Overblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
27 décembre 2007 4 27 /12 /décembre /2007 23:20

التحليل الفينومينولوجي لظواهر الوعي والأنا والغير
في فلسفة سارتر
(الجزء الخامس)
3-3. معرفة الغير: الغيرية بوصفها صورة
يبدو أن سارتر لم يكن راضيا تمام الرضا على نظريته في الخيال، تلك النظرية التي ترتكز على مبدأ التمثل الذي يستحضر صورة الغائب في الذهن والذي ترتبط فيه الغيرية بالغياب، ولذلك راح يبحث عن طريقة أخرى لمعالجة صور الخيال وبيان وظائفها، ووجد ضالته في الاستطيقا وفي الفنون غير التمثيلية بالخصوص، لأن الصور التي تخلفها هذه الفنون في الذهن لا تحيل على أي موضوع أصلي غائب. وإذا كان لابد من الحديث عن الأصل، فإنه لا يوجد منفصلا في هذه الحالة عن الصورة الذهنية، فهما متلازمان. ومعنى ذلك أيضا أن الصورة لا تمثل شيئا آخر غير نفسها في مجال الفنون غير التمثيلية، ولا يمكن التمييز فيها بين الأصل والصورة التي تمثله، وإنما تحيل الصورة هنا على نفسها لا على شيء غائب. وإذا كان لابد من أن تنطوي الصورة على الغيرية، فإن الغيرية في هذه الحالة لا تعني الغياب الكامل فحسب، بل الغياب المطلق أو الراديكالي. أيُّ غياب هذا وأية غيرية هي هاته التي أصبحت تسكن الذهن؟ وما طبيعة الموضوع الغائب الذي تحيل عليه الصور التي تنبثق عن تذوق الفنون غير التمثيلية؟
من الواضح أن الصورة الذهنية لا تنشأ عن غياب الموضوع الأصلي في مجال الفنون غير التمثيلية كالموسيقى مثلا، بل تأتي كنتيجة للموقف الذي يتخذه المتلقي من الصورة. إن هذا الموقف هو الذي يُحَوِّلُ الصورة إلى موضوع ينطوي على نوع من الغيرية. إن الموقف الذي نتخذه من الشيء الماثل أمامنا هو الذي يحول ذلك الشيء إلى صورة، تلك الصورة التي لا تمثل شيئا آخر غير نفسها. وأما الموقف الذي من شأنه أن يحول الأشياء إلى صور فهو الموقف الجمالي أو الذوق الجمالي الذي ينفذ إلى كنه الأعمال الفنية ويجعل صورها تفرض وجودها كصور وتؤدي وظيفتها كصور. ويتمثل الموقف الجمالي من الصور الفنية في تجريدها من مضمونها الواقعي، ونزعها من سياقها وتركها معلقة خارج الزمان والمكان لتؤدي وظيفتها بوصفها صورة خالصة. إن الزمان الذي تجري فيه الوقائع الفنية ليس هو نفس الزمان الذي تجري فيه الأحداث التاريخية، إنه زمان لاتاريخي، فهو محدود بحدود الحدث الفني، يبدأ مع بدايته، وينتهي بانتهائه، ولا شيء يأتي بعده.
إن ما يميز الصورة الفنية هو قدرتها على التجلي والتواري في نفس الوقت، تتوارى خلف المظاهر وتنضح بأسرارها، ثم تفصح عن غيرية جوهرية لا علاقة لها بالموضوع الأصلي الغائب. إن الغيرية هنا لا تعني الغياب، لأن الصورة الفنية لا تمثل ما يسمى بالموضوع الأصلي ولا تستحضر الغائب في الذهن، إنها نتاج الموقف الذي اتخذه المتلقي منها، فهي تتشكل في ذهنه يناء على نظرته إليها، إنها ليست تمثلا ذهنيا لموضوع غائب، ولذلك لا تدل الغيرية في هذا السياق على الغياب. فعندما أكون أمام صورة فنية، وأنظر إليها بوصفها موضوعا غير واقعي، أكون أمام الذي يتوارى ويختفي خلف المظاهر، ذلك الطيف الهارب البعيد المنال. إن الغياب الفعلي للموضوع ليس شرطا لحضور الغيرية في الصورة الذهنية، لأن الغيرية لا تتمثل في الغياب. يتبدى الموضوع من خلال الموقف الجمالي منه على أنه موضوع غير واقعي، حيث يتم إدراكه بوصفه غيابا مع أنه ماثل أمامي شديد الحضور.
وخلاصة القول إن غيرية الموضوع المتخيَّل أو الموضوع الذي تمثله الصورة الذهنية لا تكمن في غياب الموضوع الأصلي، ولكنها تنشأ عن الموقف الذي يتخذه المتلقي من الصورة الماثلة أمامه. ومعنى ذلك أيضا أنه بوسعنا أن نتخذ موقفا على المستوى التخييلي من الموضوع الحاضر أمامنا فنحوله إلى صورة وننزع منه واقعيته، ونفسح بذلك المجال لغيريته لكي تشع ببريقها؛ وبوسعنا أن نحول أي شيء، وأي موضوع أصلي إلى صورة لذاتها تتبخر معها واقعيته وتتجلى غيريته هنا والآن ولكن من غير أن تتيح لنا إمكانية الإمساك بها. إن حضور الصورة لا يقضي على الغيرية، ومع ذلك تظل بعيدة المنال، لأن ما يبدو على أنه حاضر هو الغياب، الحاضر هو الغائب المتخفي وراء مظاهره، ذلك الحاضر الذي يتعذر الإمساك به.
تقدم لنا الصور موضوعاتها محجوبة متوارية خلف ستار، تشير إليها بدون أن تكشف عنها. وكثيرا ما تتحول الكائنات في أعيننا إلى صور، ولعل خير مثال على ذلك هو المرأة الجميلة، جمالها يحولها إلى صورة في أعين الناظرين، تبدو لهم في الصورة التي لديها عن نفسها، لأنها ترغب دائما في أن تقدم نفسها وفقا للصورة التي رسمتها في خيالها عن نفسها، وبذلك تخفي نفسها خلف نفسها، وتتواري خلف صورتها، وتحول نفسها إلى شخص آخر، إلى غيرية مطلقة. لا توجد حيث يبدو أنها موجودة، ولا يمكن تحديد موقعها في الزمان والمكان كالإلكترون، فبتعذر الوصول إليها. إنها المرأة التي يتغنى بها الشعراء، ذلك الطيف الهارب المفرغ من واقعيته. حضورها هو حضور صورتها التي تختفي هي خلفها فيتبخر وجودها الواقعي. ولذلك يمكن أن تتحول في كل لحظة إلى كائن لاإنساني يتعامل مع الغير بدون شفقة أو رحمة.
يتبين من خلال تحليل صورة المرأة الجميلة أن الغيرية التي تنطوي عليها الصورة الخيالية هي غيرية مطلقة على اعتبار أنها لا ترتبط فقط بالغياب الكامل للموضوع الأصلي الذي تمثله الصورة، بل لارتباطها بكون الأصل والصورة التي تمثله شيء واحد، أو بكون الصورة هي صورة عن نفسها، أي صورة الصورة، تلك الصورة التي تجعل منها المخيلة موضوعا لها وتكتشف فيها غيرية خالصة، بمعنى غيرية أنا أخر متعالي بالنظر إلى وعي المتأمل. فالشخص الذي نتعامل معه على مستوى الخيال باعتباره صورة عن نفسه لا يمثل الآخر بالنسبة لي لأنه آخر غيري على النحو الذي يكون فيه الأنا متعاليا عن الوعي كما هو مبين في الجزء الأول من هذه الدراسة. ولما كان هذا النوع من الغيرية المعطاة على مستوى الخيال متعاليا فإنه لا يمكن اختزاله إلى موضوع أو موضعته على النحو الذي يتموضع به الأنا أمام الوعي، ولا يمكن التعامل معه بالتالي إلا باعتباره ذاتا أخرى. ولكن، من أين لنا أن نحيط بذاتية أخرى؟ هل هناك من سبيل إلى الإحاطة بالغيرية المتمثلة في الصورة باعتبارها صورة لذاتها؟
لقد تبين لنا في ما سبق أنه من غير الممكن للذات المتجانسة غير المنشطرة أن تحيط بغيرية ذات أخرى. وفي المقابل فإن الذات المتخيِّلة هي ذات منشطرة ما دامت تنطوي في ذاتها على غيريتها، ولا يستبعد بالتالي أن تكون قادرة على الإحاطة بغيرية الذات الأخرى المتمثلة في صورتها عن نفسها. يتجلى انشطار الذات من خلال تجارب الخيال كالأحلام، بما في ذلك أحلام النوم واليقظة، والقراءة وما إلى ذلك. ففي القراءة الروائية مثلا يحصل التماهي مع بطل الرواية، حيث يتحول القارئ أو الشخص الواقعي ولو لبرهة يسيرة على مستوى الخيال إلى بطل غير واقعي. وإنما يحصل هذا التحول عندما ينظر القارئ إلى عالم الرواية الخيالي على أنه عالم واقعي ويعيش فيه ولو لفترة وجيزة، فينظر إلى نفسه على أنه بطل وإن لم يسبق له أن اعتبر نفسه بطلا في الحياة الواقعية. والحقيقة أنه أصبح يعيش للتو في عالمين: عالم الخيال الروائي والعالم الواقعي. ولكي يعيش تجربة الحياة في هاذين العالمين كان عليه أن يقسم نفسه إلى شطرين، إلى ذات واقعية وذات متخيلة، إلى قارئ وبطل، إلى ذات وغيرها. إن انقسام الذات هو الشرط الضروري الذي يمكن القارئ من أن يعيش مغامرة البطل المتخيل من خلال تضييق المسافة بينه وبين البطل إلى حدودها الدنيا الممكنة التي تحافظ على نوع من التمايز بينهما وعلى ثنائية الواقع والمتخيل، ولا تسمح له بالتالي أن يتحول بشكل مطلق إلى بطل.
وكذلك تنقسم الذات في الأحلام إلى متخِّيل ومتخيَّل، وتتقلص المسافة في هذه الحالة بين العالم الواقعي والعالم المتخيل أكثر فأكثر، ويعيش المرء في الحلم تجربة الغير من الداخل حتى إن الذات الواقعية تكاد تنحل في الذات المتخيَّلة، ولكن التماهي بين العالمين لا يتجاوز بعض الحدود، ويظل التمايز بين الذات الواقعية والذات المتخيَّلة قائما ضمن الحدود التي يكون فيها الفرد على وعي بأنه يحلم، وإلا فإن الحلم سينقلب إلى هذيان.
خلاصة
لقد جعل سارتر منذ بداية مساره الفلسفي من القضايا المتعلقة بالأنا والغير والأنا باعتباره غيرا، موضوعه الأثير، وتطور موقفه من القضايا التي تطرحها هذه الموضوعات من خلال النظر إليها من زوايا مختلفة. ففي دراساته المبكرة المتضمنة في كتابه "تعالي الأنا" نظر إلى غيرية الآخر بوصفها عالما مكتفيا بذاته مستغلقا عن الفهم. ولكنه مال إلى تجاوز هذه النظرة تدريجيا تحت تأثير الفلسفة الفينومينولوجية لهوسرل حين بدأ يهتم بدراسة صور الخيال وآليات اشتغالها في مجال الفن بصفة عامة وفي مجال الفنون غير التمثيلية بصفة خاصة. واهتدى إلى حله للإشكالية التي تطرحها معرفة الغير من خلال تحليل الصورة التي تشكلها الصورة عن نفسها والتي تنطوي على غيرية جوهرية لا تفترض غياب الموضوع الأصلي ما دام الأصل هو الصورة نفسها؛ وحاول تسليط الضوء على هذه الغيرية من خلال التمييز في الذات المتخيلة نفسها بين الذات والذات كغيرية بالنظر إلى ذاتها، بين الذات المتخيِّلة والذات المتخيَّلة. ومن هذا المنطلق بدت الغيرية تفصح عن نفسها من خلال ملامح الصورة التي تشكلها الصورة عن نفسها، تمثل صورة الصورة هذه غيرية الذات وتدل على وجود شرخ في الذات يقسمها إلى شطرين وهما الذات وغيريتها أو الذات والذات كغير. وبفضل انقسام الذات المتخيلة على نفسها أصبحت مؤهلة للإحاطة بذاتية الغير والنفاذ إلى العوالم الذاتية للأشخاص الآخرين.   
Partager cet article
Repost0

commentaires

H
شكرا جزيلاةلك سيدي
Répondre

Recherche

Archives

&Amp;#1593;&Amp;#1606;&Amp;#1575;&Amp;#1608;&Amp;#1610;&Amp;#1606; &Amp;#1575;&Amp;#1604;&Amp;#1605;&Amp;#1602;&Amp;#1575;&Amp;#1604;&Amp;#1575;&Amp;#1578;

دروس في الفلسفة

Liens