Overblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
1 janvier 2008 2 01 /01 /janvier /2008 23:04

التحليل الفينومينولوجي لظواهر الوعي والأنا والغير
في فلسفة سارتر
(الجزء الثاني)
2. الأنا المتعالي ومستويات الوعي في فلسفة سارتر
إن وجود الأنا المتعالي عند ديكارت كما عند هوسرل هو وجود بديهي ودائم الحضور على مستوى الوعي؛ يتوقف وجوده، إذن، على استمرارية التفكير. ذلك لأن الوعي المتجه نحو ذاته هو الذي أفرز الكوجيطو سواء عند ديكارت أو عند هوسرل. ولكن الكوجيطو لا يمثل سوى وجه واحد من أوجه الوعي في نظر سارتر؛ لقد بدت له تحليلات ديكارت وهوسرل لظواهر الوعي منقوصة ومحدودة للغاية، من حيث أنهما لم يتمكنا من التمييز في الوعي بين مختلف مستوياته؛ وأما سارتر فقد حاول التمييز فيه بين مستويين وهما:
أ- المستوى الأول من الوعي: وهو الوعي غير المفكَّر فيه أو الذي ينصب على غيره ولا ينصب على نفسه. فالوعي الذي يقول "أنا أفكر" ليس هو الوعي الذي يفكر أو الوعي العارف، ولذلك كان لابد من التمييز بين "الوعي المفكَّر فيه" والذي يمثل بالنسبة لسارتر المستوى الثاني من الوعي، و"الوعي الذي يفكر" (الوعي العارف) أو المستوى الأول من الوعي. يقول سارتر موضحا طبيعة المستوى الأول من الوعي:
"عندما أركض لركوب البميترو، وعندما أرقب الساعة، أو عندما يستغرقني التأمل في صورة أو لوحة، فليس هناك أنا. هناك وعي بميترو- يراد- ركوبه، الخ"
يمكن التمييز في إطار المستوى الأول من الوعي (=الوعي العارف) بين نوعين متعارضين من الموجودات وهما: الوجود المتعالي للظاهرة التي يعيش الفرد تجربتها، من جهة، ووجود الوعي القصدي من جهة أخرى. يقوم هذا التمييز من حيث المبدأ على تصور هوسرل للوعي باعتباره دائما وعيا بشيء ما، وهو ما يمكن تسميته أيضا بالوعي القصدي. وبناء على هذا التصور يبدو موضوع الفعل القصدي من زاوية نظر سارتر على أنه موضوع متعالي، بمعنى أنه يمتد إلى ما وراء الظاهرة التي يقدم نفسه للوعي من خلالها لاحتوائه على سلسلة مظاهرها التي تمتد من الماضي إلى المستقبل كما يدل على ذلك مثال النوطة الموسيقية التي لا تُدْرَكُ إلا من خلال استحضار ما كان قبلها وتوقع ما يأتي بعدها. ويدل مفهوم التعالي في هذا السياق أيضا على أن الموضوع يوجد خارج الوعي ولكنه يظل مع ذلك مرتبطا به باعتباره موضوع الفعل القصدي أو الموضوع الذي يتجه إليه الوعي.
ومع أن المستوى الأول من الوعي يبدو على أنه وعي تلقائي غير مُفَكَّر فيه، فإنه يحتاج مع ذلك، لكي يؤدي وظيفته المتمثلة في الإحاطة بالموضوعات الخارجية أو المتعالية، إلى أن يكون مرفوقا بنوع من الإدراك أو الوعي الخاص: فلكي يكون المرء على وعي بموضوع متعالي فلابد أن يعي بأنه على وعي، أو أن يعقل أنه يعقل حسب تعبير ابن سينا؛ ولابد أن تكون بنية هذا النوع من الوعي الذي هو وعي أو معرفة بالذات مختلفة عن بنية المعرفة بالموضوعات المتعالية، من حيث أن هذه الأخيرة تفترض وجود مسافة بين الوعي وموضوعه ولا تتحقق إلا من خلال التعالي، وأما المعرفة الذاتية فهي ليست معرفة بهذا المعنى، ومع ذلك احتفظ سارتر بمفهوم الوعي بالذات، وبرر ذلك بقوله:
"إن الشرط الضروري والكافي الذي يجعل من الوعي العارف معرفة بموضوعه هو الوعي بذاته بوصفه يمثل تلك المعرفة. [...] فإن لم يكن وعيي هو الوعي بكونه وعيا بالطاولة، فسيكون حينئذ وعيا بالطاولة من غير أن يكون على وعي بذلك. ويمكن القول بعبارة أخرى إنه سيكون وعيا جاهلا لذاته، عبارة عن لاوعي- وهو أمر غير معقول"
 ويتضح من هذا الدليل أنه لا مكان لبنية الأنا داخل المستوى الأول من الوعي (=الوعي غير المُفكَّر فيه)، ولذلك يظل وعيا فارغا خال من أي مضمون. لم بعد للأنا المتعالي إذن حضور على مستوى الوعي غير المُفكَّر فيه؛ يقول سارتر بهذا الصدد:
"عندما أقرأ، يكون هناك وعي بالكتاب، بأبطال الرواية، لكن الأنا لم تكن تسكن ذلك الوعي. كان وعيا بالموضوع فحسب، ولم يكن مطروحا كوعي لذاته"
فلو كان للأنا المتعالي حضور في المستوى الأول من الوعي لكان قد شطره وقسمه إلى أجزاء منفصلة عن بعضها البعض، وقضى على وحدته الجوهرية التي بدونها يستحيل الوعي بأي شيء كما أوضحنا ذلك آنفا. والنتيجة هي أنه يجب النظر إلى الأنا المتعالي على أنه موضوع كغيره من الموضوعات الأخرى المتعالية، ليس له حضور على مستوى الوعي.
ب- المستوى الثاني من الوعي: وهو الوعي المتجه نحو ذاته، أو الفعل القصدي الذي يجعل من نشاطه موضوعا له، ذلك الفعل الذي أفرز الكوجيطو الديكارتي والهوسرلي. إنه "نشاط فكري خالص": بتطابق فيه فعل التفكير مع الفعل المُفكَّر فيه، ويعرف الوعي من خلاله ذاته بوصفه كينونة داخلية مطلقة. وفي سياق هذه التجربة الوجودية الخالصة فقط يقدم الأنا نفسه للوعي باعتباره موضوعا متعاليا. وما يجعل ذلك ممكنا هو رغبة الوعي في أن يطرح نفسه كموضوع على الطريقة التي يطرح بها وعي "الغير". ويميز سارتر في المستوى الثاني بين نوعين من الوعي وهما: الوعي المفكِّر والوعي المفكَّر فيه. ويكتسي النوع الثاني من الوعي (= المفكَّر فيه) أهمية خاصة في إستراتيجية سارتر لإيجاد حل لمسألة وجود الأنا المتعالي.
لقد رفض سارتر أطروحة هوسرل التي تقول بأن الأنا المتعالي معطى بشكل بديهي في الوعي، بدعوى أن الـ"أنا أفكر" لا يقدم نفسه للوعي أو التفكير بوصفه الوعي المفكَّر فيه، ولكنه يُعطى من خلال الوعي المفكَّر فيه: ففي هذا الأخير نعثر على الأفعال القصدية noèses التي أصبحت أفعالا متعالية بفضل فعل التفكير، وتحولت فيه إلى موضوعات للوعي. وتأخذ الأفعال القصدية (المتجهة نحو موضوع معين) في إطار فعل التفكير شكل موضوعات نفسية متعالية وهي "الأحوال" و"الأفعال"  و"الصفات" التي تؤلف في مجموعها الأنا المتعالي.
 تؤلف الأفعال والأحوال النفسية في مجموعها الأنا المتعالي تماما مثلما تتشكل المعزوفة من سلسلة زمنية من النوطات على النحو المبين أعلاه. والمقصود بـ"الأحوال" في فلسفة سارتر تلك الموضوعات المتعالية التي تجمع في إطار تركيبة واحدة متعالية بين عدد لا حصر له من الأفعال الخاصة المتمثلة في ردود الفعل العاطفية-الوجدانية المفكر فيها نحو موضوع معين. يقول سارتر في شرحه لهذا الجانب من جوانب الأنا:
"أرى بيتر، أشعر بنوع من التشنج العميق والاشمئزاز والغضب عند رؤيته (وحتى هذه اللحظة لازلت في مستوى التأمل والتفكير): فالتشنج وعي. لا يمكن أن أكون مخطئا حين أقول: أشعر في هذه اللحظة باشمئزاز شديد تجاه بيتر. ولكن، هل تجربة الاشمئزاز هذه كراهية ؟ من الواضح أنها ليست كذلك. هذا إضافة إلى أنها ليست معطاة بوصفها كراهية. كرهت بيتر لمدة طويلة، وأعتقد أنني سأكرهه دائما في المستقبل. وبالتالي، فإن الوعي الفوري بالاشمئزاز يمكن أن لا يكون كراهية"
 
تتشكل "الأحوال"، إذن، من مجموع الظواهر النفسية الممتدة عبر الزمن trans-phenomenales: المتعالية بالنظر إلى الحالة الخاصة المعيشة هنا والآن؛ وتتجلى الأحوال المتعالية للوعي من خلال الانفعالات التي يعيشها الفرد في اللحظة الراهنة كالاشمئزاز والتشنج وغير ذلك. فإذا كنت تكره شخصا ما فإن حالتك النفسية المتمثلة في الكراهية سوف تتجلى لوعيك من خلال عدد كبير من ردود الفعل العاطفية-الوجدانية تجاه ذلك الشخص في لحظات مختلفة. ولسوف تتشكل الكراهية بوصفها حالة نفسية متعالية من خلال وعيك بنمطك السلوكي المطبوع بذلك النوع من الانفعالات. وعندما تتشكل هذه الحالة ستولد في نفسك نوعا من الاشمئزاز والقرف من ذلك الشخص كلما رأيته.
ويتألف "الفعل" action من سلسلة من الأفعال الصغيرة، وينشأ عنها مثلما تنشأ معزوفة البيانو عن سلسلة من حركات الأصابع وتتعالى عليها. لا يحصل الوعي في كل لحظة إلا بالأفعال الصغيرة أو الجزئية، وأما الفعل الشمولي الذي تؤلفه تلك الأفعال فإنه يبدو متعاليا على الوعي. وأما ما يجعل من الفعل الشمولي فعلا متعاليا فهو أن كل فعل من الأفعال يحتاج إلى زمن لكي يتحقق، ولا يمكن بالتالي لجميع الأفعال أن تتحقق دفعة واحدة. ولذلك يأخذ مفهوم التعالي هنا دلالة زمنية ويدل على أن الفعل الشمولي هو فعل عبر- زمني أو عبر- ظاهري trans-phenomenal نظرا لكونه يتجلى من خلال عدد كبير من التمظهرات المتوالية في الزمن؛ وهذا ما يجعل الفعل الشمولي مشابها للمعزوفة في كيفية تشكله، مثله في ذلك مثل الأحوال النفسية السابقة الذكر(الكراهية والحب وما إلى ذلك). وتمثل الأفعال والأحوال النفسية وقائع تتمتع بوجود حقيقي، وتقدم نفسها في العالم على طريقة الأشجار والكراسي وما على ذلك.
وإذا كانت الأفعال هي ما يجعل الأحوال تتجلى للوعي بوصفها موضوعات متعالية، فإن الأحوال تفصح عن نفسها من خلال مجموعة من الصفات. فإذا كان زيد يكره عمر ويكره يزيد وزينت ويحقد عليهم جميعا، قلنا عنه إنه رجل حقود. وهذا الحقد الذي يعتمل في نفسه لا يمثل خلاصة مواقفه من الآخرين فحسب، بل يمثل صفة من الصفات التي تفسر نزوعه إلى اتخاذ تلك المواقف.
ولكن الصفات لا تعتبر من العناصر الضرورية التي تقوم عليها وحدة الأنا، إذ يمكن تشكيل فكرة عن هذا الأخير دون استحضار صفاته، لأن هذه الصفات لا تندرج في تكوينه الفعلي على اعتبار أنها ليست شيئا قائما بذاته كما هو الحال بالنسبة للأحوال والأفعال، بحيث يمكن القول إن وجودها عرضي أو مزيف. ومما يترتب عن ذلك أن الدراسات السيكولوجية لـ"لأنا" (والأنا الآخر)، التي أصبح لها الآن وجود بين أشياء العالم باعتبارها موضوعا متعاليا يجب أن تراعي في تحقيقاتها المبادئ التالية:
§        أن للأنا وجود فعلي في العالم مثل وجود المعزوفة؛
§        وأنه يتشكل من الأفعال والأحوال النفسية مثلما تتشكل المعزوفة من النوطات المتعاقبة عبر الزمن؛
§        وأنه لا ينفصل عن الأفعال والأحوال كالمعزوفة التي لا تنفصل عن النوطات المتعاقبة؛
§        وأن الأفعال والأحوال لا تأتي كنتيجة للأنا كما أن النوطات لا تأتي كنتيجة للمعزوفة؛
§        وأنه لا يمكن الإحاطة معرفيا بالأنا إلا بشكل تقريبي عن طريق التخمين انطلاقا من الأفعال والأحوال، فكما أن معرفتنا بالمعزوفة لا تتم إلا من خلال سماع متوالية من النوطات، كذلك فإن معرفتنا بالأنا لا تتحقق إلا من خلال الإحاطة بسلسلة الأفعال التي تتجلى من خلالها الأحوال.
§        ولكن هناك فرق بين معرفة المعزوفة ومعرفة الأنا: فبينما يكون من السهل سماع جميع النوطوات التي تتشكل منها المعزوفة، يكون من غير الممكن الإحاطة بكل فعل من الأفعال وبكل حالة من الحالات التي تندرج في تكوين الأنا. ولذلك تكون معرفتنا بالأنا دائما معرفة جزئية.
§        وأما الصفات (=كون المرء حقودا باغضا كارها لغيره) فليس لها وجود قائم بذاته، ولا يمكن اعتبارها سمات ثابتة.ولا يمكن القول بالتالي بأن السمات هي مصدر السلوك، وهو ما يدل عليه قول سارتر بأن الوجود (الذي يتجلى من خلال مجموعة من السلوكات) سابق على الماهية (التي تتشكل من بعض السمات الثابتة).
وخلاصة القول إن معرفة الأنا، التي تظل دائما نسبية، تستوجب الإحاطة بأحوال الشخص وأفعاله التي يعتبر وجودها وجودا قائما بذاته. وأما الصفات أو السمات التي تبدو على أنها ثابتة (المزاج)  فإنها لا تساعد على معرفة سلوك الفرد وفهمه طالما أنه ليس لها وجود فعلي أو قائم بذاته، وطالما أن وجودها عرضي أو مزيف. فلا يمكن القول مثلا إن زيد يحقد على عمر ويكرهه بسبب أن زيد رجل حقود على العموم، أو أن الكراهية صفة ثابتة من صفاته، ولما كانت العلاقات السببية في نظر سارتر لا تكون إلا بين الأشياء التي لها وجود فعلي قائم بذاته، فإنه يتعين دراسة السلوك البشري بصرف النظر عن الصفات أو السمات أو المزاج. فلو كان السلوك يتحدد بالمزاج وسماته لما كان هناك مجال للحرية، ولكان الإنسان خاضعا بشكل مطلق لحتمية بيولوجية موروثة.
Partager cet article
Repost0

commentaires

Recherche

Archives

&Amp;#1593;&Amp;#1606;&Amp;#1575;&Amp;#1608;&Amp;#1610;&Amp;#1606; &Amp;#1575;&Amp;#1604;&Amp;#1605;&Amp;#1602;&Amp;#1575;&Amp;#1604;&Amp;#1575;&Amp;#1578;

دروس في الفلسفة

Liens