوصفه هدفا للنشاط السياسي"([7]). وهذا هو ما يميز العقل العملي عن العقل النظري الذي يسعى إلى معرفة الموضوعات المعطاة في الواقع.

وتشتغل المقاربة البنائية السياسية وفقا لتصور معين للعلاقة بين العقل العملي والتصور السياسي الديمقراطي للشخص والمجتمع وللدور الذي تلعبه مبادئ العدالة في الفضاء العمومي. وتستمد هذه المقاربة تصورها للشخص من ثقافة المجتمع الديمقراطي الليبرالي؛ فهو إذن تصور سياسي ، يتحدد فيه مفهوم الشخص بوصفه المواطن الذي يعيش في كنف النظام الديمقراطي الليبرالي. ولما كانت فكرة الشخص بهذا المعنى مبثوثة في الثقافة الديمقراطية الليبرالية في شكل مصادرة ضمنية أساسية، فإن دور المقاربة البنائية ينحصر في الإفصاح عنها وبلورتها في ضوء مقتضيات العقل العملي؛ ومن هنا اكتسب مفهوم الشخص دلالة سياسية وأخلاقية في فلسفة راولز، حيث أصبح يشير إلى الفرد المؤهل لأن يكون مواطنا، أي عضوا اجتماعيا يسعى باستمرار إلى التعاون بشكل كلي ومستمر مع المواطنين الآخرين.

تنظر الثقافة الديمقراطية الليبرالية إلى الشخص بوصفه مواطنا حرا يتساوى مع الأشخاص الآخرين في مقومات المواطنة بالمعنى المتعارف عليه في ظل الثقافة الديمقراطية الليبرالية. وما يجعل من الحرية والمساواة أمرا من الأمور الممكنة هو الاعتقاد بأن كل شخص ينطوي في ذاته على قوتين أساسيتين من القوى الأخلاقية المتوحدة مع العقل، وهما: القدرة على الإحساس بالعدالة من جهة، والقدرة على تشكيل تصور للخير والسعي إلى تحقيقه، من جهة أخرى. إن القدرة على الإحساس بالعدالة والقدرة على تشكيل تصور للخير هو ما يجعل الشخص حرا؛ وبفضل هذه الحرية التي يشترك فيها جميع المواطنين أمكن لكل شخص أن ينظر إلى نفسه على أنه مساو لأي شخص آخر وأن يطالب بحقوقه. ولكن فكرة المساواة لا تكتسب مضمونها الاجتماعي الفعلي إلا إذا بلغت القوى الأخلاقية المشار إليها درجة من النمو تسمح بظهور وتقوية روح التعاون بين المواطنين على خلفية الإجماع التوافقي بين المذاهب المتنافسة التي تختلف تصوراتها للحقيقة والخير.

ومن هذا المنطلق يتعين على الأشخاص، باعتبارهم مواطنين متساوين في الحرية والحقوق، أن يختاروا في الوضعية الأصلية المفترضة مبادئ العدالة التي يجب أن تتأسس عليها البنيات الأساسية للمجتمع وأن تنظم العلاقات بين المواطنين في المجتمع الديمقراطي الليبرالي. ينبغي، إذن، من حيث المبدأ، أن يقبل الأشخاص العقلانيون، الذين يرغبون في ضمان تحقيق مصالحهم، مبادئ العدالة في الوضعية الأصلية التي هي وضعية مساواة، وأن يعملوا على تطبيقها في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية؛ هذا ما يجعل من فرضية الوضعية الأصلية وسيلة منهجية لحل المشكلات الأساسية التي تواجه المجتمعات البشرية، كمشكلة التعايش الاجتماعي والاستقرار. ويعتبر قبول الناس لمبادئ العدالة الحل العقلاني الناجع لهذه المشكلات؛ يقول راولز بهذا الخصوص:

"بالنظر إلى ظروف مختلف الأطراف، ومعرفتهم، ومعتقداتهم، ومصالحهم، فإن قبول هذه المبادئ هو أحسن طريقة لضمان تحقيق أهداف كل شخص مقارنة بالبدائل المتاحة"([8])

وينبغي تطبيق هذه المبادئ في مجالين أساسيين من مجالات الحياة الاجتماعية وهما: المجال السياسي والحقوقي، والمجال الاجتماعي- الاقتصادي، فمن جهة "يجب أن تتحكم في عملية تخويل الحقوق وفرض الواجبات"، ويجب من جهة أخرى أن "تنظم عملية توزيع العوائد والفوائد الاجتماعية والاقتصادية"([9]). وحدد راولز للمجتمعين في الوضعية الأصلية شروطا، أولها أن يكون كل شخص منهم عقلانيا يسعى إلى ما فيه خير أولئك الذين يمثلهم، وذلك بأن يوفر لهم الوسائل التي تمكنهم من تشكيل تصوراتهم الخاصة للخير وتحقيقه؛ وتقتضي العقلانية الاعتراف بأن لكل شخص مصالحه الخاصة، وبأن له الحق في مراجعة تصوره للخير في ضوء المذهب الذي يعتنقه باعتباره شخصا يتمتع بحرية الإرادة والاختيار؛ ويشترط في المتعاقدين أيضا ألا يكونوا على بينة من أحوال الفاعلين الاجتماعيين الذين يمثلونهم، وألا يكونوا على علم بطبيعة مؤسساتهم الاجتماعية؛ إن المعرفة بهذه الأمور محظورة في الوضعية الأصلية. ومن هنا جاء مفهوم "ستار الجهل"، وهو الشرط الثاني الذي يجب أن تستوفيه الوضعية الأصلية، ومعناه أن يقف المجتمعون فيها خلف حجاب يحول دون معرفة كل ما له علاقة بخصائص الأفراد الذين يمثلونهم كالسن والجنس وانتماءاتهم الطبقية والمهنية والدينية والمذهبية والعرقية، وتصوراتهم للخير، وما إلى ذلك. إن هذا الجهل المنهجي هو ما يجعل من الوضعية الأصلية وضعية مساواة شبيهة بحالة الطبيعة التي تمثل الإطار المرجعي الافتراضي بالنسبة لنظريات العقد الاجتماعي الكلاسيكية، يقول راولز:

"إن وضعية المساواة الأصلية تضاهي حالة الطبيعة في نظرية العقد الاجتماعي التقليدية. وليس يُنظر بطبيعة الحال إلى هذه الوضعية الأصلية على أنها واقعة تاريخية فعلية أو شرط أولي لقيام الثقافة. ينبغي أن تُفهم بوصفها وضعية افتراضية خالصة حُدِّدَتْ خصائصها بطريقة تفضي إلى تصور معين للعدالة. ومن بين أهم خصائص هذه الوضعية أن أحدا لا يعرف مكانته في المجتمع أو موقعه الطبقي ووضعيته الاجتماعية، ولا يعرف أي أحد نصيبه من التوزيع الطبيعي للقدرات والمهارات كمستوى ذكائه وقوته وما شابه ذلك؛ بل إنني سأذهب إلى حد التسليم بأن أي طرف من الأطراف المعنية لا يعرف تصوره للخير ولا نوازعه النفسية؛ وبذلك يتم اختيار مبادئ العدالة خلف ستار من الجهل. هذا ما يضمن التكافؤ بين الأفراد، بحيث لا يكون هناك من هو في وضعية مواتية أو من هو في وضعية غير مواتية لاختيار المبادئ بناء على حصيلة الحظ الطبيعي أو العوارض الاجتماعية. وبما أن الجميع يوجد في وضعية واحدة لا تسمح لأي أحد أن يضع المبادئ التي تخدم وضعيته الخاصة، فإن مبادئ العدالة ستأتي نتيجة تعاقد منصف. وهكذا، فنظرا لظروف الوضعية الأصلية، وبحكم التماثل الموجود بين علاقات كل فرد مع غيره، فإن الوضعية الأولية ستكون بالضرورة منصفة لجميع الأفراد بوصفهم أشخاصا أخلاقيين، أي كائنات عقلانية ذات أهداف خاصة، لا مانع عندي من التسليم بأنها مؤهلة للإحساس بالعدالة. يمكن القول بأن الوضعية الأصلية هي الوضع الأولي القائم والمناسب الذي يجعل الاتفاقيات الأساسية التي تبرم فيه منصفة للجميع. وهذا ما يفسر خاصية اسم "العدالة كإنصاف"، فهو يعبر عن فكرة مؤداها أن مبادئ العدالة هي تلك المبادئ التي تم الاتفاق حولها في وضعية أولية اتسمت بالإنصاف. ولا يعني الاسم [المشار إليه] أن لمفهوم العدالة ومفهوم الإنصاف معنى واحدا، مثلما أن عبارة "الشعر كمجاز" لا تعني أن للشعر والمجاز نفس الدلالة"([10]) 

لقد تشكلت الوضعية الأصلية بوصفها وضعية مساواة على خلفية الاعتراف بالتعددية المذهبية والاختلاف داخل الأنظمة الديمقراطية الليبرالية، ولكن قواعد اللعبة فيها وضعت بطريقة تفضي إلى تشكيل تصور للعدالة كإنصاف يكون الهدف منه هو ضمان التعاون والاستقرار في المجتمع من خلال توفير أساس فلسفي وأخلاقي لمؤسساتها يرتكز على تصور معين للحرية والمساواة. ومع ذلك، فإن مفهوم العدالة كإنصاف لم يأت كنتيجة منطقية لفرضية الوضعية الأصلية وقواعدها الشكلية فحسب، بل تبلور أيضا في ضوء بعض الأفكار المتضمنة في الثقافة السياسية الديمقراطية سواء أكانت صريحة أو مضمرة في شكل مصادرات ضمنية؛ ومن أبرز الأفكار التي وظفها راولز في بناء تصوره للعدالة كإنصاف: (1) فكرة أن المجتمع السياسي الديمقراطي هو نظام منصف يقوم على التعاون المستمر عبر الأجيال، يُنظر فيه إلى الأشخاص المتعاونين على أنهم مواطنون أحرار ومتساوون يؤمنون بالتعاون مع بعضهم البعض على مدى الحياة؛ (2) فكرة "المجتمع المنظم بطريقة جيدة"، ومعناه المجتمع المنظم وفقا لمبادئ العدالة كإنصاف.

تعتبر هذه الأفكار بمثابة المصادرات الضمنية الأساسية التي تقوم عليها الثقافة السياسية التي تكيف سلوك الفاعلين وتحدد مواقفهم واتجاهاتهم في الأنظمة الديمقراطية؛ يقول راولز في شرحه لهذه الأفكار:

"...نعتبر هذه الأفكار الحدسية الأساسية من الأفكار العادية المألوفة في الثقافة السياسية العمومية للمجتمع الديمقراطي. ومع أن هذه الأفكار لا تصاغ دائما بشكل صريح ولا تُحَدَّدُ معانيها دائما بما يكفي من الوضوح، فإنه من الممكن أن تلعب مع ذلك دورا أساسيا في الفكر السياسي للمجتمع، وفي الكيفية التي تُؤَوَّلُ بها مؤسساته في أعمال المحاكم والنصوص التاريخية أو غيرها من النصوص التي ينظر إليها على أنها مفعمة بالمعاني ذات القابلية العالية للاستمرار على المدى البعيد"([11]) 

يمكن القول في ضوء ما سبق: إن ما يحدد طبيعة المجتمع الديمقراطي هي نظرة الناس إليه، تلك النظرة التلقائية الشائعة التي تجعل منه نظام تعاون اجتماعي منصف. والدليل على ذلك في نظر راولز هو أن المواطنين لا ينظرون - وهم في خضم الجدل العمومي حول مسألة الحقوق السياسية - إلى نظامهم الاجتماعي على أنه نظام طبيعي قائم بذاته، أو على أنه نظام هرمي يخضع في تراتبيته لمنظومة القيم والمعايير الأرستقراطية، ولا يصنفونه ضمن الأنظمة التي تستمد مشروعيتها من المذاهب الدينية، بل يعتبرونه نظاما ديمقراطيا يقوم على أساس مبدأ التعاون. وليس المراد بالتعاون هنا التنسيق بين مختلف الأنشطة تنفيذا لقرارات تصدر عن سلطة عليا، بل المقصود به ثلاثة أمور وهي:

أن يتفق المتعاونون على القواعد والإجراءات التي ينبغي عليهم مراعاتها في تصرفاتهم ومعاملاتهم، وأن يعلنوا اعترافهم بها للعموم؛

أن تكون اتفاقيات التعاون منصفة، وأن يقبلها كل مشارك فيها. ويعتبر قبول الفرد لبنود الاتفاقية وشروطها أمرا معقولا عندما يقبلها الآخرون، مما يدل على أن فكرة التعاون الاجتماعي تستلزم العمل وفقا لمبدأ التبادلية ؛

ويشمل مفهوم التعاون الاجتماعي أيضا فكرة المصلحة الفردية الخاصة بوصفها مصلحة عقلانية. تدل هذه الفكرة على ما يمكن للفرد الملتزم بالتعاون أن يقدمه للآخرين انطلاقا من تصوره الخاص للخير ولما فيه مصلحته الشخصية.

وفي هذا الإطار، سيقوم المتعاقدون في الوضعية الأصلية، وهم خلف ستار من الجهل،  باختيار مبادئ العدالة السياسية التي تضمن لهم إمكانية التعاون المستمر والاستقرار في مجتمع يقوم على التعددية المذهبية والعقائدية. ولما كان الأمر يتعلق بالاختيار لا بالتفاوض، فإنه يتعين على المجتمعين في الوضعية الأصلية أن يتخذوا قراراتهم في ضوء نظرية الاختيار العقلاني أو ما يعرف أيضا بنظرية اتخاذ القرار؛ ولكن الوضعية التي سيتخذون فيها قراراتهم استثنائية بكل المقاييس: فهي وضعية يكتنفها الغموض وعدم اليقين المرتبطين بالإكراهات التي يفرضها ستار الجهل. ومن هنا يطرح السؤال: ما هو القرار العقلاني الذي يفرض نفسه على الشركاء بوصفهم أشخاصا عقلانيين ومعقولين؟ وإذا نظرنا إلى الإنسان بوصفه كائنا عقلانيا يسعى على الدوام إلى تحقيق مصلحته الخاصة، فما هي مبادئ العدالة التي يكون من المعقول أن يختارها وهو في وضعية تتميز بشح المعلومات وعدم اليقين ؟

يرى راولز بأن القرار العقلاني المناسب في وضعية عدم اليقين هو القرار الذي يُتخذ في ضوء مبدأ الماكسمين(*)، ومعناه الرفع من الحد الأدنى إلى حده الأقصى. وهذا مثال يوضح المبدأ المشار إليه، قدمه راولز نفسه في كتابه نظرية العدالة (1971, p. 156-154) لبيان منطق الربح والخسارة في وضعية خالية من الاستراتيجيات المتنافسة، حيث يكون الفرد في حاجة إلى مورد لا ينافسه عليه غيره؛ وأما التحدي الوحيد الذي يواجهه في هذه الحالة فهو الاختيار بين بدائل في وضعيات محفوفة بالمخاطر يكون احتمال الربح  والخسارة في كل واحدة منها متفاوتا. في هذه الظروف يتأثر الربح بالقرار المتخذ في علاقته بالوضعية وفقا للمعادلة التالية:

g = f(d, c)

(g) = الربح

(d) = نوعية القرار

(c) = نوعية الظروف

تدل هذه المعادلة على أن الربح  يتحدد بنوعية القرار ونوعية الظروف. فإذا كان عليه أن يختار بين ثلاث قرارات في ثلاث وضعيات نحصل على الجدول التالي الذي يمثل منطق الربح والخسارة، وتدل فيه الأرقام على آلاف الدراهم

Maximin principal

تقتضي العقلانية اختيار القرار الثالث، لأن أسوأ ما يمكن أن يحصل عليه في هذه الحالة هو خمسة آلاف درهم، وهي نتيجة أفضل بكثير من النتائج السلبية المترتبة عن القرارين الآخرين. ولهذا فإن اختيار القرار الثالث يمكن من تحقيق الحد الأقصى من الربح في ظروف لا تسمح عادة إلا بتحقيق الحد الأدنى من الربح. تكمن أهمية مبدأ الماكسمين في كونه يوجهنا نحو البديل الذي يمثل أهون ضرر على الإطلاق.  

وعندما يتعلق الأمر باختيار المبادئ التي تنظم البنيات الأساسية للمجتمع تصبح المسألة أكثر خطورة، وخاصة عندما يقف الشخص خلف ستار من الجهل، لا يعرف إن كان فقيرا أو غنيا، ذكرا أو أنثى، أبيضا أو أسودا، مسلما أو يهوديا أو مسيحيا أو بوذيا... حينئذ يكون من باب أولى أن يختار المبادئ التي تضمن الحد الأقصى من الخيرات لمن لا تسمح لهم الظروف عادة إلا بنيل الحد الأدنى منها؛ حتى إذا وجد نفسه في النهاية فقيرا يكون المجتمع المنظم بشكل جيد قد ضمن له الحقوق الأساسية التي تمكنه من العيش الكريم في مجتمع يتميز بالاختلاف والتعددية، وتتوزع فيه المواقع تحت تأثير عوارض الزمن. ولا يتخذ مثل هذا القرار العادل إلا الشخص العقلاني والمعقول. ولعل ما يدفع الشخص الأخلاقي إلى اختيار المبادئ التنظيمية العادلة على هدى مبدأ الماكسمين، إيمانه بالمبادئ التالية التي لابد من مراعاتها خلال عملية اتخاذ القرار:   

•    اللامساواة غير مقبولة أخلاقيا، ولا يجوز السماح بها ما لم يكن هناك مبرر معقول؛  

•    لا يجوز لأحد أن يأخذ أكثر مما يستحق بدعوى أنه يحتل موقعا من المواقع التي تحكمت في توزيعها عوارض الزمن؛    

•    لا يمكن القضاء على التعددية العقائدية إلا باستعمال سلطة الدولة، وهذا يعني القضاء على الحريات المدنية. 

وخلاصة القول، إن كون المرء معقولا هو ما يجعله مؤهلا للتعامل مع الوضعيات المحفوفة بالمخاطر وعدم اليقين، ومع المفارقات الأخلاقية العويصة، ويؤهله بالتالي للتعاقد مع الآخرين. ويلعب مبدأ المعقول كذلك دورا بالغ الأهمية في بناء الحقل العمومي كما سنبين لاحقا.

ولابد من الإشارة هنا إلى أن راولز كان يعتبر نظريته في الأخلاق جزءا لا يتجزأ من نظرية الاختيار العقلاني؛ وكان قد نحا هذا المنحى في كتاب "نظرية العدالة" الصادر عام 1971، إلا أنه عدل عن هذه الفكرة في مؤلفاته المتأخرة وخاصة في كتاب "العدالة كإنصاف". كان الهدف من وراء تأليف هذا الكتاب هو مراجعة نظرية العدالة، وإضفاء مزيد من التماسك والانسجام عليها، وتصحيح بعض الأفكار من خلال إدراج متغير الحس الخلقي في معادلة سلوك الشخص الأناني العقلاني، كما سنبين ذلك تفصيلا في الجزء المخصص للسيكولوجية الأخلاقية لدى راولز.

3.    بناء الحقل العمومي

يعتبر بناء الحق العمومي ، في نظر راولز، الشرط الضروري الذي لا غنى عنه لبناء "المجتمع المنظم بشكل جيد"، تنفيذا لبنود اتفاقية التعاون الاجتماعي المنصف التي أسفرت عنها المداولات بين المتعاقدين في الوضعية الأصلية. ويتحقق شرط "العمومية" عبر ثلاث مراحل:

1.     يتحقق المستوى الأول من العمومية عندما تقتضي مصلحة جميع مكونات المجتمع قبول مبادئ العدالة التي وضعت من أجل تنظيم البنيات الأساسية للمجتمع، وعندما يعلم كل طرف بأن باقي الأطراف قد قبلوا تلك المبادئ وفقا لما يقتضيه مبدأ التماثلية. هذا فضلا عن ضرورة الاعتراف، على المستوى العمومي، بشرط الوعي المتبادل بقبول مبادئ العدالة، ومعنى ذلك أن يحصل الاعتراف العمومي بالمبدأ القائل إن قبول أي طرف لمبادئ العدالة يشترط أن يقبلها الأطراف الآخرون. ويتحقق المستوى الأول من العمومية، بالإضافة إلى ما سبق، عندما يتوفر لدى المواطنين ما يبر اعترافهم بعدالة المؤسسات الناشئة عن البنية الأساسية للمجتمع. وأما ما يبرر هذا الاعتراف فهي المعتقدات المشتركة التي أثبتت مناهج البحث وطرق الاستدلال المستعملة في معالجة القضايا المتعلقة بالعدالة السياسية وجودها في المجتمع وجودا فعليا. وهذا يقودنا فورا إلى الحديث عن مقومات المستوى الثاني من العمومية.

2.      وفيما يتعلق بالمستوى الثاني تأتي المعتقدات العامة التي تجعل المواطنين على استعداد لقبول مبادئ العدالة في مقدمة الشروط الضرورية لبناء الحقل العمومي. وتشمل هذه المعتقدات، إلى جانب تصورات الناس للطبيعة الإنسانية، المعتقدات المتعلقة بكيفية اشتغال المؤسسات الاجتماعية والسياسية وغيرها من المعتقدات التي لها علاقة بالعدالة السياسية. تمثل هذه المعتقدات والتصورات المرجعية المشتركة الضرورية لبناء مجتمع متماسك ومنظم تنظيما محكما.

3.     وأما المستوى الثالث من الحقل العمومي فيشمل المسوغات التي يحتاج إليها المجتمع من أجل تبرير التصور العمومي للعدالة. ويشترط لتحقيق المرحلة الثالثة من بناء الحقل العمومي أن تكون هذه المسوغات منتشرة على نطاق واسع بحيث يكون بوسع الجميع الاطلاع عليها والإلمام بها، وأن يستخدموها بكيفية فعالة للدفاع عن حقوقهم المشروعة في ضوء التصور السياسي للعدالة كإنصاف. يتوقف بناء الحقل العمومي، إذن، على مدى شيوع آليات التسويغ التي تدعم فكرة العدالة كإنصاف وانتشارها حتى تصبح جزءا لا يتجزأ من الثقافة العمومية، تحظى بحضور قوي في الممارسات السياسية والتشريعية وفي التقاليد الثقافية والفكرية المتعلقة بكيفية تفسير فكرة العدالة كإنصاف وتأويلها.

وخلاصة القول، إن المجتمع بوصفه نظام تعاون منصف لا يستقيم بناؤه بأي حال من الأحوال مع غياب شرط العمومية. إن بناء مجتمع كهذا لا يحصل بشكل عفوي انطلاقا من الأوهام الموروثة والمعتقدات الزائفة، بل يتحقق كتجسيد للوعي المشترك بمبادئه وآلياته. يتشكل هذا الوعي من خلال المناظرات المفتوحة التي تتناول مبررات وجود المؤسسات الاجتماعية والتي تجري وقائعها في الساحة العمومية على مرأى ومسمع من الجميع، يدلي كل طرف من أطراف الحوار برأيه في القضايا الأساسية، ويكشف عما يبرر مواقفه إزاءها وما يجعله يعتقد بجدوى تصوراته وسلوكياته. وتكمن أهمية النقاش العمومي الصريح حول أسس النظام الاجتماعي والسياسي في كونه يعزز مشاعر الثقة والتفاهم بين المواطنين وخاصة فيما يتعلق بقضايا الشأن العام.

والحقيقة أن الناس لا يميلون بشكل تلقائي إلى التصريح بما يعتمل في نفوسهم من مشاعر ومعتقدات وآراء ومواقف مما له علاقة بالنظام السياسي؛ فإن هم راودتهم شكوك حول طبيعة نظامهم السياسي، وأحسوا بأن المناخ العمومي غير سليم أو موبوء، مالوا بطبيعة الحال إلى استخدام الإستراتيجيات الدفاعية التي تقوم على التقية والتستر من أجل الحفاظ على البقاء. وتتبدد مشاعر الخوف والحذر عندما تشتغل المؤسسات وفقا لمبادئ العدالة؛ حينئذ فقط يمكن أن تنكشف وقائع الحياة السياسية وآليات اشتغالها بحيث لا يعود فيها أي شيء مما يحتاج المواطنون إلى التستر عليه أو تحقيقه عبر الآليات الماكرة للأيديولوجية الزائفة وأساليب التحايل والخداع. ويذهب راولز في تعليقه على هذه الظواهر إلى حد القول: إنه حتى في حال وجود بعض المبادئ التي يستلزم تطبيقها التستر عليها أو على الوقائع التي انبثقت منها والتي تبرر اللجوء إليها، فإن مبدأ العدالة السياسية يقتضي تركها واستبعادها؛ لأن العمل بمثل هذه المبادئ سيؤدي حتما إلى انتشار الوعي المزيف، من جهة، وإلى الحيلولة دون تنامي الحس الخلقي والإحساس بالعدالة، من جهة أخرى؛ ومعنى ذلك أيضا أنه لا مكان في "المجتمع المنظم بشكل جيد" للمبادئ المضمرة عن قصد، كما أنه لا مكان في بنيته الأساسية لما من شأنه أن يساعد على تنامي الوعي المزيف وانتشاره. ومن هنا تأتي أهمية إرساء دعائم الحقل العمومي كخطوة حاسمة في اتجاه بناء النظام الاجتماعي والسياسي على أساس من الوضوح والشفافية.

عندما يتحقق الإجماع حول أسس النظام الاجتماعي والسياسي، ويتم تشييد الحقل العمومي على أساس من الشفافية والوضوح يتنامى الوعي السياسي لدى المواطنين أكثر فأكثر تحت تأثير البنيات الأساسية للمجتمع التي تم إرساؤها، ويكونون على وعي بتأثيرها في مزاجهم العام وفي تصوراتهم وأهدافهم ونظرتهم إلى أنفسهم بوصفهم مواطنين أحرارا متساوين. ويكون من نتائج ذلك تنامي الإحساس بالعدالة، والإيمان بإمكانية تحقيق مزيد من الحرية بوصفهم أشخاصا يتمتعون بالاستقلال التام على المستوى السياسي.

وبعد أن استعرضنا الشروط التي يتطلبها بناء الحقل العمومي حسب نظرية راولز، سنحاول الآن بيان المنطق الذي يتحكم في عملية بناء هذا الحقل والإجراءات التي انبثق عنها التصور السياسي للعدالة. يرتبط هذا المنطق بالمقاربة البنائية التي تنطلق من فرضية الوضعية الأصلية من أجل تحديد مبادئ العدالة التي يمثل الإجماع حولها الخطوة الأولى في اتجاه بناء الحقل العمومي. تنطلق عملية البناء، إذن، من تحديد مبادئ العدالة التي يراد منها إرساء البنية الأساسية للمجتمع؛ ومن هنا يطرح السؤال: ما هي منهجية بناء الحقل العمومي؟ يتطلب الجواب على هذا السؤال التعريف بطرق التفكير والاستدلال التي تفرض نفسها على المتعاقدين الذين عهد إليهم بتمثيل مصالح المواطنين، في إطار الوضعية الأصلية، على اختلاف انتماءاتهم الدينية والمذهبية.

سبقت الإشارة إلى أن ما يميز الوضعية الأصلية هو أن القرارات تتخذ فيها خلف ستار من الجهل. ولما كان التفكير في هذه الوضعية خاضعا للإكراهات التي يفرضها ستار الجهل، لزم أن يتحلى كل شخص فيها بفضيلة التواضع عندما ينطلق في التفكير والاستدلال. والمقصود بالتواضع هنا الاعتراف بصعوبة إصدار الأحكام، وتعليق الشرط الإبستمولوجي، والإمساك، بالتالي، عن السعي إلى الحقائق ذات الصلاحية الكونية بالمعنى الإبستملوجي للعبارة. وهكذا، فإن طريقة التفكير التي يسمح يها ستار الجهل هي طريقة متميزة؛ وأما ما يميزها فهو الانطلاق من المعتقدات المشتركة بين أفراد المجتمع ومن المصادرات الضمنية أو الصريحة التي تقوم عليها الثقافة العمومية دونما حاجة لإخضاعها لأي معيار إبستملوجي من معايير الحقيقة؛ وهذا هو ما يسمى بتعليق الشرط الإبستملوجي في نظرية راولز. 

إن ما يبرر الأخذ بأسلوب التفكير المتحرر من الضوابط الإبستملوجية الشكلية في إطار الوضعية الأصلية، في نظر راولز، هو أنه أسلوب لا يستند في أحكامه على معيار مستقل سابق على الإجراءات العملية التي تفضي إلى تلك الأحكام؛ ذلك لأن اللجوء إلى المعايير المسبقة أو المعطاة سلفا يتنافى مع مبادئ الاستقلال وحرية الإرادة والاختيار. وهكذا، فإن ما يحدد طبيعة العدالة في إطار هذه النظرية هي نتيجة الإجراءات العملية المتبعة مهما كان نوعها. يطلق راولز على هذا النوع من العدالة اسم "العدالة الإجرائية الخالصة" التي يضعها في مقابل "العدالة الإجرائية الصحيحة" التي تنطلق في بلورة أحكامها من مبادئ ومعايير معطاة سلفا.

ولما تقرر أن تكون العدالة الإجرائية هي الشكل المناسب لتنظيم العلاقات في الوضعية الأصلية، لزم أن يكون الشركاء المتعاقدون فيها أشخاصا يتمتعون بالاستقلال العقلي الذي يمكنهم من اتخاذ القرارات بحرية، بعيدا عن الإكراهات الخارجية والقوانين الإلهية. وأما ما يضمن عدالة القرارات المتخذة في سياق الوضعية الأصلية أمران: أولهما بنية المواقع الموزعة وفقا لمبدأ التماثلية؛ وثانيهما ستار الجهل الذي يمكن من تجاوز نزعة التمركز حول الذات، وضمان شرط الموضوعية في اتخاذ القرار، ويبطل بذلك أسباب التعصب والحسابات الضيقة وما ينشأ عنها من حساسيات. في ظل هذه الشروط فقط يمكن للمتعاقدين في الوضعية الأصلية وللمواطنين في الحقل العمومي بوصفهم جميعا أشخاصا يتمتعون بالاستقلال العقلي التوصل إلى اتفاقيات تعاون اجتماعي منصف في ضوء ما يعتبره كل واحد منهم شرطا ضروريا لتحقيق تصوره للخير ومصلحته الأكثر سموا.

تمثل اتفاقية التعاون الاجتماعي المنصف التي يُفترض أن يتم التوصل إليها في الوضعية الأصلية وفي المجتمع الليبرالي الديمقراطي جزءا من إستراتيجية شمولية ترمي إلى إعادة بناء النظام الاجتماعي على أسس تمكن من تحقيق المصالح الأكثر سموا للمواطنين باعتبارهم أشخاصا يتمتعون بالاستقلال العقلي. ترتكز هذه الفكرة على مصادرة أساسية مفادها أن مبدأ الاستقلال العقلي هو الذي يحدد غايات المجتمع وطبيعة المصالح الأكثر سموا. وتجدر الإشارة هنا إلى أن غايات النظام الاجتماعي في فلسفة راولز مشتقة من تصوره للشخص. وكذلك يمثل مفهوم الشخص المستقل من الناحية العقلية الأساس النظري الذي اشتقت منه مقولة المصالح الأكثر سموا. والمقصود بالمصالح الأكثر سموا تلك المصالح التي لا يمكن تحقيقها إلا من خلال تنظيم المجتمع بطريقة تمكن من تفعيل وتنمية الملكتين الأخلاقيتين اللتين تؤهلان المواطنين لأن يصبحوا أحرارا متساوين، قادرين على التعاون فيما بينهم على مدى الحياة، وهاتان الملكتان هما: الإحساس بالعدالة، من جهة، والقدرة على تشكيل تصور للخير وتحقيقه، من جهة أخرى.

تكتسي هذه الفكرة أهمية بالغة في فلسفة راولز، فهي تكشف، عن منظومته القيمية التي يحتل فيها التعاون، الذي يندرج ضمن المصالح الأكثر سموا، مكانة الصدارة مقارنة مع المصالح الفيزيولوجية والمادية؛ هذا من جهة، وتكشف من جهة أخرى، عن تصوره للعلاقة بين الفرد والنظام الاجتماعي: إنها علاقة تفاعل متبادل بين المكونات الذاتية للشخص والهيكل البيذاتي للنظام الاجتماعي. ومن مظاهر هذه العلاقة أنه عندما ينظر المواطنون إلى أنفسهم على أنهم أحرار متساوون يدركون أنه من مصلحتهم أن يتم تنظيم المجتمع الذي يعيشون فيه على النحو الذي يمكن من تنمية القدرات الأخلاقية لكل فرد والارتقاء به إلى مستوى الشخص المؤهل للتعاون مع الأشخاص الآخرين على مدى الحياة. هنا وعلى وجه التحديد تكمن المصلحة العليا للمواطنين بوصفهم أشخاصا يتمتعون بالاستقلال العقلي.

وليس الاستقلال العقلي في نظر راولز سوى مظهر من مظاهر الحرية الفردية، وهذا ما يجعله مختلفا عن "الاستقلال التام" بالمعنى السياسي للعبارة. ولابد من التذكير في هذا السياق بأن مفهوم "الاستقلال العقلي" في فلسفة راولز لا يحيل على كائنات واقعية أو تاريخية، وإنما هو جزء من إجراءات العقل النظري أو عنصر من عناصر التجربة النظرية التي ترمي إلى إعادة بناء المجتمع وتنظيمه على أسس معقولة. ومن ثمة، فإن مفهوم الشخص المستقل إنما يشير في دلالته الأصلية عند راولز إلى كائنات مفترضة تم خلقها من أجل تفعيل الوضعية الأصلية. ومما يدل على ذلك قوله، في معرض حديثه عن الاستقلال العقلي، إنه "اصطناعي وليس سياسيا"، لارتباطه بوضعية مفترضة يكون فيها المتعاقدون غير خاضعين لأية سلطة خارجية، وعلى مسافة من المذاهب الدينية والفلسفية والأخلاقية الموجودة في محيطهم الثقافي.

ذلك أنه لو ظل كل طرف من أطراف المعاهدة متشبثا بمذهبه العقائدي أو الفكري خلال المداولات وعمليات اتخاذ القرار بشأن مبادئ العدالة التي ستنظم البنية الأساسية للمجتمع؛ ولو أن كل واحد منهم أراد أن يختار من مبادئ العادلة ما ينسجم فقط مع معايير مذهبه لما اتفقوا على شيء ذي بال، ولظلت غايتهم محصورة ضمن حدودها الدنيا المتمثلة في ضمان تلبية الحاجات الفيزيولوجية للمواطنين. وفي مثل هذه الظروف، تظل الحتمية البيولوجية هي سيدة الموقف عبر تعاقب الأجيال. ولتجاوز هذه الحتمية جعل راولز من ستار الجهل القاعدة التي تنظم المداولات بين المتعاقدين في الوضعية الأصلية، وتجعل من هؤلاء شركاء بدل أن يكونوا فرقاء. تكمن وظيفة هذه القاعدة، إذن، في الارتقاء بالشركاء إلى مستوى الأشخاص الذين يتمتعون بالاستقلال العقلي، وتجعلهم بذلك قادرين على اتخاذ القرارات بعيدا عن أية ضغوط خارجية؛ وعندما يتحررون من كافة الإكراهات الخارجية يظل هناك إكراه واحد لا مناص لهم من الامتثال له، وهو الإكراه الذي تفرضه قاعدة ستار الجهل. إن الالتزام بهذه القاعدة هو الذي يجعل المتعاقدين قادرين على تمثل المصالح الأكثر سموا للمواطنين، وعلى اختيار مبادئ العدالة الكفيلة بتحقيقها.

وخلاصة القول: إنه من مصلحة الجميع أن يتنامى الإحساس بالعدالة في المجتمع. وليس هناك من سبيل لتحقيق هذه المصلحة الجوهرية سوى إعادة تنظيم المجتمع وحقله العمومي على أسس عقلانية ومعقولة وبكيفية خلاقة: والمقصود بذلك تنظيم البنيات الأساسية للمجتمع بحيث تخلق ديناميتها المستمرة مناخا يساعد على تنمية روح المواطنة التي تتجلى من خلال القدرة على التعاقد والالتزام بالعقود المبرمة، والقدرة على فهم وتطبيق مبادئ العدالة التي حصل عليها الإجماع. ولكن، كيف يمكن تحقيق المصالح الأكثر سموا؟ هل يتأتى ذلك بمعزل عن تحقيق المصالح المادية والفيزيولوجية ؟

تجدر الإشارة بهذا الصدد إلى أن راولز لا يفصل بين ما يسميه "الخيرات الأولية" والمصالح الأكثر سموا؛ فهو يرى أن توفير الخيرات الأولية خطوة ضرورية في اتجاه تحقيق المصالح الأكثر سموا؛ بل إنه جعل من توفر الخيرات الأولية المعيار الأساسي لاختيار مبادئ العدالة في إطار الوضعية الأصلية. ومعنى ذلك أن المبادئ الصالحة لتنظيم المجتمع بشكل جيد هي تلك التي تضمن إمكانية توفير الخيرات الأولية كمرحلة ضرورية لتحقيق الغايات القصوى للنظام الاجتماعي. وتشمل الخيرات الأولية: الحقوق الاقتصادية والسياسية والحريات الأساسية والشروط الاجتماعية للاعتبار الذاتي. وتعتبر هذه الخيرات من جملة الوسائل الضرورية لتحقيق المصالح الأكثر سموا؛ فعلى ضوئها ينتقي المتعاقدون في الوضعية الأصلية تلك المبادئ التنظيمية التي تمكن من تفعيل الملكات الأخلاقية والارتقاء بها إلى أعلى المراتب في سلم النمو. وهذا يقودنا للحديث، بطبيعة الحال، عن السيكولوجية الأخلاقية التي رسم راولز معالمها الكبرى في مؤلفه المشهور "نظرية العدالة".

 



([1])John Rawls (1971). A theory of justice. Oxford University Press.

([2]) John Rawls (1958). Justice as fairness.  Philosophical Review Vol. LXVII. 1958

([3])  John Rawls (1993). Libéralisme politique. Traduit de l’américain par Catherine Audard. Paris : PUF. p. 138

([4])  John Rawls (1993). LP. p. 132.

([5] ) John Rawls (1993). LP. p. 128.

([6])John Rawls (1993). LP. p. 8

([7]) John Rawls (1993). Libéralisme politique. p. 127.

([8])  John Rawls (1971), A Theory of Justice. p. 119

([9]) John Rawls (1971), A Theory of Justice.. p. 61.

([10]) John Rawls (1971), A Theory of Justice. p. 12.

([11]) John Rawls (2003). La justice comme équité : Une reformulation de la théorie de la justice. Traduit de                 l’anglais par Bertrand Guillaume. Paris : Editions de la Découverte, p. 23

 

(*) كلمة الماكسمين maximin كلمة مركبة تجمع بين كلمة maximum الحد الأقصى،  وكلمة minimum الحد الأدنى؛ وأما صيغتها التحليلية فهي.maximum minimirom .

([12]) John Rawls (2003). La justice comme équité : Une reformulation de la théorie de la justice. Traduit de  

      l’anglais par Bertrand Guillaum. Paris : Editions de la Découverte, p. 11

([13]) John Rawls (2003). La justice comme équité. p. 265.

([14]) John Rawls (2003). Ibid

([15]) W. M. Sibley. The Rational Versus the Reasonable. The Philosophical Review, Vol. 62, No. 4 (Oct., 1953),  

      pp. 554-560

([16]) John Rawls (1993). Libéralisme politique. p. 76,  note n° 1.

 ([17]) إمانويل كانت (2002). تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق. ترجمة د. عبد الغفار مكاوي. كولونيا – ألمانيا.، ص. 81.

([18]) إمانويل كانت، نفس المرجع السابق ونفس الصفحة.

([19]) نفس المرجع السابق، ص. 140.

([20])نفس المرجع السابق، ص. 82.

([21]) نفس المرجع السابق، ص. 120.

([22]) نفس المرجع السابق، ص. 142..

([23]) John Rawls (1996). Libéralisme politique p. 78

([24]) Ibid. p. 79

([25]) Ibid. p. 79

([26]) John Rawls (2001). La justice comme équité. p. 25. 

([27])John Rawls (1996). Libéralisme politique. أنظر بهذا الخصوص ص. 83 وما يليها

Partager cet article
Repost0

commentaires

Recherche

Archives

&Amp;#1593;&Amp;#1606;&Amp;#1575;&Amp;#1608;&Amp;#1610;&Amp;#1606; &Amp;#1575;&Amp;#1604;&Amp;#1605;&Amp;#1602;&Amp;#1575;&Amp;#1604;&Amp;#1575;&Amp;#1578;

دروس في الفلسفة

Liens